مظاهر عناية الصحابة بالقرآن الكريم :
أقبل أصحاب النبي r على تعلم القرآن الكريم حفظاً , وفهماً , وعملاً , بصورة يندر لها مثيل , ومما دفعهم على حفظه , والإقبال عليه بصورة خاصة ؛ تشجيع النبي r لهم على ذلك , ويظهر هذا من خلال :
أولاً : الأحاديث الكثيرة التي جاءت عن النبي r تحثًُّ على حفظ القرآن الكريم، منها حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها قالت : قال النَّبِيُّ r : ( مَثَلُ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَهُوَ حَافِظٌ لَهُ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ ، وَمَثَلُ الَّذِي يَقْرَأُ وَهُوَ يَتَعَاهَدُهُ وَهُوَ عَلَيْهِ شَدِيدٌ فَلَهُ أَجْرَان ) (([1] , ومما ورد عن ابن عباس قال : قال رسول الله r : ( إِنَّ الَّذِي لَيْسَ فِي جَوْفِهِ شَيْءٌ مِنْ الْقُرْآنِ كَالْبَيْتِ الْخَرِبِ) (([2], فيفهم منه أنَّه كلَّما ازداد القلب قرآناً ازداد عماراً ولله الحمد , وقولـه r : ( خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَه)(([3] , ولا شك أن الحفظ المتين من أعلى مقامات التعلم , وهو لا يتحقق إلا من خلال تلاوة صحيحة، وفهم سليم , وارتباط بالقرآن الكريم ارتباطاً وثيقاً , ولذا نجد حفاظ القرآن هم أكثر الناس تلاوة له , وذلك لأنه يحتاج إلى معاهدة مستمرة كما أخبر بذلك النبيr .
ثانياً : من خلال سنته العملية التي تشير بصورة واضحة إلى منزلة ومكانة أهل القرآن العالية عند الله U ؛ إذ كان النبيr يفاضل بين الصحابة أحياءً وأمواتاً بما معهم من قرآن , كما فعل بشهداء أحد , عن جابر بن عبد الله رضى الله عنهما : كَانَ النَّبِيُّ r يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ ثُمَّ يَقُول : ( أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآن ) فَإِذَا أُشِيرَ لَهُ إِلَى أَحَدِهِمَا قَدَّمَهُ فِي اللَّحْدِ ) (([4] .
وقولـه r : ( فَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلاةُ فَلْيُؤَذِّنْ أَحَدُكُمْ ، وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْثَرُكُمْ قُرْآنًا ) (([5] , وبتقدمه لإمامة الصلاة التي هي من أعظم العبادات دلالة على فضله ومكانته .
وقد زوج النبي r الرجل الذي ليس عنده مهر بما معه من قرآن تشجيعاً لهم على الحفظ ، كما ورد في حديث سهل بن سعد في قصة الرجل الذي أراد أن يتزوج المرأة التي عرضت نفسها للنبي r , ولم يكن له بها حاجة , ولم يكن عند الرجل شيء ليكون معه مهراً لها ، فقال له النبي r : ( مَاذَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ ) ؟ قَالَ: مَعِي سُورَةُ كَذَا ، وَسُورَةُ كَذَا، وَسُورَةُ كَذَا، عَدَّهَا قَالَ:( أَتَقْرَؤُهُنَّ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِكَ )؟ قَال: نَعَمْ , قَالَ:( اذْهَبْ فَقَدْ مَلَّكْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ )(([6] .
قال ابن حجر: (( فدلَّ على فضل القراءة عن ظهر قلب لأنَّها أمكن في التوصُّل إلى التعليم )) (([7] .
ولذا تنافس الصحابة على حفظه ، وتلاوته ، وفهمه , تاركين لذيذ النوم , وهاجرين دفئ الفراش , وهجيع الليل , للقيام بتلاوته , والتدبر لمعانيه التي هي أعظم ما يستمتع به أهل الإيمان في ليلهم , قال تعالى:â (#qçR%x. Wx?Ï=s% z`ÏiB È@ø?©9$# $tB tbqãèyf÷ku? á (الذاريات:17) , وقال تعالى: â 4?nû$yftFs? öNßgç/qãZã_ Ç`tã ÆìÅ_$?ÒyJø9$# tbqããô?t? öNåk®5u? $]ùöqyz $YèyJsÛur $£JÏBur öNßg»uZø%y?u? tbqà)ÏÿZã? á(السجدة : 16) , ولذا كان يسمع لبيوتهم دويَّاً كدويّ النحل من تلاوة القرآن، والقيام به في الليل , كما قال النبي r شاهداً على ذلك : ( إِنِّي لأَعْرِفُ أَصْوَاتَ رُفْقَةِ الأَشْعَرِيِّينَ بِالْقُرْآنِ حِينَ يَدْخُلُونَ بِاللَّيْلِ ، وَأَعْرِفُ مَنَازِلَهُمْ مِنْ أَصْوَاتِهِمْ بِالْقُرْآنِ بِاللَّيْلِ ؛ وَإِنْ كُنْتُ لَمْ أَرَ مَنَازِلَهُمْ حِينَ نَزَلُوا بِالنَّهَارِ )(([8] , وقد كان النبي r يستمع إلى هذه الأصوات العذبة المنبعثة بين هذه البيوت المباركة وقلبه منشرحاً بذلك , مشجعاً لهم على ما يسمع ويرى ،كما قال لأبي موسى الأشعري t : ( لَوْ رَأَيْتَنِي وَأَنَا أَسْتَمِعُ لِقِرَاءَتِكَ الْبَارِحَةَ لَقَدْ أُوتِيتَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ ) (([9] .
ولكن هنالك أسباب أخرى غير تشجيع النبي r لهم ساعدت على إقبال الصحابة على حفظ القرآن الكريم منها :
1- غلبة الأميَّة , وعدم توفر وسائل الكتابة , و الكُتَّاب , جعلهم يقبلون على التلقي المباشر للقرآن الكريم في صدورهم , ولعلَّ في ذلك حكمة عظيمة حيث بعث النبي r في أمَّة أمِّيَّة؛ وذلك ليتحقق الجمع في الصدور والسطور بأوسع الأبواب , إذ لو كانت وسائل الكتابة متوفرة مع الكتّاب لضعفت الهمة في حفظه والله أعلم .
2- قوة الحفظ التي تميَّزوا بها , وهي نتيجة العروبة الخالصة المعروفة بهذا التميز , (( فإن رؤوسهم كانت دواوين شعرهم ، وإن صدورهم كانت سجلّ أنسابهم ، وإن قلوبهم كانت كتاب وقائعهم وأيَّامهم )) (([10] ، ولعل تلك الحياة البسيطة التي عاشوها ولم يكونوا ينفقون وقتهم إلا في تحصيل الضروريات ، وعدم شغل بالهم بما فاتهم من كماليات ، وفَّرَ لهم وقتاً , وأصلح لهم بالاً ؛ وساعدهم على التلقي ، إضافةً إلى طهارة القلوب التي كانت سبباً للتوفيق ، وتيسير الأمور .
3- منزلة القرآن العظيمة في نفوسهم , جعلتهم يقبلون عليه بهمة لا تعرف التراخي (( يتنافسون في حفظ لفظه, ويتسابقون في فقه معناه, وجعلوه متعبَّدهم في ليلهم, ومسلاتهم في فراغهم وصاحبهم في أسفارهم, وأنيسهم في وحدتهم, وصديقهم الصدوق في منشطهم ومكرههم , ومستشارهم الأمين في شؤون دينهم ودنياهم , وما ظنُّك بكتاب يعتقدون ـ وحق لهم ذلك ـ أنَّ تلاوته عبادة , والاشتغال به من أعظم القربات إلى الله , وأنَّ عزهم لن يكون إلا به ... )) ( ([11].
4- ما تميَّز به حملة القرآن من مكانة اجتماعية ؛ كانت حافزاً ودافعاً لهم أيضاً على الإقبال على حفظه , ولذا كان الرجل إذا حفظ البقرة وآل عمران جدَّ في أعينهم ، بمعنى عظم , والروايات الدالة على ذلك كثيرة منها ما روي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ : بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ r بَعْثًا ، وَهُمْ ذُو عَدَدٍ فَاسْتَقْرَأَهُمْ , فَاسْتَقْرَأَ كُلَّ رَجُلٍ مِنْهُمْ مَا مَعَهُ مِنْ الْقُرْآنِ , فَأَتَى عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ مِنْ أَحْدَثِهِمْ سِنًّا ، فَقَالَ : مَا مَعَكَ يَا فُلَانُ ؟ قَالَ : مَعِي كَذَا وَكَذَا وَسُورَةُ الْبَقَرَةِ . قَالَ: أَمَعَكَ سُورَةُ الْبَقَرَةِ ؟ فَقَالَ : نَعَمْ . قَال: فَاذْهَبْ فَأَنْتَ أَمِيرُهُمْ . فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِهِمْ : وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا مَنَعَنِي أَنْ أَتَعَلَّمَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ إِلا خَشْيَةَ أَلا أَقُومَ بِهَا . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: ( تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ وَاقْرَءُوهُ , فَإِنَّ مَثَلَ الْقُرْآنِ لِمَنْ تَعَلَّمَهُ فَقَرَأَهُ, وَقَامَ بِهِ, كَمَثَلِ جِرَابٍ مَحْشُوٍّ مِسْكًا, يَفُوحُ رِيحُهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ , وَمَثَلُ مَنْ تَعَلَّمَهُ فَيَرْقُدُ وَهُوَ فِي جَوْفِهِ, كَمَثَلِ جِرَابٍ وُكِئَ عَلَى مِسْكٍ ) (([12] .
5- ما تمتَّعوا به من عروبة صافية جعلتهم يدركون جمال النظم القرآني وبلاغته التي سحرت ألبابهم, وأخذت بمجامع قلوبهم إليه, وخاصة وهم كانوا يتنافسون على نظم الشعر، والنثر وحفظهما, وقد جاءهم من الكلام ما قد بلغ الكمال في عذوبة ألفاظه, ودقة بيانه, وسلاسة أسلوبه, وجمال نظمه .
6- نزول القرآن منجَّماً , وتعليم النبي r لهم على مكث ، استجابة لقولـه تعالى: â $ZR#uäö?è%ur çm»sYø%u?sù ¼çnr&u?ø)tGÏ9 ?n?tã Ĩ$¨Z9$# 4?n?tã ;]õ3ãB çm»sYø9¨?tRur Wx?Í?\s? á(الإسراء:106), وارتباط بعض الآيات والسور بمدلولات ووقائع وأحداث في حياتهم الاجتماعية والسياسية والعسكرية وغيرها, كالأنفال , والتوبة, والأحزاب, والفتح ونحوها, جعل لها أثراً خاصاً في نفوسهم تدفعهم دفعاً إلى فهمها وحفظها, وذلك لحرارة وقعها عليهم, وإن كان لكل القرآن وقع على نفوسهم، كما قال تعالى:â ª!$# tA¨?tR z`|¡ômr& Ï]?Ï?utù:$# $Y6»tGÏ. $YgÎ6»t±tF?B z?ÏT$sW¨B ??Ïèt±ø)s? çm÷ZÏB ß?qè=ã_ tûïÏ%©!$# ?cöqt±ø?s? öNåk®5u? §NèO ßû,Í#s? öNèdß?qè=ã_ öNßgç/qè=è%ur 4?n<Î) Í?ø.Ï? «!$# á(الزمر:23) .
7- قوة الإيمان الذي تميزوا به, مع صدق توجههم لله U, جعلهم يدركون عظمة الله, وعظمة كلامه ومحبته؛ لأنَّ من عرف قدر الله عرف قدر كلامه ، ومن جهل قدر الله جهل قدر كلامه، كما هو شأن المشركين ، قال تعالى : â $tBur (#râ?y?s% ©!$# ¨,xm ÿ¾ÏnÍ?ô?s% ø?Î) (#qä9$s% !$tB tAu?Rr& ª!$# 4?n?tã 9?|³o0 `ÏiB &äóÓx« 3 ö@è% ô`tB tAu?Rr& |=»tGÅ3ø9$# ?Ï%©!$# uä!%y` ¾ÏmÎ/ 4Óy?qãB #Y?qçR ?Y?èdur Ĩ$¨Y=Ïj9 ( ¼çmtRqè=yèøgrB }§?ÏÛ#u?s% $pktXrß?ö6è? tbqàÿø?éBur #[??ÏWx. ( OçFôJÏk=ãæur $¨B óOs9 (#ûqçHs>÷ès? óOçFRr& Iwur öNä.ät!$t/#uä ( È@è% ª!$# ( ¢OèO öNèdö?s? ?Îû öNÎkÅÎöqyz tbqç7yèù=t? á(الأنعام 091)، وقال تعالى: â (#ûqä9$s%ur ã??ÏÜ»y?r& ?úüÏ9¨rF{$# $ygt7oKtGò2$# }?ÏSsù 4?n?ôJè? Ïmø?n=tã Zou?ò6ç/ Wx?Ϲr&ur ÇÎÈ ö@è% ã&s!u?Rr& ?Ï%©!$# ãNn=÷èt? §?Åc£9$# ?Îû ÏN¨uq»yJ¡¡9$# ÇÚö?F{$#ur 4 ¼çm¯RÎ) tb%?2 #Y?qàÿxî $\K?Ïm§? á(الفرقان:5-6) .
ومن هنا فقد حفظ القرآن الكريم عدد كبير من أصحاب النبي r في حياته, وبعد مماته, ومن الذين جمعوا القرآن في حياة النبي r :
من المهاجرين :
من الرجال : الخلفاء الأربعة, وطلحة بن عبيد الله , وسعد بن أبي وقاص, وعبد الله بن مسعود, وعبد الله بن عمر, وعبد الله بن عباس, وحذيفة بن اليمان, وسالم مولى أبي حذيفة, وأبو هريرة, وعمرو بن العاص, وابنه عبد الله, ومعاوية بن أبي سفيان, وعبد الله بن الزبير, وعبد الله بن السائب وغيرهم .
ومن النساء : عائشة , وحفصة , وأم سلمة , وأم ورقة , وغيرهن .
ومن الأنصار :
عبادة بن الصامت , وأبي بن كعب , ومعاذ بن جبل , وزيد بن ثابت , وفضالة بن عبيد , وسلمة بن مخلد , وأبو الدرداء , وأنس بن مالك , وأبو قيس بن السكن(([13] , وغيرهم كثير ممن لم ترد أسماؤهم , ومما يدل على كثرتهم , كثرة القرَّاء من حملة القرآن الذين قتلوا في معركة اليمامة ؛ التي كانت بعد وفاة النبي r مباشرة , قال القاضي أبو بكر : (( ومن تأمَّل هذه الأخبار , وألفاظها علم , وتيقَّن أنَّ أمر القرآن كان بينهم ظاهراً منتشرا، وأنَّ حفّاظه إذ ذاك كانوا في الأمة عدداً عظيماً, وخلقاً كثيراً ))(([14]، كما أن بعض هؤلاء الذين ورد ذكرهم في كتب علوم القرآن ؛ قد أكمل حفظه بعد وفاة النبي r ، كما يقول عبد الله بن عباس رضى الله عنهما توفي رسول الله r وأنا ابن عشر سنين ، وقد جمعت المحكم ))(([15] .
([5])رواه البخاري في صحيحه, كتاب المغازي, باب: وقال الليث حدثني يونس عن ابن شهاب أخبرني, ح رقم 3963 .
([8]) رواه البخاري في صحيحه , كتاب المغازي, باب:غزوة خيبر , ح رقم 3906, ومسلم في كتاب فضائل الصحابة, باب:من فضائل الأشعريين رضي الله عنهم , ح رقم 4555 .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق