دولة العراق والشام: تعالوا إلى كلمة سواء (1 من 2) / مجاهد ديرانية
2013-10-13 --- 8/12/1434
المختصر/ سألني أحد أنصار الدولة: ماذا بينك وبين مجاهديها؟ لماذا تداوم على نقدها؟ قلت: لا والله يا أخا الإسلام ما بيني وبينهم شيء، ولا أحمل لأي مسلم أو مجاهد في الدنيا إلا كل حب، ولا أوالي ولا أعادي في غير الله. ولكن المرء يحبّ ولده ويؤدبه ويحب أخاه ويقوّمه، فإذا بلغ الخطأ مرحلةَ الخطر فإنه يقسو ويشتد ولا يبالي بالمشاعر في سبيل ما هو أغلى منها وأسمى: الدين أو الحياة. فإننا قد نقسو على مَن عرّض حياته أو دينه للخطر فراراً به مما هو أعظم، أمّا مَن عرّض حياةَ غيره أو دين غيره للخطر فإننا لا نتردد في ردعه مهما كان الردع قاسياً.
تقولون: هذا كلام خطير، أتريد أن تقول إن تنظيم دولة العراق والشام صار مصدر خطر على الناس؟ أقول: نعم، إنه خطر حاضر وكامن على سوريا وعلى السوريين، وعلى المشروع الدعوي والمشروع الجهادي في الشام. من أجل ذلك بدأت بانتقاده علانية منذ بعض الوقت، ومن أجل ذلك كتبت هذه المقالة المفصلة.
* * *
ملاحظات استباقية:
(1) هذه المقالة للإصلاح لا للتشهير، وهي لا تطعن في نوايا مجاهدي تنظيم الدولة ولا في دينهم، فما علمنا إلا أنهم مجاهدون مخلصون -بجملتهم- وأنهم يريدون وجه الله والانتصار للمستضعفين، يستوي في ذلك السوريون منهم وغير السوريين، هذا ما نظنه فيهم والله حسيبهم. ولكن الإخلاص لا يقتضي الصواب حتماً، فرُبّ مخلص مخطئ، وربما يتأول المجتهد تأوّلاً بعيداً عن الحق فيؤذي ويضر وهو يريد النفع والفائدة. من أجل ذلك كانت النصيحة واجبة لكل واحد من المسلمين على كل واحد من المسلمين.
(2) إن العاقل يحرص على أن يرى ما هو موجود لا ما يتمنى أن يكون موجوداً، ولا يبلغ إعجابه بفرد ولا بجماعة درجة التقديس، وهو يؤمن أن كل الناس يخطئون ويصيبون فلا عصمة لبشر ما خلا الأنبياء، ومن ظن أنه على الحق المطلق فإذا خالفه أحد من المسلمين عدّه على ضلال فقد وقع في الضلال. وليس أحدٌ معصوماً عن النقد، وكيف يكون مجاهدونا منزَّهين عن النقد ومجاهدو الصحابة لم يتركهم الله لأخطائهم وعاتبهم ولمّا تجفّ دماؤهم ولا التأمت جراحهم بعد أُحُد؟ ولا يقُلْ أحدٌ إن المناصحة تكون بالسر، فإن الخطأ العام يعالَج بالنصح العام، وليس مجاهدو اليوم أكرمَ من صحابة رسول الله الذين عوتبوا في آيات تُتلى على مر الزمن.
(3) يسمي بعض الناس “الدولة الإسلامية في العراق والشام” باسم “داعش” اختصاراً، ولكن جنودها وأنصارها لا يحبون هذا الاسم ويصرّون على مخاطبتهم باسم الدولة. وأنا لا أريد أن أستفزّ أحداً وإنما أدعو إلى كلمة سواء، لذلك اخترت حلاً توفيقياً فسميتهم “تنظيم الدولة”، أما اسم “الدولة” بإطلاق فلا أوافق عليه ولا أستطيع استعماله، ولو فعلت لما كانت لهذه المقالة حاجة.
* * *
لا شك أن تنظيم الدولة يرتكب أخطاء، ولكن الجماعات المقاتلة كلها ترتكب أخطاء، ومن المألوف أن تنتشر الفوضى في أوقات الحروب وأن يقع ضحايا أبرياء. لن أقول إن تلك الأخطاء هي جوهر المشكلة التي أراها والتي أخشاها في الدولة، إن خطرها الذي أحْذَره وأحَذّر منه أكبر بكثير. فيما يتعقبُ الناس بعض الحوادث المتفرقة هنا وهناك أجد نفسي مشغولاً بالمشكلات الكبرى، مشكلات المنهج والهدف والأفكار والقيم، لأنها هي الأصل الذي يصدر عنه ما نراه من ممارسات وسلوك.
سأبدأ بالقيم، فهي الأهون. السوريون الذين ثاروا على نظام الاحتلال الأسدي صنعوا سلّماً جديداً للقيم تتربع على عرشه قيمة الحرية، وقد وجدت بالاستقراء أن تقدير تلك القيمة ضعيف جداً عند أتباع تنظيم الدولة، فهم لا يرون بأساً في مصادرة حريات الناس وإخضاعهم لمنهجهم وسلطانهم بقوة السلاح. ليس مهماً في هذا السياق مبلغ الصواب والخطأ في المنهج الذي يُخضعون له غيرهم، المهم أنهم لا يحفلون بحرّيات الناس ولا يبدو أن لها في أعينهم وزناً يُذكَر.
ومثلها قيمة الكرامة، ولذلك كثرت الحوادث التي يتعرض فيها المدنيون للإهانة على أيديهم كثرة هائلة. وقيمة الرحمة، فإن كثيرين من جنود الدولة وأنصارها جُفاة قُساة غِلاظ شِداد على أهل القبلة، قلت لأحدهم مرة: لعلكم ما قرأتم قوله تعالى {أذلّة على المؤمنين} أو لعلكم لا ترون أننا منهم! وقيمة العدل، فما أكثرَ الذين يبيحون لأنفسهم ما لا يبيحونه لغيرهم، فيستحلون نقد المخالفين بأبشع الصفات ثم يسلّون السيوف على رقاب من يمس الدولة بكلمة، ولو بلغَت الغاية في الرقة والتهذيب!
يمكنني أن أضيف أيضاً قيمة الحياة. إن أكثرنا يستصعب إزهاق الروح ولو كانت روح قطة أو عنكبوت، لكني أحس أن إزهاق النفس البشرية عند كثيرين، كثيرين جداً ممن يحملون فكر الدولة، أحس أنه أهون عندهم من دعس القطة ومعس العنكبوت!
* * *
أما الأفكار فإن التكفير هو أعظمها شراً، وهو من أخطر المشكلات التي يعاني منها تنظيم الدولة على مستوى الأفراد والقيادات على السواء. إن الفكر التكفيري غريب غير مألوف في سوريا، لم يعرفه السوريون لا في الماضي البعيد ولا القريب، لذلك فإن الصدمة من المنهج التكفيري الذي حملته الدولة إلى سوريا كانت صدمة عامة وشديدة.
يألف السوريون تبادل الاتهامات، فإن بعضهم يتّهم بعضاً بالخطأ والتقصير أو بالسرقة والتزوير، وربما بالخيانة أيضاً، أما التكفير واستحلال الدم فإنهم لا يحبونه ولا يتجرؤون عليه ولا يحبون من يحبه ويتجرأ عليه. إن كلمة “كافر” سهلٌ نُطْقُها عند عناصر الدولة وأنصارها ولكنها صعبٌ سماعُها عند عامة الناس، والأصعب القبول بنتائجها وتبعاتها الحتمية، وهي استرخاص الدم واستسهال القتل.
صار الناس يسمعون طول الوقت تهمة التكفير وهي تُوزَّع بلا حساب، وكأن أصحابها يغرفون من بحر لا ينضب: المجلس الوطني كافر والائتلاف كافر، والمجالس العسكرية وهيئة الأركان كفار، والهيئات والأحزاب المنادية بالحكم الديمقراطي كافرة أيضاً. لم تسلم من التكفير حتى أكابر الجماعات الجهادية كأحرار الشام وصقور الشام ولواء الإسلام ولواء التوحيد وغيرها من الفصائل الإسلامية، ولعلكم شاهدتم التسجيل الذي بثته كتيبة المهاجرين القوقاز في الشام قبل خمسة أسابيع وأعلنت فيه انفصالها عن دولة العراق والشام بسبب “المنهج التكفيري الساري بين صفوف القادة في دولة العراق والشام” كما قالوا في التسجيل.
ولأن التكفير وباء أشد انتشاراً من الكوليرا فقد انتشر بسرعة ليشمل كل من يعمل ويتعاون مع الهيئات التي يرونها مرتدة وكافرة، كالمجالس العسكرية والائتلاف الوطني، بل وصل التهور إلى درجة الحكم بالردة على من يجتمع بها أو يتلقى منها الدعم. وقد كانت تلك هي التهمةَ التي تعلل بها أحد أمراء الدولة، أبو أيمن العراقي، لقتل أبي بصير في اللاذقية، قتَلَه وهو صائم أعزل وافتخر بقتله (قال: اشهدوا أني قتلت أبا بصير) لأنه يتقرب إلى الله بقتل المرتدين!
الناس انشغلوا بالحادثة نفسها، أما أنا فإنني مسربل بالرعب من المنهج الذي كانت الحادثةُ نتيجةً له، فإني أعلم أن باب الشر العظيم هذا إذا فُتح لا يُغلَق، وأن الدماء إذا وُكلت إلى من يملك هذا الفكر ويملك معه القوة والسلاح، فصار هو القاضي وهو الجلاد، إذا حصل ذلك تحول المجتمع إلى غابة لا أمانَ فيها على الحياة، ولسوف يتذكر الناس أيام السفاح وأبيه البائد فيقولون: ألا ليت أيام الأسود تعود!
لقد صار التكفير والقتل “متلازمة الدولة” التي تكاد تجر الجهاد الشامي كله إلى الهاوية، ولا غَرْوَ فإن هذا من هذا؛ أخرج البخاري عن ثابت بن الضحاك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “من رمى مؤمناً بكفر فهو كقتله”. ما ابتُليَت هذه الأمة بداء أخطر من التكفير، فإنها ما زالت تواجه عدواً من خارجها مُذْ كانت، حتى إذا ضربتها فتنةُ التكفير صار عدوها من داخلها واستحلّ بعضُها دمَ بعض، فإذا كان القرآن نعى على اليهود أنهم يخربون بيوتهم بأيديهم فقد جاء زمان على المسلمين صاروا يقتلون أنفسهم بأيديهم بذريعة الردة والكفر. لو كان القرآن يتنزل الساعةَ لنزلت في بعضنا آياتٌ أشد من الآيات التي نزلت في اليهود!
* * *
بعد القيم والأفكار أنتقل إلى الهدف الذي تسعى إليه الدولة. إن قُوى الثورة كلها -على اختلاف انتماءاتها وأنواعها- تُجمع على هدف محدد واضح هو إسقاط النظام وتحرير سوريا من الاحتلال الأسدي النصيري. بعد ذلك تملك كل جماعة هدفاً تحرص عليه وتسعى إليه، فالإسلاميون يريدون “أسلمة” سوريا والعلمانيون يريدون “علمنتها”، ولا هؤلاء ولا أولئك يَقْدرون على تحقيق شيء من مقاصدهم إلا بعد التحرير، فهو النقطة التي لا بد من الوصول إليها أولاً والتي ينطلق منها كل ما بعدها، وهو الهدف الذي لا قيمةَ لما وراءه ما لم يتحقق أولاً.
أما الدولة فلها هدف آخر وفهم آخر، فهي فلا تبالي بسوريا أحُرِّرَت أم لم تُحرَّر وبالنظام سقط أم لم يسقط، لأنها لا تعترف ابتداء بكيان جغرافي سياسي اسمه سوريا، إنما تعرف دولة الإسلام؛ اليوم الدولة في العراق والشام وغداً الدولة في غيرها من الأقاليم والبلدان. فأيّما أرض سيطرت الدولة عليها وأقامت فوقها إدارة إسلامية فهي دولة إسلامية، ربما من أجل ذلك انصرفت عن الجبهات واشتغلت بما صار أهلنا في سوريا يسمونه “تحرير المناطق المحررة”، وما حصل مؤخراً في حزّانو وفي إعزاز والباب ومنبج يدخل في هذا السياق.
سيقول قائل: إذن فأنتم تعترفون بالحدود التي رسمها المستعمرون على الورق وقطعوا بها الأمة الإسلامية قطعاً عُزِل بعضُها عن بعض؟ الجواب: لا يا سادة، نحن لا نعترف بها مبدئياً (أي من حيث المبدأ) ولكننا نقبلها مرحلياً. والمرحلة التي نتحدث عنها لا تقاس بالسنوات بل بالأجيال، فإن الكارثة التي أصابت الأمة في القرنين الأخيرين لن تعالَج في سنتين، والوحدة الحقيقية سوف تصنعها الشعوب العربية والإسلامية نفسها ولن تحققها البندقية والمدفع، لذلك فإننا سنجتهد في الدعوة والتوعية، وسوف نراعي الظروف السياسية الدولية والإقليمية التي لا يتجاهلها إلا غِرّ جاهل.
وأنا أعتبر أن خير كلمة قيلت في هذا المقام هي الكلمة التي وردت في بيان الإخوة في أحرار الشام رداً على إعلان البغدادي المشهور في نيسان الماضي، فقد رفضت الإعلانَ المذكور ورفضت نشر الصراع مع نظام الاحتلال الأسدي خارج سوريا وتحويله إلى قضية جهادية عالمية، وخاطبت الجولاني والبغدادي قائلة: “إننا نتوجه لكلٍّ من الطرفين أن يستشعروا عِظَم الحدث وخطورة أقلمة الصراع بهذه الطريقة وإشراك أطراف أخرى، وهذا ليس احتكاماً لحدود مصطنعة بين أبناء الأمة، ولكنه قراءة موضوعية لمعطيات الواقع وتقديم لما نراه مصلحة المسلمين وجهادهم ضد طاغية الشام”.
* * *
ما سبق بيانُه من خطر أفكار الدولة والقيم التي تحملها والأهداف التي تسعى إليها ليس الأسوأ، بل إنه يهون في جنب الخطر الأعظم الذي يتضاءل معه كل خطر، وهو خطر منهجها “السياسي الشرعي”، وتتعلق به مسائل عظيمة القَدْر بالغة الخطر كالإمارة والبيعة والتغلّب والشورى. إن المنهج الذي تعتنقه الدولة في السياسة الشرعية يعطل الشورى ويقزّم دور الأمة ويفتح الباب للاستبداد السياسي، ويبلغ من خطره أنه يسوّغ قتال الإخوة وقتلهم، ويكيّفه تكييفاً شرعياً من شأنه أن يجعله طريقاً إلى الجنة، كما سنرى في المقالة الآتية.
المصدر: الزلزال السوري
==================
دولة العراق والشام: تعالوا إلى كلمة سواء (2 من 2) / مجاهد مأمون ديرانية
2013-10-14 --- 9/12/1434
المختصر/ إن الشورى واحدة من أعظم مسائل الاختلاف بين تنظيم الدولة ومعارضيه، وهي لا تبدو مسألة قابلة للحل لأنها تتعلق بكيان التنظيم نفسه، فهو يرى أنه دولة شرعية أسّسها أهل حَلّ وعقد مُعتبَرون واختاروا البغدادي أميراً لها. فإذا رفض أهل الشام إعلان الدولة في سوريا لأنهم لم يشاوَروا فيه فإن جماعة الدولة يقولون: "إن مشاورة الأمير لأهل الحل والعقد من حيث الأصل على الاستحباب لا الوجوب, ولو شاور الإمام أهل الحل والعقد فأجمعوا على أمر لمَا لزم الإمامَ اتّباعُهم, على عكس قول بعض المعاصرين الذين أصيبوا بلوثات الديمقراطية!"
وإذا تساءل أهل الشام: "وكيف صار البغدادي أميراً؟" فإن جماعة الدولة يقولون: "بعد الواقعة التي قدّر الله أن يُقتل فيها أمير المؤمنين بدولة العراق الإسلامية أبو عمر البغدادي ووزيره الأول أبو حمزة المُهاجر انعقد مجلس شورى الدولة الإسلامية لحسم مسألة إمارة الدولة، وبعد لقاء وزراء الدولة وولاتها وأهل الحل والعقد وأصحاب الرأي فيها اجتمعت الكلمة على بيعة الشيخ المجاهد أبي بكر البغدادي الحسيني القرشي أميراً للمؤمنين بدولة العراق الإسلامية".
فإذا قال أهل الشام: "ذلك اجتماع لم نُدعَ إليه ولم نشارك فيه"، فإنهم يقولون: "اتفق العلماء على أن البيعة لا يُشترَط لصحتها مبايعة كل الناس ولا كل أهل الحل والعقد، وإنما يشترط مبايعة من تيسر اجتماعهم من العلماء والرؤساء ووجوه الناس. بل لقد ذهب بعض العلماء إلى أنها تنعقد بواحد من أهل الحل والعقد مطلقاً".
أي أن الشورى من أساسها لرفع العتب، إنْ شاء الأمير أخذ بها وإن شاء لم يفعل! ثم إنّ الأمة المسلمة كلها تُختزَل في العدد القليل من الناس، وربما وصلت المهزلة إلى أن ينطق باسمها وينوب عنها رجل واحد، فإذا اختار هذا الواحدُ رجلاً يعرفه فقد انعقدت له الولاية العظمى ولو كان مجهولاً لا يعرفه الناس.
ولو أننا سألنا مدهوشين: كيف نبايع رجلاً مجهولاً لا نعرفه؟ فإنهم يقولون: "حتى لو كان مجهولاً عند العامة فلا مطعنَ في ولايته, قال الماوردي: إذا استقرت الخلافة لمن تقلّدها -إما بعهد أو اختيار- لزم كافةَ الأمة أن يعرفوا إفضاء الخلافة إلى مستحقها بصفاته، ولا يلزم أن يعرفه بعينه واسمه إلا أهل الاختيار الذين تنعقد ببيعتهم الخلافة".
إنه المنطق نفسه الذي تسلط به المستبدّون والطغاة على أقطار العالم الإسلامي على مرّ القرون؛ منطق يعطل الشورى التي هي من أركان الحكم الإسلامي ومن مبادئه الكبرى ويهمّش دور الأمة مع أن الأمة هي مصدر السلطات في الإسلام، وهو منطق مرفوض ولو قال به الماوردي والقلقشندي وأبو الحسن الأشعري ومئة من الفقهاء وأهل العلم المشهورين، فإنّ منطق القرآن أعلى وأسمى، وإنّ فِعْل الصحابة وسنّة الراشدين أَولى بالاتّباع.
* * *
لقد اتفقت الفصائل الجهادية كلها على أن القرارات المصيرية في سوريا لا تُتّخَذ إلا بالشورى الموسَّعة، ولكن تنظيم الدولة سبق فأعلن أنه هو الدولة صاحبة الرأي والسلطان وأن على سائر الجماعات أن تدخل في طاعتها وتبايع أميرها: "يا أبناء الشام: تذكّروا أنكم خُذلتم من سائر الحكام عدا الشيخ أبي بكر البغدادي حفظه الله, فقد فداكم بماله ورجاله حتى حرر من بلادكم أرضاً واسعة, فحريٌّ بكم الوفاء ببيعته أميراً عليكم، فهو من خير الأمراء. يا أمراء الجماعات الجهادية: أما آن لكم أن تتكاتفوا مع إخوانكم وتؤسسوا دولتكم؟ إن كنتم ترون أنفسكم أقراناً للشيخ الأمير أو أنه دونكم في الفضل والخير فتواضعوا للحق ولا تترفعوا على الخلق، فمدوا الأيادي لبيعة البغدادي."
ما سبق (بين الأقواس) هو خاتمة رسالة يتداولها أنصار الدولة بعنوان "مُدّوا الأيادي لبيعة البغدادي"، وهم يرون فيها أنه صاحب الراية والدولة، فكل من رفع راية غيرها فقد شَقّ الصف وكل من تخلف عن بيعته فقد فارق الجماعة!
أين عقولكم يا أنصار الدولة؟ هل كانت سوريا خالية من الأجناد والقادة عندما أعلن البغدادي عن دولته؟ ألم يكن فيها مئات من الجماعات المقاتلة لكلٍّ منها أمير؟ حتى لو قلتم إن الدولة وُجدت في سوريا بوجود النصرة فإن الأمر لا يتغير كثيراً، لأن سوريا كانت فيها مئات الكتائب والجماعات عندما أعلنت جبهة النصرة عن ولادتها أوائل عام 2012؛ سبقتها إلى الميدان ألوية صقور الشام وكتائب أحرار الشام وتجمع أنصار الإسلام وكتائب الفاروق ومئات من الكتائب والجماعات، فكيف صارت هذه كلها فروعاً ودولة العراق هي الأصل؟ بأيّ عصا سحرية انقلب الفرع أصلاً وصارت الأصول هي الفروع؟
إنه سحر الاسم. لمّا سَمّت تلك الجماعة نفسَها دولةً صدّقت أنها دولة وصدّق أتباعها وأنصارها أنها كذلك. إن للأسماء لسحراً، ولكنه سحر لا ينطلي إلا على السذّج، وأرجو أن لا يكون قرّاء هذه المقالة منهم. إن أحرار الشام يسمّون فرعهم في حلب "مكتب حلب" وتسمّي جماعة الدولة فرعها "ولاية حلب"، فهل جعلت الأسماءُ الواقعَ مختلفاً؟ هل السبّاق إلى اسم "الدولة" صار من حقه احتكارُ السلطة وفرضُ نفسه على الآخرين؟ هل هو تنافس: يصبح دولةً مَن يسبق ويسجل حق ملكية اسم الدولة؟ لقد صار تأسيس الدول أشبه بحجز نطاق (دومين) في عالم الإنترنت!
نحن نعلم (ونريد من إخواننا في تنظيم الدولة أن يعلموا) أن اسم الدولة لا يقدم ولا يؤخر، ونعلم (ونريدهم أن يعلموا) أن جماعات كثيرة على الأرض أقوى من دولة العراق والشام وأكبر وأكثر انتشاراً وأعظم أثراً في المعركة، ولو أن الأمر بالأسماء لصارت في سوريا مئة دولة، بل مئات: دولة حلب ودولة إدلب ودولة دير الزور ودولة درعا، بل إننا سنجد أن دولة دوما وحرستا ودولة داريا والمعضمية أقوى وأوسع من دولة العراق والشام!
* * *
الجماعات المقاتلة في سوريا متفقة على الشورى الموسَّعة كما قلت آنفاً، فإذا شكلت مجلساً للشورى -لاختيار قيادة عسكرية أو إدارة مدنية- وسلّم تنظيم الدولة به لم يعد دولة وصار فصيلاً كسائر الفصائل، فصيلاً من حقه أن يَنتخب ولكنه قد لا يُنتخَب في أي إدارة مدنية أو عسكرية، وإذا أصر على أنه الدولة ولم يشارك في الشورى فما هو الحكم الشرعي في الفصائل الرافضة؟ أنا أعرف الجواب ولكني أحب أن أسمعه من أنصار الدولة: هل للمخالفين الذين يرفضون سلطة الدولة الإسلامية اسم غير "الفئة الباغية"؟ وما هو الحكم الشرعي في البغاة؟ أيضاً أعرف الحكم ولكني أحب سماعه منكم. أليس القتال؟
أنتم بين اثنتين: إما أنكم تظنون أن جميع القادة سيبايعون البغدادي وتصبح جماعاتهم جزءاً من الدولة، أو أنكم توافقون على القتال. الأولى لا يتوقعها عاقل، وأنتم تعلمون أن الجماعات المسلحة الإسلامية وغير الإسلامية لا تقبل أن تصبح جزءاً من الدولة. إذن فأنتم لا ترون بأساً في القتال لأن الإمامة لمَن بويع أولاً وأيّ إمام يُبايَع بعده تُضرَب عنقه، ولأن "التغلّب" طريقة شرعية للوصول إلى السلطة كما تعتقدون. هل يوجد حل آخر لم أفكر فيه؟
قد تستغرقون في الأحلام وتقولون إن البغدادي هو إمام المسلمين الذي لن يتردد في مبايعته أحد. عندي خبر سيّئ: لا يشارككم في هذه الأوهام أحد من العقلاء. سأبدأ بنفسي: هل يمكن أن أبايع مجهولاً لا أعرفه ولم أرَه قط؟ في الحقيقة لم أبلغ بعد هذه الدرجة من البلاهة، فلماذا أفترض أن غيري أقل نباهةً مني وما أنا إلا واحد من عامة الناس؟ لا شك أن الذين تصدّروا للقيادة والعمل العام على درجة عالية من الوعي والإدراك، فما وجدته أنا فكرة سخيفة سيجدونه هم أقرب إلى الجنون! بل إنني لو عُرضت عليّ قائمة فيها عشرة أسماء لاستغرقت شهراً في التفكير أيّهم أختار، وكذلك يصنع عامة السوريين العقلاء، فكيف أقبل أن يأتي من لا أعرف فيختار من لا أعرف ليصبح إمامَ الوقت وأمير المؤمنين؟
يا ضيعةَ عقل من يقبل على نفسه ذلك! وأيّ شيء تركتم للرافضة والباطنية وأصحاب النِّحَل الباطلة يا من قبلتموه على أنفسكم؟ إن من يتبع مجهولاً لا يُعرف اسمه ولا تُعرف صورته (ونحن في زمن الإنترنت والفضائيات) ليس أحسنَ عقلاً ممن يتبع إماماً اختفى في السرداب. أقسم أن الاثنين سواء! وكيف تسوّغون لإمام الجهاد أن يختفي وراء أسماء وهمية وقدوتُه في جهاده هو إمام المجاهدين محمد صلى الله عليه وسلم، وما عُرف أنه استتر وأخفى نفسه ولا صنع ذلك أحدٌ من أصحابه. ليس معروفاً هذا في تاريخنا إلا عند الشيعة، وهو باب خطر عظيم لأن المرء يمكن أن يتبع باطلاً وهو يظن أنه يتبع الحق. ثم إن إخفاء هوية قائد المعركة لا يمكن أن يقبله أحد في سوريا التي كشف المجاهدون جميعاً فيها عن أنفسهم، فلا يُعقَل أن يكون الجند أكثرَ شجاعة من قائدهم فيخوضوا لهب النار ويتخفى هو وراء الأستار. يا للعار!
* * *
إن المرأة الواحدة لا يتزوجها رجلان، والأرض الواحدة لا تقوم عليها دولتان. ماذا يعني هذا؟ إنه يعني أن على كل الفصائل المجاهدة والهيئات السياسية والكيانات الثورية -على اختلاف ألوانها وأشكالها- أن تبايع دولة العراق والشام وتصبح جزءاً منها. إن اعتبار أصحاب تنظيم الدولة أنهم دولة جعلهم مقتنعين بتنزيل أحكام الدولة عليه، وأهمّها وأخطرها أن أمير التنظيم هو بالضرورة أمير المؤمنين واجب الطاعة (ومن أجل ذلك حرصوا على إثبات "قُرَشيّته" خروجاً من خلاف علماء السياسة الشرعية في وجوب كون الإمام من قريش). وبما أن الجماعات المقاتلة في سوريا لن تخضع للدولة طوعاً فليس أمام الدولة إلا أن تقاتل أو تنسحب من الميدان. لو سألونا الرأي لقلنا: انسحبوا من الميدان، ولكن لا يبدو أن هذا هو الرأي الذي اختاروه.
لقد تواردت الأنباء وتواترت خلال الشهر الأخير بما يدعو إلى الخوف والترقب: بدأ تنظيم الدولة بحملة محمومة لتوسعة حجمه وزيادة قوته، وهو يقوم الآن بتجنيد من يَعُدّهم الناس من الرعاع، من شبّيحة ومجرمين ومهربين، ويدفع لكل من ينضمّ إليه راتباً شهرياً لا يحلم المجاهدون في النصرة وغيرها بمعشاره. من أين يأتي هذا المال؟ ليس هذا هو السؤال الأخطر، إنه: لماذا تصنع الدولة ذلك في هذا الوقت بالذات؟
أنا لا أقرأ كتاب الغيب، ولكني أعلم من قراءة الحاضر أن ثمة شراً كبيراً وراء باب الغد إذا استمر تنظيم الدولة بتقمص دور الدولة، وأن من مصلحة حاضر سوريا ومستقبلها ومن مصلحة مشروعها الجهادي والدعوي أن يتخلى تنظيم الدولة عن الوهم وأن يعلن أنه جماعة جهادية كسائر الجماعات، وأن يتخلى عن منهج التكفير، وأن ينشغل بالحرب ويترك الحكم ويخرج من المدن ويرابط على الجبهات. إذا لم تكن الدولة قادرة على صنع ذلك أو كانت غير راغبة فيه فإننا نشكرها ونقول لها: اتركي الشام لأهله ودعينا نقاتل عدونا وظهرنا آمن.
المصدر: ارفلون نت
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق