أقدم نسخة مقابلة من صحيح البخاري في القرن السابع الهجري
تفاصيل النشر:
المصدر: الحياة
الكاتب: محمود عبدالقادر الأرناؤوط
تاريخ النشر(م): 21/9/2013
تاريخ النشر (هـ): 15/11/1434
منشأ:
رقم العدد: 18432
الباب/ الصفحة: 17 - تيارات
في عالم المخطوطات العربية، قد تجد في النهر ما لا تجده في البحر، فقد تقف على مخطوطة قيّمة نادرة في مكتبة صغيرة مغمورة، لا تجد مثيلاً لها في مكتبة كبيرة مشهورة، وسبب ذلك الأمر تفرّق المخطوطات العربية، بسبب اتساع الدولة الإسلامية منذ عصر الخلفاء الراشدين إلى انتهاء عصر العثمانيين، وتأكد لي ذلك من خلال زياراتي لما يزيد على مئة مكتبة دولية، بخاصة في البلدان العربية والبلدان الإسلامية، والبلدان الأوروبية، من طشقند في أواسط آسيا إلى فيينا في وسط أوروبا، مروراً بمكتبات: دمشق والقاهرة ومكة المكرمة والمدينة المنورة والرياض وإسطنبول وتيرانا وسمرقند ودبي وحلب وبرشتينا. ومن خلال صلتي بجمهرة كبيرة من كبار المحقّقين الذين كان لي شرف اللقاء بهم والجلوس إليهم، والحوار معهم، والاستفادة من تجاربهم، في الثلاثين عاماً الأخيرة من أعوامي التي قاربت الستين، وفي مقدمهم والدي الشيخ عبد القادر الأرناؤوط رحمه الله، وزميله الشيخ شعيب الأرناؤوط حفظه الله، ومن خلال إخراجي لما يزيد على ثمانين كتاباً تأليفاً وتصنيفاً وتحقيقاً ومراجعة وإشرافاً خلال الأعوام الثلاثين، آخرها كتاب"سلم الوصول إلى طبقات الفحول"لحاجي خليفة، الذي حققته بإشراف أستاذي وصديقي الدكتور أكمل الدين إحسان أوغلي، الأمين العام لمنظمة التعاون الإسلامي، وصدر في ستة مجلدات كبيرة عن مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية بإسطنبول في نهاية 2010.
ومن خلال وقوفي على ما يزيد على عشرة آلاف مخطوط أصلي بعلوم مختلفة في الأعوام الثلاثين المنصرمة، وجدت أن الله سبحانه أكرم كوسوفا آخر الدول البلقانية استقلالاً بنسخة خطية نفيسة من كتاب"صحيح البخاري"لشيخ الإسلام في الحديث النبوي الشريف الإمام محمد بن إسماعيل البخاري المتوفى عام 256هـ، ويعتبر أصح الكتب الموجودة بين أيدي المسلمين بعد القرآن الكريم، ونسخت هذه النسخة التي تحتفظ بها خزانة المشيخة الإسلامية في برشتينا عاصمة كوسوفا عن أقدم نسخة خطّية مقابلة، وأنجز نسخ أصل هذه النسخة على يد عالم محدّث كبير شهير، هو الإمام علي بن محمد بن أحمد بن عبد الله اليُونيني، المتوفى سنة 701 هـ.
وتأتي أهمية هذه النسخة الخطية، موضوع هذه المقالة، بقيام الإمام اليونيني بنسخ"صحيح البخاري"بيده عن إحدى النسخ الخطية القديمة لـ"صحيح البخاري"أولاً، ثم عارض نسخته على أربع نسخ منه كان يمتلكها أربعة من كبار علماء الأئمة من المحدِّثين، وهم: عبد الله بن إبراهيم الأصيلي، المتوفى 392 هـ، وعبد بن أحمد الهروي، المتوفى 434 هـ، وعلي بن الحسن بن عساكر الدمشقي، المتوفى 571 هـ، وعبد الكريم بن محمد بن منصور السمعاني، المتوفى 562 هـ، ورمز لكل نسخة من نسخ الأئمة الأربعة برمز التزم به في جميع المواطن من نسخته أثناء المعارضة، والمعارضة أهم مراحل التحقيق لكتب التراث الإسلامي كما هو معلوم، وعن طريقها تضبط نصوص الكتاب وتعرف صحة رسمها، وما اتفق عليه ثلاثة من أولئك الأئمة الكبار أسقط رسم الرابع منهم، وكذلك إن اتفق اثنان منهم على لفظ ما رقم ما جعل رسماً لهما، وأشار إلى أنه أثبته عنهما بالترجيح، وهكذا في جميع المواطن من نسخته التي جعل بين يديها مقدمة بيّن فيها عمله في نسخ"صحيح البخاري"فقال:"الأصول المشار إليها مما أحلت عليه في هوامش نسختي من"صحيح البخاري"، وما أعملت عليه [القلم] في الكتاب نفسه بين الأسطر، مما وقع عليه اتفاق الأئمة الحفاظ الأربعة، وهم: أبو محمد عبدالله بن إبراهيم الأصيلي، والحافظ أبو ذرّ عبد بن أحمد الهروي، والحافظ أبو القاسم علي بن الحسن بن عساكر الدمشقي، والأصل المسموع [من] أبي الوقت [السجزي] بقراءة الحافظ أبي سعد عبدالكريم بن محمد بن منصور السمعاني، كتبت عليه هـ، ص، س، ظ وهكذا ما اتفق عليه ثلاثة منهم أسقطت رسم أحدهم، وكذلك إن اتفق فيه اثنان منهم رقم ما جعل رسماً لهما، وإن لم يكن عندهم فإما أن اكتب على الهامش سقط عند هـ،ص، س، ظ إذا كتب عليه لا، وأرقم رسم من رسم مما ليس عنده. مثاله: وقع في أصل سماعي حديث بدء الوحي: جمعه لك في صدرك ووقع عند هـ، ص، س، ظ: جمعه لك صدرك بإسقاط في فأرقم على في لا وأرقم فوقها أو إلى جانبها هـ، ص، س، ظ هذا إن وقع الاتفاق على سقوطها، وإن كانت عند أحدهم وليست عند الباقين، رقمت رسمه وتركت رسمهم، وكذلك إن لم تكن عند واحد وكانت عند الباقين، كتبت عليها لا ورقمت عليها الحرف المصطلح عليه، وعلى ذلك فقس كل ما تراه مرقوماً عليه".
وهذا الذي صنعه الإمام اليُونيني في نسخه وإخراجه لنسخته من"صحيح البخاري"في أواخر القرن السابع الهجري، هو لب لباب ما يقوم به المحقِّق المتقن المتمرس من العمل بتحقيقه لأي كتاب من كتب التراث في أيامنا، وذلك ما يؤكد على السبق القديم لعلماء أمتنا في شأن تحقيق نصوص التراث العربي الإسلامي ودقة ضبطها، وذلك قبل أن تمتد إلى تراثنا العظيم أيدي المستشرقين بقرون عدة، وقبل أن تتعالى أصواتهم بالادعاء بالسبق في شؤون تحقيق كتب تراثنا النفيس بحقب زمنية طويلة، وتمكّنهم من إقناع بعض الدارسين والمشتغلين بتحقيق نصوص التراث من أبناء أمتنا بما يدعون من تحقيقهم للسبق في هذا المضمار، فتحقيق النصوص التراثية والتثبت من صحتها ودقتها أمر معروف في تاريخنا العلمي والثقافي منذ القرون الهجرية الأولى، التي وضعت اللبنات العلمية الأساسية فيها على أيدي علمائنا الكبار، وكم من أولئك العلماء وصف بأنه محقق متقن بأيدي الذين ترجموا لهم في كتب السِّيَر والتراجم.
وقال ابن منظور في"لسان العرب":"حقّ الأمر يحقه حقاً وأحقه: كان منه على يقين، تقول: حقّقت الأمر وأحققته إذا كنت على يقين منه". وقال أيضاً:"وأحققت الشيء أي أوجبته، وتحقق عنده الخبر، أي صحَّ"وكلام ابن منظور هذا هو خير دليل على قدم صناعة تحقيق النصوص التراثية في تاريخ أمتنا العلمي والثقافي كما هو مبين من كلامه. وبذل الإمام اليونيني جهداً عظيماً بمعارضته لنسخته من"صحيح البخاري"على نسخ الأئمة الكبار الذين سبقت الإشارة إليهم، وأثبت الفروق بين نسخته ونسخهم بدقّة مدهشة، وضبط ألفاظ أحاديث الكتاب ضبطاً تاماً، وشرح ما يحتاج منها إلى الشرح والبيان، وكتب بين يدي الكتاب العظيم مقدمة مؤلّفة من أربع ورقات بيّن فيها عمله في إخراجه لهذه النسخة النفيسة من"صحيح البخاري". ومقدمته تقوم مقام مقدمة المحقّق لأي كتاب من كتب التراث المحقّقة في أيامنا، فجاءت نسخته محقّقة معارضة متقنة تستحق التنويه والإشارة عن جدارة.
بقي أن أقول أخيراً: إن هذه النسخة الخطية المحفوظة في خزانة المشيخة الإسلامية بكوسوفا من"صحيح البخاري"نسخت - بيد أحد النسَّاخ المحترفين لمهنة النسخ - عن نسخة الإمام اليونيني، وتاريخ نسخها هو عام ألف ومئة وتسعة وسبعين هجرية، وهي نسخة خزائنية نفيسة مذهّبة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق