#1
| |||
| |||
جلاء العينين في التعريف بالصحيحين
المطلب الأول: التعريف بـ( الجامع الصحيح ) للبخاري
الاسم الذي اشتهر به كتاب الإمام البخاري بين الناس - عالِمُهُم وعَاميُّهُم - منذ القديم هو (صحيح البخاري) أو (الجامع الصحيح)، إلا أن للكتاب اسما سمَّاه به مؤلفه، وقد اختلف العلماء في تحديد ذلك الاسم إلى قولين متقاربين جدا وهما: • (الجامع الصحيح المسند من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته وأيامه)[1]. • (الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه)[2]، وهو الأصحُّ كما ذهب إليه الشيخ المحقق عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله في رسالته النافعة (تحقيق اسمي الصحيحين واسم جامع الترمذي)[3]. الفرع الثاني: دوافع تأليفه: عقد الحافظ ابن حجر في بداية مقدمته لكتابه (فتح الباري) فصلا في بيان الدافع الباعث للبخاري على تصنيف كتابه (الصحيح)[4]، وقد لخصها الحافظ في ثلاثة أسباب هي: • أولا: أن البخاري رحمه الله وجد المصنفات الحديثية التي جُمعت قبله قد مَزجَت بين الصحيح الثابت وما ليس كذلك - مما لم تصح نسبته للنبي صلى الله عليه وسلم؛ فحرك ذلك عزمَه على تجريد صحيح السنة في مصنف خاص[5]. • ثانيا: ما سمعه من شيخه إسحاق بن راهويه رحمه الله من نَدْبِه تلاميذَه في أحد المجالس إلى جمع كتاب مختصر في الصحيح من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلا لهم: « لو جمعتم كتابا مختصرا لصحيح سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ». قال البخاري: « فوقع ذلك في قلبي فأخذت في جمع هذا الكتاب»[6]. • ثالثا: رؤية منامية رآها الإمام، قال البخاري رحمه الله: « رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وكأني واقف بين يديه، وبيدي مروحة أذبُّ بها عنه، فسألت بعض المعبرين فقال لي: أنت تذُبُّ عنه الكذب، فهو الذي حملني على إخراج الجامع الصحيح »[7]. الفرع الثالث:موضوع الكتاب: موضوع كتاب صحيح البخاري هو الأحاديث الصحيحة المُسْنَدة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أبان عن ذلك رحمه الله بنفسه في قوله: « ما أدخلتُ في كتابي إلا ما صَحَّ، وتركتُ من الصحيح حتى لا يطول »[8]. ويدل على موضوع كتابه أيضا تسميته إياه بـ (الجامع المسند الصحيح المختصر ....)؛ فهو واضح في أنه قصد إلى جمْعِ بعض الصحيح - لا كلِّه - من سنة النبي صلى الله عليه وسلم المسنَدَة، مما يشمل جُلَّ أبواب الدين، قال ابن حجر: « تقرر أنه التزم فيه الصحة، وأنه لا يورد فيه إلا حديثا صحيحا، هذا أصل موضوعه وهو مستفاد من تسميته »[9]. ولا يَغِيبَنَّ على البال أن المراد بموضوع الكتاب: هو المتُونُ المندرجةُ تحت الأبواب - لا الأبْوابَ ذاتَها -، أو ما يذكره عرضًا من المعلَّقَات غير المسندَةِ إلى النبي صلى الله عليه وسلم مما لا يتوافق ومعنى عنوان الكتاب، قال ابن الصلاح رحمه الله: « فإنَّما المراد بكلِّذلك: مقاصدَ الكتاب، وموضوعَهُ، ومتونَ الأبْواب، دون التَّراجمِ ونحوِها؛ لأنَّفي بعضِها ما ليسَ من ذلك قطعًا »[10]. وقال ابن حجر: « ثم رأى [ أي البخاري ] أن لا يُخْلِيَهُ من الفوائد الفقهية، والنُكَتِ الحُكمية، فاستخرج بفهمه من المتون معانيَ كثيرةً فرقها في أبواب الكتاب بحسب تناسبها، واعتنى فيه بآيات الأحكام، فانتزع منها الدلالات البديعة، وسلك في الإشارة إلى تفسيرها السبُلَ الوسيعةَ، قال الشيخ محيي الدين [ النووي ]- نفع الله به -: ليس مقصود البخاري الاقتصار على الأحاديث فقط، بل مراده الاستنباطُ منها، والاستدلالُ لأبوابِ إيرادها، ولهذا المعنى أخلى كثيرا من الأبواب عن إسناد الحديث، واقتصر فيه على قوله: فيه فلان عن النبيصلى الله عليه وسلم، أو نحو ذلك، وقد يذكر المتن بغير إسناد، وقد يورده معلقًا، وإنما يفعل هذا لأنه أراد الاحتجاجَ للمسألة التي تَرجَمَ لها، وأشار إلى الحديث لكونه معلوما، وقد يكون مما تقدم، وربما تقدم قريبا، ويقع في كثير من أبوابه الأحاديث الكثيرة، وفي بعضها ما فيه حديثٌ واحدٌ، وفي بعضها ما فيه آيةٌ من كتاب الله، وبعضها لا شيء فيه ألبتة»[11]. الفرع الرابع: مدى العناية في إخراج كتابه: تظهر عنايةُ الإمام البخاري بإخراج كتابه (الصحيح) من خلال قوله: « مَا وضعتُ في كتابي (الصحيح) حديثا إلا اغتسلت قبل ذلك وصليت ركعتين »[12]، وقولِهِ أيضا: « صَنَّفْتُ كتابيَ(الصحيح) لِسِتَّ عشرةَ سنةً، خَرَّجتُهُ من ستمائة ألف حديث وجعلتُه حجةً فيما بيني وبين الله تعالى »[13]. الفرع الخامس: شرط الإمام البخاري في صحيحه: لم يُعْرف عن البخاري رحمه الله أنه نصَّ على شرط كتابه، لكن الأئمة حاولوا استخراج شرطِهِ من خلال الاستقراءِ والتَّتبعِ، قال الإمام أبو الفضل بن طاهر المقدسي: « اعلم أن البخاري ومسلمًا ومن ذكرنا من بعدهِم؛ لم يُنقل عن واحد منهم أنه قال: شَرطتُّ أن أخرج في كتابي مما يكون على الشرط الفلاني، وإنما يَعْرِف ذلك من سَبَر كتبَهم، فَيَعْلَم بذلك شرط كل رجلٍ منهم»[14]. والمقصود بشرط البخاري أو مسلم هنَا غير ما هو معروفٌ من الخلاف بينهما في الاكتفاءِ بثبوت المعاصرة بين الراوي وشيخه - بعد كونهما ثِقَتَينِ - كما هو عند الإمام مسلم، أو اشتراطِ ثُبُوتِ اللُّقِيِّ بينهما كما هو عند الإمام البخاري. وقد ذهب الإمام الحاكم إلى أن شرط الشيخين في صحيحيهما أن يكون الحديث مرويًا عن صحابِيِّ مشهورِ بالرواية عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، وله راويان ثِقَتان، ثم يروِيهِ عنْهُ التابعيُّ المشهورُ بالرواية عن الصحابة، وله راويان ثقَتَان، ثم يروِيهِ عنه من أتباع التابعين الحافظ المتُقِنُ المشهورُ، وله رواةٌ ثقاتٌ من الطبقة الرابعة، ثم يكونُ شيخ البخاري ومسلم حافظًا متقنًا مشهورًا بالعدالة في روايته[15]. قال ابن طاهر المقدسي - تعقيبا على كلام الحاكم -: « إنَّ الشَّيْخَين لم يشترطا هذا الشرط، ولا نُقِل عن واحدٍ منهُما أنه قال ذلك، والحاكم قدَّرَ هذا التقديرَ، وشرط لهما هذا الشرط على ما أظن، وَلَعمْري إنه لشرطٌ حسنٌ لو كان موجودًا في كتابيهما، إلا أنَّا وجدنا هذه القاعدة التي أسَّسَهَا الحاكم منتقضة في الكتابين جميعا »[16]. وقال الإمام الحازمي - مُعَقِّبًا على كلام الحاكم أيضًا -: « هذا حـكم من لم يمعِنِ الغوص في خبايا (الصحيح)، ولو استقـرَأَ الكتابَ حَقَّ استقرائهِ؛ لَوجد جملة من الكتاب ناقـضةً عليه دعواه»[17]. وقال الحافظ ابن حجر: « أما القسم الأول الذي ادعى [ أي الحاكم ] أنه شرط الشيخين فمنقوضٌ بأنهما لم يشترطا ذلك، ولا يقتضيه تصرفهما، وهو ظاهر بيِّنٌ لمن نظر في كتابيهما »[18]. ثم ساق الحافظ شواهد وأدلة تنقض ما قرره الحاكم. وقد ذكر أبو الفضل بن طاهر المقدسي أربعة شروط اشترطها البخاري ومسلم في صحيحيهما فقال رحمه الله: « اعلم أن شرط البخاري ومسلمٍ أن يخرِجَا الحديثَ المُتفق على ثقة نقَلَته إلى الصحابي المشهور، من غير اختلاف بين الثقات الأثبات، وأن يكون إسناده متصلا غير مقطوع، فإن كان للصحابي راويان فصاعدا فحسنٌ، وإن لم يكن له إلا راوٍ واحد؛ إذا صح الطريق إلى ذلك الراوي أخرجاه »[19]. وقد ذكر الحازمي في رسالته (شروط الأئمة) شروط الصحيح بالتفصيل[20]، لخصها الحافظ ابن حجر بقوله: « وقال الحافظ أبو بكر الحازمي رحمه الله ... ما حاصله: أن شرط الصحيح أن يكون إسناده متصلا، وأن يكون راويه مسلمًا، صادقًا، غير مدلس، ولا مختلط، متصفًا بصفات العدالة، ضابطًا، متحفظًا، سليم الذهن، قليل الوَهَم، سليم الاعتقاد »[21]. وقال ابن حجر أيضا: « أما غير المكثرين [ من الرواة ]؛ فإنما اعتمد الشيخان في تخريج أحاديثهم على الثقة والعدالة وقلة الخطإ، لكن منهم من قوي الاعتماد عليه فأخرجا ما تفرد به، كيحيى بن سعيد الأنصاري، ومنهم من لم يقو الاعتماد عليه فأخرجا له ما شاركه فيه غيره، وهو الأكثر »[22]. فهذا بإيجاز خلاصة شرط البخاري في صحيحه، وإلا فإن المسألة فيها كلام وتفصيل طويل ليس هذا مَحَلَّه، وفيها مناقشـاتٌ بين العلماء والأئمة، وقد فصَّل ذلك كلَّه وتـكلَّمَ عنه وحقَقَ ورجَّح؛ الشيخ عبد الفتـاح أبو غدة رحمه الله في تعليقـاتِه على رسالتيْ: (شروط الأئمة الخمسة) لأبي الفضل المقدسي، و( شروط الأئمة الستة ) للحازمي، فلتراجع فإنها فريدة في بابها. الفرع السادس: شرطه في السند المعنعن: اشترط البخاري ليكون سند الحديث صالحا للاحتجاج إضافة إلى ما سبق ذكره - آنفا - من شروط الصحة لديه؛ أن يثبُتَ سماعُ الراوي من شيخِهِ، فلم يكتف بمجرد المعاصرة وإمكانية اللقاء، بل لا بد عنده من ثبوت الاجتماع والسماع مع السلامة من التدليس. قال الحافظ ابن كثير في سياق بيانه سبب ترجيح (صحيح البخاري) على غيره من جهة الصحة: « والبخاري أرجح؛ لأنه اشترط في إخراجه الحديث في كتابه هذا: أن يكون الراوي قد عاصر شيخه، وثَبُتَ عنده سماعه منه، ولم يشترط مسلم الثاني، بل اكتفى بمجرد المعاصرة، ومن ههنا ينفصل لك النزاع في ترجيح تصحيح البخاري على مسلم، كما هو قول الجمهور »[23]. وقال الحافظ ابن حجر في أثناء كلامه على أوجه ترجيح (صحيح البخاري) على (صحيح مسلم): « الوجه الخامس: وذلك أن مسلماً كان مذهبُهُ على ما يُصَرِّحُ به في مقدمة صحيحه، وبَالَغَ في الردِّ على من خالفه أن الإسناد المعنعن له حُكْمُ الاتصال إذا تعاصر المُعَنعِن ومن عَنعَن عنه، وإن لم يثبت اجتماعهما إلا إن كان المُعَنْعِنُ مدلساً، والبخاري لا يحمِلُ ذلك على الاتصال حتى يثبت اجتماعهما ولو مرة، وقد أظهر البخاري هذا المذهب في تاريخه، وجرى عليه في صحيحه، وأكثر منه حتى إنه ربما خرَّج الحديث الذي لا تعلُّق له بالباب جملةً إلا ليبيِّن سماعَ راوٍِ من شيخِه لكونه قد أخرج له قبل ذلك شيئاً معنعَناً، وسترى ذلك واضحاً في أماكنه - إن شاء الله تعالى - وهذا مما ترجح به كتابُه لأنَّا وإن سلَّمْنا بما ذكرَه مسلمٌ من الحكم بالاتصال؛ فلا يخفى أن شرط البخاريِّ أوضحُ في الاتصال »[24]. ومذهب البخاري في السند المعنعَن هو مذهب كثير من الحفاظ، سواء ممن سـبق البخاري كشعبة بن الحجاج، ويحي بن سعيد القطان، وعلي بن المديني[25]، أو ممن جاء بعده، حتى نقل بعضهم الإجماع عليه. قال ابن عبد البر: « اعلم - وفقك الله - أتى تأملت أقاويل أئمة أهل الحديث، ونظرت في كتب من اشترط الصحيح في النقل منهم ومن لم يشترطه، فوجدتهم أجمعوا على قبول الإسناد المعنعَن، لا خلاف بينهم في ذلك إذا جمع شروطًا ثلاثةً هي: [1-] عدالة المحدثين في أحوالهم. [2-] ولقاء بعضهم بعضًا مجالسة ومشاهدة. [3-] وأن يكونوا براء من التدليس »[26]. وقال الخطيب البغدادي: « وأهل العلم بالحديث مجمعون على أن قول المحدث: حدثنا فلان، عن فلان، صحيح معمول به إذا كان شيخه الذي ذكره يُعرَفُ أن قد أَدرك الذي حدَّثَ عنه، ولقيه، وسمع عنه، ولم يكن هذا المحدث ممن يدلس، ولا يعلم أنه يستجيز إذا حدثه به أن يسقط ذلك ويروي الحديث عاليًا؛ فيقول: حدثنا فلان عن فلان - أعني الذي لم يسمعه منه - لأن الظاهر من الحديث السالم رواية مما وصفنا الاتصال، وإن كانت العنعنة هي الغالبة على إسناده»[27].ونسب الحافظ ابن رجب قول البخاري إلى جمهور المتقدمين فقال: « وأما جمهور المتقدمين فعلى ما قاله ابن المديني والبخاري »[28]. الفرع السابع: المعلقات في (صحيح البخاري): المعلقات[29] في صحيح البخاري على ضربين: الأول: ما كان منها بصيغة الجزم مثل: قال، رَوى، جاءَ، وعن ... فحُكمُ هذه الصحة إلى من علَّقَهُ عنه[30]، « ويبقى النظر فيمن أبرز من رجال ذلك الحديث، فمنه ما يلتحق بشرطه، ومنه ما لا يلتحق، أما ما يلتحق فالسبب في كونه لم يوصِلْ إسنادَه: إما لكونه أخرج ما يقوم مقامه فاستغنى عن إيراد هذا مُستوفى السياق، ولم يهمِله، بل أورده بصيغة التعليقِ طلبًا للاختصار، وإما لكونه لم يحصل عنده مسموعًا، أو سمِعَه وشَكَّ في سماعه له من شيخه، أو سمعه من شيخه مذاكرةً، فما رأى أن يسوقه مساق الأصل، وغالب هذا فيما أورده عن مشايخه »[31]. الثاني: ما كان من المعلقات بصيغة التمريض مثل: رُوِيَ، يُروى، ذُكِر ... ونحوِ ذلك مما بُني الفعل فيه للمجهول؛ فلا يستفاد منها صحة ولا ينافيها، لأنه قد وقع من ذلك كذلك وهوصحيح، وربما رواه مسلم[32]. وذهب ابن الصلاح إلى أن إيراد البخاري لها في صحيحه «مشعرٌ بصحةِ أصلِه إشعَارًا يؤنَسُ به، ويُرْكنُ إليه »[33]. قال الإمام النووي : « وقد اعتنى البخاري رحمه الله باعتبار هاتين الصيغتين وإعطائهما حكمَهُمَا في صحيحه، فيقول في الترجمة الواحدة بعض كلامه بتمريض، وبعضه بجزم، مراعيا ما ذَكَرنا، وهذا مشعِرٌ بتحرِّيه وورعِه، وعلى هذا فيُحمَل قوله: ما أدخلت في الجامع إلا ما صـح، أي: مما سقت إسناده »[34]. ولهذا لا يقال: إن البخاري خالف شرطه فأخرج في كتابه ما لم يصح، لأن شرط الصحة عنده في الأحاديث المسندة إلى النبي صلى الله عليه وسلم دون المعلقات، فإن بعض ما عُلِّقَ منها بصيغة التمريض ليس بصحيح كما ذكر الحافظ ابن حجر في مقدمة (الفتح)[35]. ولهذا فقد جاء البخاري بالموقوفات وآثار التابعين كلها معلَّقَةً؛ حتى لا يخالف شرط كتابه في إسناد ما رفع للنبي صلى الله عليه وسلم فقط. فإن قيل: لمَ جاء البخاري بالموقوفات في صحيحه وهو الذي خصصه للأحاديث المسندة، وما الحكمة من ذلك ؟ فجواب ذلك ما ذكره الحافظ ابن حجر حين قال: « وإنما يورد ما يورد من الموقوفات من فتاوى الصحابة والتابعين، ومن تفاسيرهم لكثير من الآيات على طريق الاستئناس والتقوية لما يختاره من المذاهب في المسائل التي فيها الخلاف بين الأئمة، فحينئذ ينبغي أن يقال: جميع ما يورد فيه إما أن يكون مما ترجَمَ به، أو مما تَرجِمَ له، فالمقصودُ من هذا التصنيف بالذات هو الأحاديث الصحيحة المسندة، وهي التي تَرجَم لها، والمذكورُ بالعرض والتَبَعِ الآثار الموقوفة، والأحاديث المعلقة، نعم والآيات المكرمة، فجميع ذلك مترجم به، إلا أنها إذا اعتُبِرت بعضُهَا مع بعضٍ، واعتُبِرت أيضا بالنسبة إلى الحديث، يكون بعضها مع بعض منها مفَسِّر، ومنها مفسَّر، فيكون بعضها كالمترجَم له باعتبار، ولكن المقصود بالذات هو الأصل، فافهم هذا فإنه مخلص حسن يندفع به اعتراض كثير مما أورده المؤلف من هذا القبيل والله الموفق »[36]. الفرع الثامن: عدد أحاديثه: قال الحافظ أبو عمرو بن الصلاح: « وجملة ما في كتابه الصحيح سبعةُ آلافٍ ومئتانِ وخمسةٌ وسبعون حديثا بالأحاديث المكررة، وقد قيل: إنها بإسقاط المكررة أربعة آلاف حديث، إلا أن هذه العبارة قد يندرج تحتها عندهم آثار الصحابة والتابعين، وربما عُدَّ الحديث الواحد المروي بإسنادين حديثين »[37]. أما الحافظ ابن حجر فقال: « فجميع أحاديثه بالمكرر - سوى المعلقات والمتابعات - على ما حررته وأتقنته سبعة آلاف وثلاث مائة وسبعة وتسعون حديثا »[38]. وقال: « فجميع ما في (صحيح البخاري) من المتون الموصولة بلا تكرير على التحرير ألفا حديث وستمائة حديث وحديثان [2602]، ومن المتون المعلَّقة المرفوعة التي لم يوصلها في موضع آخر من الجامع المذكور مائة وتسعة وخمسون حديثا [159]، فجميع ذلك ألفا حديث وسبعمائة وأحد وستون حديثا [2761]»[39]. ثم بين الحافظ السبب في الاختلاف الواقع في عدِّ أحاديث (الجامع) فقال: « وبين هذا العدد الذي حرَّرتُه، والعددِ الذي ذكره ابن الصلاح وغيره تفاوت كثير، وما عرفت من أين أتى الوهم في ذلك، ثم تأولتُه على أنه يُحتَمَل أن يكون العَادُّ الأول الذي قلَّدُوهُ في ذلك، كان إذا رأى الحديث مُطَوَّلا في موضع ومختصرًا في موضع آخر؛ يظُنُّ أن المختصر غير المُطَوَّلِ إما لبعد العهد به، أو لِقِلَّة المعرفة بالصناعة، ففي الكتاب من هذا النمط شيء كثيرٌ، وحينئذِ يتبيَّنُ السبب في تفاوت ما بين العددين والله الموفق »[40]. أما بترقيم الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي رحمه الله فعدة ما في (صحيح البخاري) من الأحاديث 7563 حديثا. الفرع التاسع: منهجه في التراجم: لقد ضمَّن الإمام البخاريُّ كتابَه تراجمَ حَيَّرت الأفكار، وأدهشتِ العقول والأبصار -كما قال ابن حجر[41]-، ولقد أَعْيَت بعض تراجِمِهِ الناظرينَ في كتابِهِ، حتى خطَّأَ بعضُهُم البخاريَ في تحريرها، « وبعضهم نسب إليه التقصير في فهمِه وعلمِه، وهؤلاء ما أنصفوه لأنهم لم يعرفوه، وبعضهم قال: لم يُبَيِض الكتاب. وهو قول مردود ...وبعض قال: جاء من تحريف النسَّاخ. وهو قول مردود»[42]. وقد حاولَ بعضُ العلماءِ بيانَ مناسبات تراجم البخاري، فصَنَّفَ في إيضاح ذلك الإمام ناصر الدين المُنَيَّر[43] (المتواري على تراجم البخاري)[44]، ثم لخصه الإمام بدر الدين بن جماعة في (مناسبات تراجم البخاري)[45]. قال ابن جماعة مبرزا منهج البخاري في تراجمه: « - تارة يختصر الحديث لتضمن حكم ترجمة الباب، ويحيل فهم ذلك على من يعرف من أهل الحديث ... - وتارة كون حكم الترجمة أولى من حكم نص الحديث ... - وتارة يكون حكم الترجمة مفهوما من الحديث ولكن بطريق خفي وفهم دقيق ... ونحو ذلك»[46]. أما الحافظ ابن حجر رحمه الله فقد شرح منهج البخاري في تراجمه في مقدمة (الفتح)، فقسم التراجم إلى ظاهرة وخفية: أما الظَّاهرة: فهي أن تكون الترجمة دالة بالمطابقة لما يورد في ضمنها، وإنما فائدتها الإعلام بما ورد في ذلك الباب.وأمَّا الخفيَّة: فهي التي تحتاج إلى استنباط ونظر في فهم مناسبتها،فيكون فيها الإشارة إلى شرح مُشْكَلٍ، أو تفسيرِ غامضٍ، أو تأويل ظاهرٍ، أو تفصيل مجملٍ، ونحو ذلك؛ ولهذا اشتهر قول جمع من أهل العلم: فقهُ البخاري في تراجِمِه. وقد تكون الترجمة بلفظ المترْجم له، أو بعضه، أو معناه.وكثيرًا ما يُتَرْجِمُ بلفظ الاستِفهام،وكثيرًاما يُتَرْجِمُ بلفظٍ يُومِئُ إلى معنى حديث لم يصح على شرطه، أو يأتيبالحديث الذي لم يصح على شرطه صريحًا في التَّرجمة، ويورد في الباب مايُؤَيِّدُ معناه تارة بأمر ظاهر، وتارة بأمر خفي، وربما اكتفىبلفظ التَّرجمة التي هي لفظ حديث لم يصح على شرطه، وأورد معها أثرًاأو آية، فكأنه يقول: لم يصحَّ في الباب شيء على شرطي. وغير ذلك منالفوائد والحكم التي لا تُحصى[47].
المطلب الثاني: التعريف بصحيح مسلم
لم يأتِ في جُلِّ نسخ (صحيح مسلم) تصريحٌ باسمه الحقيقي الذي وضعه له مؤلفه، ولا حتى في ما وصل إلينا من الشروح عليه كشرح المازري، والقاضي عياض، والنووي، والأُبِيِّ، ... وغيرهم، وإنما جاءَ وَصفُهُ بـ (الصحيح) في أغلبِ ذلك، وكذا في جُلِّ طبعات الكتاب القديمة منها والحديثة[48]. وقد أشار الإمام مسلم رحمه الله إلى بعضٍ من عنوان كتابه في قوله: « صنفت هذا (المسند الصحيح) من ثلاثمائة ألف حديث مسموعة »[49]، فسماه (المسند الصحيح)، وهو اختصار منه رحمه الله لاسمه الكامل والطويل. وقد حقق الشيخ عبد الفتاح أبو غدة في رسالته (تحقيق اسمي الصحيحين) أن اسم صحيح مسلم الكامل هو: (المسند الصحيح المختصر من السنن بنقل العدل عن العدل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم )[50]، وساق في إثبات ذلك نصوصا مسندة عن صاحب الكتاب. الفرع الثاني: سبب تأليفه: أبان الإمام مسلم عن دافعه من تصنيف كتابه (الصحيح) في مقدمته فقال رحمه الله: « فإنك -يرحمك الله- بتوفيق خالِقِك ذكرت أنك هممت بالفحص عن تَعَّرُفِ جملةالأخبار المأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنن الدين وأحكامِهِ،وما كان منها في الثواب والعقاب، والترغيب والترهيب، وغير ذلك من صنوفالأشياء، بالأسانيد التي بها نُقِلَت، وتدَاولَها أهل العلم فيما بينهم ... وللذي سَأَلتَ - أكرمك الله - حين رجعتُ إلى تدبرِه، وما تؤول به الحالـ إن شاء الله ـ عاقبةٌ محمودةٌ، ومنفعةٌ موجودةٌ، وظننتُ حين سألتني تجشُّمَ ذلكأن لو عُزِم لي عليه، وقُضِي لي تمامُه؛ كان أول من يصيبُهُ نفعُ ذلك إياي خاصةقبل غيري من الناس ... ولكن من أجل ما أعلمناك من نشر القومالأخبار المنكرة بالأسانيد الضعاف المجهولة، وقذفهم بها إلى العوام الذينلا يعرفون عيوبها؛ خفَّ على قلوبنا إجابتك إلى ما سألت»[51]. فظهر من كلام الإمام مسلم في مقدمته أن سبب تصنيفه لِكتابِه هو استجابة لمن طَلَب منه وضع كتاب يحوي أحاديث بأسانيد متداولةٍ عند أهل العلم في الأحكام والترغيب والترهيب، إضافة إلى انتشار الأخبار المنكرة الضعيفة بين عوام الناس؛ فنشط رحمه الله من أجل ذلك لتصنيف كتابه (الصحيح). الفرع الثالث: الرواة عن الإمام مسلم كان للإمام مسلم العشرات من التلاميذ، أَحصى منهم الإمام الذهبي أكثر من خمسة وثلاثين[52]، أما من سَمِعَ منه صحيحَه بالكامل، ثم رواه للناس؛ فقَدَ ذكر الضياء المقدسي في (جزء الرواة عن مسلم)[53] منهم عشرة رواة، والكتاب « مع شهرته التامة، صارتروايته بإسناد متصل بمسلم مقصورة على أبي إسحاق إبراهيم بن محمد بن سفيان، غيرأنَّه يُروى في بلاد المغرب مع ذلك عن أبي محمد أحمد بن علي القلانسي[54] »[55]. قال الإمام النووي: « صحيح مسلم رحمه الله في نهايةٍ من الشهرة، وهو متواترٌ عنه من حيث الجملة، فالعلم القطعي حاصلٌ بأنَّه من تصنيف أبي الحسين مسلم بن الحجَّاج، وأما من حيث الروايةُ المتصلةُ بالإسناد المتصل بمسلم؛ فقد انحصرت طريقه عنه في هذه البلدان والأزمان في رواية أبي إسحاق إبراهيم بن محمد بن سفيان، عن مسلم، ويروى في بلاد المغرب مع ذلك عن أبي محمد أحمد بن علي القلانسي عن مسلم »[56]. إذن فلصحيح مسلم روايتان متصلتا الإسناد إلى صاحب الكتاب: الأولى: رواية المشارقة، وهي رواية إبراهيم بن محمد بن سفيان. الثانية: رواية المغاربة، وهي رواية القلانسي. الفرع الرابع: عنايته بتأليفه: يظهر مدى العناية التي أولاها الإمام مسلم صحيحه من خلال ما يلي: أولا: المدة الطويلة التي استغرقها تصنيف الكتاب، قال أحمد من سلمة - وهو من تلاميذ مسلم - : « كتبت مع مسلم رحمه الله في صحيحه خمس عشرةَ سنة، وهو اثنا عشر ألف حديث »[57]. ثانيا: انتقاؤه لأحاديثه من ألوفِ الروايات، حيث قال رحمه الله: « صنَّفْتُ هذا المسند الصحيح من ثلاثمائة ألف حديث مسموعة »[58]. ثالثا: عَرْضُه لكتابه على جهابذة النقاد من شيوخه، حيث قال مصرحا بذلك: « عَرضْتُ كتابي هذا على أبي زرعة الرازي فكل ما أشار أنَّ له علةً تركتُهُ، وكل ما قال: إنه صحيح، وليس له علة خرَّجته »[59]. رابعا: تَثَبُّتُه في إخراج أحاديثِ كتابِه، وتَحَرُّزُه من إخراج ما لم تتوافر فيه شروط الصحة، ويظهر حرصه هذا من خلال قوله رحمه الله في مقدمة صحيحه: « واعلم - وفقك الله تعالى - أن الواجب على كل أحدٍ عَرَفَ التَّمْييزَ بين صحِيحِ الروايات وسقيمِها، وثقاتِ الناقلين لها من المتَّهمين؛ أن لا يروِيَ منها إلا ما عُرِفَ صحةُ مخارجه، والستارةُ في ناقِلِيه، وأن يُنَقِّيَ منها ما كان منها عن أهل التُّهَمِ والمعانِدين من أهل البدع »[60]. وقوله أيضا: « ما وضعت في كتابي هذا المسند إلا بحجة، وما أسقطت منه شيئا إلا بحجة»[61]. الفرع الخامس: أبواب الكتاب: لم يترجم الإمام مسلم رحمه الله لأبواب كتابه (الصحيح)، أي أنه لم يجعل لأبواب الكتاب عناوين محددة، لكنه رحمه الله كان في ترتيبه للكتاب يجمع الأحاديث ذات الموضوع الواحد فيجعلها متسلسلة تسلسلا فقهيا كما أشار إلى ذلك ابن القيم حيث قال: « قول مسلم بن الحجاج يُعْرَف قولُهُ في السنة من سياق الأحاديث التي ذكرها ولم يتأولها، ولم يذكُرْ لها التراجم كما فعل البخاري، ولكن سَرَدَها بلا أبواب، ولكن تُعْرَفُ التراجمُ من ذكره للشيءِ مع نظيره »[62]. قال ابن الصلاح: « ثم إن مسلما - رحمه الله وإيانا - رتَّب كتابه على الأبواب، فهو مُبوبٌ في الحقيقة، ولكنه لم يذكر فيه تراجم الأبواب لئلا يزداد حجم الكتاب، أو لغير ذلك »[63]. والأبواب الموجودة في الصحيح هي من صناعة بعض المتأخرين كأبي نعيم صاحب (المستخرج)، والنووي في شرحه - وهي الأشهر-، وكذا القرطبي في شرحه أيضا. قال النووي رحمه الله: « وقد ترجم جماعة أبوابه بتراجم بعضها جيِّد،وبعضها ليس بجيِّد، إما لقصور في عبارة الترجمة، وإما لركاكة لفظها، وإمالغير ذلك، وأنا - إن شاء الله - أحرص على التعبير عنها بعبارات تليق بها فيمواطنها »[64]. ولعلَّ هذا ما يفسر خُلُوَّ الطبعات القديمة من التراجم، وهو نفس الأمر بالنسبة لبعض الطبعات التي عليها شرح الأُبِّي والسنوسي، لا نجد فيها سوى الأحاديث مسرودة. الفرع السادس: عدد أحاديث صحيح مسلم: تقدم قول أحمد بن سلمة - تلميذ الإمام مسلم رحمه الله - عن كتاب شيخه بأن عدة أحاديثه: «اثنا عشر ألف حديث ». قال الإمام الذهبي معقبا على كلام ابن سلمة: « عُنِيَ بالمكرر بحيث إنه إذا قال: حدثنا قتيبة، وأخبرنا ابن رمح، يُعَدَّان حديثين اتفق لفظهما أو اختلف في كلمة »[65]. وعدد ما في (الصحيح) بإسقاط المكرر أربعة آلاف حديث كما قال النووي[66]. وحسب ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي فعدة ما في (صحيح مسلم) بإسقاط المكرر 3033 حديثا، ومسلم يكرر ذكر بعض الأحاديث في مواضع من كتابه، قال محمد فؤاد عبد الباقي رحمه الله: « كرر مسلم في صحيحه 137 حديثا في مواضع متعددة منها 71 حديثا يضع الحديث منها في كتاب غير الكتاب الذي وضع الحديث فيه لأول مرة »[67]. الفرع السابع: المعلقات في صحيح مسلم: لم تبلغ معلقات (صحيح مسلم) في كثرتها ما هو موجود في صحيح البخاري رحمه الله، وقد اختلف العلماء في عدِّها، وأكبر ما نُصَّ عَلَيْهِ من عدد المعُلَّقات: أربعةَ عشرَ حديثا، قال بذلك: أبو علي الجياني، والإمام المازري، والحافظ العراقي[68]، وهذا العدد لا يشكل إلا نسبة ضئيلة جدا من مجموع عدد أحاديث (صحيح مسلم)، وذهب فريقٌ إلى أن عدَّة المعلقات: اثنا عشر حديثا[69]، وبعضهم قال: إنها أقل من ذلك، وسبب اختلافهم هو كون أحد هذه الأحاديث - الأربع عشرة - مكَرَّرٌ، أو أن بعضها جاء موصولا في نفس الكتاب في مواضع أخرى فلم يكن معلقًا في واقع الأمر[70]. قال الحافظ العراقي: « وفيه بقية أربعة عشر موضعا رواه متصلا، ثم عقبه بقوله: رواه فلان. وقد جمعها الرشيد العطار في الغرر المجموعة[71]، وقد بينت ذلك كله في جزء مفرد »[72] قال ابن حجر معقبا: « ليس فيه عند الرشيد إلا ثلاثة عشر، والذي أوقع الشيخ في ذلك أن أبا عليًّا الجياني - وتبعه المازري - ذكر أنها أربعة عشر، لكن لما سردها أورد منها حديثا مكررا ... فصارت العدة ثلاثة عشر »[73]. الفرع الثامن: شرط مسلم في صحيحه: تقدَّم بيان شرط الإمام مسلم رحمه الله سابقا أثناء الكلام عن شرط الإمام البخاري، كما سَبَقَ بيان أن المراد بـ"الشرط" هنا غير ما هو معروف من الخلاف بينهما في السند المعنعَن. قال أبو عمرو بن الصلاح: « شرط مسلم في صحيحه: أن يكون الحديث متصل الإسناد، بنقل الثقة عن الثقة من أوله إلى منتهاه، سالما من الشذوذ، ومن العلة، وهذا هو حَدُّ الحديث الصحيح في نفس الأمر، فكل حديث اجتمعت فيه هذه الأوصاف فلا خلاف بين أهل الحديث في صحته »[74]. وتقدم قول ابن طاهر المقدسي: « « اعلم أن شرط البخاري ومسلم أن يخرجا الحديث المتفق على ثقة نقلته إلى الصحابي المشهور، من غير اختلاف بين الثقات الأثبات، وأن يكون إسناده متصلا غير مقطوع، فإن كان للصحابي راويان فصاعدا فحسنٌ، وإن لم يكن له إلا راوٍ واحد إذا صح الطريق إلى ذلك الراوي أخرجاه »[75]. فبهذا الاعتبار في شرطهما في وثاقة الراوي واحد، إلا أن مسلمًا ارتضى من الرواة بعض من لم يرتضه البخاري والعكس، ولذلك قال ابن طاهر بعد كلامه السابق: « إلا أن مسلما أخرج أحاديث أقوام ترك البخاري حديثهم، لشبهة وقعت في نفسه، أخرج مسلم أحاديثهم بإزالة الشبهة »[76]. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: « وأما شرط البخاري ومسلم، فلهذا رجال يروي عنهم يختص بهم، ولهذا رجال يروى عنهم يختص بهم، وهما مشتركان في رجال آخرين، وهؤلاء الذين اتفقا عليهم؛ عليهم مدار الحديث المتفق عليه، وقد يروى أحدهم عن رجل في المتابعات، والشواهد دون الأصل، وقد يروي عنه ما عرف من طريق غيره، ولا يروى ما انفرد به، وقد يترك من حديث الثقة ما علم أنه أخطأ فيه؛ فيظن من لا خبرة له إن كل ما رواه ذلك الشخص يحتج به أصحاب الصحيح وليس الأمر كذلك »[77]. الفرع التاسع: شرطه في السند المعنعن: تقدمت الإشارة إلى شرط الإمام مسلم في السند المعنعَن عند الحديث عن شرط البخاري في ذلك، وتَمَّ بيان أن مسلمًا رحمه الله لم يشترط أكثر من المعاصرة وإمكانية اللقاء بين المُعنعِِن والمعنعَن عنه، شرط أن لا يكون الأول مدلسًا، وقد أفصح مسلمٌ عن شرطه ذاك في مقدمة صحيحه، بل نافَحَ عنه ورد بقوة، وشَنَّع على من اشترط ثبوت اللقاء والسماع فقال رحمه الله: « وقد تكلم بعض منتحلي الحديث من أهل عصرنا في تصحيح الأسانيد وتسقيمها؛ بقول لو ضربْنَا عن حكايتِهِ وذكر فسادِه صفحًا؛ لكان رأيًا متينًا، ومذهبًا صحيحًا؛ إذ الإعراض عن القول المطَّرِحِ أحرى لإماتته، وإخمال ذكر قائله، وأجدر أن لا يكون ذلك تنبيهًا للجُهَّال عليه، غير أنَّا لما تخوَّفنا من شرور العواقب، واغترار الجهلة بمحدثات الأمور، وإسراعهم إلى اعتقاد خطأ المخطئين، والأقوال الساقطة عند العلماء؛ رأينا الكشف عن فساد قوله »[78]. وقد اختلف العلماء في تحديد المقصود بكلام مسلم هنا: أهو شيخه البخاري، أو ابن المديني، أو غيرهما ؟ وليس هذا مجال بسطذلك بالتفصيل[79]. ثم عرض مسلم رأي مخالفيه في اشتراط اللقاء، ثم قال: « وهذا القول [ يعني كلام خصمه ] -يرحمك الله - في الطعن في الأسانيد؛ قولٌ مخترعٌ، مستحدثٌ غير مسبوقٍ إليه، ولا مساعدَ له من أهل العلم عليه، وذلك أن القول الشائع المتفق عليه بين أهل العلم بالأخبار والروايات قديمًا وحديثًا: أن كل رجل ثقة روى عن مثله حديثًا، وجائزٌ ممكنٌ له لقاؤُهُ، والسماعُ منه، لكونهما جميعًا كانا في عصر واحد، وإن لم يأتِ في خبر قط أنهما اجتمعا، ولا تشافها بكلام؛ فالرواية ثابتة، والحجة بها لازمة، إلا أن يكون هناك دلالة بينة أن هذا الراوي لم يلق من روى عنه، أو لم يسمع منه شيئًا. فأما والأمر مبهَمٌ على الإمكان الذي فسَّرْنا؛ فالرواية على السماع أبدًا، حتى تكون الدلالة التي بَيَّنَّا »[80]. لكن جمهور أهل العلم على تصحيح مذهب البخاري وترجيحه على مذهب تلميذه الإمام مسلم، وقد تقَدَّمَ نقلُ شيءٍ من أقوالِهِم في تقرير ذلك. [1]- هدي الساري، ابن حجر، ص08. [2]- ينظر: فهرس ابن عطية، عبد الحق بن عطية الأندلسي، ت: محمد أبو الأجفان ومحمد الزاهي، ص64، ومعرفة أنواع علوم الحديث، ابن الصلاح، ص94، وتهذيب الأسماء واللغات، النووي، 1/73، والباعث الحثيث، ابن كثير، ش: أحمد شاكر، 1/122، والتقييد والإيضاح، العراقي، ص25،24. [3]- ينظر منه: ص09-12. وينظر أيضا: العنوان الصحيح للكتاب، الشريف حاتم العوني، ص50-52. [4]- هدي الساري، ابن حجر، 06. [5]- المصدر نفسه، ص06. [6]- تاريخ بغداد، الخطيب، 2/326، وتاريخ دمشق، ابن عساكر، 52/72، وتهذيب الأسماء واللغات، النووي، 1/74، وسير أعلام النبلاء، الذهبي، 12/401، وهدي الساري، ابن حجر، ص07. [7]- تهذيب الأسماء واللغات، النووي، 1/74، وهدي الساري، ابن حجر، ص07. وقد ذكر بعض الباحثين أسبابا أخرى غير تلك التي ذكرها الحافظ. فلتنظر في: منهح الإمام البخاري في تصحيح الأحاديث وتعليلها من خلال الجامع الصحيح، بو بكر كافي، ص55-58. [8]- سير أعلام النبلاء، الذهبي، 12/471، وهدي الساري، ابن حجر، ص07. [9]- هدي الساري، ابن حجر، ص08. [10]- معرفة أنواع علوم الحديث، ابن الصلاح، ص95. [11]- هدي الساري، ابن حجر، ص08. [12]- تاريخ بغداد، الخطيب البغدادي، 2/327، وتاريخ دمشق، ابن عساكر، 52/72، وهدي الساري، ابن حجر، ص489. [13]- تاريخ بغداد، الخطيب البغدادي، 2/327، وهدي الساري، ابن حجر، ص489. [14]- شروط الأئمة الستة، أبو الفضل بن طاهر المقدسي (ضمن ثلاث رسائل في علم مصطلح الحديث) ت: عبد الفتاح أبو غدة، ص85. [15]- نقل رأي الحاكم هذا في تحديد شرط البخاري الإمام الحازمي في: شروط الأئمة الخمسة (ضمن ثلاث رسائل في علم مصطلح الحديث)، ص115. [16]- شروط الأئمة الستة، أبو الفضل بن طاهر، ص96. [17]- شروط الأئمة الخمسة، الحازمي، ص129. [18]- النكت على مقدمة ابن الصلاح، ابن حجر، 1/367. [19]- شروط الأئمة الستة، أبو الفضل بن طاهر، ص86. [20]- تنظر: ص145-151. [21]- هدي الساري، ص09. [22]- المصدر نفسه، ص10. [23]- الباعث الحثيث، ابن كثير، ش: شاكر، 1/104،103. [24]- هدي الساري، ابن حجر، ص12. [25]- ذكر الشيخ خالد بن منصور الدريس في كتابه النافع (موقف الإمامين البخاري ومسلم من اشتراط اللقيا والسماع في السند المعنعن بين المتعاصرين) عددا ممن سبق الإمام البخاري إلى اشتراط اللقيا والسماع في السند المعنعن منهم: شعبة بن الحجاج، ويحي بن سعيد القطان، وعلي بن المديني، وساق الكثير من الشواهد والأدلة والنصوص الدالة على ذلك (ينظر ص77-84، 89-90)، ولعل في ذلك نقضا لما ذهب إليه بعض الباحثين من أن دعوى الخلاف بين الحفاظ المتقدمين في اشتراط اللقيا والسماع بين الراوي والمروي عنه هي دعوى مزعومة لا دليل عليها كما ذهب إليه الشيخ حاتم بن عارف العوني، وعقد لأجل إبطال الخلاف من أساسه كتابَه (إجماع المحدثين على عدم اشتراط العلم بالسماع في الحديث المعنعن بين المتعاصرين)، وسيأتي في كلام الإمام مسلم ما هو حجة في أن الخلاف كان معروفا في زمنه، وعلى كل فالمسألة لها فروع وذيول ليس هذا مجال بسطها ولا التحقيق في الراجح من الآراء فيها. [26]- التمهيد، ابن عبد البر 1/12. [27]- الكفاية، الخطيب البغدادي، 2/229. وقد صحح مذهب البخاري جمهور الأئمة، ينظر: صيانة صحيح مسلم من الإخلال والغلط، ابن الصلاح، ت: موفق بن عبد الله عبد القادر، ص128، وشرح صحيح مسلم، النووي، 1/128، والسنن الأبين والمورد الأمعن في المحاكمة بين الإمامين في السند المعنعن، ابن رشيد الفهري، ت:صلاح بن سالم المصراتي، ص35، وجامع التحصيل، العلائي، ص116. [28]- شرح علل الترمذي، ابن رجب، 1/365. [29]- قال الحافظ ابن حجر في (هدي الساري) ص17: « المراد بالتعليق ما حذف من مبتدأ إسناده واحد فأكثر ولو إلى آخر الإسناد، وتارة يجزم به كقال، وتارة لا يجزم به كيُذكر ». [30]- الباعث الحثيث، ابن كثير، ش: شاكر، 1/121. [31]- هدي الساري، ابن حجر، ص17. [32]- ينظر: معرفة أنواع علم الحديث، ابن الصلاح، ص94، والباعث الحثيث، ابن كثير، 1/122، وهدي الساري، ابن حجر، ص18. وقد جاءت بعض المعلقات المرفوعة موصولة في مواضع أخرى من الصحيح، كما قام الحافظ ابن حجر بوصل معلقات البخاي في مصنف مستقل هو (تغليق التعليق). [33]- معرفة أنواع علم الحديث، ابن الصلاح، ص94. [34]- نقله عنه ابن حجر في (هدي الساري) ص19. [35]- المصدر نفسه، ص19. [36]- المصدر نفسه، ص19. [37]- معرفة أنواع علم الحديث، ابن الصلاح، ص87. [38]- هدي الساري، ابن حجر، ص468. [39]- المصدر نفسه، ابن حجر، ص477. [40]- المصدر نفسه، ص477. وينظر: النكت على مقدمة ابن الصلاح، بدر الدين الزركشي، ت: زين العابدين بلافريج، 1/189. [41]- هدي الساري، ابن حجر، ص13. [42]- مناسبات تراجم البخاري، بدر الدين بن جماعة، ت: محمد إسحاق السلفي، 27. [43]- هو ناصر الدين أبو العباس أحمد بن محمد الجذامي الإسكندراني الإمام المفسر، مولده سنة 620ç، وتوفي سنة 683ç بالإسكندرية، له ترجمة في (حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة) للسيوطي، 1/316. [44]- طبع في الكويت بتحقيق: صلاح الدين مقبول، ثم في المكتب الإسلامي ببيروت بعناية: علي حسن عبد الحميد. [45]- طبع في المطبعة السلفية بالهند بتحقيق محمد إسحاق السلفي. [46]- مناسبات تراجم البخاري، ابن جماعة، ص28،27. [47]- ملخصا من هدي الساري، ابن حجر، ص14،13. والتلخيص لـ: مصطفي علوان من مقاله (تعريف بكتاب الجامع الصحيح)، منشور بشبكة "الألوكة" بتاريخ: 04/05/2010م. [48]- ينظر: تحقيق اسمي الصحيحين وجامع الترمذي، أبو غدة، ص33. [49]- صيانة صحيح مسلم، ابن الصلاح، ص67، وقول مسلم هذا مخرج أيضا في: تاريخ بغداد، الخطيب البغدادي، 15/122، وتاريخ دمشق، ابن عساكر، 58/92. [50]- انظرها: ص 33-51، وانظر فوائد حول هذا العنون في: (العنوان الصحيح للكتاب) للشيخ حاتم العوني، 52. [51]- صحيح مسلم، المقدمة، ت: محمد فؤاد عبد الباقي، 1/03. [52]- سير أعلام النبلاء، الذهبي، 12/563،562. [53]- طبع ومعه (ترجمة الإمام مسلم ورواة صحيحه) للإمام الذهبي في كتاب واحد بعنوان (جزءان عن الإمام مسلم ) بتحقيق: أبو يحي الكندي وأبو حمد المري. [54]- لم أعثر له على ترجمة له، بل أشار أكثر الباحثين إلى ضَنِّ كتب التراجم بتعريف للقلانسي، ولم أجد إلا ما ذكره ابن الصلاح في (صيانة صحيح مسلم) ص109، حيث قال: « هو أبو محمد أحمد بن علي بن الحسن بن المغيرة بن عبد الرحمن القلانسي ...» [55]- صيانة صحيح مسلم، ابن الصلاح، ص103. [56]- شرح صحيح مسلم، النووي، 1/11. [57]- تذكرة الحفاظ، الذهبي، 2/589. [58]- تاريخ بغداد، الخطيب البغدادي، 15/122، وتاريخ دمشق، ابن عساكر، 58/92، وشرح صحيح مسلم، النووي، 1/15. [59]- شرح صحيح مسلم، النووي، 1/15، وصيانة صحيح مسلم، ابن الصلاح، ص68، وهدي الساري، ابن حجر، ص347. [60]- صحيح مسلم، المقدمة، 1/08. [61]- صيانة صحيح مسلم، ابن الصلاح، ص67، وتذكرة الحفاظ، الذهبي، 2/589. [62]- اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية، ابن قيم الجوزية، ت:بشير محمد عيون، ص182. [63]- صيانة صحيح مسلم، ابن الصلاح، ص101. [64]- شرح صحيح مسلم، النووي، 1/21. [65]- سير أعلام النبلاء، الذهبي، 12/566. [66]- التقريب والتيسير لمعرفة سنن البشير النذير، النووي، ت: محمد عثمان الخشت، ص26. [67]- فهارس صحيح مسلم، محمد فؤاد عبد الباقي، (آخر جزء من صحيح مسلم)، 5/601. [68]- ينظر: غرر الفوائد المجموعة، رشيد الدين العطار، ت: سعد الحميد، ص108، وصيانة صحيح مسلم، ابن الصلاح، ص81، والنكت على مقدمة الصلاح، ابن حجر، 1/345 [69]- قاله ابن الصلاح والنووي وغيرهم، ينظر: صيانة صحيح مسلم، ابن الصلاح، ص81. [70]- مناهج المحدثين، سعد الحميد، ص50،48. [71]- طبع كتاب رشيد الدين العطار بعنوان (غرر الفوائد المجموعة في بيان ما وقع في صحيح مسلم من الأحاديث المقطوعة) بتحقيق: سعد بن عبد الله حميد، وقد تقدم النقل عنه. [72]- التقييد والإيضاح، العراقي، ص21. [73]- النكت على مقدمة ابن الصلاح، ابن حجر، 345. [74]- صيانة صحيح مسلم، ابن الصلاح، ص72. [75]- ينظر هذا النقل في ص303. [76]- شروط الأئمة الستة، ابن طاهر، 86. [77]- مجموعة الفتاوى، ابن تيمية، 18/42. [78]- صحيح مسلم، المقدمة، 1/28. وفي هذا النص من الإمام مسلم دليل على أن هناك من يرى خلاف رأيه، وإن لم يأت التصريح باسمه، خلافا لمن زعم إجماع المحدثين على عدم اشتراط اللقاء - والله أعلم -. [79]- ينظر تفصيل ذلك في: (موقف الإمامين البخاري ومسلم من اشتراط اللقيا والسماع) للدريس، ص301-313. [80]- صحيح مسلم، المقدمة، 1/29. |
#2
| |||
| |||
رد: جلاء العينين في التعريف بالصحيحين
جزاك الله خيرا ، وسدد خطاك .
__________________
رأيي أعرضه ولا أفرضه صفحتي على الفيس بوك : https://www.facebook.com/profile.php?id=100002912858264 |
#3
| |||
| |||
رد: جلاء العينين في التعريف بالصحيحين
بارك الله فيكم وزادكم من علمه وسددكم
|
#4
| |||
| |||
رد: جلاء العينين في التعريف بالصحيحين
السلام عليكم اريد مساعدتي
عن عايشة رضي الله عنها<<خيرت بريرة على زوجها حين عتقت >>متفق علية في حديث طويل ماعلاقة هذا الحديث بهذة الفائدة بان المتعين على القاضي والمفتي تبين الحكم الذي يجهله الخصم او المستفتي اذا كان يترتب على اخباره حكم شرعي يستفيد من مغرفتة |
الكلمات الدلالية (Tags) |
التعريف , العينين , بالصحيحين , جمال |
« الموضوع السابق | الموضوع التالي »
|
الساعة الآن 03:51 PM.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق