دولتان دينيّتان.. وضابط
كتبت مرح البقاعي
ما هو سر “تجاهل” الرئيس الأميركي باراك أوباما لغضب حليفه في اسرائيل بنيامين نتنياهو من عقْدِ دول الـ (5+1) اتفاق جنيف النووي مع إيران؟ وهل مردّ هذا التجاهل تراجع في ميزان الاستراتيجيات التي تجمع المصالح الأميركية الاسرائيلية، أم أنّ تطمينات وضمانات هي أصلاً في عهدة اسرائيل من الطرف الإيراني حتى قبل أن تتلقاها من الولايات المتّحدة؟ وهل يمكن لأي رئيس أميركي مهما كان مؤثّراً وجاذباً في مسارات المجتمع الدولي أن يشارك في اتخاذ قرار أممي يقلق ـ بأية صورة ـ ميزان الأمن القومي الاسرائيلي، لاسيما أن القرار يتعلّق بدولة تشكّل في المشهد المعلن “محور الشر” بالنسبة لأميركا، وما انفكّت تهدّد بقاء دولة صديقة وحليفة هي اسرائيل؟ وفي حال افترضنا أن الاعتراض الاسرائيلي على اتفاق جنيف هو شكلي وحسب من أجل متابعة التمويه على العلاقة الاسرائيلية الإيرانية التي لمّا تنقطع لعقود خلت، فأين تقع مصالح الطرفين من تلك العلاقة؟ وما هي طبيعتها وإسقاطاتها البعيدة المدى في البلدين “اللدودين”؟!
لقطات في التوافقات الاسرائيلية الإيرانية
أقلعت من اسرائيل طائرة DC-8 حاملة 96 صاروخاً من طراز “تاو” متّجهة إلى إيران في شهر آب/أغسطس من العام 1985، أما الشحنة الثانية وهي عبارة عن 18 صاروخاً فقد أرسلت من البرتغال وإسرائيل في شهر تشرين الثاني/نوفمبر، وتبعها 62 صاروخاً أرسلت من إسرائيل. هذه الشحنات المتلاحقة انتقلت إلى إيران تباعاً خلال نهايات العام عينه. وقد شكّل هذا الجسر الجوي لنقلِ الأسلحة الثقيلة بين اسرائيل وإيران في ثمانينات القرن الفائت الشقّ التنفيذي لصفقة دعيت بـ “إيران ـ غيت” أبرمها جورج بوش الأب عندما كان نائباً للرئيس رونالد ريغان في اجتماع له برئيس الوزراء الإيراني الأسبق أبو الحسن بني صدر في باريس، اللقاء الذي حضره أيضاً المندوب عن المخابرات الإسرائيلية الخارجية ـ الموساد، آري بن ميناشيا، والذي كان له دور رئيس في نقل تلك الأسلحة من إسرائيل إلى إيران.وكانت إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان قد التزمت مع إيران بتزويدها بالأسلحة التي تحتاجها في حربها مع العراق وذلك لقاء إطلاق سراح خمسة مواطنين أميركيين كانوا محتجزين في لبنان، حيث كان الاتفاق يقضي ببيع إيران ـ وعن طريق إسرائيل ـ ما يقرب من 3 آلاف صاروخ تاو مضاد للدروع، وصواريخ هوك أرض جو مضادة للطائرات، مقابل مساهمة إيران في إخلاء سبيل المحتجزين.
انتقال السلاح بين إسرائيل وإيران ليس ابن صفقة إيران ـ غيت الوحيد، بل الأمر يعود إلى أعوام مضت. ففي 18 يوليو 1981 ظهر إلى العلن أمر تصدير اسرائيل الأسلحة إلى إيران عندما أسقطت وسائل الدفاع السوفيتية طائرة أرجنتينية ضلت طريقها ودخلت الأجواء السوفيتية. وكانت الطائرة محمّلة بأنواع السلاح وقطع الغيار، وهي واحدة من سلسلة طائرات كانت تنتقل بين إيران وإسرائيل في سريّة عالية للغاية. كما أنه في عهد شاه إيران الذي امتدّ ما يقارب الثلاثة عقود بين عامي 1948-1979، ارتبطت البلدان بعلاقات وشيجة. فإلى جانب أن أكبر جالية يهودية في الشرق الأوسط كانت تعيش في إيران، فقد كان التمثيل الدبلوماسي الاسرائيلي واسعاً في طهران. كما أن طهران كانت تبيع النفط 40% من احتياجات النفط لتل أبيب وتستورد الأسلحة ومستجدّات التكنولوجيا.
علاقة التوافقات هذه أشار إليها الكاتب الأميركي، “”تريتا بيرسي” في كتابه الذي حمل عنوان: الحلف الغادر، أسرار العلاقات بين إسرائيل وإيران والولايات المتحدة، حيث أفاد “أنّ العلاقة بين المثلث الإسرائيلي ـ الإيراني ـ الأميركي، إنما تقوم على المصالح المتبادلة والتنافس الإقليمي وليس على الأيديولوجيا والخطابات والشعارات التعبوية الحماسية”. ويضيف بيرسي في موقع آخر من الكتاب أنه “وعلى عكس التفكير السائد، فإن إيران واسرائيل ليستا في حالة صراع أيديولوجي مزمن بقدر ما هو نزاع استراتيجي قابل للحل”.
ولقطات في الأضدّاد
إذا كانت “الحرب” بين طهران وتل أبيب لا تتجاوز أن تكون مجرد صدامات شفاهية، وأن الشعارات التي تطلقها إيران، ناهيك عن تبنّيها ودعمها وإدارتها المباشرة لحركتيّ حماس والجهاد الإسلامي المناوئتين لاسرائيل، ليست سوى أوهاماً وقع فيها العرب والمسلمون وهُيّئ لهم أن الجمهورية ّالإسلامية الإيرانية واحدة من أهم حماة الفلسطينيين وقضيتهم بين دول العالم وهي القادرة من خلال دعمها لحركات المقاومة من استرجاع حقوقهم وتحرير القدس من المحتل الاسرائيلي، فأين تقع نقطة الافتراق بين اسرائيل وإيران لاسيما إثر قيام الأخيرة بإبرام اتفاقها التاريخي ودول الـ 5+1، والذي يشكّل خطوة واثقة على طريق تسوية الملف النووي الإيراني والقبول به، لا بل الاعتراف بشرعيته دولياً؟
من نافل القوال أن اتفاق جنيف النووي حدث في عهد رئيس إيراني معتدل هو الرئيس حسن روحاني الذي كان وصوله إلى الحكم موضع ترحيب دولي واسع إثر سلفه المتشدّد أحمدي نجاد الذي كان قد دعا “إلى إزالة دولة اسرائيل عن الخارطة” ووصف المحرقة اليهودية بـ “الأسطورة” واسرائيل بـ “الورم السرطاني”. ومن نافله أيضاً أن رئيس وزراء اسرائيل، بنيامين نتنياهو، الذي وجد نفسه معزولاً تماماً نتيجة الانفتاح السياسي لإيران على العالم، استمر في التهديد والوعيد والتشكيك باتفاقية جنيف، جملة وتفصيلاً، مصرّحاً أن “الاتفاق لا يُلزم إسرائيل”، وأنه “لن يسمح لإيران بتطوير قدرة نووية عسكرية”، هذا كله يجري في حين أن التبادل التجاري غير المعلن مع إيران لم ينقطع البتة إلى أن انكشف أمره في العام 2011 حين قامت شركة عوفر الاسرائيلية باختراق الحظر الدولي وبرنامج العقوبات على إيران وقامت ببيع الأخيرة ناقلة للنفط، الأمر الذي حدا بواشنطن إلى إدراج شركة النقل البحري الاسرائيلية التي أتمّت الصفقة على لائحتها السوداء فيما دعي بفضيحة عوفر ـ غيت.
صحوة الدولة الدينية
واجه الرئيس الأسبق، جورج دابليو بوش، المدّ الصدّامي السنّي بحرب على العراق كلّفت الخزينة والوجدان الأميركي الشعبي الغالي من الخسائر. وقبل أن يغادر الجيش الأميركيالعراق في ليل،سلّمت الولايات المتحدة مقاليد الحكم في بغداد لحكومة شيعية متصرّفة، جيّرت البلد وجواره، بامتياز الهوى والهوية، إلى الحساب الإيراني المفتوح على المكان. أما الرئيس الحالي للولايات المتحدة، باراك أوباما، فيواصل المواجهات مع قوى التطرّف الديني “السنّية” من القاعدة وأخواتها، وأخيرها وليس آخرها الدولة الإسلامية في العراق والشام التي انتقلت بقادتها وعتادها إلى سوريا بعد أن فشل مشروعها في العراق وقتل قائدها الزرقاوي هناك. إلا أن معركة أوباما لا تأتي على الطريقة البوشية الاستباقية والمباشرة، بل تتجلّى، بما يناسب هيبة الحائز على جائزة نوبل للسلام، بالقتل بالقفّاز الأبيض عن طريق وسيط مضمون ومجرَّب في هكذا مهمّات ألا وهو إيران. وهكذا يدخل أوباما مفكّرة السلام العالمي مُسَلِّماً بطغيان السلطة الدينية لملالي طهران وبهيمنة نزوعهم المذهبي على حساب مدنية الدولة في الشرق الأوسط “الجديد”.
أما الدولة اليهودية التي دعا إليها بن غوريون في رسالة وجهها إلى أول وزير خارجية اسرائيلي، موشيهشاريت، في العام 1954 حيث قال:”ليس لنا أن نفصل الدين عن الدولة، فهنالك وحدة مصير بين دولة إسرائيل والشعب اليهودي”؛ القول الذي كرّسه أرييل شارون في خطابه بمدينة العقبة في 4 حزيران/يونيو للعام 2003 والذي طالب فيه بالاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية، فقد أسرع الرئيس جورج بوش ليشدّد على صيغتها الدينية في خطاب ألقاه في البيت الأبيض في 24 حزيران/يونيو للعام 2003؛ أما أوباما فقد أورد مصطلح الدولة اليهودية في مناسبتين رسميتين: الأولى في خطابه الانتخابي أمام أعضاء منظمة أيباك العام 2008 قبيل انتخابات فترته الرئاسية الأولى، والثانية في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول/سبتمبر للعام 2011. وفي زيارة وزير خارجية اوباما الحالي، جون كيري، إلى تل أبيب في 5-12-2013 قال في تصريح رسمي “أننا نسعى لتحقيق سلام يضمن أمن يهودية الدولة”. هذا كلّه بينما تسعى كتلة اليمين في الائتلاف الإسرائيلي الحاكم لتمرير قانون داخل البرلمان سيحوّل صبغة الدولة الإسرائيلية إلى الدينيّة الصرفة من خلال مشروع قانون رفعتهكتلة اليمين المشكّلة من “الليكود”، و”اسرائيل بيتنا”، و”البيت اليهودي” في حزيران/يونيو 2013، ويحمل نصاً معدّلاً يعتبر اسرائيل “دولة يهودية ذات نظام ديمقراطي” بدلاً من النص الذي يصف اسرائيل بأنها “دولة يهودية وديمقراطية”.
هكذا يبايع اليوم الرئيس باراك حسين أوباما دولتين دينيتين: إيران واسرائيل، عاهداً إليهما إدارة الشؤون الإقليمية في الشرق الأوسط الجديد ما بعد ثوراته العسيرة، الشرق الذي لم تعد ترى أميركا فيه إلا عبئاً سياسياً ينوء “قرنها الوحيد” بحمله.
فصل المقال يكمن في السؤال المفتوح على الظرف السياسي المتسارع: من هو ضابط الإيقاع لهذا الانقلاب السيادي في المنطقة؟ هل هي اسرائيل، أم إيران، أم هي روسيا العائدة بسيد الكرملين العتيد إلى الخارطة السياسية الدولية بأدوات الحرب الباردة عينها القائمة على فرض الأمر الواقع، عسكرياً وجيوسياسياً، ببرودة دماء الدبّ القطبي وبهمجية دوسه على أرض الرمال المتحرّكة بقدمه الثقيلة والباطشة؟!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق