مشروع داعش: احتلال سوريا (القصة الكاملة) 1/2 / مجاهد مأمون ديرانية
2014-01-20 --- 19/3/1435
المختصر/
عجب أنصارُ داعش الجاهلون بحقيقتها من بركان الغضب الذي انفجر في سوريا ضدها، فإنهم لم يعلموا من الحقيقة إلا ما أرادته لهم داعش أن يعلموا، وما يزالون يحسنون الظن بها فيحسبون أنها جماعة مجاهدة جاءت إلى سوريا للمساعدة في تحريرها من الاحتلال النصيري.
ما علموا أنها جاءت لتحتل البلاد وتنشئ فيها مشروعها المشبوه، وأنها لا تختلف عن النظام إلا بالاسم والشعار، فهي قوة احتلال كما أن النظام قوة احتلال، ومشروعها هو ابتلاع سوريا وإخضاع السوريين كما أن مشروع النظام هو ابتلاع سوريا وإخضاع السوريين، سواء بسواء.
عندما وصلت داعش إلى سوريا، كان السوريون قد أمضوا في الجهاد سنتين تمكنوا خلالهما من تحرير ثلثَي الأرض السورية، وكان ينبغي أن تضع داعش اليدَ في اليد وترصّ الصفوفَ مع الصفوف فتساعد على تحرير الثلث الثالث، وهو الأصعب لأن النظام سحب صفوة قواته إليه وركزها فيه، ولكنها لم تفعل.
لقد تجنبت داعش المواقعَ والمدن التي يحتلها ويحاصرها النظام وبدأت بالالتفاف على المجاهدين من الخلف؛ عملت على إعادة احتلال المناطق المحررة بخطة منهجية، مستغلّةً حسنَ ظن السورين بها وتورعهم عن الاشتباك معها، فنجحت في اجتياح واحتلال قسم كبير من الأراضي المحررة خلال أربعة أشهر، وكادت تبتلعها كلها لولا أن الله أراد بسوريا والسوريين خيراً، فثَمّ كان الانفجار.
هذه المقالة تسرد الحكاية الكاملة لمحاولة داعش احتلال سوريا، وهي موجَّهة إلى ثلاثة أنواع من الناس:
إلى المجاهدين الذين عرفوا حقيقة داعش وتحققوا من بغيها وعدوانها فقاتلوها قتال البغاة المعتدين، لكي يعلموا أنهم على حق ويَثبُتوا في مواقعهم حتى يكفّ البغاة عن بغيهم ويتوقفوا عن عدوانهم ويفيئوا إلى حكم الله.
وإلى المجاهدين الذين اعتزلوا القتال وتركوا إخوانَهم وحيدين في الميدان، ليعلموا أنهم مقصّرون آثمون بالخذلان، وأنهم الهدف القادم للبغاة المعتدين، وأنهم لا مناصَ لهم من نصرة إخوانهم حتى لا تتكرر مأساة الثورة الأبيض التي ما تزال تتكرر في تاريخنا بلا توقف منذ دهر طويل.
وإلى جماعات من الناس -من السوريين ومن غير السورين- ما يزالون غافلين عن خطر مشروع داعش على الثورة السورية وعلى جهاد أهل الشام، عسى أن تنكشف لهم الحقيقة ويظهر الحق ويَبطل سحرُ السحَرة والمشعوذين.
-1-
لن أبدأ الحكاية من سوريا قبل شهور، سأبدؤها من الهند قبل قرون. هل تعرفون كيف احتلت بريطانيا القارةَ الهندية؟ لقد احتلتها بطريقة عجيبة تشبه إلى حد بعيد الطريقة التي اتبعتها داعش في احتلال سوريا. لم تعلن الحرب ولم تسيّر الأساطيل ولم ترسل الجيوش، بل فتحت شركة تجارية، ثم تمددت الشركةُ حتى أكلت الهندَ كلها!
أسس الإنكليز في مطلع القرن السابع عشر شركة تجارية اسمها “شركة الهند الشرقية” وحصلوا على إذن من إمبراطور الهند بافتتاح مركز لها في ميناء سورت في الكُجُرات، ثم حصلوا على تراخيص بفتح فروع للشركة في عدة موانئ أخرى، ثم في مدن داخل البلاد، وما زالت تلك “الشركة” تتوسع وتنتشر حتى غطت مراكزُها القارةَ الهندية كلها.
تحولت الشركة ببطء وخبث شديدَين من كيان تجاري إلى كيان سياسي عسكري، وبدأت بالتدخل في السياسة المحلية في الأقاليم واستغلال النزاعات المحلية بين الأمراء، ثم تدخلت في سياسة الإمبراطورية نفسها، وأسست جيشاً حاربت به الهولنديين والفرنسيين الذين كانوا ينافسون بريطانيا على النفوذ في بلدان الشرق، ثم حاربت جيوشَ الإمبراطورية وكسرتها واحتلت الهند كلها.
-2-
إن ما صنعته شاهش (شركة الهند الشرقية) قبل قرون يشبه ما صنعته داعش مؤخراً: احتلالٌ بالمكر والغدر والخديعة وباستغلال طيبة الطرف الآخر وسذاجته. جاء القوم إلى سوريا زاعمين أنهم لا يريدون شيئاً سوى مساعدة أهلها المساكين، ففتح لهم السوريون أبواب البلاد.
كان ينبغي أن يذهبوا إلى الجبهات لقتال العدو، ولكنهم تركوها وذهبوا إلى القرى والبلدات المحرَّرة فاشتغلوا بإلقاء الخطب وتوزيع المطويّات وتنظيم المهرجانات والاحتفالات! ثم قالوا: نحتاج إلى مقرّات، فوهبهم الناس بيوتاً سكنوها واتخذوا منها مقرّات.
ثم بدأوا يقيمون حواجز داخل المدن وفي مداخلها وعلى الطرق التي تصل بينها، وما لبثوا أن بدؤوا يضايقون الناس فيتدخلون في حياتهم ويفرضون ما يشاؤون من القوانين ويتعقبون من يخالفهم بالاعتقال والاغتيال، ثم سَفَروا اللثام عن الوجه القبيح فبدؤوا بقتال الكتائب المحلية، وراحوا يطاردون الإدارات المدنية والمنظمات الإغاثية والطبية والإعلامية، وكلما أحكموا سيطرتهم على منطقة انتقلوا إلى المنطقة التي بعدها، فما مضت عليهم خمسة أشهر إلا وقد احتلوا مئات المواقع (المحرَّرة) في شرق وشمال البلاد، وبدؤوا بالزحف على الوسط والجنوب.
-3-
الخطأ الأكبر الذي يرتكبه المدافعون عن داعش، أنهم يحسبونها فصيلاً من الفصائل التي تقاتل النظام لتحرير سوريا، وبسبب هذا الوهم فإنهم ما يزالون يرددون تلك الجملة التي حفظناها غيباً: يجب أن تتحدوا الآن لقتال النظام وتحرير سوريا، وبعدها لكل حادثة حديث.
لا يا سادة، لا يصلح أن نستمع إلى نصيحتكم لأنكم لا تعرفون الحقيقة. إن داعش لم تأت إلى سوريا لقتال النظام وتحرير سوريا، لقد جاءت داعش إلى سوريا بمشروع، ولئن بدا لكم أن مشروعها هو مشروع الثورة نفسه فإنكم واهمون، فإنها لا تبالي بالأسد ولا بنظامه ولا باستقلال سوريا وتحرير السوريين من الأسْر والعذاب. بل إن هذه المصطلحات ذاتها لا تعني لها أي شيء، فما معنى الكرامة والحرية وما قيمة الشعب السوري وأي أهمية لحريته واستقلاله؟
إن لداعش مشروعاً واحداً لم تفكر في غيره منذ وطئت أرضَ الشام. إنها تريد"“دولة"، وبما أن الأرض الواحدة لا تتسع لدولتين فإن المشكلة لا يمكن حلها إلا بأن يتنازل الفريق الآخر (الشعب السوري) عن مشروع دولته طوعاً أو كرهاً.
طوعاً بالخداع والتمويه واستغلال شعارات الإسلام، أو كرهاً بالبارود والنار. الأسلوب الأول لم ينجح إلا مع أقلية لا وزن لها، وسرعان ما أدركت داعش أن الإكراه هو الأسلوب الوحيد الذي يوصل إلى الغاية، فبدأت بالحرب.
-4-
عندما وصلت داعش إلى سوريا كان السوريون قد أمضوا في ثورتهم سنتين، وقد حرروا قسماً كبيراً من الأرض السورية وأقاموا عليه إدارات مدنية وعسكرية بديلة عن النظام، فلم يكن لداعش بُدٌّ من اختيار واحدة من ثلاث: إما أن تستسلم وتتخلى عن مشروعها، أو تنطلق إلى الأراضي غير المحررة فتحررها وتقيم عليها مشروعها، أو تحتل الأراضي المحررة لتحقيق ذلك الهدف.
لم ترد داعش أن تتخلى عن المشروع، ولم تكن مواجهةُ النظام خياراً مطروحاً لأن القدرات العسكرية التي تملكها داعش أقل منه بكثير (وربما لأسباب أخرى يعلمها الله)، فاختارت الحل الثالث.
إذا أراد المرء أن يقيم بناء على أرض، فإن الأرض ينبغي أن تكون خالية من البناء، ولو كانت معمورة فإن أول ما يبدأ به هو إزالة البنيان القديم، وهذا ما صنعته داعش.
بدأت بعملية “تجريف” منظمة لاجتثاث البناء الثوري -العسكري والمدني- الذي أنشأه الثوار في المناطق المحررة خلال عامين، فاغتالت واختطفت عدداً من القادة وهاجمت الكتائب الصغيرة وقضت على كثير منها، ولاحقت واعتقلت كثيراً من الإعلاميين ودمرت كثيراً من المؤسسات الإعلامية الثورية، وضايقت الأطباء والإغاثيين واعتقلت وقتلت عدداً منهم، ونجحت في إعاقة أعمال المنظمات الإغاثية في مناطق عدة وفي تخريب وإقفال عدد من المستشفيات الرئيسية والمشافي الميدانية، واصطدمت مع الهيئات الشرعية وطاردت واعتقلت كثيراً من الدعاة والقضاة والمحامين.
بالنتيجة، تفكك البنيان الثوري في المناطق التي احتلتها داعش، وامتلأ الجنوب التركي بآلاف من أحرار سوريا الذين فضّلوا الانسحاب من الميدان الثوري على التعرض للقتل أو الملاحقة والاعتقال والإهانة والتعذيب في سجون دولة البغدادي، التي شهد المجرّبون العارفون بأنها لا تقل سوءاً عن سجون النظام السوري.
-5-
سأعود قليلاً إلى الوراء، إلى بداية الرواية. في التاسع من نيسان (أبريل) 2013 بثّت شبكة “شموخ الإسلام” رسالة صوتية أعلن فيها البغدادي جمع “جبهة النصرة” وتنظيم “الدولة الإسلامية في العراق” في تنظيم جديد باسم “الدولة الإسلامية في العراق والشام” (الذي عُرف بعد ذلك بالاسم المختصر “داعش”).
في اليوم التالي أصدر أمير النصرة الجولاني بياناً صوتياً ردّ فيه على البغدادي وأصرّ على فصل “النصرة” عن “دولة العراق” رافضاً الدمج المقترَح، أما الظواهري فقد كان رد فعله بطيئاً جداً ومتأخراً عن مواكبة الأحداث، فأصدر بياناً بعد شهرين (9/6) بحلّ الدولة وبقاء الأمور على ما كانت عليه. لم يكن البغدادي كالظواهري بل كان ردّه سريعاً، فقد أصدر بعد ستة أيام (15/6/2013) كلمة يقول فيها: “الدولة الإسلامية في العراق والشام باقية ما دام فينا عرق ينبض أو عين تطرف، ولن نساوم عنها حتى يظهرها الله تعالى أو نهلك دونها”.
علّق كثير من الكتّاب على كلمة البغدادي تلك بما شاء الله لهم من الدَّرْس والتحليل، أما أنا فإنني أعتبرها “إعلان حرب” على السوريين ومسوَّدة “مشروع احتلال سوريا”.
-6-
وقع الانشقاق المتوقع في صفوف النصرة، فانحاز نحو ثلثَي مقاتليها إلى التنظيم الجديد، ويبدو أن غالبية المقاتلين غير السوريين (الذين يُدعَون مجازاً “المهاجرين”) كانوا من ذلك الفريق، بالإضافة إلى العناصر الأكثر غُلوّاً من السوريين، وبدؤوا على الفور بمهاجمة مقرات ومستودعات جبهة النصرة فاستولوا على قسم كبير منها.
في الشهر التالي انتقل البغدادي إلى سوريا، فنشر دعاته في المعسكرات والجبهات وبدأ بتوسيع التنظيم وجمع البيعات وشراء وتكديس السلاح. كانت الأموال كثيرة، كثيرة جداً، ولم يسأل أحدٌ من أين تأتي، وراحت داعش تشتري كل سلاح في الأسواق مهما غلا الثمن، من “الروسيّة” إلى الدبّابة، مما تسبب في ندرة الأسلحة وارتفاع أسعارها، فعجزت كثير من الجماعات المقاتلة الأخرى عن شرائها وتعطل القتال في كثير من الجبهات.
تدفق المقاتلون من وراء الحدود فدخل آلاف منهم إلى سوريا قادمين من العراق أو منتقلين عبر الأراضي التركية، وفيما كان الثوار منشغلين بالمعركة الحاسمة مع النظام في عمق البلاد، من حلب شمالاً إلى درعا في الجنوب، كانت داعش منهمكة في بناء قاعدتها الصُّلبة في المحافظتين الشرقيتين البعيدتين، الرقة ودير الزور، فنجحت خلال ثلاثة أشهر في إنشاء قوة ضاربة تتكون من عدة آلاف من المقاتلين المزودين بكميات كبيرة من الأسلحة.
-7-
في أيلول 2013 كانت حمص قد دخلت في الشهر السادس عشر من شهور الحصار، وكان ينبغي على البغدادي أن يرسل جيشه من الدير والرقة باتجاه الغرب -إلى السخنة وتدمر وصولاً إلى ريف حمص الشرقي- لتحرير حمص وفك الحصار، ولكنه لم يفعل.
بدلاً من ذلك قامت داعش بغزو مدينتَي الرقة والطبقة واحتلتهما عَنوةً، ثم انتشرت في أكثر مناطق ريف الرقة فأعادت احتلال المناطق التي حررها الثوار قبل ذلك بستة أشهر.
والغريب أن داعش احتلت ما سبق تحريره من المدن والأرياف، ولكنها لم تقترب من المناطق الثلاث التي بقيت في يد النظام منذ تحرير الرقة: مطار الطبقة والفرقة 17 واللواء 93. لماذا؟ ما أكثرَ الأسئلةَ التي تبحث عن جواب!
خلال أسابيع قليلة أحكمت داعش سيطرتها على محافظة الرقة التي صارت قاعدتَها الرئيسية في الشرق، ثم بدأت بالانتشار في الحسة ودير الزور، فخاضت مواجهات عنيفة مع الأكراد ومع كتائب الجيش الحر الكثيرة التي توجد في تلك المناطق واحتلت مساحات واسعة من أراضي المحافظتين، ولا سيما محافظة دير الزور التي صارت ولاية من ولايات “الدولة” المزعومة.
-8-
بعد ذلك بدأ اجتياح محافظتَي حلب وإدلب. استولت داعش على جرابلس والباب وعززت وجودها في منبج وإخترين وتل رفعت وحريتان ورتيان ودارة عزة، وحاولت احتلال مارع وعندان، ثم افتعلت حرباً مع عاصفة الشمال انتهت بالسيطرة على إعزاز.
وهكذا نجحت خلال عدة أشهر في احتلال أجزاء واسعة من الريف الشرقي والريف الشمالي لمدينة حلب، بالإضافة إلى سيطرتها على عدة أحياء في القسم المحرَّر من مدينة حلب نفسها.
في الوقت نفسه كانت داعش تتمدد في الريف الإدلبي، فقد نجحت في احتلال الدانا وسلقين وسراقب وحارم وأورم، وهاجمت حزّانو وباتبو وعزّزت وجودها في بنّش وكللي، واتجهت أخيراً إلى واحد من أهم المعابر الحدودية وأكثرها حيوية للثورة، باب الهوى.
فشلت محاولة داعش للسيطرة على المعبر فارتدّت إلى الخلف واحتلّت أقرب البلدات السورية إليه، سرمدا. وهكذا اتصلت منطقة سيطرة داعش من الدانة إلى سرمدا وصارت الأتارب هي الهدف التالي، فتحركت أرتال داعش من حريتان لاقتحامها.
الملاحظ أن بلدتَي الأعداء، نُبّل والزهراء، كانتا أقربَ بكثير إلى حريتان وأَولى بالحرب من الأتارب، البلدة المُسلمة التي يرابط فيها لواء أمجاد الإسلام، فلماذا تركتهما داعش في أمان وبدأت بقصف الأتارب بالمدفعية الثقيلة؟ الجواب الذي صار يعرفه عامة أهل سوريا بعد كل الذي كان: لأن داعش لم تنشأ لقتال الأعداء بل لقتال المجاهدين، ولم توجد لتحرير سوريا بل لإعادة احتلال المحرَّر من أراضيها.
* * *
كيف استطاعت داعش أن تصنع ذلك؟ كيف نجحت في خداع السوريين وعامة المسلمين؟ ماذا كانت الإستراتيجية التي اتبعتها وما هي الإستراتيجية التي ينبغي أن يتبعها المجاهدون لاتقاء شرها ومكرها؟ ما هي مسؤولية الجبهة الإسلامية وسائر الكتائب والجماعات المجاهدة؟ ما هي مسؤولية العلماء والدعاة؟ ستأتي الأجوبة في القسم الثاني من المقالة إن شاء الله.
المصدر: العصر
=================
مشروع داعش: احتلال سوريا (القصة الكاملة) 2/3 / مجاهد ديرانية
2014-01-31 --- 30/3/1435
المختصر/ كيف استطاعت داعش احتلال مساحة واسعة من سوريا في وقت قصير؟ هل هي من القوى الكبرى على الأرض؟ الجواب معروف: ليست كذلك، ولا يكاد مقاتلوها يبلغون نصفَ معشار عدد مقاتلي سائر الجماعات والكتائب التي تنتشر في أنحاء البلاد. فكيف إذن؟
الجواب هو أن داعش حاربت بذكاء ودهاء، فأما الدهاء فإنه يذكّرنا بأساليب جيوش الاستعمار التي غزت بلادنا في القرن الماضي، وكان سلاحها الأمضى هو الكذب والغدر والمكر والخديعة، وكذلك صنعت داعش في سوريا. وأما الذكاء فإنه يظهر في الإستراتيجية العسكرية التي اتبعتها في القتال، فبما أن القوة التي تملكها ليست كبيرة مقارَنةً بما يملكه خصومُها من عدد وعدة فقد أنشأت إستراتيجيتها الحربية على تجنب إهدار مواردها البشرية والمادية، وذلك بالتوسع على حساب الأراضي المحررة وتجنب الصدام مع النظام.
وقد توسّلَت داعش إلى تحقيق تلك الإستراتيجية الخبيثة بعدد من الأساليب (التكتيكات) التي كان أهمها: التسلل عبر الثغرات الضعيفة وتجنب الاشتباك مع الأطراف القوية، واستغلال نفسيات المجاهدين المتسامحة ونفورهم من الاشتباك مع جماعة تدّعي الجهاد وتقاتل تحت راية التوحيد، واستثمار تقصير الكتائب الأخرى وعجزها عن محاربة لصوص الثورة، وأخيراً وقبل ذلك كله وبعده: استعمال أساليب يعجز خصومُها من المجاهدين عن الردّ بمثلها، أساليب تنطوي على كثير من الكذب والغدر والخيانة والخداع.
-1-
كانت الإستراتيجية العامة التي اتبعتها داعش لاحتلال سوريا هي التوسع على حساب المناطق المحرَّرة وتجنب الصدام مع النظام، لأن تلك هي أسهل وأسرع الطرق للحصول على الأرض التي تحتاج إليها لتقيم عليها مشروع الدولة الموهومة.
لقد صار عُدوان داعش على سوريا و"احتلال المناطق المحررة" أمراً مشهوراً متواتراً يعرفه القاصي والداني، ولكن كثيرين من أنصارها المسحورين بباطلها ما يزالون يجادلون في الشق الثاني من المتلازمة المشؤومة، "تجنب الحرب مع النظام"، ويطلبون الدليل. لو شئتُ أن أبسط الدليل بالتفاصيل والأسماء والتواريخ لتضاعف حجم المقالة عشرة أضعاف، لذلك أكتفي بوصف إجمالي من شأنه أن يفضح أكبر خدعة خدعت بها داعش عامةَ السوريين، حينما أوهمتهم بأنها تقاتل نظام الاحتلال النصيري الأسدي وتساعد على تحرير الأرض السورية من الاحتلال.
عندما استكملت داعش بناء قوتها العسكرية كان الجزء الأهم من سوريا تحت سيطرة النظام (وما يزال): العاصمة والساحل، وأجزاء مهمة من محافظتَي حمص وحماة، ومطارات وقواعد عسكرية كثيرة منثورة في جميع المحافظات. كان ينبغي على داعش أن تستثمر قوتها العسكرية في تحرير تلك المناطق، ولكن العكس تماماً هو الذي حصل؛ تركت داعش المناطق المحتلة وبدأت باحتلال المناطق المحررة.
كانت في الرقة ثلاث "بؤر" للنظام (مطار الطبقة والفرقة 17 واللواء 93) تركتها داعش واحتلت بقية مناطق المحافظة بمدنها وقراها جميعاً. وفي دير الزور تركت المطار الذي يسيطر عليه النظام وتجاهلت أحياءَ المدينة التي يحتلها وانشغلت باحتلال الجزء المحرَّر منها، كما انتشرت عبر مدن وريف المحافظة المحررة أصلاً. وفي إدلب تركت جسر الشغور المحتلّة التي تربط المناطق المحررة بالساحل وتُعتبَر أهم عقدة مواصلات في المحافظة (أو ثاني أهم عقدة بعد سراقب) واحتلت مساحات واسعة في الريف الشمالي، ثم بدأت بالتمدد عبر الريف الجنوبي مؤخراً. أما في حمص وحماة فقد تركت داعش مدينةَ حمص المحاصرة والريف الغربي لحمص وحماة، وهما منطقتان منكوبتان تعيشان تحت تهديد مليشيات القرى النصيرية والشيعية المجاورة، وبدأت بالتمدد عبر الريف الشرقي المحرَّر، وكانت على وشك تنفيذ عملية غزو واسعة على مدينة السلمية وقراها قبل يوم واحد من اندلاع الاشتباكات الأخيرة مع جيش المجاهدين.
وفي حلب تركت داعش الريفَ الجنوبي الذي يسيطر النظامُ على الجزء الأكبر منه والذي يتيح له التحكم في طريق دمشق حلب الدولي، وهاجمت واحتلت الريف الشرقي، ثم الريف الشمالي، ثم بدأت أخيراً بغزو الريف الغربي، وكلها مناطق سبق للثوار تحريرُها منذ أواخر سنة الثورة الثانية. والغريب أنها حرصت على احتلال الريف الشمالي بأكمله، بما فيه المعابر الحدودية مع تركيا، ومع ذلك فقد تركت قريتَي الأعداء، نُبّل والزهراء، رغم أنهما تقعان بين اثنتين من قواعدها المهمة: مطار منّغ في الشمال وحريتان وعندان في الجنوب. تركتهما داعش وهما على بعد كيلومترات قليلة من قواعدها وساقت الأرتال من تلك القواعد لغزو الأتارب البعيدة في الغرب.
لماذا صنعت ذلك؟ ولماذا تركت كل ما سبق ذكره من مناطق محتلة واحتلت الأراضي المحررة؟ لو عثرنا على الجواب فسوف نحل قطعة مهمة من الأحجية.
-2-
نجحت داعش في تطبيق إستراتيجيتها القائمة على احتلال الأراضي المحررة باستعمال عدد من الأساليب (التكتيكات)، كان أهمّها اختراق "الخواصر الرخوة" في الجسم العسكري الثوري وعدم إهدار مواردها البشرية المحدودة في معارك جانبية مع الأقوياء.
في تشرين الأول الماضي فقدت داعش طريق الشمال الواصل من الرقة إلى ريف حلب الشرقي عبر عين عيسى بعد معارك طاحنة خاضتها مع عشيرة الفدعان (وهي فرع من قبائل عنزة) بين تل السمن وعين عيسى. وبما أنها لا تستغني عن ربط قاعدتها في الرقة بمناطق نفوذها في الريف الحلبي، وحيث إن السيطرة على الطريق الشمالي كانت صعبة بسبب وقوعه في مناطق نفوذ الفدعان، فقد قررت داعش السيطرة على الطريق الجنوبي الذي يصل الرقة بالريف الحلبي الشرقي عبر مسكنة، وكان ذلك هو السبب في غزو مسكنة والاشتباك مع أحرار الشام.
لقد تركت داعش الطريق الشمالي واختارت المرور عبر مسكنة التي تسيطر عليها حركة أحرار الشام تطبيقاً لقاعدة "التسلل عبر الخواصر الرخوة"، والخواصر الرخوة عندها هي الكتائب والجماعات التي لا تطيق المواجهة المباشرة لواحد من سببين: إما لأن عدد مقاتليها قليل وقدرتها القتالية ضعيفة، أو لأن تكوينها الفكري يمنع مقاتليها من الاشتباك مع مَن يعتبرونهم إخوةً في المنهج والجهاد.
السبب الأول يفسر استهداف داعش للكتائب الصغيرة المستقلة، فهي لا تبلغ من الحجم ما يتيح لها الدفاع عن النفس ولا ترتبط بكيانات كبيرة يمكن أن تدافع عنها، ومن ثَمّ فلا يوجد أي رادع يمكن أن يُضعف من شهية داعش لابتلاعها. لقد استطاعت داعش فعلاً أن تبتلع عشرات من تلك الكتائب في أقل من ثلاثة أشهر، كما أنها حطمت عشرات أخرى من الكتائب الصغيرة التي لم يعد لها وجود بعدما ترك مقاتلوها السلاحَ وعادوا إلى بيوتهم، أو انسحبوا إلى تركيا فراراً من البطش الداعشي الذي لاحق كثيراً من القادة والمقاتلين.
أما السبب الثاني فإنه يفسر استهداف داعش المستمر لحركة أحرار الشام، فهي المتضرر الأكبر من العدوان الداعشي ولكنها -في الوقت ذاته- أقل ضحايا داعش دفاعاً عن النفس ورداً للعدوان. لقد راهنت داعش على أن قيادة الأحرار لن تستطيع قتالها لأن كثيرين من مقاتلي الأحرار ينتمون فكرياً إلى المدرسة السلفية الجهادية، وهي المدرسة ذاتها التي تعود إليها جذور المنهج الداعشي، ويبدو أنها قد نجحت في الرهان. إن قيادة الأحرار تواجه خياراً صعباً في هذه الأيام، فلو أنها قررت الدفاع عن النفس والمشاركة العلنية في الحرب ضد داعش فسوف تخسر جزءاً من جسمها العسكري الذي يُتوقَّع أن ينشقّ وينحاز إلى الدولة أو يقف على الحياد، أما لو صمّمت على اتخاذ موقف مهادن وثابرت على التمسك بالحياد الظاهر وعدم رد العدوان فالأرجح أن تخسر الكثير وأن تكون أكبر ضحايا البغي الداعشي.
-3-
ثاني أهم تكتيكات داعش التي توسلت بها إلى تطبيق إستراتيجيتها المذكورة هي استغلال حالة الفوضى التي نشأت في بعض المناطق المحررة، والظهور بمظهر المُنقذ الذي يقدم أفضلَ البدائل عن فصائل المجاهدين التي عجزت عن توفير الأمن وفشلت في ردع عصابات اللصوص وقطّاع الطرق.
عندما شُغلت الكتائب المجاهدة المخلصة بقتال النظام اضطرت إلى التغاضي عن مجموعات اللصوص التي انتشرت في كثير من المناطق المحررة وأحالت حياة الناس إلى كابوس. لقد كثرت الأصوات المنادية بالتفرغ لقتال تلك العصابات وتخليص الناس من شرّها وأذاها ولو تسبب ذلك في وقف القتال مع النظام لبعض الوقت، ولكن النداءات الكثيرة ذهبت أدراج الرياح، حتى جاءت داعش فصنعت ما كان ينبغي على الجماعات المجاهدة أن تصنعه، فلاحقت اللصوص وقضت عليهم وأراحت منهم الناس، فكسبت رضاهم وحظيت بتأييدهم ممّا ساعدها على تكريس وجودها في بعض المناطق، فلما أدرك الناس أنهم قايضوا الأمن بالحرية والكرامة وأرادوا استرجاع ما فقدوه منهما كان الأوان قد فات، فقد ضربت داعش جذورها عميقة في الأرض وصار اقتلاعها من الأمور العسيرة.
لعل هذا الدرس من أبلغ ما ينبغي على المجاهدين أن يفهموه، فإن الناس لا يستطيعون الحياة إذا فقدوا الأمان وإذا تسلطت عليهم عصابات اللصوص، ولو أنهم عجزوا عن الصمود فإن حاضنة الثورة سوف تنهار وسيخسر المجاهدون العمق الشعبي اللازم لوجودهم. من أجل ذلك يتوجب على الجماعات المجاهدة، وعلى الجبهة الإسلامية بشكل خاص، أن تكرّس قوتها لمحاربة اللصوص والقضاء على كتائبهم وعصاباتهم، ولتعلم أن قتال أولئك الفاسدين المفسدين مقدَّمٌ على قتال النظام وأن الانتصار عليهم هو الطريق إلى الانتصار عليه.
-4-
استعانت داعش -في حملتها لتحرير المناطق المحرّرة- بعامل مهم جداً، وهو "الفكر الداعشي" الذي يحمله مقاتلوها، فالقتال عندهم مؤسَّس على تصنيف الخصم من حيث الديانة والاعتقاد لا من حيث علاقته بالثورة أو النظام، والكفّار هدف مشروع للقتال لأنهم كفار وليس بسبب أفعالهم، ولذلك نجد أن حرصهم على قتل النصيريين والرافضة والكفار أكبر من حرصهم على تحرير سوريا وتخليص السوريين من الأسْر والعذاب.
وحسب تصنيفهم فإن قتال المرتدين مقدَّم على قتال الكفار، وهذا يفسر ما يشاهَد من شدتهم على مخالفيهم من الفصائل الجهادية الأخرى، فإنها شدة لا نكاد نلاحظها على النظام نفسه، لأنهم لُقِّنوا أن تلك الجماعات مرتدة وأنها صحوات صُنِعت على عين الغرب لقتالهم والقضاء على مشروع "دولة التوحيد" التي يقاتلون من أجلها كما يظنون.
إن الخطر العظيم الذي ينشأ عن تلك العقيدة هو سهولة تحويل جيش داعش إلى جيش من القَتَلة بمجرد إقناعهم بأن الخصم كافر أو مرتد، وما أسهلَ ذلك على عقول سلّم أصحابُها قيادَها لأمرائهم وعزلوها عن التلقي من غيرهم، فإن قيل لهم إن أحرار الشام وصقور الشام وجيش الإسلام صحوات فإنهم يتحولون في طرفة عين إلى أعداء يتقربون إلى الله بقتالهم وقتلهم، وإذا أراد قادتهم احتلال قرية من القرى التي تسيطر عليها بعض الكتائب الأخرى فما عليهم إلا أن يخبروهم بأنهم ذاهبون إلى قرى النصيرية والرافضة، وقد تواترت الروايات بحصول ذلك في كثير من الغزوات التي شنّتها داعش على المدن والقرى المحررة.
-5-
يمكننا أن نعزو جزءاً كبيراً من نجاح داعش العسكري وتمددها السريع إلى الأساليب السابقة، غير أن العامل الأهم وسبب نجاحها الأكبر هو "المنظومة الأخلاقية" التي يحملها مشروعها، فقد نجحت في احتلال مناطق واسعة في سوريا لأنها استعملت أساليب يعجز عامة المجاهدين عن استعمالها، أساليب تقوم على الكذب والمكر والخديعة والغدر والخيانة.
كان في خطتي أن تشمل هذه المقالة أساليبَ داعش كلها، ثم وجدت أن هذه النقطة الأخيرة طالت بحيث صارت تستحق أن تُفرَد في مقالة مستقلة، فأرجو احتمال التعديل الذي طرأ على فكرة المقالة الأصلية التي كان ينبغي أن تصدر في جزأين، هذا هو الثاني منهما، وسوف أختم بالجزء الثالث الذي سأخصّص أكثره -إن شاء الله- لبيان دور المنظومة الأخلاقية الداعشية في تحقيق مشروع احتلال سوريا.
المصدر: الدرر الشامية
============
مشروع داعش: احتلال سوريا
(القصة الكاملة)
3 من 3
مجاهد ديرانية
انتهينا في المقالتين السابقتين إلى أن المشروع الحقيقي لداعش لم يكن في أي يوم من الأيام مساعدة السوريين وقتال النظام الطائفي، ورأينا كيف نجحت داعش فعلاً في احتلال مساحات واسعة من الأرض السورية في زمن قصير، فهل تملك القوةَ العسكرية الهائلة التي تبرّر ما حصلت عليه من مكاسب وما حققته من إنجازات؟
الجواب: لا، فإنها فصيل متوسط الحجم، أقل حجماً وقوة من أي واحدة من الجماعات الكبرى، كحركة أحرار الشام وألوية صقور الشام وجيش الإسلام. إذن كيف استطاعت إعادة احتلال نصف الأراضي المحررة؟ لقد نجحت داعش في إنجاز تلك المهمة القذرة باستعمال أساليب قذرة، أساليب تنطوي على المكر والخديعة والظلم والبغي والغَصْب والسرقة والكذب والغدر والخيانة.
سوف يستغرب أنصار داعش وصفي إياها بهذه الصفات ويقولون: لا يمكن لأي جماعة جهادية أن تستعمل مثلَ تلك الأساليب. أقول: صحيح، ولكن مَن قال إن داعش جماعة جهادية؟ هل تصبح الجماعةُ جهاديةً بالمزاعم والأقوال أم بالأفعال والأعمال؟ دونكم ما فعلته داعش بنا ثم احكموا لها أو عليها يا أيها المُنْصفون.
-1-
لنتحدث عن الغدر أولاً. لو استقصينا الأمثلةَ على غدر داعش فسوف تتحول هذه المقالة إلى كتاب، ومن ثَمّ فإنني أكتفي بالإشارة إلى نوعَي الغدر الداعشي: الفردي والجماعي. الأول يتمثل في منح الأمان للرسل ولعامة المجاهدين ثم الغدر بهم واعتقالهم وتعذيب وقتل كثير منهم، وقد ذاعت أخبار ضحايا غدرهم حتى صار يعرفها القاصي والداني من السوريين ومن غير السوريين.
الثاني يتمثل في غدر داعش بالكتائب التي تقاتلها ونقض العهود التي تعقدها معها. من الأمثلة المشهورة على ذلك غدر داعش بالأحرار في مسكنة، فعندما فشل هجومها الأول على البلدة طلبت هدنة لم يتردد الأحرار في الاستجابة لها، ثم اتضح أنها لم تطلب الهدنة إلا للغدر بهم، فقد استغلتها لاستقدام تعزيزات ضخمة، وعندما وصلت تلك التعزيزات قصفت مقرات الأحرار بالمدفعية ثم حاصرتها وسيطرت عليها، وبذلك سقطت مسكنة في يد داعش الغادرة.
بل إن الحرب التي يخوضها المجاهدون اليوم مع داعش لم تُطلق شرارتَها إلاّ حادثةُ غدر مشابهة، فعندما قررت داعش الهجوم على الأتارب في آخر كانون الأول الماضي أرسلت إليها رتلاً عسكرياً من حريتان، وحين مرّ الرتل بالمنطقة التي تسيطر عليها كتائب نور الدين زنكي حاول الزنكيون وقفَه ومنعه من التقدم، فوقع اشتباك نتج عنه قتل عدد من الدواعش وأسر أكثر من عشرين، فاستسلم الرتل المهاجم ووافق على وقف القتال، وبالمقابل أطلقت كتائب نور الدين زنكي الأسرى وسلمت جثث القتلى لحامية داعش في خان طومان. ثم اتضح أن مقاتلي داعش كانوا يخادعون بانتظار وصول مؤازرة من الدانا، وما إن وصلت المؤازرة حتى نقضوا العهد وأطبقوا على مجاهدي نور الدين زنكي فأوقعوا فيهم عشرات القتلى والجرحى والأسرى، ثم هاجموا أورِم الكبرى فأوقعوا مقتلة في لواء الأنصار وهاجموا قرية بسرطون وأبادوا الزنكيين الذين وجدوهم فيها، وكانت تلك الغَدْرة هي شرارة الحرب.
-2-
تمارس داعش الكذب والتَّقيّة كما يصنع الرافضة تماماً، حتى ليخلط المرء أحياناً بين الفريقين ولا يكاد يميز أحدَهما من الآخر إلا بلون العلَم، فالأصفر لفريق والأسود لفريق.
والعجيب أن داعش تمارس هذا الأسلوب الدنيء على خصومها وعلى جنودها على حد سواء، فما أكثرَ ما قادت مقاتليها إلى الهجوم على قرى المسلمين المحرَّرة وهي توهمهم بأنهم يهاجمون قرى نصيرية أو رافضية، وقد انتهت بعض تلك “الغزوات” بضحايا من الأبرياء، وفي حالات أخرى نجا الناس عندما استعملوا مكبرات الجوامع لإذاعة الأذان وإشعار المهاجمين المخدوعين بأنهم يهاجمون مسلمين مثلهم، وليس كفاراً أو أعداء كما أوهمهم قادتهم المخادعون الكاذبون.
لقد كذبت داعش ثم كذبت ثم كذبت حتى كُتبت عند الله وعند الناس من أكبر الكذّابين. كذبت فمنحت الأمانَ لرسل ومستأسرين ثم قتلتهم غيلة وغدراً بدم بارد. وكذبت فادّعت أنها من جبهة النصرة ورفعت علم النصرة لتمر عبر حواجز لواء التوحيد وكتائب الجيش الحر مرات ومرات، كان آخرها في حادثة تفجير مدرسة المشاة في الأسبوع الماضي. وكذبت فزعمت أنها تفاوض لحقن الدم فيما هي تبيّت الغدر وهدر الدم، كما صنعت في التفجير الجبان الغادر في قيادة عمليات الراعي قبل أيام.
وكذبت حين وضعت يدها على غنائم مطار منّغ وزعمت أنها ستوزعها على الكتائب المشاركة ثم لم تفعل، وكذبت في دعوى المشاركة في العمليات العسكرية ضد النظام حتى وَهِمَ أنصارها فظنوها الفريقَ المجلّي في كل ميدان، وما لها في سوريا مشاركة تُذكَر إلا في آحاد عمليات، ولو سألتَهم بعد كل الصخب الذي تسمعه فإنهم يقولون: “منّغ والساحل ومستودعات الحمرا في حماة”. وفي كل واحدة منها مقال لو شئنا لأوضحناه مطوَّلاً، وحتى لو سلّمنا بها جميعاً بلا مقال فأين هذه الثلاث من آلاف العمليات التي خاضتها مئاتُ الكتائب في ثلاث سنين وحررت على إثرها ثلثَي أرض سوريا؟
ولعل الكذبة الكبرى التي كذبتها داعش وصدّقها كثير من السذّج أنها جماعة مجاهدة جاءت إلى سوريا لقتال النظام، ولو لم تكذب داعش إلاّ هذه لكفى بها دليلاً على أنها من أكبر الكذّابين!
-3-
من أسوأ الأساليب القذرة التي استعملتها داعش للتمدد عبر المناطق المحررة وإعادة احتلالها أسلوب المكر والخديعة. إن المدن التي احتلتها داعش بالغزو العسكري المباشر قليلة جداً، كإعزاز والباب ومنبج ومسكنة وحزّانو وقليل غيرها، أما الجزء الأكبر من المناطق التي احتلتها فقد اعتمد احتلالُها على المكر والخداع. فكيف كان ذلك؟
بعد مضي نحو أربعة أشهر على إعلان تأسيس التنظيم الجديد (الدولة الإسلامية في العراق والشام) بدأ سكان المناطق المحررة يشاهدون مقرّات تحمل اسمَه ورايته، فلم يُلقوا لها بالاً، ثم بدؤوا يلاحظون الحواجز الجديدة التي أقامتها داعش داخل المدن والقرى وفي مداخلها وعلى الطرق الموصلة بينها، فسكتوا عنها لمّا قيل لهم إنها لحفظ الأمن، ثم تطورت تلك الحواجز إلى نقاط عسكرية تمكنت داعش بواسطتها من حصار المدن والقرى واحتلالها وطرد الكتائب المحلية منها.
ثم بدأ التنظيم بإظهار قوّته وممارسة سلوك استبدادي تحت غطاء ديني، وكان أوائل ضحاياه من الإعلاميين وناشطي الحراك المدني، فاعتقل أعضاء المجالس المحلية في تل أبيض ومنبج والباب واستولى على المحكمة الشرعية في تل رفعت وطارد واعتقل إعلاميي الثورة في الرقة وسراقب وحاس وكفرنبل والدانا وحزّانو. ثم انتشرت تلك الممارسات حتى صارت ظاهرة مصاحبة لداعش في كل مكان تتمدد فيه وتسيطر عليه، وصار كل من يعمل في المؤسسات الإعلامية والإغاثية والطبية والدعوية والحقوقية في خطر داهم، فقد اعتقلت داعش منهم مئات واضطر مئات آخرون إلى الهرب إلى تركيا خوفاً من الموت والاعتقال والتعذيب في سجون داعش الذي لم يقلّ سوءاً عن التعذيب في سجون النظام.
-4-
عندما تعجز داعش عن احتلال مدينة من المدن بالمكر والخديعة فإنها تلجأ إلى أسلوب آخر: البغي والفجور في الخصومة واختلاق الذرائع الكاذبة لتبرير غزو المناطق المحررة. فإذا كانت خصومتها مع فرد من كتيبة فإنها تستهدف الكتيبةَ كلها وتحاربها حتى تستأصلها من جذورها وتعتقل أو تقتل قادتها وتشتّت مقاتليها وتستولي على أسلحتها وأموالها ومقراتها، وإذا أخطأ بحقّها فردٌ من سكان إحدى المدن فإنها تعاقب المدينةَ كلها فتجتاحها وتحتلها وتقضي على ما فيها من إدارات مدنية وهيئات شرعية، وهي -بهذا البغي والظلم- لا تقل فجوراً وإجراماً عن النظام الأسدي نفسه، والأمثلة على ذلك لا تكاد تحصى.
في منتصف أيلول الماضي أطلقت داعش حملة عسكرية ضد كتائب الجيش الحر في ريف حلب الشرقي تحت عنوان “نفي الخبث”، وقالت إنها “تستهدف عملاء النظام الذين قاموا بالاعتداء السافر على الدولة الإسلامية في العراق والشام، وفي مقدمتهم كتيبتا الفاروق والنصر”. وكانت الذريعة السخيفة حسبما جاء في البيان الداعشي: “محاولة أتباع النظام السوري اقتحام مقر الدولة في مدينة الباب عبر مظاهرة مسلحة خرجت أمام المقر، ثم قيامهم بالاعتداء على جنودنا من أنصار ومهاجرين بالسبّ والشتم والضرب وإطلاق النار ورمي القنابل وتحطيم المركبات”.
من الأمثلة المشهورة أيضاً الهجوم على لواء عاصفة الشمال في إعزاز بذريعة ملاحقة طبيب ألماني اتُّهم بالتجسس وتصوير مقر الدولة في المدينة، ومنها الحادثةُ التي كانت سبباً في اندلاع الاشتباكات الأخيرة، فقد أعلنت داعش الحرب على الأتارب بحجة أن أحد أبناء المدينة “رمى راية الدولة على الأرض”! ورغم أن لواء أمجاد الإسلام (الذي يسيطر على الأتارب) أعلن موافقته على التعاون وتقديم المتهم إلى محكمة شرعية تختار هيئةُ النصرة قضاتها إلا أن داعش أصرت على غزو المدينة وسيّرت إليها الأرتال. أليس هذا هو منطق الجيش الأسدي نفسه؟
-5-
السرقة والسطو على المال العام من الوسائل التي تستعين بها داعش لتعزيز مواردها، فهي تعتبر أن كل مال عام في سوريا حقٌّ لها، وربما مدت يدها أيضاً إلى المال الخاص، ومتى شاءت استلابَه من صاحبه وضعت لنفسها ألفَ تبرير ولم يردعها شرع ولا قانون. اسألوا سكان المناطق المحررة كم من المصانع والمتاجر والمساكن نُهبت بحجة أن أصحابها شبّيحة أو موالون سابقون أو نصارى لا ذمّةَ لهم ولا أمان، وكم من المنشآت الإغاثية والطبية صادرتها داعش أو خرّبتها وأتلفت ما فيها من مواد وتجهيزات لأنّ للهيئات القائمة عليها صلةً بالدول الكافرة أو بالائتلاف السوري المرتد.
وما أدري لِمَ هم مغرمون بتدمير وتعطيل المستشفيات على الخصوص، فما أكثرَ ما خرّبوه منها أو سلبوا أجهزته ومعداته، وما أكثرَ ما احتلّوه وحولوه إلى مقرات. إنهم يتركون الأبنية التي بناها الناس للتجارة والسكن ويستولون على البناء الذي بُني وجُهِّز ليكون مستشفى يعالج الناس ويخفف معاناتهم، فيعطّلونه ويحوّلونه إلى مقر عسكري لهم، أو يهاجمونه بأي ذريعة سخيفة، كالاختلاط بين الرجال والنساء أو الاستعانة بأطباء “جواسيس” من الكفار!
قد لا يصدق القرّاء الكرام لو عرفوا عدد المستشفيات التي خربتها داعش تخريباً متعمداً، وكأنها موكلة بزيادة معاناة الناس ليسارعوا إلى الاستسلام! هل تعملون أن عدد المستشفيات التي هوجمت وخُربت في الأيام العشرة الأخيرة من شهر كانون الماضي فقط (أي قبل بداية الاشتباكات الأخيرة مباشرة) هي ثلاثة مستشفيات: مستشفى اليمضية في جبل الأكراد، وقد توقف عن العمل، ومستشفى الزرزور في حلب، وقد نجّاه الله منهم بفضله تعالى ثم بفضل الكتائب التي سارعت لإنقاذه، ومستشفى مسكنة الذي استغرق إنشاؤه عشرةَ أشهر وكلف عشرةَ ملايين ليرة سورية، فخرّبته داعش في عشرة أيام وسرقت محتوياته وتجهيزاته فلم تُبقِ فيه شيئاً يُستفاد منه.
ناهيكم عن الحقول النفطية وصوامع الغلال التي استولت عليها في الرقة ولا يعرف أحدٌ ما يُفعَل بمواردها على وجه التحقيق، وعن المخابز والمطاحن والمصانع والصيدليات ومستودعات الغاز التي استولت عليها في حلب وغيرها من المناطق، حتى صار الناس يفرّون منها بأموالهم وأملاكهم كما يفرون من جيش الاحتلال الأسدي، وحتى صار السوريون المساكين تحت سيطرتها كمَن خرج من تحت الدَّلْف فانتهى أمره تحت المِزراب!
* * *
وبعد، فلو أننا بسطنا المقال في خيانات داعش وغدرها وكذبها وتَقِيّتها وفجورها في الخصومة ونكثها بالعهود ونقضها للاتفاقيات لملأنا مجلداً كبيراً، حتى ما عدنا نعرف هوية هذه الجماعة ومذهبها ودينها، فإننا إذا نظرنا إلى كذبها وخيانتها قلنا منافقون، وإذا نظرنا إلى تكفيرها قلنا خوارج، وإذا نظرنا إلى تَقِيّتها قلنا روافض، وإذا نظرنا إلى عدوانها قلنا بغاة. ورغم ذلك كله فما يزال فريق من المخدوعين يظن أنها دولة الإسلام لأنها رفعت راية التوحيد وسمّت نفسها دولة الإسلام! ما أسهلَ ما تخدع الشعاراتُ والأسماءُ السذّجَ المغفَّلين!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق