الطعن في الصحابة هو طعن في الدين بصورة غير مباشرة حيث انهم من قام بالجهاد وفتح الدول ونشر الاسلام
وهم من نقلوا القرآن فاذا كانوا كما يرى يقول الشيعة عنهم فكيف نثق بقرآن نقله منافقين كفار
الطعن في الصحابة طعن في النبي كيف يكون المقربيين اليه خونة ويصاحبهم ويضع ثقته فيهم ويزكيهم القرآن
==========
أولا: أدلة أهل السنة والجماعة على عدالة الصحابة من القرآن الكريم
من المسلم به لدى المسلمين أن الله سبحانه وتعالى أرسل رسوله ونبيه محمداً صلى الله عليه وسلم وجعله خاتم الأنبياء، ومن ثم فقد أنزل عليه القرآن الكريم الذي يعد أساساً لدينه، ومصدراً لتعاليمه ودعوته، ووسيلة دائمة لربط الخلق بخالقهم وتوثيق علاقته بهم، وسبباً قوياً لتحقيق الربانية الصادقة في أتباعه.
وقد تكفل الله سبحانه وتعالى بحفظ هذا الكتاب: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر: 9]، وصانه من كل تحريف أو تغيير؛ بل تولى الله تبارك وتعالى نشره وإذاعته في العالم، وجعله ميسراً جديراً بالفهم: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ [القمر: 17]، وهيأ الله سبحانه وتعالى الجو المناسب والفرص المواتية لقراءته وكثرة تلاوته وحفظه واستظهاره واستحضاره وبذلك كان بعيداً كل البعد عن كل تصرف بشري من حذف، أو زيادة، أو تحريف، أو تبديل.
وإذا كانت هذه المسألة من المسلمات عندنا فإنه ثمة مسلمة أخرى لا تقبل الجدل وهي: أن القرآن الكريم الذي أنزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم إنما نزل ليخاطب بداءة تلك الأمة التي عاصرت الرسول الكريم في أمره ونهيه ومدحه وقدحه وغير ذلك. وإن كانت هذه الخطابات تتعدى إلى الناس أجمعين، حيث إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما يقول الأصوليون. إلا أن المخاطب الأول هم القوم الذين عاشوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل الوحي بين ظهرانيهم مؤمنهم وكافرهم ومنافقهم، وهذا ما فهمه الصحابة الكرام رضي الله عنهم حينما كانوا يقرؤون القرآن ويتدبرون آياته ويتفهمون معانيه.
ومن خلال هاتين المسلمتين: حفظ القرآن، وصيانته، وأن خطابه موجه ابتداء إلى الأمة المعاصرة للرسول صلى الله عليه وسلم فإننا نستطيع أن نحمل بل نجزم أن كل مدح وثناء، وعد لصفات الخير، وذكر لمحاسن الرجال، إنما عني به ربنا تبارك وتعالى أولئك الرجال الذين آمنوا برسوله وعزروه ونصروه وهم الصحب الكرام الذين يمثلون الجيل الأول الذي تربى في كنف القرآن وهدي السنة المطهرة.
ومقابل ذلك فإن كل قدح وذم وعد للمساوئ وذكر لصفات السوء إنما أراد به تبارك وتعالى أولئك القوم الذين وقفوا بوجه دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وحاربوه وآذوه، أو أولئك المنافقين الذين أبطنوا الكفر وأظهروا الإيمان ففضح الله سرائرهم وكشف نواياهم.
وعليه إن عدالة الصحابة في الكتاب لا تمثلها آيات محددة مخصوصة، إنما القرآن كله شاهد على عدالتهم واستقامتهم من حيث إنهم الأمة التي حملته ورفعت لواءه وجاهدت من أجله؛ فكل الآيات التي أثنت بالخير أو بينت طبيعة المجتمع المسلم وسبل بنائه وتكوينه أو أظهرت صفات المجاهدين وما أعد الله لهم أو بينت سمات المتقين ومآلهم، أو أبرزت محاسن المفلحين الفائزين، يمكننا أن نعدها بجملته أدلة قرآنية على تعديل الصحابة الكرام رضي الله عنهم.
ومع ذلك فإنني سأورد بعض هذه الآيات التي صرحت تصريحاً يفهمه الجميع دون شك أو ريب؛ أثنى الله فيها وعدل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم مع بيان المعنى المراد منها ليتسنى من خلاله فهم وجه الدلالة وبيانه.
فإن قيل هذه الآيات دلت على فضلهم دون التصريح بعدالتهم؟ فالجواب أن يقال: أن من أثنى الله سبحانه وتعالى عليه بهذا الثناء كيف لا يكون عدلاً؟
فإذا كان التعديل يثبت بقول اثنين من الناس، فكيف لا تثبت العدالة بهذا الثناء العظيم من الله سبحانه وتعالى، ومن رسوله صلى الله عليه وسلم (1) ؟
1- قال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة: 143].
في الآية بيان أفضلية هذه الأمة، وأن الله جعلها أمة وسطاً، والوسط هو العدل (2) ؛ وفي التنزيل قَالَ أَوْسَطُهُمْ [القلم: 28] أي أعدلهم وخيرهم (3) . وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا قال: (عدلاً) (4) . وقال زهير (5) :
هم وسط يرضى الأنام بحكمهم
إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم
ووجه الاستدلال بالآية: أنه أخبر أنه جعلهم أمة خياراً عدولاً فهم خير الأمم وأعدلها في أقوالهم، وأعمالهم، وإرادتهم، ونياتهم؛ وبهذا استحقوا أن يكونوا شهداء للرسل على أممهم يوم القيامة والله تعالى يقبل شهادتهم عليهم، فهو شهداؤه، ولهذا نوه بهم ورفع ذكرهم وأثنى عليهم، لأنه تعالى لما اتخذهم شهداء فإنه أعلم خلقه من الملائكة وغيرهم بحال هؤلاء الشهداء، والشاهد المقبول عند الله الذي يشهد بعلم وصدق فيخبر بالحق مستنداً إلى علمه به.
2- قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [البقرة: 218].
تفيد هذه الآية: إن الذين صدقوا بالله وبرسوله وبما جاء به هجروا مساكنة المشركين في أمصارهم ومجاورتهم في ديارهم فاستجابوا لنداء الهجرة وتحولوا عنهم وعن جوارهم فارين بدينهم وإيمانهم كراهة منهم النزول بين أظهر المشركين وفي سلطانهم ومن ثم حاربوهم في دين الله ليدخلوهم فيه وفيما يرضي الله، وقد بذلوا الغالي والنفيس، والأرواح والمهج؛ من أجل ذلك، أولئك يرجون رحمة الله ويطمعون في فضله.
وهذا الوصف بلا شك (ينطبق انطباقاً كاملاً على المهاجرين المجاهدين من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم آمنوا بالله ورسوله إيماناً راسخاً، وتحملوا الأذى العظيم في سبيل ذلك الإيمان من مشركي مكة ثم أنهم استجابوا لنداء نبيهم بالهجرة من مكة إلى يثرب وتركوا أهليهم وأموالهم ومصالح دنياهم، مع كل ذلك فإخلاصهم العميق لربهم ونبيهم ودينهم لم يدفعهم إلى الاتكال على ما صنعوا، وإنما كانوا يرجون رحمة ربهم أذلاء خاشعين، يحاولون بكل الطرق نصرة دينهم، وتقديم أموالهم ودمائهم في سبيل الله، علهم ينالوا الفوز بالجنة التي وعدهم الله تعالى إياها) (6) .
قال قتادة: (أثنى الله على أصحاب نبيه أحسن الثناء فقال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ[البقرة: 218] هؤلاء خيار هذه الأمة ثم جعلهم الله أهل رجاء كما تسمعون وأنه من رجا طلب، ومن خاف هرب) (7) .
والناظر في سبب نزول هذه الآية الكريمة لا يمكن له البتة أن يصرف المراد منها إلا إلى المهاجرين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد ثبت عند المفسرين وأهل السير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أرسل سرية عدتها ثمانية رجال كلهم من المهاجرين يرأسها عبد الله بن جحش وأعطاها كتاباً مختوماً لا يفضه إلا بعد أن يسير يومين ثم ينظر فيه، فسار عبد الله يومين ثم فتح الكتاب فإذا فيه: (إذا نظرت كتابي هذا فامض حتى تنزل نخلة فترصد بها قريشاً وتعلم لنا من أخبارهم)، فسار القوم حتى وصلوا إلى نخلة فمرت بهم عير قرشية تريد مكة فيها عمرو بن الحضرمي وآخرون فأجمع المسلمون أمرهم على أن يحملوا عليهم ويأخذوا ما معهم، فحملوا عليهم في آخر يوم من رجب فقتلوا عمرو بن الحضرمي وأسروا رجلين واستاقوا العير ورجعوا به إلى المدينة، فلما قدموها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام)) فوقف العير والأسيرين، وأبى أن يأخذ من ذلك شيئاً؛ فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، سقط في أيدي القوم، وظنوا أنهم قد هلكوا، وعنفهم إخوانهم من المسلمين، وقالت قريش: قد استعمل محمد وأصحابه الشهر الحرام، وسفكوا فيه الدم، وأخذوا فيه الأموال، وأسروا فيه الرجال، فلما أكثر الناس في ذلك أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ [البقرة: 217]. فلما نزل القرآن بهذا وفرج الله عن المسلمين ما كانوا فيه من الخوف وتجلى عن عبد الله بن جحش وأصحابه ما كانوا فيه طمعوا في الأجر – وقد كان المسلمون يقولون لهم إن لم يكن عليكم في ذلك وزر، فليس لكم فيه أجر – فقالوا: يا رسول الله أنطمع أن تكون لنا غزوة نعطى فيها أجر المجاهدين؟ فأنزل الله جل جلاله فيهم: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ الآية (8) .
مما تقدم يتبين لنا وجه الدلالة من الآية: وهو أن الله عز وجل شهد للمهاجرين والمجاهدين من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدق نياتهم، وطهارة بواطنهم، وأنهم كانوا يرجون رحمة الله لأفعالهم وهذا دليل إخلاصهم، ومن شهد له الله سبحانه وتعالى بذلك، وأثنى عليه قلنا بعدالته.
3- قال تعالى: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ [آل عمران: 110].
تثبت الآية الكريمة صفة الأفضلية والخيرية للأمة المحمدية على العموم، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخصوص، وإنما قلنا بشمول الآية أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم -بل أنهم أول من عني بها- لما يأتي:
1- إن الصحابة هم الذين شهدوا نزول الوحي، لذلك فإن الخطاب يقع لهم مشافهة (9) .
2- أن الآية تتحدث عن خير الأمم، والرسول صلى الله عليه وسلم قد قال: ((خير القرون قرني)) (10) ؛ وقرن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هم أصحابه.
3- إذا عنت الآية أمة محمد صلى الله عليه وسلم على العموم، فإن الصحابة داخلون في ذلك العموم حيث إنهم جزء من كل.
4- أنهم أولى بالدخول من غيرهم إذ الأوصاف التي وصفوا بها لم يتصف بها على الكمال إلا هم، فمطابقة الوصف للاتصاف شاهد على أنهم أحق من غيرهم بالمدح.
لذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير الآية: هم الذين هاجروا من مكة إلى المدينة وشهدوا بدراً والحديبية (11) . وقال الضحاك: هي في أصحاب رسول الله خاصة (12) . وقال الزجاج: هذا الخطاب أصله أنه خوطب به أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعم سائر أمة محمد صلى الله عليه وسلم (13) .
من ذلك يتبين وجه الدلالة من الآية: وهو أن الله سبحانه وتعالى أثبت الخيرية للصحابة الكرام رضي الله عنهم، ومن كان خير الناس وأفضلهم لابد أن يكون أعدلهم وأوثقهم.
4- قال تعالى: الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ [آل عمران: 172-174].
تأتي هذه الآيات لتصف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قمة صبرهم وجلدهم حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم دعاهم من اليوم التالي لأحد لمواجهة أبي سفيان وأصحابه الذين هموا بالعودة لقتال المسلمين.
وقد كان نداء الرسول صلى الله عليه وسلم مخصصاً لمن كان قد اشترك معه في القتال قبل يوم إشعاراً لقريش بأنها لم تنل من المسلمين منالاً، وأنه بقي له منهم من يتعقبها ويكر عليها.
ولم يتخلف من المسلمين أحد وما منهم إلا من أصابه القرح أو نزل به الضر أو أثخنته الجراح (14) .
قال الزمخشري: (ومن في قوله تعالى – للذين أحسنوا منهم - للتبيين مثلها في قوله تعالى -: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً [الفتح: 29] - لأن الذين استجابوا لله والرسول قد أحسنوا كلهم واتقوا لا بعضهم) (15) .
ووجه الدلالة من الآية: هو أن الله سبحانه وتعالى منح المستجيبين للرسول صلى الله عليه وسلم بعد غزوة أحد أجراً عظيماً ووصفهم بأنهم يتبعون رضوان الله، وهذا دليل صدقهم وإخلاصهم، ومن كان هذا حاله وجب تعديله.
5- قال تعالى: فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الأعراف: 157].
المعنى: أي الذين صدقوا بالنبي الأمي، وأقروا بنبوته وعزروه وعظموه وحموه، وأعانوه على أعداء الله وأعدائه بجهادهم ونصب الحرب لهم واتبعوا النور الذي أنزل معه وهو القرآن والوحي أولئك هم المفلحون في الدنيا والآخرة، المدركون ما طلبوا (16) .
ووجه الاستدلال: إن الله تعالى أثنى على الصحابة الكرام بنصرتهم لنبيه وتوقيرهم له ولاتباعهم القرآن والوحي فكانوا بذلك من المفلحين.
6- قال تعالى: وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال: 62-63].
المعنى: فإن حسبك الله، أي: كافيك الله الذي يتولى رعايتك وحياطتك، فهو المتكفل بإظهار دينك على الأديان، ومتضمن أن يجعل كلمته العليا، وكلمة أعدائه السفلى (17) .
والتأييد من الله سبحانه وتعالى على قسمين:
أحدهما: ما يحصل من غير واسطة أسباب معلومة معتادة.
والثاني: ما يحصل بواسطة أسباب معلومة معتادة.
فالأول: هو المراد من قوله: أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ؛ والثاني: هو المراد من قوله: وَبِالْمُؤْمِنِينَ (18) ؛ فالله تبارك وتعالى هو الذي أيدك بنصره أول مرة، وأيدك بالمؤمنين الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وجعل منهم قوة موحدة، بعد أن كانت قلوبهم شتى، وعداواتهم جاهزة وبأسهم بينهم شديد، سواء كان المقصود هم الأوس والخزرج – وهم الأنصار – فقد كان بينهم في الجاهلية من الثارات والدماء والمنازعات ما يستحيل معه الالتئام فضلاً عن هذا الإخاء الذي لم تعرف له الأرض نظيراً ولا شبيهاً.. أم كان المقصود المهاجرين، وهم كانوا كالأنصار في الجاهلية.. أو كان الجميع مقصودين، فقد كانت هذه هي حالة عرب الجزيرة جميعاً.
يقول محمد جواد مغنية: (ليس من شك أن الله سبحانه هو الذي ألف بين قلوب الصحابة بعد أن كانت عصية على التأليف بخاصة بين الأوس والخزرج الذين امتدت الحروب بينهم 120 سنة.. وأيضاً ليس من شك أن الله سبحانه يجري الأمور على سننها، والمسببات على أسبابها؛ وسبب التأليف بين قلوب أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم هو الإسلام وإيمانهم به نظرياً وعملياً، والإسلام من عند الله، فصحت النسبة إليه تعالى) (19) .
ووجه الاستدلال من الآية: إن الله تعالى جعل أحد أسباب تأييد الرسول صلى الله عليه وسلم الصحابة الكرام وقد ألف بين قلوبهم وجمع كلمتهم ووحد صفهم ومن كانت هذه صفته فلابد أن يكون عدلاً خياراً.
7- قال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الأنفال: 74-75].
المعنى: قسم الله تعالى المؤمنين في هاتين الآيتين إلى قسمين:
القسم الأول: المهاجرون الأولون، وقد أثبت لهم تعالى أربع صفات تدل على علو شأنهم ورفعة مكانتهم (20) .
أولها: أنهم آمنوا بالله وملائكة وكتبه ورسله واليوم الآخر وقبلوا جميع التكاليف التي بلغها النبي صلى الله عليه وسلم إليهم.
وثانيها: أنهم فارقوا الأوطان، وتركوا الأقارب والجيران في طلب مرضاة الله.
وثالثها: أنهم جاهدوا بأموالهم وأنفسهم، فأما جهادهم بالمال فلأنهم لما فارقوا الأوطان ضاعت دورهم ومساكنهم وضياعهم، كما أنهم احتاجوا إلى الإنفاق على تلك الغزوات، وأما المجاهدة بالنفس، فلما أقدموا عليه من مباشرة القتال واقتحام المعارك، والخوض في المهالك، وذلك يدل على أنهم أزالوا أطماعهم عن الحياة وبذلوا أنفسهم في سبيل الله.
ورابع هذه الصفات: أنهم كانوا أول الناس إقداماً على هذه الأفعال والتزاماً لهذه الأحوال؛ ولهذه المسابقة أثر عظيم في تقوية الدين. وإنما كان السبق موجباً للفضيلة، لأن إقدامهم على هذه الأفعال يوجب اقتداء غيرهم بهم، فيصير ذلك سبباً للقوة أو الكمال.
القسم الثاني: الأنصار، ونعتهم سبحانه بأنهم آووا النبي صلى الله عليه وسلم ومن هاجر معه في مساكنهم، وآثروهم على أنفسهم وأولادهم، وبأنهم سالموا من سالمهم، وعادوا من عاداهم، ولهذا شرفهم الله بهذا الوصف، حتى أصبح اسم الأنصار علماً عليهم مدى الدهر (21) .
ثم إن الله سبحانه وتعالى بين أن هذين القسمين (هم المؤمنون حقاً) وقال هم (وهو ضمير الفصل بين المبتدأ والخبر، يفيد قصر المبتدأ على الخبر، أي كأنهم هم وحدهم المؤمنون لا غيرهم، وهذا هو من باب المدح العظيم، أولئك جميعاً لهم مغفرة من الله ورزق كريم في الدنيا والآخرة؛ وقدم الجار والمجرور لمزيد اختصاصهم بهذه المنزلة العظيمة، أي كأن المغفرة والرحمة وجدت لهم، فهم يستحقونها على الوجه الأكمل) (22) .
ثم ألحق تبارك وتعالى بهذين القسمين قسماً ثالثاً وهم المؤمنون المهاجرون المجاهدون الذين جاؤوا من بعدهم وساروا على نهجهم، وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ [الأنفال: 75].
مما تقدم يتبين لنا وجه الاستدلال من الآية: وهو أن الله سبحانه وتعالى أثنى على المهاجرين والأنصار، وصدق عليهم وصف الإيمان، ثم مدح بقية الصحابة ممن هاجر وجاهد، فيكون هذا الثناء العاطر والمدح الجزيل والشهادة الإلهية شاملة لجميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا ينال هذا الثناء والمدح إلا من كان عدلاً.
8- قال تعالى: لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أَعَدَّ اللّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ التوبة: 88-89[.]
ووجه الاستدلال: هو أن الله سبحانه وتعالى يثني على الصحابة بمعاونتهم لرسوله صلى الله عليه وسلم ونصرتهم لدينه ببذل الأموال والأنفس، وأخبر عن نيلهم الخيرات وحسن العاقبة والفوز الجليل الأبدي (23) . وهذا يستلزم عدالتهم رضي الله عنهم.
9- قال تعالى: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رضي الله عنهم وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة: 100].
في الآية ثناء عظيم ومدح كامل للمهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان؛ واختلف المفسرون في الهجرة والنصرة وعلى هذا فالمدح لا يتناول إلا قدماء الصحابة، لأن كلمة (من) تفيد التبعيض، ومنهم من قال: بل يتناول جميع الصحابة، لأن جملة الصحابة موصوفون بكونهم سابقين أولين بالنسبة إلى سائر المسلمين، وكلمة (من) في قوله: (المهاجرين والأنصار) ليست للتبعيض بل للتبيين، أي: والسابقون الأولون الموصوفون بوصف كونهم مهاجرين وأنصار كما في قوله تعالى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ [الحج: 30].
روي عن حميد بن زياد أنه قال: قلت يوماً لمحمد بن كعب القرظي ألا تخبرني عن أصحاب رسول الله فيما كان بينهم –وأردت الفتن– فقال لي: إن الله قد غفر لجميعهم وأوجب لهم الجنة في كتابه، محسنهم ومسيئهم؛ قلت له: وفي أي موضع أوجب لهم الجنة؟ قال: سبحان الله! ألا تقرأ قوله تعالى: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَإلى آخر الآية؟ فأوجب الله لجميع الصحابة الجنة والرضوان، وشرط على التابعين شرطاً. قلت: وما ذلك الشرط؟ قال: اشترط عليهم أن يتبعوهم بإحسان في العمل، وهو أن يقتدوا بهم في أعمالهم الحسنة، ولا يقتدوا بهم في غير ذلك، أو يقال: المراد أن يتبعوهم بإحسان في القول، وهو أن لا يقولوا فيهم سوء، وأن لا يوجهوا الطعن فيما أقدموا عليه. قال حميد بن زياد: فكأني ما قرأت هذه الآية قط (24) .
ووجه الاستدلال: هو أن الله عز وجل بين أنه رضي عن المهاجرين والأنصار ومن تبعهم بإحسان وكان جزاء ذلك الرضى الجنة والفوز العظيم في الآخرة وهذا مستلزم لعدالتهم رضي الله عنهم.
10- قال تعالى: لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [التوبة: 117].
وفي هذه الآية الكريمة مدح لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين غزوا معه غزوة تبوك واتبعوه بلا تردد في ساعة العسرة، وكان عددهم يزيد على الثلاثين ألفاً (25) .
ولهذه الغزوة خصائص تميزها عن سائر الغزوات، منها ذلك الجهد المبذول والعسرة العظيمة التي مر بها أفراد الجيش الإسلامي والتي تكمن في ما يأتي:
أولاً: بعد المسافة بين المدينة وتبوك وهي تقدر بـ (778) كم حسب الطريق المعبدة في الوقت الحاضر (26) .
ثانياً: شدة الحر: قال عمر: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك في قيظ شديد. وقال قتادة: خرجوا في لهبان الحر (27) .
ثالثاً: عسرة الظهر: فكان العشرة من جيش المسلمين يتعقبون بعيراً واحداً، يركب الرجل ساعة ثم ينزل، فيركب صاحبه (28) .
رابعاً: عسرة الماء: فقد أصابهم العطش الشديد فكانوا ينحرون البعير على قلة الراحلة، ويعتصرون الفرث الذي في كرشه ويبلون به ألسنتهم (29) .
خامساً: عسرة الزاد: فكان زادهم الشعير المسوس، والتمر المدود، وكان الواحد منهم يلوك التمر، حتى إذا وجد طعمها أعطاها صاحبه (30) .
سادساً: أنهم أمروا بالنفير حين جني التمر وطيب الثمار والناس يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم فشق عليهم المخرج (31) .
ووجه دلالة الآية على عدالة الصحابة رضي الله عنهم وبيان فضلهم فيما يأتي:
أولاً: أنه تعالى ابتدأ بذكر التوبة (لقد تاب) وبعد أن بين حالة الصحابة أردف مرة أخرى ذكر التوبة والمقصود من ذلك تعظيم شأنهم والمبالغة في تأكيد ذلك (32) .
ثانياً: أن الآية فيها إخبار بصحة بواطنهم وطهارتهم، لأنه تعالى لا يخبر بأنه قد تاب عليهم إلا وقد رضي عنهم، ورضي أفعالهم؛ وهذا نص في رد قول الطاعنين عليهم والناسبين بهم إلى غير ما نسبهم الله إليه من الطهارة ووصفهم به من صحة الضمائر وصلاح السرائر (33) .
ثالثاً: قد يراد من توبة الله على الإنسان رحمته تعالى ورضوانه مع القرينة الدالة على ذلك، وهذا المعنى هو المراد بتوبته تعالى على النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته رضي الله عنهم فهي طبيعة الحال، ونعني بها عصمة النبي صلى الله عليه وسلم عن الذنوب، وطاعة من تابعه في ساعة العسرة (34) .
11- قال تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا [الفتح: 18].
والمؤمنون المقصودون هنا، الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة في الحديبية من المهاجرين والأنصار؛ فقد أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان رضي الله عنه مبعوثاً من عنده إلى قريش ليتفاوض معهم بشأن عمرة النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه، فاحتبس عثمان في مكة وطال حبسه حتى شاع بين المسلمين أن عثمان قتل (35) ؛ فقال عليه الصلاة والسلام: لا نبرح حتى نناجز القوم ثم دعا أصحابه إلى البيعة تحت شجرة سمرة فبايعوه جميعاً سوى الجد بن قيس اختبأ تحت بطن بعيره (36) ؛ وكان عددهم بين الألف وأربعمائة والألف وخمسمائة.
قال جابر: (كنا يوم الحديبية ألفاً وأربعمائة فبايعناه، وعمر آخذ بيده الشجرة) (37). وفي رواية (كنا ألفاً وخمسمائة) (38) وكانت البيعة على مناجزة قريش الحرب وأن لا يفروا (39) أو يموتوا دون ذلك.
والآية قد دلت على عدالة الصحابة من وجوه.
الأول: قوله تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ ومن المعلوم بداهة أن من رضي الله عنه لا يمكن موته على الكفر، لأن العبرة في حصول الرضى إنما هو بالموت على الإسلام، ولا يمكن أن يقع الرضى منه تعالى إلا على من علم موته على الإسلام؛ وأما من علم موته على الكفر والردة فلا يمكن أن يخبر الله تعالى بأنه قد رضي عنه، فبرئوا بذلك عن وصمة الردة (40) .
ولأن قوله تعالى: رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ يتناول جميع الأحوال والأوقات ولا يمكن أن يقال أنه خاص بوقت دون آخر أو بحال دون غيره؛ وقد تبين أن الله تعالى وصفهم بكونهم سابقين في الهجرة والنصرة ثم لما وصفهم بهذا الوصف أتى لهم بما يوجب التعظيم وهو قوله: رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُمعلل بكونهم سابقين في الهجرة والنصرة، والعلة ما دامت موجودة، وجب ترتيب المعلول عليها، وكونهم سابقين في الهجرة والنصرة وصف دائم في جميع مدة وجودهم، فوجب أن يكون ذلك الرضوان حاصلاً في جميع مدة وجودهم.
ولأنه تعالى قال: وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ، وذلك يقتضي أنه تعالى قد أعد تلك الجنات وعينها لهم، وذلك يقتضي بقاءهم على تلك الصفة التي لأجلها صاروا مستحقين لتلك الجنات، وليس لأحد أن يقول: المراد أنه تعالى أعدها لهم لو بقوا على صفة الإيمان، لأنا نقول: هذا زيادة إضمار وهو خلاف الظاهر، وأيضاً فعلى ذلك التقدير: لا يبقى بين هؤلاء المذكورين في هذا المدح، وبين سائر الفرق فرق، لأنه تعالى قال: وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُولفرعون وهامان وأبي جهل لو صاروا مؤمنين، ومعلوم أنه تعالى إنما ذكر هذا الكلام في معرض المدح العظيم والثناء الكامل، وحمله على ما ذكروه يوجب بطلان هذا المدح والثناء، فسقط هذا السؤال وظهر أن هذه الآية دالة على فضل الصحابة الكرام (41) .
الثاني: أنه تعالى قد أخبر عن صدق بواطن الصحابة وسلامة ضمائرهم بقوله: فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ، أي من الصدق والوفاء والإخلاص والسمع والطاعة فبرئوا بذلك من وصمة النفاق.
الثالث: أنه تعالى كافأهم على صدقهم جائزة هي إنزال السكينة عليهم ومن ثم أثابهم فتحاً قريباً جزاء من عنده عطاء حساباً.
12- قال تعالى: مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الفتح: 29].
وفي هذه الآية يأتي الثناء على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الثناء على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وإثبات رسالته؛ وقد رسم لهم القرآن الكريم بأسلوبه المعجز صورة رائعة (مؤلفة من عدة لقطات لأبرز حالات هذه الجماعة المختارة، حالاتها الظاهرة والمضمرة، فلقطة تصور حالتهم مع الكفار ومع أنفسهم:أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ، ولقطة تصور هيأتهم في عبادتهم: تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا، ولقطة تصور قلوبهم وما يشغلهم ويجيش بها: يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا، ولقطة تصور أثر العبادة والتوجه إلى الله في سمتهم وسماتهم: سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ... ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وهذه صفتهم فيها، ولقطات متتابعة تصور كمالهم في الإنجيل: كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) (42) .
هكذا يصف القرآن الصحابة ذلك الجيل المثالي الذي حقق مستوى سامياً في الارتقاء الروحي والخلقي، فصقلته العبادة وكساه الركوع والسجود نوراً وبهاء، وحددت العقيدة مفاهيمه وقيمه وولاءه وبراءه، يوالون بعضهم ويحادون من سواهم، فكان أحدهم شديداً عنيفاً على الكفار رحيماً براً بالأخيار، شديداً في وجه الأعداء، ضحوكاً بشوشاً في وجه أخيه المؤمن.
ومن تصفح سير الصحابة وتراحمهم وجد على ذلك الوصف دليلاً صادقاً فلم يثبت عنهم مفارقة الأهل والأوطان فحسب، بل ثبت أن بعضهم قتل ابنه أو أباه من أجل دينه وعقيدته على ما كان عليه من الألفة والمودة والمحبة لإخوانه المسلمين؛ ذلك الجيل الذي خلدته كتب السماء فوصفته التوراة والإنجيل والقرآن بهذا الوصف الرائع، ممثلة امتداد قيمه وانتشار عقيدته وكثرة أنصاره وقوة وجوده واستمساك أمره بالزرع الذي أخرج شطأه وتفرعت أغصانه فقوى الزرع ذلك الشطأ وشده فصار غليظاً بعد ما كان دقيقاً واستوى على ساقه وشب وطال حتى أعجب الزراع وسرهم بقوته وكثافته وغلظه وحسن منظره وطول قامته، فسر أهله الذين غرسوه أغاظ الأعداء.
ومن أهم ما يجب أن يلتفت إليه في هذه الآية هو أنه تعالى أخبر بصدق الصحابة وصحة أعمالهم وإخلاص قلوبهم ونقائها وطهارة بواطنهم وصفائها وهم إنما يعملون الطاعات ويؤدون العبادات رجاء نيل رضاه وفضله فقال: يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا، وذلك لتميز ركوعهم وسجودهم عن ركوع الكفار وسجودهم، وركوع المرائي وسجوده فإنه لا يبتغي به ذلك.
ومن هذه الآية انتزع الإمام مالك رحمه الله تعالى في رواية عنه تكفير من أبغض الصحابة واغتاظ منهم، فقد ذكر في مجلسه أن رجلاً ينتقص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ مالك: مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ الآية حتى بلغ: لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ، فقال: من أصبح من الناس في قلبه غيظ على أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أصابته هذه الآية (43) .
ومن الجدير بالذكر أن (من) في قوله تعالى: وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ليست مبعضة لقوم من الصحابة دون قوم (ولكنها عامة مجنسة، مثل قوله تعالى: الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ [الحج: 30]. لا يقصد للتبعيض لكنه يذهب إلى الجنس، أي فاجتنبوا الرجس من الأوثان، إذ كان الرجس يقع من أجناس شتى، منها الزنى والربا وشرب الخمر والكذب فادخل (من) يفيد بها الجنس وكذلك منهم، أي من هذا الجنس، يعني جنس الصحابة؛ ويقال: أنفق نفقتك من الدراهم، أي اجعل نفقتك هذا الجنس) (44) .
قال النحاس في (إعراب القرآن): (تكون – منهم – لبيان الجنس أولى لأنها إذا جعلت للتبعيض كان معنى آمنوا: ثبتوا، وذلك مجاز ولا يحمل الشيء على المجاز ومعناه صحيح على الحقيقة) (45) ؛ وقال العكبري: (منهم – لبيان الجنس تفضيلاً لهم بتخصيصهم بالذكر) (46) .
ومن بيان معنى الآية الكريمة يظهر لنا وجه الاستدلال بها على عدالة الصحابة رضي الله عنهم وهو أن الله جل جلاله مدح الصحابة بأنهم رحماء بينهم، أشداء على أعدائهم، وقد أخبر عن صدق بواطنهم وإخلاصهم، وهذا كله يستلزم عدالتهم رضي الله عنهم.
13- قال تعالى: لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [الحديد: 10].
في هذه الآية بيان لتفاوت درجات المنفقين والمجاهدين حسب تفاوت أحوالهم في الإنفاق والقتال والسبق بعد بيان أن لهم أجراً كبيراً على الإطلاق حثاً لهم على تحري الأفضل، فمن قاتل من الصحابة أو أنفق قبل فتح مكة أعلى درجة وأعظم شأناً من الذي قاتل وأنفق بعد الفتح ومع هذا فإن كلا من الفريقين قد وعدهم الله الحسنى والدرجات العليا في الجنة.
وقد قال تعالى في القرآن في آية أخرى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ [الأنبياء: 101] أي عن النار، فوجب أن يقال إن الله كتب لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الذين قاتلوا معه ونصروه والذين أيدوه وعزروه وأعانوه بالمال والأنفس الجنة إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ [آل عمران: 9].
ووجه الاستدلال: هو أنه من كتب الله له الجنة وأبعده عن النار لابد أن يكون عدلاً مستقيماً.
14- قال تعالى: لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر: 8-9].
إن أهم ما شهد الله سبحانه وتعالى به لأولئك المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم ابتغاء فضل الله ورضوانه، ونصر الله ورسوله، الصدق؛ فقال: أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ أي مستمرون على الصدق وهذا دليل قاطع أن المهاجرين جميعاً كانوا صادقين، وماتوا صادقين بشهادة ربهم، وأنهم عدول في كل ما ينقلونه عن نبيهم عليه الصلاة والسلام قرآناً وسنة؛ وأما الأنصار فقد مدحهم مدحاً عظيماً، ووصفهم بأنهم يحبون من هاجر إليهم، لأنهم ساكنوهم وأشركوهم في أموالهم، وأسبغوا عليهم من حبهم، ولم يجدوا في أنفسهم من الحسد على ما خصهم النبي صلى الله عليه وسلم من فيء وكانوا يقدمون المهاجرين على أنفسهم في كل ما يتعلق بالدنيا من الحظوظ، مع فقرهم وحاجتهم، ولكونهم كذلك كانوا من الفائزين الناجحين، واستحقوا رضوان الله سبحانه وتعالى (47) .
ثم يبين الله تبارك وتعالى واجب من يأتي بعد الصحابة تجاههم فيقول: وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [الحشر: 10].
فواجب من جاء من بعدهم هو الدعاء لهم وتصفية القلوب من بغض أحد منهم؛ وقد قالت عائشة رضي الله عنها: أمروا أن يستغفروا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسبوهم ثم قرأت هذه الآية (48) .
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سمع رجلاً وهو يتناول بعض المهاجرين، فقرأ عليه لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الآية، ثم قال: هؤلاء المهاجرين فمنهم أنت؟ قال: لا؛ ثم قرأ عليه: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ الآية، ثم قال: هؤلاء الأنصار أفأنت منهم. قال: لا. ثم قرأ عليه: وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ الآية، ثم قال: أفمن هؤلاء أنت؟ قال: أرجو. قال: لا ليس من هؤلاء، من يسب هؤلاء. وفي رواية: لا والله ما يكون منهم من يتناولهم وكان في قلبه الغل عليهم (49) .
وقال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه الناس على ثلاث مراتب قد مضت منزلتان وبقيت منزلة، فأحسن ما أنتم كائنون عليه أن تكونوا بهذه التي بقيت، ثم قرأ: لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ [الحشر: 8]؛ ثم قال: هؤلاء المهاجرين وهذه منزلة وقد مضت؛ ثم قرأ: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ، ثم قال: هؤلاء الأنصار وهذه منزلة وقد مضت؛ ثم قرأ: وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِفقد مضت هاتان المنزلتان وبقيت هذه المنزلة، فأحسن ما أنتم كائنون عليه أن تكونوا بهذه المنزلة (50) (51) .
ووجه الاستدلال من الآية الكريمة: هو أن الله عز وجل وصف المهاجرين بالصدق والأنصار بالفلاح، وأمر من يأتي بعدهم باتباعهم بإحسان، والدعاء لهم، وهذا دليل على عدالتهم رضي الله عنهم.
أعتقد أن في ذكر هذا القدر من الآيات كفاية للتدليل على تعديل الله تعالى لأصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم.
============
=============
اشداء
قال تعالى: مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الفتح: 29].
مؤمنون حقا
قال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الأنفال: 74-75].
العسرة
قال تعالى: لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [التوبة: 117].
خير امة
قال تعالى: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ [آل عمران: 110].
قال تعالى: لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [الحديد: 10].
وهم من نقلوا القرآن فاذا كانوا كما يرى يقول الشيعة عنهم فكيف نثق بقرآن نقله منافقين كفار
الطعن في الصحابة طعن في النبي كيف يكون المقربيين اليه خونة ويصاحبهم ويضع ثقته فيهم ويزكيهم القرآن
==========
أولا: أدلة أهل السنة والجماعة على عدالة الصحابة من القرآن الكريم
من المسلم به لدى المسلمين أن الله سبحانه وتعالى أرسل رسوله ونبيه محمداً صلى الله عليه وسلم وجعله خاتم الأنبياء، ومن ثم فقد أنزل عليه القرآن الكريم الذي يعد أساساً لدينه، ومصدراً لتعاليمه ودعوته، ووسيلة دائمة لربط الخلق بخالقهم وتوثيق علاقته بهم، وسبباً قوياً لتحقيق الربانية الصادقة في أتباعه.
وقد تكفل الله سبحانه وتعالى بحفظ هذا الكتاب: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر: 9]، وصانه من كل تحريف أو تغيير؛ بل تولى الله تبارك وتعالى نشره وإذاعته في العالم، وجعله ميسراً جديراً بالفهم: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ [القمر: 17]، وهيأ الله سبحانه وتعالى الجو المناسب والفرص المواتية لقراءته وكثرة تلاوته وحفظه واستظهاره واستحضاره وبذلك كان بعيداً كل البعد عن كل تصرف بشري من حذف، أو زيادة، أو تحريف، أو تبديل.
وإذا كانت هذه المسألة من المسلمات عندنا فإنه ثمة مسلمة أخرى لا تقبل الجدل وهي: أن القرآن الكريم الذي أنزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم إنما نزل ليخاطب بداءة تلك الأمة التي عاصرت الرسول الكريم في أمره ونهيه ومدحه وقدحه وغير ذلك. وإن كانت هذه الخطابات تتعدى إلى الناس أجمعين، حيث إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما يقول الأصوليون. إلا أن المخاطب الأول هم القوم الذين عاشوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل الوحي بين ظهرانيهم مؤمنهم وكافرهم ومنافقهم، وهذا ما فهمه الصحابة الكرام رضي الله عنهم حينما كانوا يقرؤون القرآن ويتدبرون آياته ويتفهمون معانيه.
ومن خلال هاتين المسلمتين: حفظ القرآن، وصيانته، وأن خطابه موجه ابتداء إلى الأمة المعاصرة للرسول صلى الله عليه وسلم فإننا نستطيع أن نحمل بل نجزم أن كل مدح وثناء، وعد لصفات الخير، وذكر لمحاسن الرجال، إنما عني به ربنا تبارك وتعالى أولئك الرجال الذين آمنوا برسوله وعزروه ونصروه وهم الصحب الكرام الذين يمثلون الجيل الأول الذي تربى في كنف القرآن وهدي السنة المطهرة.
ومقابل ذلك فإن كل قدح وذم وعد للمساوئ وذكر لصفات السوء إنما أراد به تبارك وتعالى أولئك القوم الذين وقفوا بوجه دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وحاربوه وآذوه، أو أولئك المنافقين الذين أبطنوا الكفر وأظهروا الإيمان ففضح الله سرائرهم وكشف نواياهم.
وعليه إن عدالة الصحابة في الكتاب لا تمثلها آيات محددة مخصوصة، إنما القرآن كله شاهد على عدالتهم واستقامتهم من حيث إنهم الأمة التي حملته ورفعت لواءه وجاهدت من أجله؛ فكل الآيات التي أثنت بالخير أو بينت طبيعة المجتمع المسلم وسبل بنائه وتكوينه أو أظهرت صفات المجاهدين وما أعد الله لهم أو بينت سمات المتقين ومآلهم، أو أبرزت محاسن المفلحين الفائزين، يمكننا أن نعدها بجملته أدلة قرآنية على تعديل الصحابة الكرام رضي الله عنهم.
ومع ذلك فإنني سأورد بعض هذه الآيات التي صرحت تصريحاً يفهمه الجميع دون شك أو ريب؛ أثنى الله فيها وعدل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم مع بيان المعنى المراد منها ليتسنى من خلاله فهم وجه الدلالة وبيانه.
فإن قيل هذه الآيات دلت على فضلهم دون التصريح بعدالتهم؟ فالجواب أن يقال: أن من أثنى الله سبحانه وتعالى عليه بهذا الثناء كيف لا يكون عدلاً؟
فإذا كان التعديل يثبت بقول اثنين من الناس، فكيف لا تثبت العدالة بهذا الثناء العظيم من الله سبحانه وتعالى، ومن رسوله صلى الله عليه وسلم (1) ؟
1- قال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة: 143].
في الآية بيان أفضلية هذه الأمة، وأن الله جعلها أمة وسطاً، والوسط هو العدل (2) ؛ وفي التنزيل قَالَ أَوْسَطُهُمْ [القلم: 28] أي أعدلهم وخيرهم (3) . وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا قال: (عدلاً) (4) . وقال زهير (5) :
هم وسط يرضى الأنام بحكمهم
إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم
ووجه الاستدلال بالآية: أنه أخبر أنه جعلهم أمة خياراً عدولاً فهم خير الأمم وأعدلها في أقوالهم، وأعمالهم، وإرادتهم، ونياتهم؛ وبهذا استحقوا أن يكونوا شهداء للرسل على أممهم يوم القيامة والله تعالى يقبل شهادتهم عليهم، فهو شهداؤه، ولهذا نوه بهم ورفع ذكرهم وأثنى عليهم، لأنه تعالى لما اتخذهم شهداء فإنه أعلم خلقه من الملائكة وغيرهم بحال هؤلاء الشهداء، والشاهد المقبول عند الله الذي يشهد بعلم وصدق فيخبر بالحق مستنداً إلى علمه به.
2- قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [البقرة: 218].
تفيد هذه الآية: إن الذين صدقوا بالله وبرسوله وبما جاء به هجروا مساكنة المشركين في أمصارهم ومجاورتهم في ديارهم فاستجابوا لنداء الهجرة وتحولوا عنهم وعن جوارهم فارين بدينهم وإيمانهم كراهة منهم النزول بين أظهر المشركين وفي سلطانهم ومن ثم حاربوهم في دين الله ليدخلوهم فيه وفيما يرضي الله، وقد بذلوا الغالي والنفيس، والأرواح والمهج؛ من أجل ذلك، أولئك يرجون رحمة الله ويطمعون في فضله.
وهذا الوصف بلا شك (ينطبق انطباقاً كاملاً على المهاجرين المجاهدين من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم آمنوا بالله ورسوله إيماناً راسخاً، وتحملوا الأذى العظيم في سبيل ذلك الإيمان من مشركي مكة ثم أنهم استجابوا لنداء نبيهم بالهجرة من مكة إلى يثرب وتركوا أهليهم وأموالهم ومصالح دنياهم، مع كل ذلك فإخلاصهم العميق لربهم ونبيهم ودينهم لم يدفعهم إلى الاتكال على ما صنعوا، وإنما كانوا يرجون رحمة ربهم أذلاء خاشعين، يحاولون بكل الطرق نصرة دينهم، وتقديم أموالهم ودمائهم في سبيل الله، علهم ينالوا الفوز بالجنة التي وعدهم الله تعالى إياها) (6) .
قال قتادة: (أثنى الله على أصحاب نبيه أحسن الثناء فقال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ[البقرة: 218] هؤلاء خيار هذه الأمة ثم جعلهم الله أهل رجاء كما تسمعون وأنه من رجا طلب، ومن خاف هرب) (7) .
والناظر في سبب نزول هذه الآية الكريمة لا يمكن له البتة أن يصرف المراد منها إلا إلى المهاجرين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد ثبت عند المفسرين وأهل السير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أرسل سرية عدتها ثمانية رجال كلهم من المهاجرين يرأسها عبد الله بن جحش وأعطاها كتاباً مختوماً لا يفضه إلا بعد أن يسير يومين ثم ينظر فيه، فسار عبد الله يومين ثم فتح الكتاب فإذا فيه: (إذا نظرت كتابي هذا فامض حتى تنزل نخلة فترصد بها قريشاً وتعلم لنا من أخبارهم)، فسار القوم حتى وصلوا إلى نخلة فمرت بهم عير قرشية تريد مكة فيها عمرو بن الحضرمي وآخرون فأجمع المسلمون أمرهم على أن يحملوا عليهم ويأخذوا ما معهم، فحملوا عليهم في آخر يوم من رجب فقتلوا عمرو بن الحضرمي وأسروا رجلين واستاقوا العير ورجعوا به إلى المدينة، فلما قدموها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام)) فوقف العير والأسيرين، وأبى أن يأخذ من ذلك شيئاً؛ فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، سقط في أيدي القوم، وظنوا أنهم قد هلكوا، وعنفهم إخوانهم من المسلمين، وقالت قريش: قد استعمل محمد وأصحابه الشهر الحرام، وسفكوا فيه الدم، وأخذوا فيه الأموال، وأسروا فيه الرجال، فلما أكثر الناس في ذلك أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ [البقرة: 217]. فلما نزل القرآن بهذا وفرج الله عن المسلمين ما كانوا فيه من الخوف وتجلى عن عبد الله بن جحش وأصحابه ما كانوا فيه طمعوا في الأجر – وقد كان المسلمون يقولون لهم إن لم يكن عليكم في ذلك وزر، فليس لكم فيه أجر – فقالوا: يا رسول الله أنطمع أن تكون لنا غزوة نعطى فيها أجر المجاهدين؟ فأنزل الله جل جلاله فيهم: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ الآية (8) .
مما تقدم يتبين لنا وجه الدلالة من الآية: وهو أن الله عز وجل شهد للمهاجرين والمجاهدين من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدق نياتهم، وطهارة بواطنهم، وأنهم كانوا يرجون رحمة الله لأفعالهم وهذا دليل إخلاصهم، ومن شهد له الله سبحانه وتعالى بذلك، وأثنى عليه قلنا بعدالته.
3- قال تعالى: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ [آل عمران: 110].
تثبت الآية الكريمة صفة الأفضلية والخيرية للأمة المحمدية على العموم، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخصوص، وإنما قلنا بشمول الآية أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم -بل أنهم أول من عني بها- لما يأتي:
1- إن الصحابة هم الذين شهدوا نزول الوحي، لذلك فإن الخطاب يقع لهم مشافهة (9) .
2- أن الآية تتحدث عن خير الأمم، والرسول صلى الله عليه وسلم قد قال: ((خير القرون قرني)) (10) ؛ وقرن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هم أصحابه.
3- إذا عنت الآية أمة محمد صلى الله عليه وسلم على العموم، فإن الصحابة داخلون في ذلك العموم حيث إنهم جزء من كل.
4- أنهم أولى بالدخول من غيرهم إذ الأوصاف التي وصفوا بها لم يتصف بها على الكمال إلا هم، فمطابقة الوصف للاتصاف شاهد على أنهم أحق من غيرهم بالمدح.
لذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير الآية: هم الذين هاجروا من مكة إلى المدينة وشهدوا بدراً والحديبية (11) . وقال الضحاك: هي في أصحاب رسول الله خاصة (12) . وقال الزجاج: هذا الخطاب أصله أنه خوطب به أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعم سائر أمة محمد صلى الله عليه وسلم (13) .
من ذلك يتبين وجه الدلالة من الآية: وهو أن الله سبحانه وتعالى أثبت الخيرية للصحابة الكرام رضي الله عنهم، ومن كان خير الناس وأفضلهم لابد أن يكون أعدلهم وأوثقهم.
4- قال تعالى: الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ [آل عمران: 172-174].
تأتي هذه الآيات لتصف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قمة صبرهم وجلدهم حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم دعاهم من اليوم التالي لأحد لمواجهة أبي سفيان وأصحابه الذين هموا بالعودة لقتال المسلمين.
وقد كان نداء الرسول صلى الله عليه وسلم مخصصاً لمن كان قد اشترك معه في القتال قبل يوم إشعاراً لقريش بأنها لم تنل من المسلمين منالاً، وأنه بقي له منهم من يتعقبها ويكر عليها.
ولم يتخلف من المسلمين أحد وما منهم إلا من أصابه القرح أو نزل به الضر أو أثخنته الجراح (14) .
قال الزمخشري: (ومن في قوله تعالى – للذين أحسنوا منهم - للتبيين مثلها في قوله تعالى -: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً [الفتح: 29] - لأن الذين استجابوا لله والرسول قد أحسنوا كلهم واتقوا لا بعضهم) (15) .
ووجه الدلالة من الآية: هو أن الله سبحانه وتعالى منح المستجيبين للرسول صلى الله عليه وسلم بعد غزوة أحد أجراً عظيماً ووصفهم بأنهم يتبعون رضوان الله، وهذا دليل صدقهم وإخلاصهم، ومن كان هذا حاله وجب تعديله.
5- قال تعالى: فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الأعراف: 157].
المعنى: أي الذين صدقوا بالنبي الأمي، وأقروا بنبوته وعزروه وعظموه وحموه، وأعانوه على أعداء الله وأعدائه بجهادهم ونصب الحرب لهم واتبعوا النور الذي أنزل معه وهو القرآن والوحي أولئك هم المفلحون في الدنيا والآخرة، المدركون ما طلبوا (16) .
ووجه الاستدلال: إن الله تعالى أثنى على الصحابة الكرام بنصرتهم لنبيه وتوقيرهم له ولاتباعهم القرآن والوحي فكانوا بذلك من المفلحين.
6- قال تعالى: وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال: 62-63].
المعنى: فإن حسبك الله، أي: كافيك الله الذي يتولى رعايتك وحياطتك، فهو المتكفل بإظهار دينك على الأديان، ومتضمن أن يجعل كلمته العليا، وكلمة أعدائه السفلى (17) .
والتأييد من الله سبحانه وتعالى على قسمين:
أحدهما: ما يحصل من غير واسطة أسباب معلومة معتادة.
والثاني: ما يحصل بواسطة أسباب معلومة معتادة.
فالأول: هو المراد من قوله: أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ؛ والثاني: هو المراد من قوله: وَبِالْمُؤْمِنِينَ (18) ؛ فالله تبارك وتعالى هو الذي أيدك بنصره أول مرة، وأيدك بالمؤمنين الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وجعل منهم قوة موحدة، بعد أن كانت قلوبهم شتى، وعداواتهم جاهزة وبأسهم بينهم شديد، سواء كان المقصود هم الأوس والخزرج – وهم الأنصار – فقد كان بينهم في الجاهلية من الثارات والدماء والمنازعات ما يستحيل معه الالتئام فضلاً عن هذا الإخاء الذي لم تعرف له الأرض نظيراً ولا شبيهاً.. أم كان المقصود المهاجرين، وهم كانوا كالأنصار في الجاهلية.. أو كان الجميع مقصودين، فقد كانت هذه هي حالة عرب الجزيرة جميعاً.
يقول محمد جواد مغنية: (ليس من شك أن الله سبحانه هو الذي ألف بين قلوب الصحابة بعد أن كانت عصية على التأليف بخاصة بين الأوس والخزرج الذين امتدت الحروب بينهم 120 سنة.. وأيضاً ليس من شك أن الله سبحانه يجري الأمور على سننها، والمسببات على أسبابها؛ وسبب التأليف بين قلوب أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم هو الإسلام وإيمانهم به نظرياً وعملياً، والإسلام من عند الله، فصحت النسبة إليه تعالى) (19) .
ووجه الاستدلال من الآية: إن الله تعالى جعل أحد أسباب تأييد الرسول صلى الله عليه وسلم الصحابة الكرام وقد ألف بين قلوبهم وجمع كلمتهم ووحد صفهم ومن كانت هذه صفته فلابد أن يكون عدلاً خياراً.
7- قال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الأنفال: 74-75].
المعنى: قسم الله تعالى المؤمنين في هاتين الآيتين إلى قسمين:
القسم الأول: المهاجرون الأولون، وقد أثبت لهم تعالى أربع صفات تدل على علو شأنهم ورفعة مكانتهم (20) .
أولها: أنهم آمنوا بالله وملائكة وكتبه ورسله واليوم الآخر وقبلوا جميع التكاليف التي بلغها النبي صلى الله عليه وسلم إليهم.
وثانيها: أنهم فارقوا الأوطان، وتركوا الأقارب والجيران في طلب مرضاة الله.
وثالثها: أنهم جاهدوا بأموالهم وأنفسهم، فأما جهادهم بالمال فلأنهم لما فارقوا الأوطان ضاعت دورهم ومساكنهم وضياعهم، كما أنهم احتاجوا إلى الإنفاق على تلك الغزوات، وأما المجاهدة بالنفس، فلما أقدموا عليه من مباشرة القتال واقتحام المعارك، والخوض في المهالك، وذلك يدل على أنهم أزالوا أطماعهم عن الحياة وبذلوا أنفسهم في سبيل الله.
ورابع هذه الصفات: أنهم كانوا أول الناس إقداماً على هذه الأفعال والتزاماً لهذه الأحوال؛ ولهذه المسابقة أثر عظيم في تقوية الدين. وإنما كان السبق موجباً للفضيلة، لأن إقدامهم على هذه الأفعال يوجب اقتداء غيرهم بهم، فيصير ذلك سبباً للقوة أو الكمال.
القسم الثاني: الأنصار، ونعتهم سبحانه بأنهم آووا النبي صلى الله عليه وسلم ومن هاجر معه في مساكنهم، وآثروهم على أنفسهم وأولادهم، وبأنهم سالموا من سالمهم، وعادوا من عاداهم، ولهذا شرفهم الله بهذا الوصف، حتى أصبح اسم الأنصار علماً عليهم مدى الدهر (21) .
ثم إن الله سبحانه وتعالى بين أن هذين القسمين (هم المؤمنون حقاً) وقال هم (وهو ضمير الفصل بين المبتدأ والخبر، يفيد قصر المبتدأ على الخبر، أي كأنهم هم وحدهم المؤمنون لا غيرهم، وهذا هو من باب المدح العظيم، أولئك جميعاً لهم مغفرة من الله ورزق كريم في الدنيا والآخرة؛ وقدم الجار والمجرور لمزيد اختصاصهم بهذه المنزلة العظيمة، أي كأن المغفرة والرحمة وجدت لهم، فهم يستحقونها على الوجه الأكمل) (22) .
ثم ألحق تبارك وتعالى بهذين القسمين قسماً ثالثاً وهم المؤمنون المهاجرون المجاهدون الذين جاؤوا من بعدهم وساروا على نهجهم، وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ [الأنفال: 75].
مما تقدم يتبين لنا وجه الاستدلال من الآية: وهو أن الله سبحانه وتعالى أثنى على المهاجرين والأنصار، وصدق عليهم وصف الإيمان، ثم مدح بقية الصحابة ممن هاجر وجاهد، فيكون هذا الثناء العاطر والمدح الجزيل والشهادة الإلهية شاملة لجميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا ينال هذا الثناء والمدح إلا من كان عدلاً.
8- قال تعالى: لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أَعَدَّ اللّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ التوبة: 88-89[.]
ووجه الاستدلال: هو أن الله سبحانه وتعالى يثني على الصحابة بمعاونتهم لرسوله صلى الله عليه وسلم ونصرتهم لدينه ببذل الأموال والأنفس، وأخبر عن نيلهم الخيرات وحسن العاقبة والفوز الجليل الأبدي (23) . وهذا يستلزم عدالتهم رضي الله عنهم.
9- قال تعالى: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رضي الله عنهم وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة: 100].
في الآية ثناء عظيم ومدح كامل للمهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان؛ واختلف المفسرون في الهجرة والنصرة وعلى هذا فالمدح لا يتناول إلا قدماء الصحابة، لأن كلمة (من) تفيد التبعيض، ومنهم من قال: بل يتناول جميع الصحابة، لأن جملة الصحابة موصوفون بكونهم سابقين أولين بالنسبة إلى سائر المسلمين، وكلمة (من) في قوله: (المهاجرين والأنصار) ليست للتبعيض بل للتبيين، أي: والسابقون الأولون الموصوفون بوصف كونهم مهاجرين وأنصار كما في قوله تعالى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ [الحج: 30].
روي عن حميد بن زياد أنه قال: قلت يوماً لمحمد بن كعب القرظي ألا تخبرني عن أصحاب رسول الله فيما كان بينهم –وأردت الفتن– فقال لي: إن الله قد غفر لجميعهم وأوجب لهم الجنة في كتابه، محسنهم ومسيئهم؛ قلت له: وفي أي موضع أوجب لهم الجنة؟ قال: سبحان الله! ألا تقرأ قوله تعالى: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَإلى آخر الآية؟ فأوجب الله لجميع الصحابة الجنة والرضوان، وشرط على التابعين شرطاً. قلت: وما ذلك الشرط؟ قال: اشترط عليهم أن يتبعوهم بإحسان في العمل، وهو أن يقتدوا بهم في أعمالهم الحسنة، ولا يقتدوا بهم في غير ذلك، أو يقال: المراد أن يتبعوهم بإحسان في القول، وهو أن لا يقولوا فيهم سوء، وأن لا يوجهوا الطعن فيما أقدموا عليه. قال حميد بن زياد: فكأني ما قرأت هذه الآية قط (24) .
ووجه الاستدلال: هو أن الله عز وجل بين أنه رضي عن المهاجرين والأنصار ومن تبعهم بإحسان وكان جزاء ذلك الرضى الجنة والفوز العظيم في الآخرة وهذا مستلزم لعدالتهم رضي الله عنهم.
10- قال تعالى: لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [التوبة: 117].
وفي هذه الآية الكريمة مدح لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين غزوا معه غزوة تبوك واتبعوه بلا تردد في ساعة العسرة، وكان عددهم يزيد على الثلاثين ألفاً (25) .
ولهذه الغزوة خصائص تميزها عن سائر الغزوات، منها ذلك الجهد المبذول والعسرة العظيمة التي مر بها أفراد الجيش الإسلامي والتي تكمن في ما يأتي:
أولاً: بعد المسافة بين المدينة وتبوك وهي تقدر بـ (778) كم حسب الطريق المعبدة في الوقت الحاضر (26) .
ثانياً: شدة الحر: قال عمر: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك في قيظ شديد. وقال قتادة: خرجوا في لهبان الحر (27) .
ثالثاً: عسرة الظهر: فكان العشرة من جيش المسلمين يتعقبون بعيراً واحداً، يركب الرجل ساعة ثم ينزل، فيركب صاحبه (28) .
رابعاً: عسرة الماء: فقد أصابهم العطش الشديد فكانوا ينحرون البعير على قلة الراحلة، ويعتصرون الفرث الذي في كرشه ويبلون به ألسنتهم (29) .
خامساً: عسرة الزاد: فكان زادهم الشعير المسوس، والتمر المدود، وكان الواحد منهم يلوك التمر، حتى إذا وجد طعمها أعطاها صاحبه (30) .
سادساً: أنهم أمروا بالنفير حين جني التمر وطيب الثمار والناس يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم فشق عليهم المخرج (31) .
ووجه دلالة الآية على عدالة الصحابة رضي الله عنهم وبيان فضلهم فيما يأتي:
أولاً: أنه تعالى ابتدأ بذكر التوبة (لقد تاب) وبعد أن بين حالة الصحابة أردف مرة أخرى ذكر التوبة والمقصود من ذلك تعظيم شأنهم والمبالغة في تأكيد ذلك (32) .
ثانياً: أن الآية فيها إخبار بصحة بواطنهم وطهارتهم، لأنه تعالى لا يخبر بأنه قد تاب عليهم إلا وقد رضي عنهم، ورضي أفعالهم؛ وهذا نص في رد قول الطاعنين عليهم والناسبين بهم إلى غير ما نسبهم الله إليه من الطهارة ووصفهم به من صحة الضمائر وصلاح السرائر (33) .
ثالثاً: قد يراد من توبة الله على الإنسان رحمته تعالى ورضوانه مع القرينة الدالة على ذلك، وهذا المعنى هو المراد بتوبته تعالى على النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته رضي الله عنهم فهي طبيعة الحال، ونعني بها عصمة النبي صلى الله عليه وسلم عن الذنوب، وطاعة من تابعه في ساعة العسرة (34) .
11- قال تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا [الفتح: 18].
والمؤمنون المقصودون هنا، الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة في الحديبية من المهاجرين والأنصار؛ فقد أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان رضي الله عنه مبعوثاً من عنده إلى قريش ليتفاوض معهم بشأن عمرة النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه، فاحتبس عثمان في مكة وطال حبسه حتى شاع بين المسلمين أن عثمان قتل (35) ؛ فقال عليه الصلاة والسلام: لا نبرح حتى نناجز القوم ثم دعا أصحابه إلى البيعة تحت شجرة سمرة فبايعوه جميعاً سوى الجد بن قيس اختبأ تحت بطن بعيره (36) ؛ وكان عددهم بين الألف وأربعمائة والألف وخمسمائة.
قال جابر: (كنا يوم الحديبية ألفاً وأربعمائة فبايعناه، وعمر آخذ بيده الشجرة) (37). وفي رواية (كنا ألفاً وخمسمائة) (38) وكانت البيعة على مناجزة قريش الحرب وأن لا يفروا (39) أو يموتوا دون ذلك.
والآية قد دلت على عدالة الصحابة من وجوه.
الأول: قوله تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ ومن المعلوم بداهة أن من رضي الله عنه لا يمكن موته على الكفر، لأن العبرة في حصول الرضى إنما هو بالموت على الإسلام، ولا يمكن أن يقع الرضى منه تعالى إلا على من علم موته على الإسلام؛ وأما من علم موته على الكفر والردة فلا يمكن أن يخبر الله تعالى بأنه قد رضي عنه، فبرئوا بذلك عن وصمة الردة (40) .
ولأن قوله تعالى: رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ يتناول جميع الأحوال والأوقات ولا يمكن أن يقال أنه خاص بوقت دون آخر أو بحال دون غيره؛ وقد تبين أن الله تعالى وصفهم بكونهم سابقين في الهجرة والنصرة ثم لما وصفهم بهذا الوصف أتى لهم بما يوجب التعظيم وهو قوله: رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُمعلل بكونهم سابقين في الهجرة والنصرة، والعلة ما دامت موجودة، وجب ترتيب المعلول عليها، وكونهم سابقين في الهجرة والنصرة وصف دائم في جميع مدة وجودهم، فوجب أن يكون ذلك الرضوان حاصلاً في جميع مدة وجودهم.
ولأنه تعالى قال: وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ، وذلك يقتضي أنه تعالى قد أعد تلك الجنات وعينها لهم، وذلك يقتضي بقاءهم على تلك الصفة التي لأجلها صاروا مستحقين لتلك الجنات، وليس لأحد أن يقول: المراد أنه تعالى أعدها لهم لو بقوا على صفة الإيمان، لأنا نقول: هذا زيادة إضمار وهو خلاف الظاهر، وأيضاً فعلى ذلك التقدير: لا يبقى بين هؤلاء المذكورين في هذا المدح، وبين سائر الفرق فرق، لأنه تعالى قال: وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُولفرعون وهامان وأبي جهل لو صاروا مؤمنين، ومعلوم أنه تعالى إنما ذكر هذا الكلام في معرض المدح العظيم والثناء الكامل، وحمله على ما ذكروه يوجب بطلان هذا المدح والثناء، فسقط هذا السؤال وظهر أن هذه الآية دالة على فضل الصحابة الكرام (41) .
الثاني: أنه تعالى قد أخبر عن صدق بواطن الصحابة وسلامة ضمائرهم بقوله: فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ، أي من الصدق والوفاء والإخلاص والسمع والطاعة فبرئوا بذلك من وصمة النفاق.
الثالث: أنه تعالى كافأهم على صدقهم جائزة هي إنزال السكينة عليهم ومن ثم أثابهم فتحاً قريباً جزاء من عنده عطاء حساباً.
12- قال تعالى: مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الفتح: 29].
وفي هذه الآية يأتي الثناء على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الثناء على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وإثبات رسالته؛ وقد رسم لهم القرآن الكريم بأسلوبه المعجز صورة رائعة (مؤلفة من عدة لقطات لأبرز حالات هذه الجماعة المختارة، حالاتها الظاهرة والمضمرة، فلقطة تصور حالتهم مع الكفار ومع أنفسهم:أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ، ولقطة تصور هيأتهم في عبادتهم: تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا، ولقطة تصور قلوبهم وما يشغلهم ويجيش بها: يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا، ولقطة تصور أثر العبادة والتوجه إلى الله في سمتهم وسماتهم: سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ... ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وهذه صفتهم فيها، ولقطات متتابعة تصور كمالهم في الإنجيل: كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) (42) .
هكذا يصف القرآن الصحابة ذلك الجيل المثالي الذي حقق مستوى سامياً في الارتقاء الروحي والخلقي، فصقلته العبادة وكساه الركوع والسجود نوراً وبهاء، وحددت العقيدة مفاهيمه وقيمه وولاءه وبراءه، يوالون بعضهم ويحادون من سواهم، فكان أحدهم شديداً عنيفاً على الكفار رحيماً براً بالأخيار، شديداً في وجه الأعداء، ضحوكاً بشوشاً في وجه أخيه المؤمن.
ومن تصفح سير الصحابة وتراحمهم وجد على ذلك الوصف دليلاً صادقاً فلم يثبت عنهم مفارقة الأهل والأوطان فحسب، بل ثبت أن بعضهم قتل ابنه أو أباه من أجل دينه وعقيدته على ما كان عليه من الألفة والمودة والمحبة لإخوانه المسلمين؛ ذلك الجيل الذي خلدته كتب السماء فوصفته التوراة والإنجيل والقرآن بهذا الوصف الرائع، ممثلة امتداد قيمه وانتشار عقيدته وكثرة أنصاره وقوة وجوده واستمساك أمره بالزرع الذي أخرج شطأه وتفرعت أغصانه فقوى الزرع ذلك الشطأ وشده فصار غليظاً بعد ما كان دقيقاً واستوى على ساقه وشب وطال حتى أعجب الزراع وسرهم بقوته وكثافته وغلظه وحسن منظره وطول قامته، فسر أهله الذين غرسوه أغاظ الأعداء.
ومن أهم ما يجب أن يلتفت إليه في هذه الآية هو أنه تعالى أخبر بصدق الصحابة وصحة أعمالهم وإخلاص قلوبهم ونقائها وطهارة بواطنهم وصفائها وهم إنما يعملون الطاعات ويؤدون العبادات رجاء نيل رضاه وفضله فقال: يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا، وذلك لتميز ركوعهم وسجودهم عن ركوع الكفار وسجودهم، وركوع المرائي وسجوده فإنه لا يبتغي به ذلك.
ومن هذه الآية انتزع الإمام مالك رحمه الله تعالى في رواية عنه تكفير من أبغض الصحابة واغتاظ منهم، فقد ذكر في مجلسه أن رجلاً ينتقص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ مالك: مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ الآية حتى بلغ: لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ، فقال: من أصبح من الناس في قلبه غيظ على أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أصابته هذه الآية (43) .
ومن الجدير بالذكر أن (من) في قوله تعالى: وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ليست مبعضة لقوم من الصحابة دون قوم (ولكنها عامة مجنسة، مثل قوله تعالى: الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ [الحج: 30]. لا يقصد للتبعيض لكنه يذهب إلى الجنس، أي فاجتنبوا الرجس من الأوثان، إذ كان الرجس يقع من أجناس شتى، منها الزنى والربا وشرب الخمر والكذب فادخل (من) يفيد بها الجنس وكذلك منهم، أي من هذا الجنس، يعني جنس الصحابة؛ ويقال: أنفق نفقتك من الدراهم، أي اجعل نفقتك هذا الجنس) (44) .
قال النحاس في (إعراب القرآن): (تكون – منهم – لبيان الجنس أولى لأنها إذا جعلت للتبعيض كان معنى آمنوا: ثبتوا، وذلك مجاز ولا يحمل الشيء على المجاز ومعناه صحيح على الحقيقة) (45) ؛ وقال العكبري: (منهم – لبيان الجنس تفضيلاً لهم بتخصيصهم بالذكر) (46) .
ومن بيان معنى الآية الكريمة يظهر لنا وجه الاستدلال بها على عدالة الصحابة رضي الله عنهم وهو أن الله جل جلاله مدح الصحابة بأنهم رحماء بينهم، أشداء على أعدائهم، وقد أخبر عن صدق بواطنهم وإخلاصهم، وهذا كله يستلزم عدالتهم رضي الله عنهم.
13- قال تعالى: لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [الحديد: 10].
في هذه الآية بيان لتفاوت درجات المنفقين والمجاهدين حسب تفاوت أحوالهم في الإنفاق والقتال والسبق بعد بيان أن لهم أجراً كبيراً على الإطلاق حثاً لهم على تحري الأفضل، فمن قاتل من الصحابة أو أنفق قبل فتح مكة أعلى درجة وأعظم شأناً من الذي قاتل وأنفق بعد الفتح ومع هذا فإن كلا من الفريقين قد وعدهم الله الحسنى والدرجات العليا في الجنة.
وقد قال تعالى في القرآن في آية أخرى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ [الأنبياء: 101] أي عن النار، فوجب أن يقال إن الله كتب لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الذين قاتلوا معه ونصروه والذين أيدوه وعزروه وأعانوه بالمال والأنفس الجنة إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ [آل عمران: 9].
ووجه الاستدلال: هو أنه من كتب الله له الجنة وأبعده عن النار لابد أن يكون عدلاً مستقيماً.
14- قال تعالى: لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر: 8-9].
إن أهم ما شهد الله سبحانه وتعالى به لأولئك المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم ابتغاء فضل الله ورضوانه، ونصر الله ورسوله، الصدق؛ فقال: أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ أي مستمرون على الصدق وهذا دليل قاطع أن المهاجرين جميعاً كانوا صادقين، وماتوا صادقين بشهادة ربهم، وأنهم عدول في كل ما ينقلونه عن نبيهم عليه الصلاة والسلام قرآناً وسنة؛ وأما الأنصار فقد مدحهم مدحاً عظيماً، ووصفهم بأنهم يحبون من هاجر إليهم، لأنهم ساكنوهم وأشركوهم في أموالهم، وأسبغوا عليهم من حبهم، ولم يجدوا في أنفسهم من الحسد على ما خصهم النبي صلى الله عليه وسلم من فيء وكانوا يقدمون المهاجرين على أنفسهم في كل ما يتعلق بالدنيا من الحظوظ، مع فقرهم وحاجتهم، ولكونهم كذلك كانوا من الفائزين الناجحين، واستحقوا رضوان الله سبحانه وتعالى (47) .
ثم يبين الله تبارك وتعالى واجب من يأتي بعد الصحابة تجاههم فيقول: وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [الحشر: 10].
فواجب من جاء من بعدهم هو الدعاء لهم وتصفية القلوب من بغض أحد منهم؛ وقد قالت عائشة رضي الله عنها: أمروا أن يستغفروا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسبوهم ثم قرأت هذه الآية (48) .
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سمع رجلاً وهو يتناول بعض المهاجرين، فقرأ عليه لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الآية، ثم قال: هؤلاء المهاجرين فمنهم أنت؟ قال: لا؛ ثم قرأ عليه: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ الآية، ثم قال: هؤلاء الأنصار أفأنت منهم. قال: لا. ثم قرأ عليه: وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ الآية، ثم قال: أفمن هؤلاء أنت؟ قال: أرجو. قال: لا ليس من هؤلاء، من يسب هؤلاء. وفي رواية: لا والله ما يكون منهم من يتناولهم وكان في قلبه الغل عليهم (49) .
وقال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه الناس على ثلاث مراتب قد مضت منزلتان وبقيت منزلة، فأحسن ما أنتم كائنون عليه أن تكونوا بهذه التي بقيت، ثم قرأ: لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ [الحشر: 8]؛ ثم قال: هؤلاء المهاجرين وهذه منزلة وقد مضت؛ ثم قرأ: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ، ثم قال: هؤلاء الأنصار وهذه منزلة وقد مضت؛ ثم قرأ: وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِفقد مضت هاتان المنزلتان وبقيت هذه المنزلة، فأحسن ما أنتم كائنون عليه أن تكونوا بهذه المنزلة (50) (51) .
ووجه الاستدلال من الآية الكريمة: هو أن الله عز وجل وصف المهاجرين بالصدق والأنصار بالفلاح، وأمر من يأتي بعدهم باتباعهم بإحسان، والدعاء لهم، وهذا دليل على عدالتهم رضي الله عنهم.
أعتقد أن في ذكر هذا القدر من الآيات كفاية للتدليل على تعديل الله تعالى لأصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم.
============
=============
اشداء
قال تعالى: مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الفتح: 29].
مؤمنون حقا
قال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الأنفال: 74-75].
العسرة
قال تعالى: لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [التوبة: 117].
خير امة
قال تعالى: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ [آل عمران: 110].
قال تعالى: لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [الحديد: 10].
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق