هل كان محمد بن عبد الوهاب خارجا عن الدولة العثمانية؟
عبدالرحمن عبدالخالق
نشرت مجلة المجتمع بعددها رقم 472 الصادر في 17 ربيع الثاني سنة 1400 الموافــق 4/3/1980م مقالا منسوبا إلى راشد السالم بعنوان: (رجل لكل العصور.. محمد عبد الوهاب). وقد نسب كاتب المقال إلى محمد بن عبدالوهاب خروجه على السلطان المسلم في وقته، حيث يقول الكاتب: (ومحمد بن عبدالوهاب أبرز رجال التاريخ المعاصر المعروفين بالخروج على السلطان المنحرف عن منهج الله، سواء كان انحرافه جزئيا أم كليا...) ا.هـ.
ونسب الكاتب هذا الذي مدح به ابن عبدالوهاب في زعمه إلى الحسين بن علي رضي الله عنهما وابن الزبير وسعيد بن جبير، وذلك من الأقدمين، وقد أثنى أيضا بهذا وبغيره على طائفة من علماء الدعوة المحدثين كالأستاذ حسن البنا -رحمه الله- وسيد قطب، والأستـاذ المودودي -رحمهم الله جميعا-.
وحيث إن هذا الأمر الذي مدح به الكاتب هؤلاء الرجال -في زعمه- يخالف الحقيقة أولا، وكذلك يمس عقيدة من عقائد أهل السنة والجماعة ثانيا، وهي أن السلطان المسلم لا يخرج عليه بالسيف مطلقا حتى لا يقع السيف بين المسلمين، فإنني قد رأيت من واجبي إنصافا للحق ووضعا للأمور في نصابها، ودفاعا عن هؤلاء الذين ينسبون إلى الخروج على الأمة -وهم من ذلك براء- أن أذكر الموقف الحقيقي لهؤلاء، وأن أدافع عن عقيدة من عقائد أهل السنة والجماعة يراد الآن تشويهها وتغييرها، وذلك لدفع الشباب المؤمن إلى محاربة بني جلدتهم من المسلمين، وبالتالي استنزاف طاقاتهم وجهودهم، وتمزيق جهادهم، وتفشيل دعوتهم، ووضعهم في كارثة بعد كارثة، وذلك لتظل الأمة ضعيفة متناحرة، ويفرح أعداؤها بعد ذلك، ويتمكنون من أرضها وديارها.
وسواء كان الذين يكتبون هذه المقالات يعرفون الهدف النهائي من وراء دعوتهم المنحرفة أو لا يعرفون، فإنهم على كل حال يسهمون في دفع عجلة الإسلام إلى الوراء.
الإمام محمد بن عبد الوهاب داع ملتزم بالمنهج السلفي
فأما الإمام محمد بن عبد الوهاب الذي جعله صاحب المقال الآنف أبرز رجال التاريخ المعاصر المعروفين بالخروج على السلطان المنحرف عن منهج الله (حسب زعم القائل)، فإنه لم يكن كذلك بتاتا، فقد بدأ دعوته -كما يعلم الجميع- في البصرة وأخرج منها، ثم حريملة بلدته وأخرج منها، ثم في الدرعية التي احتضنه فيها أميرها محمد بن سعود، وعاهده هذا الأمير على أن نصر دعوته، وأن يجعل أسيافه في خدمة رسالته - فأين وكيف كان محمد بن عبدالوهاب في كل ذلك خارجا على السلطان؟! ولكن ما كادت دعوة ابن عبدالوهاب في التوحيد تنتشر حتى عاداه وعادى إمارة ابن سعود الأمراء حوله فبدأوه هم بالحرب والعداوة، فحاربهم دفاعا عن نفسه.. فهل كان في هذا خارجا على السلطان؟ ومعلوم أن الإمارات والمشيخات التي حاربت ابن عبدالوهاب كانت إمارات مستقلة، كأنها دول مستقلة في قلب هذه الجزيرة.
وأما ما زعمه الكاتب أيضا من أن محمد بن عبدالوهاب خرج على السلطان العثماني عبدالحميد خان الأول وسليم خان الثالث، فهذا كذب محض واختلاق، فمعلوم لكل من قرأ شيئا من التاريخ أن الأشراف في مكة كانوا هم نواب السلطان العثماني في بلاد الحجاز، وهؤلاء الأشراف ما كادوا يسمعون بدعوة ابن عبدالوهاب في الجزيرة حتى خافوا على أنفسهم منها، ورأوا أنها ستسلبهم الإتاوات والسحت الذي يأخذونه من القبور المقامة في بلاد الحجاز، وعلموا أن من دعوة بن عبدالوهاب هدم القبور وتحريم الذبح لها والصلاة عندها، ولذلك سيروا جيوشهم الجيش تلو الجيش يحارب ابن عبدالوهاب في نجد، ولم يقم الشيخ بأكثر من رد العدوان عن نفسه وعن دعوته.. فأين كان في هذا خارجا على السلطان!؟ ومع ذلك أرسل الشيخ محمد عبدالوهاب بوفد إلى الشريف أحمد بن سعيد شريف مكة، وكان على رأس هذا الوفد الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله الحصين، وكان مع هذا الوفد هدايا وتحف كثيرة، وكتب الشيخ ابن عبدالوهاب مع هذا الوفد كتابا للشريف أحمد قال فيه بالنص: (المعروض لديك أدام الله فضل نعمه عليك حضرة الشريف أحمد بن الشريف سعيد أعزه الله في الدارين، وأعز به دين جده سيد الثقلين أن الكتاب لما وصل إلى الخادم "يعني نفسه"، وتأمل ما فيه من الكلام الحسن رفع يديه بالدعاء إلى الله بتأييد الشريف لما كان قصده نصر الشريعة المحمدية ومن تبعها، وعداوة من خرج، وهذا هو الواجب على ولاة الأمور)، ثم يقول في ختام رسالته (فإذا كان الله سبحانه قد أخذ ميثاق الأنبياء إن أدركوا محمدا صلى الله عليه وسلم على الإيمان به ونصرته، فكيف بنا ياأمته؟ فلابد من الإيمان به، ولابد من نصرته، لا يكفي أحدهما عن الآخر، وأحق الناس بذلك وأولاهم أهل البيت الذي بعثه الله منهم، وشرفهم على أهل الأرض به، وأحق أهل البيت بذلك من كان من ذريته صلى الله عليه وسلم ، وغير ذلك يعلم الشريف أعزه الله أن غلمانك من جملة الخدام، ثم أنتم في حفظ الله وحسن رعايته] (انظر حياة محمد بن عبد الوهاب ص322).
فإذا كان الشيخ يجعل نفسه من جملة خدام الأشراف، فكيف يكون خارجاً على السلطان؟!.
ومع هذا فقد جاء من الأشراف بعد ذلك من جمع العلماء من أهل السوء الذين أفتوا بكفر محمد بن عبدالوهاب وخروجه على الناس بدين جديد، وعدم جواز تمكين أتباعه من حج البيت، ولذلك مُنع أهل نجد من أهل الدعوة من الحج، ثم جهز الشريف غالب بعد ذلك جيشا كثيفا لحرب الشيخ ابن عبدالوهاب في نجد، ولما لم يستطيعوا أن يبلغوا غايتهم في إخماد الدعوة استعانوا بالسلطان العثماني الذي تباطأ في هذا الأمر، ثم أوعز إلى محمد علي والي مصر وأمره بقتال من سماهم بالوهابيين، وذلك عندما أفتى له علماء السوء أنهم كفار مارقون.. ومعلوم أيضا أن محمد علي جهز عدة جيوش لحرب أتباع الشيخ ابن عبدالوهاب، وكان ذلك بعد وفاة الشيخ.. فأين كان الشيخ ابن عبدالوهاب في كل ذلك خارجا على السلطان؟!.
هذا ومع أن الدولة العثمانية حاربت أتباع ابن عبدالوهاب بدعوى أنهم كفار عن طريق محمد علي باشا والي مصر، إلا أن أهل نجد والأمراء من أتباع الشيخ ابن عبدالوهاب لم يرفعوا لهم يدا من طاعة فيما يطيعون فيه الله ورسوله، وقد كتب الأمير عبدالله بن سعود مجموعة من الرسائل إلى محمد علي باشا والي مصر والسلطان محمود الغازي العثماني، يعلن في كل واحدة منها أنه عبد من عبيدهم ،وأنهم ما قاموا بدعوتهم في نجد إلا إصلاحا لأهلها، وإبعادا لهم عن الشرك والخرافة، وإقامة للصلاة والزكاة فيهم، وإنهم من جملة الأتباع والخدام للباب العالي العثماني ولواليه محمد علي باشا.
وهذه فصول من الرسالة التي أرسلها الأمير عبدالله بن سعود إلى السلطان محمود الغازي:
( بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله الذي جعل للداء العضال دواء، وحسم وألفي نيات الأعداء السيئة بالصلح والصلاح، اللذين كانا أول مانع من الوقوع في المهالك المهلكة، والصلاة والسلام على أشرف خلقه وأصفيائه محمد خاتم أنبيائه الذي بلغ أحسن أنبائه وبعد: فإني أطوف حول الكعبة آمال العبيد التي هي أعتاب دولة مولانا قطب دائرة الوجود، وروح جسد العالم الموجود، وملاذ الحاجز والبادي، ومحط رحال آمال الرائح والغادي، علم الأعلام ، إنسان عين أعيان الأنام، من نام في ظل عدله كل خائف، ولجأ إلى حماه كل عاقل عارف، ذي الأخلاق هي أرق من نسيم الصبا، مع الهيبة التي تحل من أجله الحبا، سلطان البرين، وخاقان البحرين، الذي برز بطلعته طالع السمو، السلطان ابن السلطان، سيدنا السلطان محمود الغازي، وأقدم عريضتي هذه المشتملة على الضراعة، وهي أنه لما كان عبدكم هذا من المسلمين الذين لا ينفكون عن أداء شروط الإسلام، التي هي إعلاء كلمة الشهادة وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان وحج بيت الله الحرام، ومنع الظلمة من الإضرار بالناس كف أيديهم) ا.هـ. ثم بعد ذلك سرد الأمير عبدالله بن سعود كيف أن أشراف مكة افتروا عليه عند السلطان العثماني لقتاله، وأنهم كتبوا عرائض مزورة إلى السلطات باسم الأمير سعود بن عبدالعزيز بن محمد تعلن العصيان، ورفض الحجاج الذين يأتون من الآفاق، ويتابع الأمير رسالته قائلا: (وعلى العموم فإن كل ما نسب إلى عبدكم هذا من أمور الطغيان والخروج كلها ناشئ عن خدعة الشريف المشار إليه "دسيسة"، ثم يقول في ختام رسالته: (قدمت عريضتي هذه التي هي أشهر من المثل السائر مصداقا لصداقتي على أن لا أنفك عن قيد الإطاعة، وأن أعد من عبيدكم القائمين بجميع خدمات الدولة العليا، فهي برهان قاطع يشهد بأني قائم بالدعوات في الأعياد والمحافل وعلى المنابر بدوام عمركم ودولتكم). (انظر الدولة السعودية الأولى لعبدالرحيم عبدالرحيم ص392-393).
وأما كتاب الأمير عبد الله بن سعود أيضا إلى محمد علي باشا والي مصر، فقد كان وافيا مظهرا أن أتباع ابن عبد الوهاب لم يكونوا خوارج، فقد قال في كتابه بعد ديباجة طويلة ومدح لمحمد علي.
(وبعد فغير خاف على جنابكم حقيقة ما نحن عليه، وما ندعو الناس إليه: أننا جاهدنا الأعراب حتى أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وألزمناهم صيام رمضان وحج بيت الله الحرام: ومنعناهم عن ظلم العباد، والسعي في الأرض بالفساد، وعن قطع السبيل والتعرض لحجاج بيت الله الحرام من الوافدين، فبعد ذلك شكوا إلى والي مكة غالب ورمونا بالكذب والبهتان، وخرجونا (أي اتهمونا بأننا خوارج)، وبدعونا، وقالوا فينا ما نحن منه براء، فسير علينا بأجناد وعدد وعدة فأعجزه الله وله الحمد والمنة فقاتلناهم دفعا لشره، ومقابلة لفعله القبيح ومكره، فرده الله بغيظه لم ينل خيرا، واستولينا على الحرمين الشريفين وجدة وينبع، فلما تمكنا من أوطانه فعلنا معه كل جميل، وأقررناه على ما كان تحت يده من البلدان، ووجهنا مدخول البنادر إليه، وأكرمناه غاية الإكرام توقيرا للنسب الشريف، وتعظيما للبلد الحرام).. ثم يقول بعد أن بين مكر الشريف بهم وتزويره رسائل إلى السلطان العثماني باسمهم: (فعلمنا أنه مطلوب الدولة العلية صيانة الممالك الإسلامية، لاسيما الأقطار الحجازية، ومن أعظمها صيانة الحرمين الشريفين، والذود عن حماها الأحمى بلا ريب.. ومنها الدعاء بحضرة سلطان السلاطين -نصره الله تعالى- على المنابر، وكف يد الأذى عن الوارد إلى الممالك المحروسة والصادر).
فإذا كانت هذه هي صورة العلاقات القائمة بين أتباع الشيخ ابن عبدالوهاب بين الدولة العثمانية والوالي محمد علي باشا فكيف يقال بعد ذلك أن ابن عبدالوهاب خارج على السلطان العثماني وأن هذه هي عقيدة السلف؟!
المصدر : فصول من السياسة الشرعية
عبدالرحمن عبدالخالق
نشرت مجلة المجتمع بعددها رقم 472 الصادر في 17 ربيع الثاني سنة 1400 الموافــق 4/3/1980م مقالا منسوبا إلى راشد السالم بعنوان: (رجل لكل العصور.. محمد عبد الوهاب). وقد نسب كاتب المقال إلى محمد بن عبدالوهاب خروجه على السلطان المسلم في وقته، حيث يقول الكاتب: (ومحمد بن عبدالوهاب أبرز رجال التاريخ المعاصر المعروفين بالخروج على السلطان المنحرف عن منهج الله، سواء كان انحرافه جزئيا أم كليا...) ا.هـ.
ونسب الكاتب هذا الذي مدح به ابن عبدالوهاب في زعمه إلى الحسين بن علي رضي الله عنهما وابن الزبير وسعيد بن جبير، وذلك من الأقدمين، وقد أثنى أيضا بهذا وبغيره على طائفة من علماء الدعوة المحدثين كالأستاذ حسن البنا -رحمه الله- وسيد قطب، والأستـاذ المودودي -رحمهم الله جميعا-.
وحيث إن هذا الأمر الذي مدح به الكاتب هؤلاء الرجال -في زعمه- يخالف الحقيقة أولا، وكذلك يمس عقيدة من عقائد أهل السنة والجماعة ثانيا، وهي أن السلطان المسلم لا يخرج عليه بالسيف مطلقا حتى لا يقع السيف بين المسلمين، فإنني قد رأيت من واجبي إنصافا للحق ووضعا للأمور في نصابها، ودفاعا عن هؤلاء الذين ينسبون إلى الخروج على الأمة -وهم من ذلك براء- أن أذكر الموقف الحقيقي لهؤلاء، وأن أدافع عن عقيدة من عقائد أهل السنة والجماعة يراد الآن تشويهها وتغييرها، وذلك لدفع الشباب المؤمن إلى محاربة بني جلدتهم من المسلمين، وبالتالي استنزاف طاقاتهم وجهودهم، وتمزيق جهادهم، وتفشيل دعوتهم، ووضعهم في كارثة بعد كارثة، وذلك لتظل الأمة ضعيفة متناحرة، ويفرح أعداؤها بعد ذلك، ويتمكنون من أرضها وديارها.
وسواء كان الذين يكتبون هذه المقالات يعرفون الهدف النهائي من وراء دعوتهم المنحرفة أو لا يعرفون، فإنهم على كل حال يسهمون في دفع عجلة الإسلام إلى الوراء.
الإمام محمد بن عبد الوهاب داع ملتزم بالمنهج السلفي
فأما الإمام محمد بن عبد الوهاب الذي جعله صاحب المقال الآنف أبرز رجال التاريخ المعاصر المعروفين بالخروج على السلطان المنحرف عن منهج الله (حسب زعم القائل)، فإنه لم يكن كذلك بتاتا، فقد بدأ دعوته -كما يعلم الجميع- في البصرة وأخرج منها، ثم حريملة بلدته وأخرج منها، ثم في الدرعية التي احتضنه فيها أميرها محمد بن سعود، وعاهده هذا الأمير على أن نصر دعوته، وأن يجعل أسيافه في خدمة رسالته - فأين وكيف كان محمد بن عبدالوهاب في كل ذلك خارجا على السلطان؟! ولكن ما كادت دعوة ابن عبدالوهاب في التوحيد تنتشر حتى عاداه وعادى إمارة ابن سعود الأمراء حوله فبدأوه هم بالحرب والعداوة، فحاربهم دفاعا عن نفسه.. فهل كان في هذا خارجا على السلطان؟ ومعلوم أن الإمارات والمشيخات التي حاربت ابن عبدالوهاب كانت إمارات مستقلة، كأنها دول مستقلة في قلب هذه الجزيرة.
وأما ما زعمه الكاتب أيضا من أن محمد بن عبدالوهاب خرج على السلطان العثماني عبدالحميد خان الأول وسليم خان الثالث، فهذا كذب محض واختلاق، فمعلوم لكل من قرأ شيئا من التاريخ أن الأشراف في مكة كانوا هم نواب السلطان العثماني في بلاد الحجاز، وهؤلاء الأشراف ما كادوا يسمعون بدعوة ابن عبدالوهاب في الجزيرة حتى خافوا على أنفسهم منها، ورأوا أنها ستسلبهم الإتاوات والسحت الذي يأخذونه من القبور المقامة في بلاد الحجاز، وعلموا أن من دعوة بن عبدالوهاب هدم القبور وتحريم الذبح لها والصلاة عندها، ولذلك سيروا جيوشهم الجيش تلو الجيش يحارب ابن عبدالوهاب في نجد، ولم يقم الشيخ بأكثر من رد العدوان عن نفسه وعن دعوته.. فأين كان في هذا خارجا على السلطان!؟ ومع ذلك أرسل الشيخ محمد عبدالوهاب بوفد إلى الشريف أحمد بن سعيد شريف مكة، وكان على رأس هذا الوفد الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله الحصين، وكان مع هذا الوفد هدايا وتحف كثيرة، وكتب الشيخ ابن عبدالوهاب مع هذا الوفد كتابا للشريف أحمد قال فيه بالنص: (المعروض لديك أدام الله فضل نعمه عليك حضرة الشريف أحمد بن الشريف سعيد أعزه الله في الدارين، وأعز به دين جده سيد الثقلين أن الكتاب لما وصل إلى الخادم "يعني نفسه"، وتأمل ما فيه من الكلام الحسن رفع يديه بالدعاء إلى الله بتأييد الشريف لما كان قصده نصر الشريعة المحمدية ومن تبعها، وعداوة من خرج، وهذا هو الواجب على ولاة الأمور)، ثم يقول في ختام رسالته (فإذا كان الله سبحانه قد أخذ ميثاق الأنبياء إن أدركوا محمدا صلى الله عليه وسلم على الإيمان به ونصرته، فكيف بنا ياأمته؟ فلابد من الإيمان به، ولابد من نصرته، لا يكفي أحدهما عن الآخر، وأحق الناس بذلك وأولاهم أهل البيت الذي بعثه الله منهم، وشرفهم على أهل الأرض به، وأحق أهل البيت بذلك من كان من ذريته صلى الله عليه وسلم ، وغير ذلك يعلم الشريف أعزه الله أن غلمانك من جملة الخدام، ثم أنتم في حفظ الله وحسن رعايته] (انظر حياة محمد بن عبد الوهاب ص322).
فإذا كان الشيخ يجعل نفسه من جملة خدام الأشراف، فكيف يكون خارجاً على السلطان؟!.
ومع هذا فقد جاء من الأشراف بعد ذلك من جمع العلماء من أهل السوء الذين أفتوا بكفر محمد بن عبدالوهاب وخروجه على الناس بدين جديد، وعدم جواز تمكين أتباعه من حج البيت، ولذلك مُنع أهل نجد من أهل الدعوة من الحج، ثم جهز الشريف غالب بعد ذلك جيشا كثيفا لحرب الشيخ ابن عبدالوهاب في نجد، ولما لم يستطيعوا أن يبلغوا غايتهم في إخماد الدعوة استعانوا بالسلطان العثماني الذي تباطأ في هذا الأمر، ثم أوعز إلى محمد علي والي مصر وأمره بقتال من سماهم بالوهابيين، وذلك عندما أفتى له علماء السوء أنهم كفار مارقون.. ومعلوم أيضا أن محمد علي جهز عدة جيوش لحرب أتباع الشيخ ابن عبدالوهاب، وكان ذلك بعد وفاة الشيخ.. فأين كان الشيخ ابن عبدالوهاب في كل ذلك خارجا على السلطان؟!.
هذا ومع أن الدولة العثمانية حاربت أتباع ابن عبدالوهاب بدعوى أنهم كفار عن طريق محمد علي باشا والي مصر، إلا أن أهل نجد والأمراء من أتباع الشيخ ابن عبدالوهاب لم يرفعوا لهم يدا من طاعة فيما يطيعون فيه الله ورسوله، وقد كتب الأمير عبدالله بن سعود مجموعة من الرسائل إلى محمد علي باشا والي مصر والسلطان محمود الغازي العثماني، يعلن في كل واحدة منها أنه عبد من عبيدهم ،وأنهم ما قاموا بدعوتهم في نجد إلا إصلاحا لأهلها، وإبعادا لهم عن الشرك والخرافة، وإقامة للصلاة والزكاة فيهم، وإنهم من جملة الأتباع والخدام للباب العالي العثماني ولواليه محمد علي باشا.
وهذه فصول من الرسالة التي أرسلها الأمير عبدالله بن سعود إلى السلطان محمود الغازي:
( بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله الذي جعل للداء العضال دواء، وحسم وألفي نيات الأعداء السيئة بالصلح والصلاح، اللذين كانا أول مانع من الوقوع في المهالك المهلكة، والصلاة والسلام على أشرف خلقه وأصفيائه محمد خاتم أنبيائه الذي بلغ أحسن أنبائه وبعد: فإني أطوف حول الكعبة آمال العبيد التي هي أعتاب دولة مولانا قطب دائرة الوجود، وروح جسد العالم الموجود، وملاذ الحاجز والبادي، ومحط رحال آمال الرائح والغادي، علم الأعلام ، إنسان عين أعيان الأنام، من نام في ظل عدله كل خائف، ولجأ إلى حماه كل عاقل عارف، ذي الأخلاق هي أرق من نسيم الصبا، مع الهيبة التي تحل من أجله الحبا، سلطان البرين، وخاقان البحرين، الذي برز بطلعته طالع السمو، السلطان ابن السلطان، سيدنا السلطان محمود الغازي، وأقدم عريضتي هذه المشتملة على الضراعة، وهي أنه لما كان عبدكم هذا من المسلمين الذين لا ينفكون عن أداء شروط الإسلام، التي هي إعلاء كلمة الشهادة وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان وحج بيت الله الحرام، ومنع الظلمة من الإضرار بالناس كف أيديهم) ا.هـ. ثم بعد ذلك سرد الأمير عبدالله بن سعود كيف أن أشراف مكة افتروا عليه عند السلطان العثماني لقتاله، وأنهم كتبوا عرائض مزورة إلى السلطات باسم الأمير سعود بن عبدالعزيز بن محمد تعلن العصيان، ورفض الحجاج الذين يأتون من الآفاق، ويتابع الأمير رسالته قائلا: (وعلى العموم فإن كل ما نسب إلى عبدكم هذا من أمور الطغيان والخروج كلها ناشئ عن خدعة الشريف المشار إليه "دسيسة"، ثم يقول في ختام رسالته: (قدمت عريضتي هذه التي هي أشهر من المثل السائر مصداقا لصداقتي على أن لا أنفك عن قيد الإطاعة، وأن أعد من عبيدكم القائمين بجميع خدمات الدولة العليا، فهي برهان قاطع يشهد بأني قائم بالدعوات في الأعياد والمحافل وعلى المنابر بدوام عمركم ودولتكم). (انظر الدولة السعودية الأولى لعبدالرحيم عبدالرحيم ص392-393).
وأما كتاب الأمير عبد الله بن سعود أيضا إلى محمد علي باشا والي مصر، فقد كان وافيا مظهرا أن أتباع ابن عبد الوهاب لم يكونوا خوارج، فقد قال في كتابه بعد ديباجة طويلة ومدح لمحمد علي.
(وبعد فغير خاف على جنابكم حقيقة ما نحن عليه، وما ندعو الناس إليه: أننا جاهدنا الأعراب حتى أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وألزمناهم صيام رمضان وحج بيت الله الحرام: ومنعناهم عن ظلم العباد، والسعي في الأرض بالفساد، وعن قطع السبيل والتعرض لحجاج بيت الله الحرام من الوافدين، فبعد ذلك شكوا إلى والي مكة غالب ورمونا بالكذب والبهتان، وخرجونا (أي اتهمونا بأننا خوارج)، وبدعونا، وقالوا فينا ما نحن منه براء، فسير علينا بأجناد وعدد وعدة فأعجزه الله وله الحمد والمنة فقاتلناهم دفعا لشره، ومقابلة لفعله القبيح ومكره، فرده الله بغيظه لم ينل خيرا، واستولينا على الحرمين الشريفين وجدة وينبع، فلما تمكنا من أوطانه فعلنا معه كل جميل، وأقررناه على ما كان تحت يده من البلدان، ووجهنا مدخول البنادر إليه، وأكرمناه غاية الإكرام توقيرا للنسب الشريف، وتعظيما للبلد الحرام).. ثم يقول بعد أن بين مكر الشريف بهم وتزويره رسائل إلى السلطان العثماني باسمهم: (فعلمنا أنه مطلوب الدولة العلية صيانة الممالك الإسلامية، لاسيما الأقطار الحجازية، ومن أعظمها صيانة الحرمين الشريفين، والذود عن حماها الأحمى بلا ريب.. ومنها الدعاء بحضرة سلطان السلاطين -نصره الله تعالى- على المنابر، وكف يد الأذى عن الوارد إلى الممالك المحروسة والصادر).
فإذا كانت هذه هي صورة العلاقات القائمة بين أتباع الشيخ ابن عبدالوهاب بين الدولة العثمانية والوالي محمد علي باشا فكيف يقال بعد ذلك أن ابن عبدالوهاب خارج على السلطان العثماني وأن هذه هي عقيدة السلف؟!
المصدر : فصول من السياسة الشرعية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق