تمتاز الشخصية (الفارسية) بخصائص نفسية معينة، اتفق على ملاحظتها وذكرها الخاص والعام ممن تعامل مع الإيرانيين، وخبر حياتهم وأخلاقهم، وكيف أعدت، أو تعدت هذه الأخلاق إلى المتأثرين بهم والمتشيعين لهم، سوى أن العالِم يختلف عن غيره في عمق النظرة والقدرة على الرصد والتحليل، وربط الأسباب بالمسببات والنتائج بالمقدمات.
قام بدراسة هذه الشخصية عدد من العلماء، وثبتوا ملاحظاتهم العلمية في بحوث ميدانية، مدعومة بالأدلة الاستبيانية والشواهد التجريبية.
من هذه الدراسات:
- الشخصية الإيرانية ومكوناتها) للأمريكي جاك ميلوك(1)ضمن كتاب (الثورةالإيرانية والتمدن الحديث). استخلصها – كما جاء في الدراسة - من:
أ. بحث تجريبي قام به الأستاذ (البروفسور) مارفن زونيس طبقه على ثلاثمائة شخصية إيرانية تمثل النخبة السياسية الممتازة في إيران، بغض النظر عن كون تلك الشخصيات داخل الحكم أو خارجه. من أجل التأكيد على صحة بعض الانطباعات الخاصة، وذلك بواسطة استبيانات أعدت بعناية لذلك الغرض.
ب. ودراسة مفصلة في سنة 1964 قام بها (معهد الإيمان والدراسات الاجتماعية) في جامعة طهران.
لقد وجد الأستاذ زونيس – كما ذكر ميلوك - أن هناك أربع خصائص متميزة تنتصب قائمة كعلامات خاصة دالة على الشخصية الإيرانية والسلوك الإيراني.
وقد سمى الأستاذ زونيس تلك العلامات المميزة كالآتي:
1. الإيمان بأن السلوك البشري تهيمن عليه المصالح الذاتية وحدها.
2. سوء الظن أو الارتياب.
3. القلق وعدم الاستقرار.
4. الاستغلال الشخصي للأفراد بعضهم البعض.
ونقل انطباع شاه إيران نفسه عن الشخصية الإيرانية بأنها مولعة بالنفاق والمراءاة، وبعدم الرغبة في العمل الجماعي، وبعدم الإحساس بوجود الآخرين. وتتمتع بضعف المبادئ.
- بحث للفرنسي أدور سابيليه(2) بعنوان (إيران من الجانب الآخر) في كتابه (إيران مستودع البارود).
- بحث قام به المؤرخ العراقي الأستاذ (البروفسور) عماد عبد السلام رؤوف، في مقدمة كتاب (الصراع العراقي الفارسي)، لنخبة من المؤرخين.
أهم الخصائص النفسية التي تميز الشخصية الفارسية
لقد تطرق هؤلاء العلماء إلى جملة من الخصائص النفسية، التي تميز الشخصية الإيرانية، أهمها:
• الغدر: بسبب شكوك الإيراني وعدم ثقته بالآخرين فليس لديه القدرة على الامتزاج. انه يبحث عن الأمان في الانعزالية عن الناس، أو بواسطة توجيه ضربته الأولى.
• الشك والارتياب وسوء الظن: فالشعور بعدم الأمان مغروس عميقا عند الإيرانيين. إن هذا الشعور بالارتياب يجعل الإيراني يعتقد بأنه ليس هناك شيء بنفس البساطة والاستفادة التي ربما يظهر عليها، وأنه لا يمكن قبول الأمور على أساس قيمتها السطحية أو الظاهرية.
• الوقاحة: في قطعة أدبية مشهورة في الأدب الفارسي ينصح أحد الحكام الإيرانيين من ذوي العقل الراجح ابنه حول الكيفية التي يتوجب على الابن اتباعها من أجل أن يكسب حياته في إيران قائلاً:
(لا تتخوف من سوء استعمالك للحق أو السلطة ولا من الإذلال أو تشويه السمعة والافتراء… وعندما يجري طردك خارج أحد الأبواب تعال وادخل بابتسامة من باب آخر… كن وقحاً ومتغطرسا وغبياً، لأنه من الضروري في بعض الأحيان التظاهر بالغباوة لأن في ذلك فائدة. حاول أن تقيم علاقات مع أولئك الذين يتبوأون مناصب عالية. اتفق في الرأي مع أي شخص بغض النظر عن ماهية رأيه، وذلك من أجل أن تجتذب تأييد عطفه الأكبر).
• الشعور بالتفوق أو الاستثنائية الفذة التي لا مثيل لها: يصبح هذا الشعور مثل درع يحتمي وراءه الفرد ويخفي نفسه أثناء فترة التطور الثقافي السريع. وهذا يجعل الهوية الإيرانية قادرة على البقاء بالرغم من تعرضها لموجات مختلفة من الغزوات، وقادرة على امتصاص مؤثرات ثقافية كانت تواجهها بدون أن تغوص الهوية الإيرانية الذاتية إلى القعر. وعلى خلاف الشعوب الأخرى لم يمتزج الفرس بوشائج الصلة الوثيقة مع العرب حملة الراية الإسلامية، بل حافظ الفرس على شخصيتهم الذاتية حتى في ظل الإسلام. ففي مقابل المذهب السني الشائع بين العرب اخترعوا المذهب الشيعي. وعندما كان مجموع المسلمين يخضعون لسلطان الخليفة فان الإيرانيين اتخذوا من المذهب الشيعي ذريعة لمناهضة شرعية الخلافة باعتبار عدم جواز الإمامة إلا حصراً بسلالة علي. واستعان الفرس بالتكتل الشيعي لتحقيق مآربهم. إن الفرس مسلمون، ولكنهم يختلفون عن المسلمين الآخرين. ومن هذا المنطلق استطاعوا الاستمرار على تحصين أنفسهم ضد الانصهار.
• الكذب: إن المعنيين بدراسة إيران وشؤونها متفقون عموماً على الاستنتاج القائل بأن الارتياب وعدم الاطمئنان والتخفي الديني تحت مظهر كاذب هي مميزات الإيرانيين. حتى إن محمد رضا بهلوي قد ذكر هذه المميزات بصورة فظة وذلك بقوله: (ان الفرس يكذبون). وقد اشتكى الشاه السابق أيضاً من أن الكذب ذاته يجري تمجيده على أساس أنه فضيلة، مقتبساً في شكواه ما جاء في كتاب الشاعر الفارسي سعدي:
(إن الكلمات التي تخدعك وتضللك، ولكنها تسعد قلبك هي أغلى من الصدق. وتزيد في قيمتها عن الشيء الذي يجعلك حزينا ويعكر مزاجك). إن المثل القائل: (احجب عن العيون ذهابك وذهبك ومذهبك) هو واحد من عدد كبير من تحذيرات شرعية مماثلة موجودة في الجعبة التجارية الفارسية.
• الملق والتلون والمداهنة: إن الملق والمداهنة والغش يجب أن تكون جميعا الأدوات التي يحتاجها الفرد لأجل أن يتقدم ويصعد إلى أعلى. لقد قال زعيم إيراني: إن الإيرانيين هم مثل الحرباء. إنهم يغيرون ألوانهم كل يوم وتتلون سياساتهم بما يتناسب مع ألوانهم المتغيرة. إن استعمال تعبيرات مثل: (إنني عبدك المطيع) أو (إنني التراب الذي تطأه قدماك) أو (دعني أقبل رجليك ألف مرة) هي جزء صغير من مفردات قياسية للغة اليومية التحادثية.
• المراوغة والخداع والباطنية: يرى الأجنبي في الفارسي مسلماً يمارس شعائر الدين غير أنه لا يمكن له أن يجزم بأنه من المؤمنين. وقد تعلم الناس أن لا يظهروا معتقداتهم بصورة علنية. وكانوا عند الضرورة لا يترددون في التظاهر بإنكارها ويلجأون إلى التحايل والمراوغات لخداع خصومهم. ولا يزال يوجد حتى الآن فئات يمكن اعتبارها مسلمة من الناحية الرسمية غير أن أفراد عوائلها يمارسون الطقوس الزرادشتية المتوارثة.
• الازدواجية: الثنائية عند الفارسي هي صفته المميزة ففي أعماق نفسه حماس منقطع النظير، ومشاعر أشبه ما تكون بالأعراض المرضية، أما في الظاهر فهو متحلل من كل ارتباطاته بالقيم والأعراف والتقاليد. متصوف في قرارة نفسه، مخاتل وماكر في تصرفاته الظاهرية.
• الطبيعة الإيحائية: يتأثر الفارسي كثيراً بالأساليب الإيحائية كالصور والتمثيل، ويندمج تماماً فيها، بحيث يبدو وكأنه يعيش ذاتياً الحالة المعروضة أمامه. في ليلة صافية الأديم وفي قرية صغيرة تقع جوار رضائية عرضت إحدى السينمات المتجولة فلماً غربياً على شاشة نصبت في الهواء الطلق. وعندما اختطف أحد أفراد العصابة بطلة الفلم بوحشية وأردفها على جواده سارع الحاضرون إلى امتطاء خيولهم واندفعوا لمطاردة الخاطف!
• الغطرسة واحتقار الغير: إن الفارسي إنسان متغطرس، وأكثر ميلاً من غيره لاحتقار الغريب فيما إذا اعتقد بأنه يحاول إخضاعه وإذلاله، أو أنه يتحاشاه عند الاقتضاء. والفارسي بطبيعته المتغطرسة لا يتردد في إظهار إعجابه بنفسه. وعندما يحس الفارسي بالسعادة يتظاهر دائماً بالمرارة والألم!
في جذور الأمراض والعقد النفسية الفارسية
في المقدمة الرائعة التي كتبها البروفسور عماد عبد السلام رؤوف - وهو أحد علماء التاريخ العراقيين المعروفين – لكتاب (الصراع العراقي الفارسي)، نجد تحليلاً عميقاً للأسباب والدوافع التي تختفي وراء النفسية الفارسية المعقدة وما ينضح عنها من سلوك وتصرفات.
إن الخبيرين السابقين وصف كل واحد منهما الحالة وأعراضها. أما الدكتور عماد عبد السلام فلم يكتف بالعرض أو التوصيف الخارجي – وهذه هي ميزته الكبيرة على سابقيه - إنما غاص وراء الأسباب الكامنة لها، ووضع أيدينا على الجذور الضاربة في أعماق النفس (الفارسية).
إن السلوك (الفارسي) يجعل الناظر إليه يسأل دائماً: لماذا يتصرف الفارسي ويسلك هكذا؟ ومن الصعوبة أن يجد جواباً شافيا لهذا السؤال المحير عن هذا السلوك (الفارسي) الغريب!
إن الدكتور عماد عبد السلام قد أجاب عن هذا السؤال المحير جواباً شافياً كافياً حين قال وهو يحلل أسباب إصرار الحكومة الإيرانية على مواصلة عدوانها المسلح ضد العراق رغم كل الوساطات ومحاولات الصلح طيلة ثماني سنين من الحرب الدامية (مقدمة الكتاب/ مقتطفات من الصفحات: 11-18):
(إن موقفاً معانداً كهذا لم يكن ناتجا عن أسباب آنية قوامها ما يحدث بين الدول المتجاورة من خلافات، ويحل بالوسائل السياسية عادة… إنما هو امتداد لموقف فارسي راسخ معاد للعراق والأمة العربية اتخذ فيه في كل مرحلة سماته المنسجمة مع طبيعتها. فمنذ العصور القديمة، وحتى ما قبل ظهور الإسلام اتخذ العداء الفارسي شكل الغزو العسكري السافر… واتخذ في العصور الإسلامية شكلا مستترا لكنه أكثر خبثا وخطورة تمثل بالحركات الشعوبية العلنية منها والباطنية المناهضة لقيم الإسلام والثقافة والقيم العربية… فما هي إذن الأسباب الثابتة لهذا الصراع الطويل عبر المراحل التاريخية المتعاقبة)؟
وضع إيران الجيوبولوتيكي
(إن الإجابة على هذا السؤال تكمن في وضع إيران الجغرافي- السياسي نفسه. فالخارطة القومية لإيران توضح بجلاء أنها كيان لا قومي: بمعنى أنها لم تقم تحقيقا للروح القومية الجمعية. فإيران كيان سياسي تتعدد فيه القوميات وتتباين حتى تصل إلى نحو خمس أو ست قوميات رئيسة.
ومن المهم أن نلاحظ أن أحجام هذه القوميات متقاربة على نحو لا يجعل من أحداها منفردة أكثرية ويجعل القوميات الأخرى أقلية. بل ليس من الممكن إطلاق لفظ (أقلية) على إحداها إلا إذا اعتبرنا سائر القوميات الأخرى كلاً على حدة…
يحق لنا أن نتساءل: إذا كان كيان إيران لا قومياً فلماذا هو كيان أصلا؟ ولم اتخذت حدودها شكلها المعروف الآن؟
وبعبارة أخرى: إذا كان هدف القوميات هو تحقيق إرادتها المستقلة المتمثلة بشكل دولة، ولم تكن في إيران قومية رئيسة فما هو مبرر وجود دولة إيران؟ عن أي هدف قومي تعبر؟ وأية إرادة تمثل؟…
إن لهذه القوميات جميعاً - باستثناء الفرس - امتدادات واسعة خارج حدود إيران نفسها فالعرب هم جزء من أمتهم العربية. والأكراد يتوزعون على منطقة ليس في إيران منها إلا جزء فحسب، وللأذربيجانيين امتداد كبير يشمل مساحات واسعة من تركيا والاتحاد السوفيتي، أما البلوج فهم جزء من شعب يقيم نصفه الأخر في باكستان وأفغانستان. وهكذا فان جميع هذه القوميات لها امتداداتها خارج الرقعة السياسية لإيران. فوجوهها- من ثم- إلى خارج إيران لا إلى داخلها، فهي لا تمثل الإرادة المكونة للدولة المركزية الإيرانية. ومن المؤكد ان هذه الدولة ليست هدفا لأي منها إذ لا مصلحة لهم فيها بحال).
الفرس أقل عدداً وأدنى حضارة
نعم! (الفرس هم الوحيدون الذين ليست لهم إمتدادات قومية خارج إيران. فهم إذن عامل (الشد) الوحيد الذي يشد هذه القوميات المتباينة في نطاق دولة واحدة. ولكنهم من جهة أخرى كانوا أقل وأدنى حضارة من أن يستطيعوا ممارسة دورهم في شد هذه القوميات وتجميعها تحت سيطرتهم. لذا فقد كان الفعل السياسي والعسكري الفارسي على الدوام أكبر من حجمهم الحقيقي.
لقد كانوا فعليا مجرد قومية وسط قوميات متعددة لكل منها تراثها وحضارتها ووطنها. ولكن الفرس مارسوا دورهم بصفتهم القومية المركزية الوحيدة أو القومية العليا في جميع أوطان تلك القوميات إضافة إلى وطنهم نفسه، واتسم توسعهم على حساب قوميات الهضبة الإيرانية الأخرى بالسمة العسكرية البحتة. لذا فقد جاءت ثماره على شكل احتلال فعلي وليس نتيجة مد حضاري فارسي مثلاً، أو حركة مركزية تستقطب تلك الشعوب نحو ثقافة واحدة…
إن استمرار سياسة شد القوميات في دولة واحدة كان يعني استمرار سيطرة الفرس على هذه القوميات. بمعنى أن عودة القوميات إلى ممارسة مصائرها المستقلة كان يساوي تفكك السيطرة الفارسية وانهيارها. وهو أمر وقف الحكام الفرس ضده على الدوام… ولم يكن الفرس على مستوى حضاري مكافئ للحضارات المتقدمة الموجودة إلى الغرب منهم، لذا فقد اخذوا موقعهم كـ(متلق) للحضارة لا صانع لها). كما مر بنا في مطلع المقالة السابقة.
ثلاث حقائق رئيسة في كلام الدكتور عماد عبدالسلام
يمكن تلخيص ما قاله البروفسور عماد عن هذا الوضع بثلاث نقاط رئيسة هي:
1. الفرس لا يشكلون سوى أقلية بالنسبة لمجموع الأقليات القومية الأخرى التي تستوطن الهضبة الإيرانية (عامل جغرافي).
2. إن لهذه القوميات جميعاً - باستثناء الفرس- امتدادات واسعة خارج حدود إيران نفسها (عامل جغرافي).
3. الرغبة في السيطرة على بقية القوميات المتباينة، وشدها باتجاه الدولة المركزية في الداخل (عامل سياسي). ولكنهم كانوا أقل عدداً وأدنى حضارة من أن يستطيعوا ممارسة دورهم هذا في شد هذه القوميات وتجميعها تحت سيطرتهم. لذا فقد كان الفعل السياسي والعسكري الفارسي على الدوام أكبر من حجمهم الحقيقي.
عقدة النقص أصل كل العقد في الشخصية الفارسية
إن رغبة الفرس – مع قلتهم العددية وتدنيهم الحضاري - في السيطرة على شعوب تفوقهم عدداً وحضارة، ولها امتدادات خارجية، هو الذي أنتج عندهم ذلك الشعور العميق بالنقص، والذي ترسخ بمرور الزمن وتراكم المعاناة حتى صار عقدة لا تفارقهم. مثلهم كمثل شخص جاءت به ظروف الحياة ليقود فريقاً من الرجال يفوقونه في تحضرهم وتحصيلهم العلمي وقوتهم ووجاهتهم، فإذا لم يكن متماسكاً نفسياً تولد عنده شعور بالنقص تجاههم. فإذا تكرر الموقف نفسه - بصورة أو بأخرى - نشأت عنده عقدة النقص.
وبما أن تحقيق رغبة الفارسي في هذه السيطرة بالوسائل الطبيعية غير ممكن، فإن ذلك جعله يجنح دوماً إلـى أساليب ملتوية وحيل غير مألوفة يوازن بها هذا الفرق في التفوق، ويصل بها إلى هدفه من السيطرة.
لقد ترسخت هذه الأساليب الملتوية والحيل الشاذة على مر الدهور وكر العصور حتى صارت جزءا من شخصيته وسمة أو طابعا يدمغ تلك الشخصية. أي تحولت كل واحدة من تلك الأساليب والحيل إلى عقد نفسية متأصلة، ممتدة الجذور عميقاً عميقاً في نفس الفارسي.
العدوانية والتوجس والشك
يواصل الدكتور رؤوف حديثه فيقول: (لقد أدرك الفرس أن تحقيق سيطرتهم على عدد كبير من القوميات يفوقهم بعضها عددا وحضارة لا يكون إلا بإخضاعها إلى ضغط تحد خارجي وإثارة شعور التوجس لديها من خطر ما يأتي من الخارج. وعليه فقد وظف الفرس التحديات المختلفة في المنطقة لصالح تأكيد هيمنتهم على قوميات ما عرف بإيران.
وكان التحدي الحقيقي أمام الفرس هو ذلك التحدي القادم من غرب إيران أي من الوطن العربي. بيد أنَّهُ - على قوته - لم يكن عسكريا بقدر ما كان حضاريا)…
مركب الشعور بالنقص تجاه العرب
(وكان إحساس الفرس بتخلفهم تجاه الفعل الحضاري الآتي من الغرب يتخذ وضعا حادا انعكس على شكل رد فعل غير حضاري نحوه استهدف تدمير الحضارة فيه، أو مكافأة تأثيره على الأقل، ولكن بالفعل العسكري وحده. وبذا فقد أصبح التوسع إلى الخارج وبخاصة باتجاه الوطن العربي الوجه الآخر لسياسة فرض الهيمنة السياسية والعسكرية على شعوب الهضبة الإيرانية في الداخل… وكان التوسع الخارجي بحد ذاته يقدم مبررا قوياً لسياسة التوسع الداخلي بضم القوميات غير الفارسية في إيران تحت قبضة حكومة مركزية قوية).
(الفارسية) عقدة وعقيدة توسعية
وهكذا تحولت (الفارسية) من كونها إحدى قوميات (إيران) إلى عقيدة توسعية تعبر عن جيوبولوتيكية لا تحقق أغراضها إلا بالتوسع المستمر أكثر من تعبيرها عن إرادة أمة قومية بذاتها. وهذا ما يفسر ظهور سلالات حاكمة في إيران من غير الفرس التزمت بسياسة الفرس نفسها… فالافشاريون والزنديون والقاجاريون مثلاً - وهم ليسوا فرساً - لم يكونوا ليصبحوا (شاهات) لإيران لو لم يلتزموا (بالعقدة الفارسية) فيحذون حذو أسلافهم في معاداة الأمة العربية وسلب أراضيها ومياهها سواء أكان ذلك في العراق، أم في الاحواز، وسواحل الخليج العربي)…
عقيدة وعقدة عداء ضد العرب
ونستمر مع التحليلات الرائعة للبروفسور عماد عبد السلام وهو يقول: (لقد تحول مركب النقص الحضاري هذا على مر العصور إلى عقيدة راسخة معادية لكل الحضارات العربية أو التي وجدت في الأرض العربية. بل انه تحول في اللاوعي الفارسي إلى نزعة عدوانية مدمرة لكل فكرة بل قيمة تأتي من هذا الاتجاه. وظف الحكام الفرس هذه العقدة النفسية في صالح هيمنتهم على القوميات المحيطة بهم بأن أشعروها على الدوام بأن تصديهم لهذه المؤثرات رهين باستمرار الهيمنة المركزية عليها)[3].
اللؤم ونكران الجميل
(ولما لم يكن هذا الغرب يمثل إلا مصدر إشعاع للحضارة، لا خطرا ماديا حقيقيا فإن العقلية الفارسية تعودت أن تنظر إلى هذه الحضارة بعين واحدة. إنها تتأثر بها لأنها مضطرة إلى ذلك لنقص في مستواها الحضاري، وتعاديها في الوقت نفسه لأنها تمثل خطراً يهدد سيطرتها على القوميات العديدة التي تحيط بها، فلقد اعتنق الفرس الإسلام كسائر شعوب المشرق لكنهم حاربوه من داخله، وتعلموا الآداب العربية لكنهم حاربوها بما تعلموه منها، وكتبوا بالحرف العربية لكنهم شنوا حرباً على اللغة العربية نفسها).
الخوف والحقد والملق
(ومع أن العرب لم يكونوا عدوانيين تجاه الفرس أو غيرهم، وإنما هداة ورسل دين مساواة جديد فان هذه الحقيقة لم تكن تنفذ إلى اللاوعي الفارسي حيث تكمن عقدة الخوف والكره من كل ما هو عربي. فمن الثابت تاريخياً أن دهاقنة الفرس تملقوا العرب بعد زوال سلطانهم السياسي توسلا إلى الإبقاء على مركزهم الاجتماعي والاقتصادي بين الشعوب غير الفارسية. حتى إذا ما ضعف كيان العرب السياسي - وكان للفرس نصيبهم البارز في هذا الضعف - عادوا إلى ممارسة دورهم السابق في إحياء التقاليد السياسية القديمة بإنشاء الدولة التي توظف فيها عقدة الكره والخوف لصالح هيمنة الفرس عليها).
المسكنة والشعور بالاضطهاد
(إن التاريخ لم يسجل أية أعمال عدائية قام بها العرب ضد إيران بل العكس دائماً. وعلى الرغم من ذلك فان الفرس كانوا يصورون أي عدوان يقومون هم به على الأمة العربية بأنه (دفاع عن النفس) حتى اصبح هذا قانوناً ثابتاً في السياسة الخارجية الفارسية في مختلف مراحل التاريخ. ومعنى هذا أنهم إن لم يجدوا خطرا حقيقياً يهدد بلادهم من الغرب فإن عليهم أن يوحوا إلى شعوبهم بمثل هذا الخطر. وهو ما يفسر بوضوح لم كانت إيران أكثر أطماعا بجيرانها الغربيين كلما تعرضت وحدتها السياسية إلى خطر التجزئة في الداخل، وطالبت شعوبها بحقوقها القومية التي بخسها الفرس عبر التاريخ.
وهكذا فإن أحياء مظاهر ومفاهيم متخلفة، وإسقاطها على الحاضر، وخلق جو من اللاعقلانية، وتأجيج النعرات البدائية والعصبيات القائمة على أسس بالية لا ظل لها في الواقع، قد أصبح إحدى الوسائل الثابتة في لمِّ شعث قوميات عديدة، لكل منها ثقافتها وتراثها المستقل.
ولما لم يكن كالنزعات العدائية اكثر بدائية وتخلفا، فقد أضحت إثارة هذه النزعات وإقناعها بين حين وآخر بمزيد من الأعمال العدوانية التوسعية يمثل علاجا مناسبا لأية حالة تفكك تتعرض لها (الوحدة الداخلية).
عقدة الدخالة
أما من صار على رأس السلطة في إيران فلا بد أن يتقمص تلك الشخصية ويصاب بتلك العقدة النفسية، وإن لم يكن فارسياً في أصله وعنصره؛ وإلا فقد زمام السيطرة على دفة الحكم. وكما أن رجلاً جاءت به الأقدار ليكون حاكماً أو شيخاً لقبيلة غير قبيلته لا يمكن له أن يقود القبيلة بتقاليد وأعراف غير تقاليدها وأعرافها، وإنما عليه - لكي يستمر في قيادتها - أن يتقمص روحها وشخصيتها، ويتمثل سلوكها، ويعبر عن أمالها وتطلعاتها، وإلا رفضته وفقد السيطرة على قيادها. بل إن هذا الحاكم أو الشيخ عادة ما يكون متطرفاً في كل ذلك إلى الحد الذي يتفوق فيه على ابن القبيلة الأصيل؛ لأن عقدة الشعور بالغربة أو الدخالة كثيراً ما تدفع الدخلاء إلى هذا التطرف أو التصرف ليغطوا به على هذا الشعور الذي لن يشفوا منه مهما تطرفوا، وكيف تصرفوا ! كذلك فعل كل حاكم إيراني من أصل غير فارسي. إنه يحكم إيران بروحية الفرس ونفسيتهم وأعرافهم وتقاليدهم، وقد يتطرف في سلوكه وعدوانيته فيتفوق على مثيله الفارسي على قاعدة (ملكي أكثر من الملك). كما فعل الصفويون ومن لف لفهم. وإلى هذا المعنى أشار البروفسور عماد عبد السلام رؤوف بقوله: (ومع أن سلالات غير فارسية حكمت إيران في بعض العهود إلا أن سياستها لم تكن لتختلف عن السياسة الفارسية التقليدية التي ذكرنا. فالافشاريون والزنديون والقاجاريون مثلا وهم ليسوا فرساً لم يكونوا ليصبحوا (شاهات) لإيران لو لم يلتزموا (بالعقدة الفارسية) فيحذون حذو أسلافهم في معاداة الأمة العربية.
وعلى هذا الأساس فإن (الفارسية) قد تتمثل في شخص عربي في أصله؛ فيكـون بلاءاً أكثر من الفارسي نفسه. وهنا يمسي التفريق بين عالم أو فقيه أو عربي وآخر فارسي - يحمل كلاهما العقيدة والعقدة نفسها - بلاهة وحمقاً.
العلاقة بين النفسية (الفارسية) والشيعية
لعل سائلاً يسأل: وما علاقة النفسية الشيعية بالنفسية الفارسية؟! فأجيب:
إن الرفض أو التشيع الفارسي دين اخترعه الفرس للتنفيس عن أحقادهم وعقدهم أولاً، وتحقيق أغراضهم ومطامعهم ثانياً. لكنهم ستروا سوأته برقاعة (التشيع) ليروج على الناس، ويجد له بينهم آذاناً صاغية.
ومن الطبيعي أن كل فكرة أو مبدأ ينتشر - حين ينتشر - وهو يحمل معه أخلاق أصحابه وعقليتهم ونفسيتهم، ومناهج تفكيرهم، وطرائق سلوكهم وتعبيرهم. ولا يمكن أن ينتشر مجرداً عن ذلك. فالعرب حين خرجوا إلى العالم بدينهم حملوا معهم أخلاقهم وروحهم ومناهجهم وطرائقهم. ولم يقتصر تأثر العالم بهم على دينهم فقط، بل تجاوزه إلى لغتهم وأساليب معيشتهم وأزيائهم وآداب مائدتهم. فانتشر الإسلام، وانتشر معه الوفاء بالوعد، والالتزام بالعهد، والعفو، والسماحة، والصدق، والعدل، وحرية التعبير عن الرأي، والعقلية المنضبطة بالدليل، البعيدة عن الخرافة، القائمة على العلم المؤسس على التجربة، والمتحرر من الفلسفة.
الشيء نفسه حصل حينما اندفع الفرس بدينهم المحرف (التشيع الفارسي). فإنهم نشروا معه أخلاقهم وأفكارهم، أو عقائدهم المسبقة، وعقليتهم الخرافية، ونفسيتهم المعقدة، بل وألسنتهم المعوجة، وأزياءهم، وطعامهم، وعاداتهم، وتقاليدهم، وتواريخهم، ومشاعرهم، وشعائرهم، وطقوسهم، وفلكلورهم؛ فتجد جمهور المتدينين بدينهم مصاباً بالعقد والأمراض، ومتصفاً بالأخلاق، ومتمتعا بالعقلية الفارسية نفسها، على تفاوت في درجات الإصابة وظهور الأعراض شدةً وضعفاً. حتى إنها قد تزيد عند البعض من غير الفرس عنها في الفارسي المصاب بها أصلاً!
مثلهم كمثل المسيحية حين خرجت من أرض العرب ووصلت إلى روما، ارتدت إلينا صليبية تحمل أحقاد الرومانيين وعقدهم وخرافاتهم وعقائدهم، وأخلاق الأوربيين ورذائلهم منسوبة زوراً إلى المسيح و(العذراء). وهكذا تحول جمهور المسيحيين - دون أن يشعروا - إلى صليبيين، أو متدينين بدين آخر غير الذي خرج منهم أولاً، وهم يحسبون أنهم لا زالوا على دين المسيح.
إن الأوربي حين صار مصدر الديانة وانتقلت عاصمة المسيحية إلـى (رومـا) و(القسطنطينية) صار يصدر إلينا أخلاقه وعقائده وعقليته ونفسيته هو باسم (المسيحية).
الشيء نفسه حصل للإسلام حين خرج من أرض العرب إلى بلاد فارس، ثم صار يصدر إلينا من (قم) و(مشهد) باسم (التشيع لأهل البيت). فانتقلت معه أخلاقه وعقائده وعقليته ونفسيته تحت هذا المسمى. فكل من تشيع بتشيع الفرس ينبغي أن ننظر إليه على أنه يحمل تلك العناصر، وأنه مصاب بالأمراض الفارسية نفسها. فإذا أردنا أن نصف له علاجاً فمن خلال هذه النظرة لنصل إلى التشخيص السليم الذي على أساسه يمكن توصيف العلاج الناجع له. أما التشخيص الذي نقطع به نحن - والذي أنا في صدد بيانه وتحليل جذوره ووضع الوصفة المناسبة له في هذا الكتاب- فهو أن الرفض أو التشيع الحالي عبارة عن أمراض وعقد نفسية، قبل أن يكون انحرافات عقيدية أو فكرية وسلوكية، وأن التعامل الناجح مع المتشيعين بهذا التشيع – وهم جمهور الشيعة وعامتهم - ينبغي أن ينبني على هذا التشخيص أو الأساس مهما بدا سوداوياً أو تشاؤمياً - كما قد يحلو للبعض أن يسميه - لكنه الواقع والحقيقة التي يجب علينا أن نعترف بها ونواجهها بشجاعة مهما كانت مرة أو كريهة المنظر، وإلا أخطأنا في توصيف العلاج.
(الفارسية) ظاهرة وليست عرقاً
تأسيساً على ما سبق نقول: إن النفسية الفارسية المعقدة، والسلوك المنحرف المنعكس عنها ليس مختصا بالفرس حصراً، فلا يمكن أن يصاب بها غير الفارسي أصلاً. إنما هي عقدة مرضية تصيب كل من تأثر بها، وظاهرة اجتماعية توجد في كل مجتمع تقبَّل جراثيمها، وإن لم يكن فارسياً في عنصره، أو إيرانيا في بيئته ومنشئه.
(الفارسية) وباء يمكن أن ينتقل بالحث والعدوى، فيصيب أجناساً أخرى عاشرت الفرس وتأثرت بهم. أو أفراداً عاشوا بينهم، لا سيما من وصل منهم إلى رأس السلطة في إيران؛ لأنه يجد نفسه مضطراً إلى أن تتمثل فيه جميع الأمراض والعقد النفسية الفارسية، وإلا لن يتمكن من ضم تلك الأشتات المختلفة من العناصر والشعوب التي تقطن الهضبة الإيرانية تحت جناحه.
العجمي والمستعجم
إن هذا يدعونا إلى الحذر من العربي أو العراقي المصاب بـ(العقدة الفارسية) أكثر من الفارسي أو الإيراني نفسه ؛ لأن الأول يزيد على الثاني بكونه يعاني من عقدة (الدخالة) التي تجعل من عدوانيته وحقده أكثر تطرفاً وحدة. بل قد نجد فارسياً بريئاً من هذا المرض إلى الحد الذي نعتبره فيه عربيا في لغته وروحه وديانته، فمن أحب العرب وتكلم بلسانهم فهو عربي.
خلاصة القول: أن العجمي والمستعجم طينة واحدة. هذا إن لم يكن المستعجم أكثر شراً وأضل عن سواء السبيل. ومن هنا قال من قال: (إذا استعجم العربي فاقتلوه)؛ لأن العربي المستعجم شر من العجمي نسباً وأصلاً !
• الشيخ الدكتور طه حامد الدليمي
• باحث ومفكر إسلامي كبير - العراق
• نشر هذا الموضوع في حلقات في أغسطس 2007
المراجع
________________________
(1)جاك ميلوك باحث أقدم في جامعة (الدفاع الوطني الأمريكية) شغل منصب نائب مساعد وزير الخارجية الأمريكية ومستشار الوزير في الوزارة نفسها، ورئيس البعثة الدبلوماسية الأمريكية في طهران. وهو اختصاصي في الشؤون السياسية والاقتصادية لمنطقة الشرق الأدنى الآسيوية.
(2)باحث متخصص في شؤون الشرق الأوسط والقضايا الإسلامية والساحة الإيرانية. كان صديقاً للشاه والدكتور مصدق.
(3) وهذا ما توحي بِهِ إيران على الدوام إلى الشيعة في العراق وغيره من الدول المجاورة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق