صرخة قومية►█▓ لقيط بن يعمر الإيادي
نبذة عن الشاعر
لقيط بن يَعمر بن خارجة الإيادي.
شاعر جاهلي فحل، من أهل الحيرة، كان يحسن الفارسية واتصل بكسرى سابور (ذي الأكتاف)، فكان من كتّابه والمطلعين على أسرار دولته ومن مقدمي مترجميه.
وهو صاحب القصيدة التي مطلعها (يا دار عمرة من محتلها الجرعا)، وهي من غرر الشعر، بعث بها إلى قومه، بني إياد، ينذرهم بأن كسرى وجّه جيشاً لغزوهم وسقطت القصيدة في يد من أوصلها إلى كسرى فسخط عليه وقطع لسانه ثم قتله.
مناسبة القصيدة
النص عبارة عن رسالة طلب كسرى ملك الفرس من الشاعر لقيط بن يعمر الإيادي أن يوجهها إلى قوم الشاعر – بني إياد – قبل أن يغزوهم الملك، كي يطمئنوا إلى أن الملك لايريد بهم سوءاً ، ولكن الشاعر، ومن منطلق غيرته على قبيلته ، ومعرفته بحقيقة نوايا كسرى تجاههم ، كتب إلى قومه محذراً من عواقب غزو كسرى لهم.
صرخة قومية
يا دارَ عَمْرة َ من مُحتلِّها الجَرَعا هاجتَ لي الهمّ والأحزانَ والوجعا
وتلبسون ثياب الأمن ضاحية ً لا تجمعون، وهذا الليث قد جَمعَا
فهم سراع إليكم، بين ملتقطٍ شوكاً وآخر يجني الصاب والسّلعا
ألا تخافون قوماً لا أبا لكم أمسوا إليكم كأمثال الدّبا سُرُعا
وقد أظلّكم من شطر ثغركم هولُ له ظلم تغشاكم قطعا
فما أزال على شحط يؤرقني طيفٌ تعمَّدَ رحلي حيث ما وضعا
تامت فادي بذات الجزع خرعبة مرت تريد بذات العذبة البِيَعا
مالي أراكم نياماً في بلهنية ٍ وقد ترونَ شِهابَ الحرب قد سطعا
لو أن جمعهمُ راموا بهدّته شُمَّ الشَّماريخِ من ثهلانَ لانصدعا
أنتمْ فريقانِ هذا لا يقوم له هصرُ الليوثِ وهذا هالك صقعا
أبناء قوم تأووكم على حنقٍ لا يشعرون أضرَّ الله أم نفعا
إني بعيني ما أمّت حمولُهم بطنَ السَّلوطحِ، لا ينظرنَ مَنْ تَبعا
جرت لما بيننا حبل الشموس فلا يأساً مبيناً نرى منها، ولا طمعا
أحرار فارس أبناء الملوك لهم من الجموع جموعٌ تزدهي القلعا
فاشفوا غليلي برأيٍ منكمُ حَسَنٍ يُضحي فؤادي له ريّان قد نقعا
طوراً أراهم وطوراً لا أبينهم إذا تواضع خدر ساعة لمعا
في كل يومٍ يسنّون الحراب لكم لا يهجعونَ، إذا ما غافلٌ هجعا
خُرْزاً عيونُهم كأنَّ لحظَهم حريقُ نار ترى منه السّنا قِطعا
بل أيها الراكب المزجي على عجل نحو الجزيرة مرتاداً ومنتجعا
ولا تكونوا كمن قد باتَ مُكْتنِعا إذا يقال له: افرجْ غمَّة ً كَنَعا
صونوا جيادكم واجلوا سيوفكم وجددوا للقسيّ النَّبل والشّرعا
أبلغ إياداً، وخلّل في سراتهم إني أرى الرأي إن لم أعصَ قد نصعا
لا الحرثُ يشغَلُهم بل لا يرون لهم من دون بيضتِكم رِيّاً ولا شِبَعا
وأنتمُ تحرثونَ الأرضَ عن سَفَهٍ في كل معتملٍ تبغون مزدرعا
يا لهفَ نفسي إن كانت أموركم شتى َّ، وأُحْكِمَ أمر الناس فاجتمعا
اشروا تلادكم في حرز أنفسكم وحِرْز نسوتكم، لا تهلكوا هَلَعا
ولا يدعْ بعضُكم بعضاً لنائبة ٍ كما تركتم بأعلى بيشة َ النخعا
وتُلقحون حِيالَ الشّوْل آونة ً وتنتجون بدار القلعة ِ الرُّبعا
اذكوا العيون وراء السرحِ واحترسوا حتى ترى الخيل من تعدائهارُجُعا
فإن غُلبتم على ضنٍّ بداركم فقد لقيتم بأمرِ حازمٍ فَزَعا
لا تلهكم إبلُ ليست لكم إبلُ إن العدو بعظم منكم قَرَعا
هيهات لا مالَ من زرع ولا إبلٍ يُرجى لغابركم إن أنفكم جُدِعا
لا تثمروا المالَ للأعداء إنهم إن يظفروا يحتووكم والتّلاد معا
والله ما انفكت الأموال مذ أبدُ لأهلها أن أصيبوا مرة ً تبعا
يا قومُ إنَّ لكم من عزّ أوّلكم إرثاً، قد أشفقت أن يُودي فينقطعا
ومايَرُدُّ عليكم عزُّ أوّلكم أن ضاعَ آخره، أو ذلَّ فاتضعا
فلا تغرنكم دنياً ولا طمعُ لن تنعشوا بزماعٍ ذلك الطمعا
يا قومُ بيضتكم لا تفجعنَّ بها إني أخافُ عليها الأزلمَ الجذعا
يا قومُ لا تأمنوا إن كنتمُ غُيُراً على نسائكم كسرى وما جمعا
هو الجلاء الذي يجتثُّ أصلكم فمن رأى مثل ذا رأياً ومن سمعا
قوموا قياماً على أمشاط أرجلكم ثم افزعوا قد ينال الأمن من فزعا
فقلدوا أمركم لله دركم رحبَ الذراع بأمر الحرب مضطلعا
لا مترفاً إن رخاءُ العيش ساعده ولا إذا عضَّ مكروهُ به خشعا
مُسهّدُ النوم تعنيه ثغوركم يروم منها إلى الأعداء مُطّلعا
ما انفك يحلب درَّ الدهر أشطره يكون مُتّبَعا طوراً ومُتبِعا
وليس يشغَله مالٌ يثمّرُهُ عنكم، ولا ولد يبغى له الرفعا
حتى استمرت على شزر مريرته مستحكمَ السنِ، لا قمحاً ولا ضرعا
كمالِك بن قنانٍ أو كصاحبه زيد القنا يوم لاقى الحارثين معا
إذّ عابه عائبُ يوماً فقال له: دمّث لجنبك قبل الليل مضطجعا
فساوروه فألفوه أخا علل في الحرب يحتبلُ الرئبالَ والسبعا
عبلَ الذراع أبياً ذا مزابنة ٍ في الحرب لا عاجزاً نكساً ولا ورعا
مستنجداً يتّحدَّى الناسَ كلّهمُ لو قارعَ الناسَ عن أحسابهم قَرَعا
هذا كتابي إليكم والنذير لكم لمن رأى رأيه منكم ومن سمعا
لقد بذلت لكم نصحي بلا دخل فاستيقظوا إن خيرَ العلم ما نفعا
دراسة النص
هكذا نرى أن دوافع كتابة النص - الوصية - هي دوافع قومية وطنية ، نابعة من خوف الشاعر على مصير قومه بعد الغزو. وقد تصارخت مع رغبة الملك الرئيسية التي أراد أن يخدع بها بني إياد . وقد نال الشاعر من كسرى أسوأ أصناف العقاب – قطع اللسان – في حين أن قومه لم يعملوا بنصيحة ابنهم ، مما مكن كسرى من إلحاق هزيمة شديدة بهم .
فما هي الآراء والنصائح التي أراد الشاعر أن يقدمها إلى أبناء قبيلته ؟
قدَّم الشاعر نصائحه إلى قبيلته ، تدفعه عاطفة الغيرة القومية على القبيلة ، الغيرة على رؤية بني قومه مجتمعي الرأي ، واعين لما يحيط بهم ، موحدين في وجه الغازي ، مدافعين عن مجد القبيلة الموروث ، وشرف رجالها وأعراض نسائها في وجه العدوان الغازي ، لقد تبدت هذه العاطفة في عدة أشكال ، وقد أراد من وراء إظهار هذه الأشكال المتنوعة من الغيرة ، توكيد غرضه الذي أعلنه منذ البداية . وحرصه على إسماع صوته إلى كل فرد من أبناء قبيلته ، لتنتقل تلك العواطف ، التي تتمازج فيها الغيرة مع الحماس من نفس الشاعر إلى روح ابناء قومه ن فتكون دافعاً قوياً في الاستعداد للحرب ومقدمة من مقدمات النصر فيها .
بعض مضامين النص
أراد أن يبلغ رسالة واضحة إلى قومه من خلال تنقل الرسول بين سادة القبيلة ، ومحاولة تنبيههم إلى أن إجماعهم على النزول إلى رأيه ، وعدم عصيانه قد يوضح لهم طريق النصر على العدو .
أًَبْلِغْ إياداً وخَلِّل في سراتهــمُ أنّي أرى الرأيَ إنْ لم يُعْصَ قد نَصَعا
كما أراد أن يوضح حسرة نفسه إن اختلفت قومه في مسألة غزو العدو لهم . في حين أنه رأى الأعداء قد اجمعوا على القضاء على القوم.
يالهفَ نفسيَ إن كانت أُمورُكُمُ شَتّى وأُحْكِمَ أمرُ النّــاسِ فاجتمعا
ويتألم الشاعر على غفلة أهله ، وهو يراهم يستمتعون بعرض الدنيا ، ولا يأبهون لنذر الحرب الواضحة التي تشن عليهم.
وقد تَروْن شهابَ الحربِ قد سطعـا مالي أراكــمْ نِياماً في بُلَهْنيةٍ
ثم يأمل الشاعر أن يروي قومه عطش نفسه إلى الانتصار ، عن طريق إجماعهم على رأي سليم يحقق أحلامه وأحلامهم في النصر وهزيمة الأعداء.
يصبحْ فؤادي به ريّــانَ قد نقعـا فاشفوا غليلي برأيٍ منكُمُ حَصِدٍ
وينصح قومه ان يعدوا العدة لمواجهة كسرى وجنوده، بتحضير جنودهم ، وشحذ سيوفهم وتجهيز أدوات الرماية : الأقواس والسهام التي تُرجى عنها .
وجــدّدوا للقِسيّ النَّبْلَ والشِّرعـا صونوا جيادَكُمُ واجلوا سيوفَكُمُ
وينصحهم ألا يهتموا بجمع المال والانصراف إليه ، لأن الأعداء إن هزموا القوم فسيكونون قادرين على الاستيلاء على أموالهم جميعها : الجديدة والموروثة معاً !
إن يَظهروا يحتووكم والتِّلادَ معــا لا تُثْمِـروا المالَ للأعداءِ إنّهُمُ
وهو يذكر بني قومه بالمجد الموروث الذي نالوه عن أجدادهم ، وهو يخشى إن تهاونوا في أمر عددهم فإن هذا المجد سيؤول إلى الزوال .
مجداً أحــاذرُ أن يفنى وينقطعــا يا قومُ إنّ لكُمْ من إرثِ أوَّلِكُم
وهو يحثهم على التمسك بالمجد وعزة النفس الموروثين ، لأنهما إن زالا فستزول مكانة القبيلة وينحط قدر أهلها !
مجداً أحــاذرُ أن يفنى وينقطعــا ماذا يَرُدُّ عليكُمْ عزُّ أوَّلِـكُــم
ويذكرهم بقيمة عربية اصيلة ، وهي وجوب الحفاظ على شرف القبيلة وصيانة عرض نسائها ، من رجال كسرى الغازين.
على نسائكُمُ كسرى ومـا جَمعـا يـا قومُ لا تأمنوا إن كنُتمُ غُيُراً
كما يصور غزو كسرى وجنوده لهم، - وهم غير مستعدين للقائه – بأنه الريح التي ستقتلعهم من أصولهم ، وتقضي عليهم.
فمَنْ رأى مثلَ ذا رأياً ومَنْ سَمعــا هو الفَنــاءُ الذي يجتثُّ أصْلَكُمُ
وهو يستنهض هممهم ، كي يهبوا لمواجهة العدو ، ويحذروا من الركون إلى التخاذل والتقاعس . وأن يولوا أمر قيادتهم إلى من يثقون بقوته وحصافة رأيه وقدرته على تحمل النتائج.
ثم افزعوا قد ينالُ اَلأمْنَ مَنْ فزعــا قوموا قِياماً على أمشاطِ أرجلكم
رحبَ الذِّراعِ بأمِر الحربِ مُضطلِعـا وقَلِّدوا أمــرَكـمْ لله دَرُّكــمُ
ويختم رسالته – النصيحة – لهم متمنياً أن يكون فيها النصح والإنذار مجتمعين ، لمن يسمع من قومه ومن يرى! قبل أن يحدث مالا تحمد عقباه !
لَمنْ رأى منكُمُ رأياً ومَنْ سَمعــا هذا كتابي إليكُمْ والنّذيرُ معــاً
فاستيقظوا إنّ خِيرَ العِلمِ مانفعــا وقد بذلتُ لكم نُصحي بلا دَخَـلٍ
أسلوب النص
على الرغم من الفارق الزمني بيننا وبين النص يربو على الف وخمسمئة سنة ، فإننا نرى ألفة بيننا وبين النص في الصور المعروضة ، وفي معظم المفردات الواردة فيه ، ولعل السبب في ذلك عائد إلى المضامين التي قدمها الشاعر ، والتي تدور حول توصيته قومه بالتنبه إلى الخطر الذي سيداهمهم من قوى خارجية غير عربية ذات شوكة ز وتحصين أنفسهم وعدتهم وما يملكون من خطرة . ولولا ورود بعض كلمات يمكن الوقوف على معانيها من خلال أيسر المعاجم العربية استعمالاً ، ولولا الفارق النوعي بين أسلحة العصر وبين عُدة ووسائل القتال البدائية الواردة في النص ، لجاز لنا أن نتخيل أن قائل القصيدة مازال يعيش بين ظهرانينا .
استعان الشاعر يإيصال رساله إلى قومه بثلاثة أنواع من الأساليب : أسلوب الطلب ، الأمر والنهي والإستفهام ، وبأسلوب النداء وبأسلوب التقرير . ولكن الأسلوب الأظهر كان أسلوب الطلب والذي اقتضته الحاجة لإيصال مضامين الرسالة إلى القبيلة حيث ورد في ثمانية أبيات من أبيات النص الأربعة عشر .
قيمة النص
ليس هناك ما هو أصعب وقعاً على نفس الإنسان – أي إنسان – من أن يرى الشر يحيط باهله وقوامه والخطر يداهمهم من كل جانب ، بينما هو يقف موقف المراقب أو المحايد !
لقد آثر الشاعر أن يصطف إلى جانب أهله ، وأعلن عدم وفائه إلى الجهة الرسمية التي كانت توظفه ، عندما تضاربت مصالح قبيلته القومية الأصلية مع غيرها من المصالح المادية الزائلة ، ولو أدى هذا التضارب إلى الخروج عن طاعة الملوك ، والزهد في الولاء لهم .
يمثل النص موقفاً قومياً رائعاً ، لايغري الشاعر دونه أي منصب أوجاه أو عطاء مادي . فالقبيلة بما تمثله من وحدة قومية مصغرة بأهلها وأرضها وعزتها ومجدها وإعلاء شأنها ، هي ما يصر العربي على الانتماء إليه، والعيش والموت من أجله .
ولعل في هذا الموقع منهجياً هادياً للكل أديب بالتزام قضايا قومه وأمته ، وعدم الانحراف عنهما ، مهما كنات الظروف والمغريات .
انتهــــــى
نبذة عن الشاعر
لقيط بن يَعمر بن خارجة الإيادي.
شاعر جاهلي فحل، من أهل الحيرة، كان يحسن الفارسية واتصل بكسرى سابور (ذي الأكتاف)، فكان من كتّابه والمطلعين على أسرار دولته ومن مقدمي مترجميه.
وهو صاحب القصيدة التي مطلعها (يا دار عمرة من محتلها الجرعا)، وهي من غرر الشعر، بعث بها إلى قومه، بني إياد، ينذرهم بأن كسرى وجّه جيشاً لغزوهم وسقطت القصيدة في يد من أوصلها إلى كسرى فسخط عليه وقطع لسانه ثم قتله.
مناسبة القصيدة
النص عبارة عن رسالة طلب كسرى ملك الفرس من الشاعر لقيط بن يعمر الإيادي أن يوجهها إلى قوم الشاعر – بني إياد – قبل أن يغزوهم الملك، كي يطمئنوا إلى أن الملك لايريد بهم سوءاً ، ولكن الشاعر، ومن منطلق غيرته على قبيلته ، ومعرفته بحقيقة نوايا كسرى تجاههم ، كتب إلى قومه محذراً من عواقب غزو كسرى لهم.
صرخة قومية
يا دارَ عَمْرة َ من مُحتلِّها الجَرَعا هاجتَ لي الهمّ والأحزانَ والوجعا
وتلبسون ثياب الأمن ضاحية ً لا تجمعون، وهذا الليث قد جَمعَا
فهم سراع إليكم، بين ملتقطٍ شوكاً وآخر يجني الصاب والسّلعا
ألا تخافون قوماً لا أبا لكم أمسوا إليكم كأمثال الدّبا سُرُعا
وقد أظلّكم من شطر ثغركم هولُ له ظلم تغشاكم قطعا
فما أزال على شحط يؤرقني طيفٌ تعمَّدَ رحلي حيث ما وضعا
تامت فادي بذات الجزع خرعبة مرت تريد بذات العذبة البِيَعا
مالي أراكم نياماً في بلهنية ٍ وقد ترونَ شِهابَ الحرب قد سطعا
لو أن جمعهمُ راموا بهدّته شُمَّ الشَّماريخِ من ثهلانَ لانصدعا
أنتمْ فريقانِ هذا لا يقوم له هصرُ الليوثِ وهذا هالك صقعا
أبناء قوم تأووكم على حنقٍ لا يشعرون أضرَّ الله أم نفعا
إني بعيني ما أمّت حمولُهم بطنَ السَّلوطحِ، لا ينظرنَ مَنْ تَبعا
جرت لما بيننا حبل الشموس فلا يأساً مبيناً نرى منها، ولا طمعا
أحرار فارس أبناء الملوك لهم من الجموع جموعٌ تزدهي القلعا
فاشفوا غليلي برأيٍ منكمُ حَسَنٍ يُضحي فؤادي له ريّان قد نقعا
طوراً أراهم وطوراً لا أبينهم إذا تواضع خدر ساعة لمعا
في كل يومٍ يسنّون الحراب لكم لا يهجعونَ، إذا ما غافلٌ هجعا
خُرْزاً عيونُهم كأنَّ لحظَهم حريقُ نار ترى منه السّنا قِطعا
بل أيها الراكب المزجي على عجل نحو الجزيرة مرتاداً ومنتجعا
ولا تكونوا كمن قد باتَ مُكْتنِعا إذا يقال له: افرجْ غمَّة ً كَنَعا
صونوا جيادكم واجلوا سيوفكم وجددوا للقسيّ النَّبل والشّرعا
أبلغ إياداً، وخلّل في سراتهم إني أرى الرأي إن لم أعصَ قد نصعا
لا الحرثُ يشغَلُهم بل لا يرون لهم من دون بيضتِكم رِيّاً ولا شِبَعا
وأنتمُ تحرثونَ الأرضَ عن سَفَهٍ في كل معتملٍ تبغون مزدرعا
يا لهفَ نفسي إن كانت أموركم شتى َّ، وأُحْكِمَ أمر الناس فاجتمعا
اشروا تلادكم في حرز أنفسكم وحِرْز نسوتكم، لا تهلكوا هَلَعا
ولا يدعْ بعضُكم بعضاً لنائبة ٍ كما تركتم بأعلى بيشة َ النخعا
وتُلقحون حِيالَ الشّوْل آونة ً وتنتجون بدار القلعة ِ الرُّبعا
اذكوا العيون وراء السرحِ واحترسوا حتى ترى الخيل من تعدائهارُجُعا
فإن غُلبتم على ضنٍّ بداركم فقد لقيتم بأمرِ حازمٍ فَزَعا
لا تلهكم إبلُ ليست لكم إبلُ إن العدو بعظم منكم قَرَعا
هيهات لا مالَ من زرع ولا إبلٍ يُرجى لغابركم إن أنفكم جُدِعا
لا تثمروا المالَ للأعداء إنهم إن يظفروا يحتووكم والتّلاد معا
والله ما انفكت الأموال مذ أبدُ لأهلها أن أصيبوا مرة ً تبعا
يا قومُ إنَّ لكم من عزّ أوّلكم إرثاً، قد أشفقت أن يُودي فينقطعا
ومايَرُدُّ عليكم عزُّ أوّلكم أن ضاعَ آخره، أو ذلَّ فاتضعا
فلا تغرنكم دنياً ولا طمعُ لن تنعشوا بزماعٍ ذلك الطمعا
يا قومُ بيضتكم لا تفجعنَّ بها إني أخافُ عليها الأزلمَ الجذعا
يا قومُ لا تأمنوا إن كنتمُ غُيُراً على نسائكم كسرى وما جمعا
هو الجلاء الذي يجتثُّ أصلكم فمن رأى مثل ذا رأياً ومن سمعا
قوموا قياماً على أمشاط أرجلكم ثم افزعوا قد ينال الأمن من فزعا
فقلدوا أمركم لله دركم رحبَ الذراع بأمر الحرب مضطلعا
لا مترفاً إن رخاءُ العيش ساعده ولا إذا عضَّ مكروهُ به خشعا
مُسهّدُ النوم تعنيه ثغوركم يروم منها إلى الأعداء مُطّلعا
ما انفك يحلب درَّ الدهر أشطره يكون مُتّبَعا طوراً ومُتبِعا
وليس يشغَله مالٌ يثمّرُهُ عنكم، ولا ولد يبغى له الرفعا
حتى استمرت على شزر مريرته مستحكمَ السنِ، لا قمحاً ولا ضرعا
كمالِك بن قنانٍ أو كصاحبه زيد القنا يوم لاقى الحارثين معا
إذّ عابه عائبُ يوماً فقال له: دمّث لجنبك قبل الليل مضطجعا
فساوروه فألفوه أخا علل في الحرب يحتبلُ الرئبالَ والسبعا
عبلَ الذراع أبياً ذا مزابنة ٍ في الحرب لا عاجزاً نكساً ولا ورعا
مستنجداً يتّحدَّى الناسَ كلّهمُ لو قارعَ الناسَ عن أحسابهم قَرَعا
هذا كتابي إليكم والنذير لكم لمن رأى رأيه منكم ومن سمعا
لقد بذلت لكم نصحي بلا دخل فاستيقظوا إن خيرَ العلم ما نفعا
دراسة النص
هكذا نرى أن دوافع كتابة النص - الوصية - هي دوافع قومية وطنية ، نابعة من خوف الشاعر على مصير قومه بعد الغزو. وقد تصارخت مع رغبة الملك الرئيسية التي أراد أن يخدع بها بني إياد . وقد نال الشاعر من كسرى أسوأ أصناف العقاب – قطع اللسان – في حين أن قومه لم يعملوا بنصيحة ابنهم ، مما مكن كسرى من إلحاق هزيمة شديدة بهم .
فما هي الآراء والنصائح التي أراد الشاعر أن يقدمها إلى أبناء قبيلته ؟
قدَّم الشاعر نصائحه إلى قبيلته ، تدفعه عاطفة الغيرة القومية على القبيلة ، الغيرة على رؤية بني قومه مجتمعي الرأي ، واعين لما يحيط بهم ، موحدين في وجه الغازي ، مدافعين عن مجد القبيلة الموروث ، وشرف رجالها وأعراض نسائها في وجه العدوان الغازي ، لقد تبدت هذه العاطفة في عدة أشكال ، وقد أراد من وراء إظهار هذه الأشكال المتنوعة من الغيرة ، توكيد غرضه الذي أعلنه منذ البداية . وحرصه على إسماع صوته إلى كل فرد من أبناء قبيلته ، لتنتقل تلك العواطف ، التي تتمازج فيها الغيرة مع الحماس من نفس الشاعر إلى روح ابناء قومه ن فتكون دافعاً قوياً في الاستعداد للحرب ومقدمة من مقدمات النصر فيها .
بعض مضامين النص
أراد أن يبلغ رسالة واضحة إلى قومه من خلال تنقل الرسول بين سادة القبيلة ، ومحاولة تنبيههم إلى أن إجماعهم على النزول إلى رأيه ، وعدم عصيانه قد يوضح لهم طريق النصر على العدو .
أًَبْلِغْ إياداً وخَلِّل في سراتهــمُ أنّي أرى الرأيَ إنْ لم يُعْصَ قد نَصَعا
كما أراد أن يوضح حسرة نفسه إن اختلفت قومه في مسألة غزو العدو لهم . في حين أنه رأى الأعداء قد اجمعوا على القضاء على القوم.
يالهفَ نفسيَ إن كانت أُمورُكُمُ شَتّى وأُحْكِمَ أمرُ النّــاسِ فاجتمعا
ويتألم الشاعر على غفلة أهله ، وهو يراهم يستمتعون بعرض الدنيا ، ولا يأبهون لنذر الحرب الواضحة التي تشن عليهم.
وقد تَروْن شهابَ الحربِ قد سطعـا مالي أراكــمْ نِياماً في بُلَهْنيةٍ
ثم يأمل الشاعر أن يروي قومه عطش نفسه إلى الانتصار ، عن طريق إجماعهم على رأي سليم يحقق أحلامه وأحلامهم في النصر وهزيمة الأعداء.
يصبحْ فؤادي به ريّــانَ قد نقعـا فاشفوا غليلي برأيٍ منكُمُ حَصِدٍ
وينصح قومه ان يعدوا العدة لمواجهة كسرى وجنوده، بتحضير جنودهم ، وشحذ سيوفهم وتجهيز أدوات الرماية : الأقواس والسهام التي تُرجى عنها .
وجــدّدوا للقِسيّ النَّبْلَ والشِّرعـا صونوا جيادَكُمُ واجلوا سيوفَكُمُ
وينصحهم ألا يهتموا بجمع المال والانصراف إليه ، لأن الأعداء إن هزموا القوم فسيكونون قادرين على الاستيلاء على أموالهم جميعها : الجديدة والموروثة معاً !
إن يَظهروا يحتووكم والتِّلادَ معــا لا تُثْمِـروا المالَ للأعداءِ إنّهُمُ
وهو يذكر بني قومه بالمجد الموروث الذي نالوه عن أجدادهم ، وهو يخشى إن تهاونوا في أمر عددهم فإن هذا المجد سيؤول إلى الزوال .
مجداً أحــاذرُ أن يفنى وينقطعــا يا قومُ إنّ لكُمْ من إرثِ أوَّلِكُم
وهو يحثهم على التمسك بالمجد وعزة النفس الموروثين ، لأنهما إن زالا فستزول مكانة القبيلة وينحط قدر أهلها !
مجداً أحــاذرُ أن يفنى وينقطعــا ماذا يَرُدُّ عليكُمْ عزُّ أوَّلِـكُــم
ويذكرهم بقيمة عربية اصيلة ، وهي وجوب الحفاظ على شرف القبيلة وصيانة عرض نسائها ، من رجال كسرى الغازين.
على نسائكُمُ كسرى ومـا جَمعـا يـا قومُ لا تأمنوا إن كنُتمُ غُيُراً
كما يصور غزو كسرى وجنوده لهم، - وهم غير مستعدين للقائه – بأنه الريح التي ستقتلعهم من أصولهم ، وتقضي عليهم.
فمَنْ رأى مثلَ ذا رأياً ومَنْ سَمعــا هو الفَنــاءُ الذي يجتثُّ أصْلَكُمُ
وهو يستنهض هممهم ، كي يهبوا لمواجهة العدو ، ويحذروا من الركون إلى التخاذل والتقاعس . وأن يولوا أمر قيادتهم إلى من يثقون بقوته وحصافة رأيه وقدرته على تحمل النتائج.
ثم افزعوا قد ينالُ اَلأمْنَ مَنْ فزعــا قوموا قِياماً على أمشاطِ أرجلكم
رحبَ الذِّراعِ بأمِر الحربِ مُضطلِعـا وقَلِّدوا أمــرَكـمْ لله دَرُّكــمُ
ويختم رسالته – النصيحة – لهم متمنياً أن يكون فيها النصح والإنذار مجتمعين ، لمن يسمع من قومه ومن يرى! قبل أن يحدث مالا تحمد عقباه !
لَمنْ رأى منكُمُ رأياً ومَنْ سَمعــا هذا كتابي إليكُمْ والنّذيرُ معــاً
فاستيقظوا إنّ خِيرَ العِلمِ مانفعــا وقد بذلتُ لكم نُصحي بلا دَخَـلٍ
أسلوب النص
على الرغم من الفارق الزمني بيننا وبين النص يربو على الف وخمسمئة سنة ، فإننا نرى ألفة بيننا وبين النص في الصور المعروضة ، وفي معظم المفردات الواردة فيه ، ولعل السبب في ذلك عائد إلى المضامين التي قدمها الشاعر ، والتي تدور حول توصيته قومه بالتنبه إلى الخطر الذي سيداهمهم من قوى خارجية غير عربية ذات شوكة ز وتحصين أنفسهم وعدتهم وما يملكون من خطرة . ولولا ورود بعض كلمات يمكن الوقوف على معانيها من خلال أيسر المعاجم العربية استعمالاً ، ولولا الفارق النوعي بين أسلحة العصر وبين عُدة ووسائل القتال البدائية الواردة في النص ، لجاز لنا أن نتخيل أن قائل القصيدة مازال يعيش بين ظهرانينا .
استعان الشاعر يإيصال رساله إلى قومه بثلاثة أنواع من الأساليب : أسلوب الطلب ، الأمر والنهي والإستفهام ، وبأسلوب النداء وبأسلوب التقرير . ولكن الأسلوب الأظهر كان أسلوب الطلب والذي اقتضته الحاجة لإيصال مضامين الرسالة إلى القبيلة حيث ورد في ثمانية أبيات من أبيات النص الأربعة عشر .
قيمة النص
ليس هناك ما هو أصعب وقعاً على نفس الإنسان – أي إنسان – من أن يرى الشر يحيط باهله وقوامه والخطر يداهمهم من كل جانب ، بينما هو يقف موقف المراقب أو المحايد !
لقد آثر الشاعر أن يصطف إلى جانب أهله ، وأعلن عدم وفائه إلى الجهة الرسمية التي كانت توظفه ، عندما تضاربت مصالح قبيلته القومية الأصلية مع غيرها من المصالح المادية الزائلة ، ولو أدى هذا التضارب إلى الخروج عن طاعة الملوك ، والزهد في الولاء لهم .
يمثل النص موقفاً قومياً رائعاً ، لايغري الشاعر دونه أي منصب أوجاه أو عطاء مادي . فالقبيلة بما تمثله من وحدة قومية مصغرة بأهلها وأرضها وعزتها ومجدها وإعلاء شأنها ، هي ما يصر العربي على الانتماء إليه، والعيش والموت من أجله .
ولعل في هذا الموقع منهجياً هادياً للكل أديب بالتزام قضايا قومه وأمته ، وعدم الانحراف عنهما ، مهما كنات الظروف والمغريات .
انتهــــــى
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق