بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
|
توينبي.. التاريخ والعرب
|
شبكة البصرة
|
د. عماد الدين الجبوري
|
في التاريخ البشري عندما تتوفر عوامل البناء في التطور والتقدم، فإن المعطيات والمفاهيم الفكرية والعلمية والاجتماعية والثقافية تتغير وفقاً للأبعاد المرحلية التي تمر بها. بيد أن الثوابت والحقائق التي تخص هوية كل أمة من الأمم تبقى على ماهي عليه، لأنها تمثل جوهر وجودها على مر الأزمنة والعصور. وأمة العرب من بين الأمم التليدة الحية التي ساهمت بإيجابية في المضمار الحضاري الإنساني من جهة، وجابهت وتغلبت على السلبيات المضادة لها من جهة أخرى. وإذا عمد بعض المؤرخين والباحثين الغربيين إلى إقلال أو غمط حق الدور العربي في التاريخ، فإن البعض الآخر قد أعترف وأشاد بشأنهم وثقلهم وفاعليتهم حضارياً وإنسانياً.
ويعتبر المؤرخ والفيلسوف الإنكليزي أرنولد جوزيف توينبي (1889-1975) أحد الذين تشعبوا في دراسة التاريخ. فقد كان يؤمن بأن وحدة الدراسة التاريخية هي "الحضارة"، كونها تمثل مجموعة مترابطة من المجتمعات التي تشترك في ثقافة واحدة.(1)
ومن أشهر مؤلفاته "دراسة التاريخ" في 12 مجلداُ ما بين (1934-1961). وهو بحث عميق في تاريخ البشرية وفق رؤية عالمية عن نشوء وإزدهار ثم تدهور الحضارات. ولقد إعتمد في رؤيته على نظرية "التحدي والإستجابة" التي أقتبسها من علم النفس السلوكي، حيث نقل نظرية مؤسس علم النفس التحليلي السويسري كارل يانغ (1885-1964) من حيزها الفردي إلى الحيز التاريخي والاجتماعي. ورغم إن توينبي قد تأثر ببعض الأفكار عند هنري برجسون وأبن خلدون وغيرهم، إلا أن إهتمامه بالتاريخ العربي قديماً وحديثاً، ودراسته للغة العربية والإسلام، قادته إلى وضع كتاب عن "الوحدة العربية" التي توقعها أن تتم في سبعينيات القرن الماضي. علاوة على تأييده للقضية الفلسطينية ودحضه للإفتراءات الصهيونية. ولكن لا يزال الباحثين والدارسين العرب منقسمين في تقييمهم لتوينبي بين السلب والإيجاب. فعلى سبيل الذكر، إن كتابه عن الوحدة العربية، أعتبرها البعض إشارة للغرب عن خطورة هذه الوحدة تاريخياً، خصوصاً وإن توينبي قد عمل في المخابرات البريطانية أيام السيطرة الإستعمارية. كما وإنه أصطف بجانب الحركة الصهيونية ردحاً من الزمن!
كيفما كان الأمر، سوف نتطرق هنا وبشكل موجز لِما كتبه توينبي تجاه التاريخ والعرب، وما يتعلق بالحضارة الإسلامية، وكذلك القضية الفلسطينية، ثم نختم مقالنا بشيء من التقييم.
البلاد العربية
في نظرية التحدي والإستجابة التي تبحث في نشوء وإنهيار الحضارات، نص توينبي في تفسيره إلى ظهور الحضارات الأصلية الأولى في مصر والعراق قائلاً: "كانت شبه الجزيرة العربية والشمال الأفريقي تتمتع بجو معتدل ومراع شاسعة ومياه غزيرة، خلال نهاية الفترة الجليدية الأخيرة". وكانت المجاميع البشرية تعيش وقتذاك بشكل بدائي تقوم على الصيد والقنص وجمع الثمار والبذور. وبعدما حدث التغير المناخي وبشكل تدريجي في الفترة المناخية الدافئة التي نعيشها نحن الآن، والذي أدى إلى إنحباس الأمطار وإنتشار التصحر وجفاف الأنهار. فقد شكلَّ هذا النمط من الحياة الطبيعية تحدياً قد واجهته تلك المجتمعات، فإستجابت له بطرق مختلفة: إذ تحوّل بعضها إلى حياة البداوة ضمن قبائل رُحّل تسعى وراء الماء والكلأ وترعى المواشي التي تعيش عليها، حيث بقت على أراضيها، وهي ليومنا هذا تحافظ على نمط حياتها الصحراوي. وهذا النوع من الإستجابة سلبي لا طاقة إبداعية فيه ولا تطور. أما القسم الثاني فقد رحّل نحو الجنوب في المناطق الإستوائية المُشابهة كثيراً للبيئة السابقة، فظل محافظاً على نمط معيشته البدائية حتى يومنا هذا. والقسم الثالث رحل إلى دلتا النيل، فجابه البيئة الجديدة وتغلب على عوائقها وسخرها لأغراضه، بعد أن أكتشف الزراعة، مما أدى إلى إنشاء الحضارة المصرية القديمة. وكذلك إنتقل بعض الجماعات من شبه الجزيرة العربية إلى أهوار جنوب العراق والفرات الأسفل والذي تمخض عن إنبثاق حضارة ما بين النهرين. وهذا النوع من الإستجابة إيجابي إذ فيه العزيمة على مجابهة التحدي والتغلب عليه.
معنى هذا إن توينبي يسير وفق المبدأ العام الذي يتفق عليه أغلب علماء التاريخ الكبار، ومنهم المؤرخ الأمريكي ويل ديورانت (1885-1981) الذي يؤكد على أن العرب هم مهد الحضارة الأولى في التاريخ. ومن جملة ما ذهب إليه في كتابه الموسوعي "قصة الحضارة" هذا القول: "إن الحضارة قد ظهرت في الأزمنة القديمة غير المدونة في بلاد العرب، ثم إنتشرت منها إلى أرض الرافدين ومصر".(2)
فالعرب منذ آلاف السنين يعيشون في بلادهم الممتدة من الأحواز حتى موريتانيا. وإن شبه الجزيرة العربية تمثل الموقع الرئيسي الكبير، والتي كانت قبل عشرة آلاف سنة تتمتع بحياة طبيعية خضراء يتخللها نهران عظيمان. وعندما دخلت الأرض في المرحلة الدفيئة الثالثة، بدأ ذوبان الجليد في قارة أوروبا وحوض الأبيض المتوسط. وغزى الجفاف جزيرة العرب، فبقى فيها قلة تعيش حياة البداوة، وهاجر معظمهم إلى واديا الرافدين والنيل وشمال أفريقيا. وهكذا كانت هناك الحضارات القديمة من سومرية وبابلية وآشورية وفرعونية.
الحضارة العربية الإسلامية
لقد أولى توينبي إهتماماً مبكراً بالحضارة الإسلامية، حيث تعلم العربية والتركية وزار القاهرة وغيرها. فضلاً عن تناوله بعض المؤلفات بدراسة عميقة لاسيما كتاب "المقدمة" لأبن خلدون، الذي كتبَ عنه قائلاً: "إن أبن خلدون كان نقطة الضوء الوحيدة في ذلك الأفق، وإنه بلا ريب هو الشخص البارز في تاريخ الحضارة". وحسب رأي توينبي إن المدّ الإسلامي يمتاز بمرحلتين إثنتين: الدينية الخالصة، والسياسة الدينية. الأولى ترتكز على المبدأ الذي حمله النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى أتباعه حول إسلام النفس لله، والتوحيد وما يتعلق بالزكاة ومساعدة الفقراء والمحتاجين من الإيتام والأرامل. أما الثانية فهي قيام الدولة والنظام والقانون.
إن الحضارة الإسلامية قد نجحت منذ نشأتها في الإستجابة للتحدي الذي يواجهها من قِبل الحضارتين المجاورتين، الفارسية والبيزنطية. إذ أن جمع القبائل العربية ضمن دولة واحدة، وتوحيد عباداتها المتفرقة ضمن عبادة واحدة؛ يُعَدّ نجاحاً باهراً في سياق الإستجابة والتحدي. وكذلك بالنسبة إلى "الفتوحات الإسلامية" وما يصاحب هذا التوسع من نمو حضاري تمثل في البناء الإداري للدولة، حيث أن "الدواوين" كانت تضم عناصراً من الفرس والبيزنطيين. وعندما واجهت الحضارة الإسلامية مشكلة العقائد المتعددة من فارسية وبيزنطية، فقد إستجابت لهذا التحدي بظهور "عِلم الكلام" الذي هو اللاهوت الإسلامي. ناهيك عن ذكر العملة الواحدة وبيت مال واحد وأبعاد ذلك في النمو الإقتصادي الإسلامي. وأيضاً ما يخص التشريع الإسلامي تجاه مكونات الدولة من المجتمعات المتنوعة والمختلفة، حيث بدأت المذاهب الدينية الأربعة تستجيب للكل بحسب محيطه وظروفه الإجتماعية، مما جعل الدين يكون مرناً مقبولاً من الجميع.
ولعل من بين الأمور المهمة والكثيرة التي تطرق إليها توينبي في دراسته للإسلام وحضارته، إقراره بأن الإسلام لم ينتشر بحد السيف كما زعم بعض المؤرخين والباحثين الغربيين. فالبلدان المفتوحة كانت تُخّيَر بين الدخول في الإسلام أو دفع الجزية. وإن ممارسة العبادة في الدين الإسلامي ليست بالصعبة، فالوضوء وأوقات الصلاة سهلة الإداء. كما وإن الإسلام لا يتعارض مع المنطق، بل يحث على إستعمال العقل والفكر والتأمل في الطبيعة والكون. وإن حركة الترجمة في عهد الخليفة المأمون التي نقلت الفكر الفلسفي اليوناني عبر السريانية، فإنها جاءت إلى العالم المسيحي الغربي من ترجمتها للعربية. فالحضارة الإسلامية كانت وما زالت حية بجوهرها، على الرغم مما مرت به من نكبات وكواث وإستعمار غربي لبلدانها. وإنها حضارة باقية ومستمرة لا تتحجر، ولم تستطيع الحضارة الغربية أن تجرفها.
وكذلك يؤيد توينبي بشكل واضح على الحقيقة الواقعية التي يتميز بها الإسلام عن بقية الأديان والمعتقدات. فالإسلام قد أوجد نظاماً شاملاً للحياة الإنسانية، إذ يتوافق فيه العوامل الروحية التي تتعلق بالعقيدة والدين من ناحية، والقوانين التي تتصل في نظم الحياة الاجتماعية من ناحية أخرى. ولقد تجلى ذلك في الدولة الإسلامية العالمية، حيث كانت مترامية الأطراف وتخضع لعاصمة واحدة، وإن المسلمين يعيشون وفق الشريعة التي جمعت بين الدين والحياة.
إلا أن توينبي لا يتفق مع رأي إبن خلدون بأن الحضارات مثل الكائنات الحية تخضع للتطور العضوي الذي ينتهي بالموت. فحسب رؤيته إن موت الحضارت ليس شرطاً أن تقترن بنهاية أكيدة لها، فالمجتمع الذي يمتلك "إستجابة إبداعية" للتحديات التي تجابهه يستطيع الاحتفاظ والاستمرار بحضارته التي تخصه. وكذلك يعارض توينبي فكرة إنحلال الحضارة ثم سقوطها. فحسب تصوره إن السقوط يأتي أولاً، وذلك بعد فشل الحضارة في الإستجابه للتحديات المصيرية. ولكن بما أن الحضارة خلال نموها الزمني تكون قد أبدعت ثقافياً وإجتماعياً وإدارياً، لذا فإن بنيتها لا تسقط هكذا دفعة واحدة، بل تضمحل تدريجياً من الفترة التي " سقطت فيها الحضارة في الزمن الماضي".(3)
فعلى سبيل المثال، إن الحضارة اليونانية قد سقطت مع بدء حرب البلوبونيز، ثم مرت بمراحل إضمحلال طويلة وبطيئة إستغرقت سبعة قرون. أما الحضارة الإسلامية فيرى توينبي إن بداية سقوطها كانت في لحظة ما من فترات القرن الحادي عشر الميلادي، عندما وهنت الدولة العباسية وتوقفت الفتوحات العسكرية وإزدادت سيطرة الفرس والأتراك على أراضي الخلافة. وإن إضمحلال الحضارة الإسلامية، شأنها شأن بقية الحضارات السالفة، مستمرة بالتحلل التدريجي منذ ذلك الوقت ولحد يومنا هذا. ولذلك يرفض توينبي فكرة إن الحروب الصليبية والغزوات المغولية هي التي أدت إلى سقوط الحضارة الإسلامية، فهذه الأحداث أتت فيما بعد. وكذلك يعتقد توينبي إن الحضارة الغربية تمر بمرحلة إضمحلال في القرن العشرين، وسبب ذلك يعود لسقوطها في فترة ما من فترات العصر الحديث، وخصوصاً في القرن التاسع عشر.
إن الأقلية المبدعة التي تستجيب للتحدي وتقود الأغلبية في مرحلة النمو الحضاري، فإنها تتحول إلى قوة مسيطرة في مرحلة الإضمحلال؛ نظراً لتوقف إبداعها وعطائها للآخرين. ولقد ظهر هذا الوضع في الحضارة الإسلامية عندما تحول الفقهاء من أقلية مبدعة ساهمت في النمو والتطور من خلال إبداع هياكل تشريعية تواكب وطبيعة المجتمعات الإسلامية المتنوعة، إلى أقلية مسيطرة تفرض على مجتمعها النهج السلفي والإلتزام الحرفي لكل ما يتعلق بالدين والأحكام. وبما إنها توقفت عن الإجتهاد، الذي يعتبر "القوة الدافعة" لحيوية الشريعة، فإنها أصبحت ترتاب من كل تطور إجتماعي جديد، وتعده بدعة وضلالة. وكذلك بالنسبة للأقلية السياسية التي توقفت عن الإبداع تجاه المستجدات فتحولت إلى قوة بطش قاهرة. حيث تلتقي هاتين الأقليتين في هدف مشترك يتم فيه الإستخدام السياسي للدين في تزييف السلطة لوعي الناس وذلك بنقل مشاكلهم من الجانب الإجتماعي والسياسي إلى الجانب الديني الذي يدعو إلى الصبر والقبول بالقضاء والقدر.(4)
قضية فلسطين
دأب توينبي بالدفاع عن القضايا العربية العادلة، وحقوقهم المشروعة، وفي مقدمتها قضية فلسطين والاحتلال الصهيوني لها. وفي هذا الصدد ذهب توينبي مؤكداً على أن إقامة الكيان الصهيوني المصطنع في قضية اليهود القومية، ما هو إلا حافز رئيسي من حوافز الوحدة العربية، لأن "التحدي" الذي تواجه أي أمة يكون في نوعين: أما تحدياً غير ذي أهمية حقيقية عند الأمة ليشكل حافزاً كافياً في الرد على هذا التحدي، أو يكون تحدياً مؤثراً وفعالاً تستجيب له الأمة وفق قدراتها الإرادية، فتنتصر ويصبح عاملاً قوياً في بناء الوحدة. وإن وجود الكيان الصهيوني على أرض فلسطين هو تحدي إلى الأمة العربية التي لها المقدرة الإرادية والتاريخية للإستجابة لهذا التحدي ودحضه بشكل نهائي.
وعند تحليل توينبي إلى "النفسية اليهودية" وإلى حالة "الشتات" و فكرة "أرض الميعاد"، فإنه لا يرى فيها من مقومات الحضارة والأُسس التاريخية التي تقوم أصلاً على اللغة الحية والمُعبِرة عن التراث الواقعي، فضلاً عن وجود تاريخ حياتي موضوعي مشترك. وإن الكيان الصهيوني فاقد إلى مثل هذه المقومات الأساسية. ولذلك تجد إن الذين أغتصبوا أرض فلسطين العربية قد أختلفوا حتى في ممارسة الزراعة، فالذين يتحدثون اللغة العبرية من يهود العرب والقوقاز والقرم يختلفون كثيراً عن يهود غرب أوروبا وأمريكا.
وينص توينبي على أن حالة "الشتات" لليهود لا تكون نتيجة إلى تغرب عن أرض حقيقية لهم، بل تكونت ونمت بسبب عوامل إقتصادية بحتة. ويضرب في ذلك عدة أمثلة؛ فإذا أخذنا وضعنا الحالي فإن الشتات من اليهود الذين كوّنوا لهم قوة إقتصادية في الولايات المتحدة الأمريكية فإنهم يرفضون العيش في ما تسمى "أرض الميعاد"، ويفضلون فقط مد يد العون والمساعدة بكل الوسائل لهذا الكيان الإسرائيلي. فهذا الوضع هو من بين الأدلة التي تضاف إلى أدلة التاريخ بأن القضية التي تربطهم ليست هي مركزية نهائية لأرض ذات أسلاف وتاريخ حضاري مشترك لهؤلاء الشتات المنتشرين بين بقاع الأرض، وإنما تعني فقط تعاطفاً "نفسياً" يتغير بتغيير واقع الحال. علاوة على أن تجمع اليهود من أنحاء العالم في دولة تخصهم يعني إنتفاء عنصر التحدي في الشتات الذي عاشوه سابقاً. وبالتالي سيكون تجمعهم عنصر تحدي للعرب يستثيرهم ضد اليهود، وهذه الإستجابة للتحدي تعمل في توحيد جهودهم الإرادية.
ويطلق توينبي على هذا المد "النفسي"والمساعدة لهذا الكيان الفاشل بأنه بناء سطحي لا يرتفع إلى الأعلى. وعليه فإن التقدم الموجود في الكيان المزعوم يكون "أفقياً" وليس "عمودياً" وشتان بين الوضعين قياساً إلى هزات الزمن القادم، لأن الأمة العربية منذ البدء رفضت هذا الكيان المصطنع. ولذلك فإن إغتصاب فلسطين العربية وإقامة مجتمع متناقض غريب الأُسس يحيا على جدب روحي متحجر يكمن في فكرة "شعب الله المختار" والتي يرون فيها بديلاً عن تماسك التراث واللغة القومية ومقومات الحضارة ككل، فإنه إخفاق تجلى بشكل واضح عبر جميع محاولاتها في بناء وحدة فكرية تضم كافة الفنون والآداب قد بات بالفشل الذريع. ومن هنا يرى توينبي بأن زرع هذا المصل الصهيوني في الجسد العربي قد أثار نقمة العرب والذي لن يهدأ غضبهم إلا بإقتلاعه، لأنه تحد فعال إلى إرادة هذه الأمة المقتدرة.
تقييم
إذا إنطلق توينبي في رؤيته للحضارات القديمة التي تأسست في البلاد العربية من مبدأ علمي عام يتفق عليه علماء التاريخ، فإن تفاؤله في وحدة الأمة العربية لم يكن من منطلق عاطفي، أو إنه متحامل على الكيان الصهيوني، بل أن جل تنبؤاته وتوقعاته نابعة من خلال دراساته وتحليلاته المعمقة والمسهبة إلى وقائع وأحداث التاريخ. وبما أن التاريخ وفق مفهوم توينبي يرجع إلى حياة المجتمعات في أوجهها الداخلية والخارجية، لذا فإنه يرى بأن الكيان الصهيوني زائف مصيره الزوال حيث إنه لا يستمر أبداً مع مجرى أحداث التاريخ كأرض وحضارة وشعب أصيل. فالحضارة اليهودية متحجرة، وإن مزاعم "الشعب المختار" تشبه الزعم الذي إدعاه قدماء اليونانيين بأنهم أفضل الأمم من البرابرة وغيرهم. وكذلك ما يزعمه الأوروبيون (العالم الغربي) بأن حضارتهم أعظم من باقي الحضارات. وهذا كله وهمّ لا أساس حقيقي له.
إن موقف توينبي الواضح والصريح في هذا المجال التاريخي والحضاري، ربما قد ساهم بشكل مباشر أو غير مباشر في تبلور التيار الغربي الناقد للذات الغربية الذي ظهر في أواسط العقد السادس من القرن العشرين، وكان من أهم أقطابه الفيلسوف الفرنسي داك ديريدا (1930-2004).
وإذا توصل توينبي في دراسته للتاريخ بأن كل أمة من الأمم لها منقبتها التي تصير فيها، فإن مصير الأمة العربية هي الوحدة رغم كل ما يعترضها من معوقات. وإذا نظر توينبي إلى العرب في وحدتهم، فإنه نظر إلى "الين" و "اليانغ" في الحكمة الصينية على إنه تفسيراً إلى السلب والإيجاب والحركة والسكون في حضارات الأمم. بيت القصيد إن توينبي لم يرَ في ما تسمى بدولة إسرائيل أية حقيقة تذكر سوى الزيف والعنصرية وإستغلال مسألة العداء إلى السامية لكي يبتزوا الآخرين ليس إلا.
نعم قد نحسب على توينبي بعض المآخذ العملية والأكاديمية والفلسفية، بين دوره المعرفي الذي خدم مرحلة الإستعمار البريطاني وليس الإنساني، أو تأييده في بادىء الأمر للحركة الصهيونية والإستيطان في فلسطين، أو إضطرابه في بعض الأحكام تجاه الحضارة الإسلامية، لأن دراسته قامت على التراث الإستشراقي من ناحية، والإنتقائية من ناحية أخرى؛ إلا إن ذلك لا يمنع من القول بأن توينبي شأنه شأن أي مؤرخ أو فيلسوف يمر بمراحل حياتية وفكرية وشخصية تؤثر فيه. بيد أن الحسم والثبات في مواقفه المبدئية هي التي تعطي لنا صورته النهائية. وهكذا كان توينبي ثابتاً تجاه القضايا العربية التي أيدها سواء في فلسطين أو العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، أو حتى مواقفه الإنسانية تجاه البشر بشكل عام. ألم يقول عن نفسه: "إن ولائي الأسمى هو للبشر وليس لدولتي المحلية، وليس للمؤسسة التي تسيطر على هذه الدولة".
ومن الإنصاف أن نعذر توينبي الذي كان متفائلاً بالإرادة السياسية العربية في قيام الوحدة. فقد توفي توينبي عام 1975، وكانت رحلة أنور السادات إلى إسرائيل عام 1977، وما تبع ذلك من تراجع تدريجي للإرادة الرسمية عن طريق إعتراف بعض البلدان العربية بالكيان الصهيوني. أقول لو مازال توينبي حياً لغير بعض أفكارة، لاسيما وإنه توقع زوال إسرائيل عبر التحدي الذي تستجيبب له الإرادة العربية. حيث أن النظام الرسمي العربي الذي إختار ستراتيجية السلام مع الكيان الصهيوني، وتخلى عن الإستجابة في التحدي الحقيقي لمواجهة هذا الكيان الغاصب لأرض فلسطين العربية؛ فإن هذه الإستراتيجية البلهاء التي لم يجني منها النظام الرسمي غير الضعف والهوان والمزيد من التباعد عن الإرادة الجماهيرية. مما يجعلنا أن نعطي قراءة أخرى لنظرية توينبي، إذ يجب علينا أن نحصرها بالإرادة الجماهيرية وليست بمجموعة الحُكام ومن يسير في ركبهم من مثقفي السلطة الذين يفضلون ويقدمون مصالحهم السلطوية والفئوية والشخصية على مصالح الأمة شعباً ودينياً وتاريخاً.
المصادر
1- A. Toynbee: ‘Study of History’، The Breakdowns of Civilization، O. U. P.، 1934،Vol. I، p. 28.
2- W. Durant: ‘The Story of Civilization’، The Life of Greece، Simon & Schuster،New York، 1939، Vol. II، p. 35.
3- ‘Study of History’، The Breakdowns of Civilization، 1939، Vol. IV، p. 3.
4- Ibid.، Vol. V، p. 37 ff. p. 1939.
|
شبكة البصرة
|
الاحد 19 رمضان 1431 / 29 آب 2010
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق