بندر بن عبدالله الشويقي
@Drbandarsh |
بسم الله الرحمن الرحيم الشيخ محمد ـ رحمه الله ـ خرج في مطلع القرن الثاني عشر الهجري ، و هذا الفترة تدخل ضمن ما اصطُلح على تسميته بـ (عصور الانحطاط). حيث كانت بلاد المسلمين تعاني انحطاطاً شاملاً في جميع مناحي الحياة : دينياً وسياسياً واجتماعياً واقتصادياً. وكانت صور الشرك والوثنية أكبر مظاهر هذا الانحطاط. حيث شاع بين الناس دعاء الأموات والتعلق بالأضرحة والمزارات ، والغلو في الصالحين والذبح لقبورهم والنذر لها، والاستغاثة بها عند الشدائد ، علاوةً على السحر والشعوذة ، وتصديق مدعي علم الغيب ، ونبذ الشرائع والتحاكم إلى العوائد الجاهلية. وقبل الحديث عن نصيب بلاد نجدٍ من ذلك الضلال، لا بدَّ قبل ذلك من النظر للصورة العامة لبلاد الإسلام في القرون المتأخرة ، قبيل دعوة الشيخ وأثناءها وإلى اليوم : ففي بلاد مصر ـ مثلاً ـ يذكر على باشا مبارك في كتابه (الخطط التوفيقية 1/244) أنه كان في زمنه في القاهرة وحدها مائتان وأربعة وتسعون ضريحاً!!. وقبله ذكر المؤرخ الجبرتي أن أغنى الناس في مصر وأعظمهم ثراءً في وقته هم سدنة القبور والأضرحة (3/426)! أما في بلاد الشام فيذكر عبدالرحمن بك سامي ، صاحب كتاب (القول الحق في بيروت ودمشق ص 97) أنه زار في دمشق وضواحيها فقط مائةً وأربعة وتسعين ضريحاً ومزاراً. وكان ذلك عام (1890م ). وأما في العراق فقد ذكر محمد رؤوف في كتابه (مراحل الحياة في الفترة المظلمة وما بعدها ) أنه في أول القرن الرابع عشر الهجري كان يوجد في بغداد مائة وخمسون جامعاً قلَّ أن يخلو جامعٌ منها من ضريح! ويذكر صاحب كتاب (ترجمة الأولياء في الموصل الحدباء ) أن بلدة الموصل في وقته كانت تشتمل على أكثر من ستة وسبعين ضريحاً مشهوراً! وقد صنف علامة العراق محمود الآلوسي كتاباً عنوانه (القول الأنفع في الردع عن زيارة المدفع). وسبب تصنيفه لهذا الكتاب أن أهل بغداد كانوا يتبركون بمدفعٍ قديمٍ من بقايا العثمانيين! وقد ذكر الشيخ محمد بهجت الأثري في كتابه (أعلام العراق ص145 ) أن الناس "كانوا يعتقدون في هذا المدفع اعتقاد الجاهلية في اللات والعُزَّى ومناة الثالثة الأخرى"! وأما في بلاد المغرب فقد ذكر صاحب كتاب (الإعلام بمن حلَّ بمراكش وأغمات من الأعلام 3/195 ) أن القبائل هناك قاموا بثورة عارمة ضد المحتلين الأسبان فقط عندما بنوا مركز حراسة قرب ضريح لأحد الأولياء! وأما مكة المكرمة ، فقد ذكر المؤرخ محمود فهمي المهندس المتوفى سنة (1311هـ ) في كتابه (البحر الزاخر ) : أن النجديين بعد دخولهم لمكة هدمُوا فيها ما يزيد على ثمانين قبة فاخرة مبنية على قبور وأضرحة منسوبة لآل بيت النبوة. وأما في اليمن فيذكر الشوكاني ـ رحمه الله ـ في كتابه (الدر النضيد ص28 ) أن كثيراً من العوام في زمانه وبعض الخواص ـ أيضاً ـ غلوا في الصالحين حتى صاروا : "يدعونهم تارةً مع الله وتارةً استقلالاً، ويصرخون بأسمائهم ويعظمونهم تعظيم من يملك الضر والنفع ويخضعون لهم خضوعاً زائداً على خضوعهم عند وقوفهم بين يدي ربهم في الصلاة والدعاء". ويقول ـ رحمه الله ـ (ص93 ) : "اعلم أن ما حررناه وقرَّرناه ـ من أن كثيراً مما يفعله المعتقدون في الأموات يكون شركاً ـ قد يخفى على كثيرٍ من أهل العلم، وذلك لا لكونه خفياً في نفسه ، بل لإطباق الجمهور على هذا الأمر ، وكونه قد شاب عليه الكبير ، وشبَّ عليه الصغير وهو يرى ذلك ويسمعه ، ولا يرى ولا يسمع من ينكره ، بل ربما سمع من يُرَغِّب فيه ويندب الناس إليه". وأما في الآستانة عاصمة السلطنة العثمانية فقد كان هناك أربعمائة وواحد وثمانون جامعاً لا يكاد يخلو جامعٌ فيها من ضريح! وأما بلاد الهند فحدث عن بحر الشرك ولا حرجٍ. هذه الأرقام والإحصاءات التي ذكرتها خاصةٌ بالحواضر والمدن الكبرى حيث يفترض وجود العلم والعلماء، وأما في القرى والأرياف والبوادي فالأمر أشدُّ وأطمُّ. ومن أراد المزيد من ذلك فليراجع كتاب (الانحرفات العقدية في القرن الثالث عشر والرابع عشر). ويكفي المرء أن يعلم أن الأمراء والوجهاء والأثرياء في ذلك الوقت كانوا يتسابقون على الصَّرف ببذخ على المشاهد الشركية. وكانت هذه النفقات تُعد من أعظم مآثر الأمراء والسلاطين! فبعد هذا كله يبرز سؤالٌ كبيرٌ : ما الذي سيجعل بلاد نجدٍ استثناءً من هذه الصورة القاتمة؟! وهل أهلها منزهون عما يجوز على غيرهم ؟! أو أنهم خلقوا من طينةٍ خاصةٍ لا تقبل الضلال والشرك ؟! إذا كان من ينفى وجود الشرك ببلاد نجدٍ يعتمد على وجود علماء وقضاة عندهم، فما عند غيرهم في سائر الأمصار أضعاف أضعاف ما عند النجديين. ومع ذلك لم يكن مجرَّد وجود أولئك العلماء عاصماً لتلك البلاد من الوقوع في تلك المظاهر الوثنية. وبلاد نجدٍ مهما حاول الباحثون تفخيمها وتضخيم الحركة العلمية فيها في تلك الحقبة ، فمن اليقين أنها لم تبلغ عُشر معشار ما هو موجود ببلاد مصر والشام والعراق واليمن والهند. وقد كان أصحاب الهمة من النجديين يرحلون لتلك الحواضر إذا رغبوا في توسيع علومهم ومعارفهم. و كانت نجدٌ إلى وقت خروج الشيخ محمد ـ رحمه الله ـ تكاد تكون نسياً منسياً، حيث ظلت تعيش على هامش التاريخ قروناً متطاولةٍ. لهذا السبب قلت في مطلع مقالتي إن ذاك السؤال معكوس مقلوبٌ. فالسياق التاريخي كله يدل على أن بلاد نجدٍ قبل الدعوة السلفية لم يكن لديها أيُّ حصانة تميزها عن غيرها حتى يظن أحدٌ سلامتها من مظاهر التخلف والجهل التي شاعت في سائر بلاد المسلمين. هذا إذا نظرنا للمسألة نظراً عقلياً مجرداً. وإلا فإن مؤرخي الدعوة السلفية (ابن غنام، وابن بشر) ـ رحمهما الله ـ وصفوا تلك المظاهر بوضوح تامٍ. وقد رأيتُ الأخ الباحث (راشد العساكر) في مقالته بجريدة الرياض تسرَّع كثيراً في التشكيك في نقلهما دون مستندٍ معتبرٍ سوى أنه لم يجد أثراً لتلك المظاهر الشركية في مؤلفات فقهية وقف عليها لبعض علماء ذلك الوقت! وبناءً على هذا المنهج الذي سار عليه الأخ راشد ينبغي له أن يُنكر أيضاً ـ وجود المظاهر الشركية في جميع بلاد الإسلام؛ إذ من السهل جداً أن يجمع الباحث عشرات المصنفات الفقيهة الخالية من الشرك. فمن المعلوم أن كثيراً من فقهاء تلك الحقبة وما بعدها لم يقعوا في تلك الوثنيات ولا دعوا إليها، لكنهم ـ أيضاً ـ لم ينتدبوا لمحاربتها كما فعل الشيخ محمد بن عبدالوهاب ـ رحمه الله ـ . والشيخ نفسه يذكر أن كثيراً من علماء وقته كانوا يوافقونه في بطلان تلك المظاهر، لكنهم يعارضونه في التكفير. وإذا كان الأخ راشد يصرُّ على التشكيك في نقل ابن غنام وابن بشر، فيكفيه النظر في المراسلات التي كانت تتم بين الشيخ محمد ـ رحمه الله ـ وبين معارضيه من المنافحين عن أهل الشرك والضلال من أهل نجد وعلمائها، وتنصيصه على أسماء بعض البلاد النجدية مثل الخرج ومعكال وسدير الرياض وغيرها. وفي جميع تلك المراسلات لم يكن هناك جدالٌ حول وجود ما يذكره الشيخ من مظاهر وثنية، لكن الجدال كان في حكمها وحكم أهلها. وأول ما يُذكر هنا المصنف الذي كتبه أخوه سليمان عبدالوهاب في الرَّد عليه ونقض دعوته. ومن ذلك رسالة ضمن مجموع مؤلفات الشيخ (5/26 ) تحدَّث فيها عن معارضة مطوع بلدة (رغبة) أحمد بن يحيى ، ومحمد بن سليمان مطوع (أثيثية). وذكر أنهما كانا يعاديان دعوته للتوحيد. و في رسالة بعث بها الشيخ إلى عبد الوهاب بن عبد الله بن عيسى يقول : "إنكم لا تفهمون شهادة أن لا إله إلا الله ولا تنكرون هذه الأوثان التي تعبد في (الخرج ) وغيره التي هي الشرك الأكبر". الرسائل الشخصية رقم (39 ) وفي رسالة أخرى يقول :"إذا كان من اعتقد في عيسى ابن مريم مع أنه نبي من الأنبياء وندبه ونخاه فقد كفر فكيف بمن يعتقدون في الشياطين كالكلب أبي حديدة وعثمان الذي في (الوادي ) والكلاب الأخر في (الخرج ) وغيرهم". الدرر السنية (1/77-78 ) وفي رسالةٍ أخرى يقول : "من أعظم الناس ضلالاً متصوفةٌ في (معكال ) وغيره مثل ولد موسى بن جوعان وسلامة بن مانع وغيرهما يتبعون مذهب ابن عربي وابن الفارض". الدرر السنية (2/28 ) وفي رسالة من الشيخ لعبدالرحمن بن ربيعة مطوع أهل ثادق ، قال ـ رحمه الله ـ : "من عبد الله ليلا ونهارا ثم دعا نبياً أو ولياً عند قبره فقد اتخذ إلهين اثنين ولم يشهد أن لا إله إلا الله لأن الإله هو المدعو كما يفعل المشركون اليوم عند قبر الزبير أو عبد القادر غيرهم وكما يفعل قبل هذا عند قبر زيد وغيره". الرسائل الشخصية رقم (24 ) وزيد المذكور هنا هو زيد بن الخطاب وقد كان له ضريحٌ ببلدة الجبيلة قرب العيينة في وسط نجدٍ. و يصف ـ رحمه الله ـ لأهل العلم ردة فعل الناس في بلدته تجاه دعوته للتوحيد فيقول : "من محمد بن عبدالوهاب إلى من يصل إليه من علماء الإسلام ... أما بعد : فإنه قد جرى عندنا فتنة عظيمة بسبب أشياء نهيت عنها بعض العوام من العادات التي نشأوا عليها ، وأخذها الصغير عن الكبير ، مثل : عبادة غير الله ، وتوابع ذلك من تعظيم المشاهد وبناء القباب على القبور وعبادتها واتخاذها مساجد وغير ذلك مما بينه الله ورسوله غاية البيان...". (الدرر السنية 2/49 ). وفي رسالة بعث بها الشيخ إلى شريف مكة سنة (1204هـ ) يقول: "سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد : جرى علينا من الفتنة ما بلغكم وبلغ غيركم . وسببه هدم بناء في أرضنا على قبور الصالحين ، ومع هذا نهيناهم عن دعوة الصالحين وأمرناهم بإخلاص الدعاء لله ، فلما أظهرنا هذه المسألة مع ما ذكرنا من هدم البناء على القبور كبر على العامة وعاضدهم بعض من يدعي العلم، لأسباب ما تخفى على مثلكم". الدرر1/57 وممن ذكرهم الشيخ بأسمائهم وذكر عداواتهم لدعوة التوحيد وتحسينهم للشرك وتكفير أتباع الشيخ والمؤيدين له : (عبدالله بن مويس ) ، وهو من علماء بلدة حرمة بسدير. (الدرر 2/62 ). وكذلك (عبدالله بن سحيم ) قاضي بلدان سدير ، و(سليمان بن سحيم ) من أهل (معكال ). وقد كان بعض هؤلاء يصنفون الردود، ويكتبون لعلماء الحرمين والشام والعراق ويؤلبونهم ضد الشيخ ويشوهون دعوته عندهم. كل هؤلاء كان الشيخ ـ رحمه الله ـ يذكر منافحتهم عن الشرك وأهله، واجتهادهم في نقض دعوته للتوحيد. فإذا لم يكن في نجدٍ شركٌ ، فعمَّن كان هؤلاء يجادلون؟! وقد كتب حمد بن معمر تلميذ الشيخ محمد ـ رحمهما الله ـ وصفاً لمبدأ دعوة شيخه ، فقال : "بدأ فدعا الناس من أهل قريته وما قرب منها : أن يتركوا عبادة أرباب القبور والطواغيت وعبادة الأشجار والأحجار والذبح للجن ونحو ذلك. و كل هذا قد وقع في قرى نجدٍ وغيرها كالبوادي". الدرر (2/220 ) ومن أبلغ صور الإثبات إقرار بعض أهل الشرك التائبين بحالهم وما كانوا عليه قبل دعوة الشيخ. فمن ذلك ما كتبه الإمام المجاهد عبدالعزيز بن محمد بن سعود ـ رحمه الله ـ لأهل المخلاف السليماني حيث قال : "لما منَّ الله علينا بمعرفة ذلك ، وعرفنا أنه دين الرسل اتَّبعناه ودعونا الناس إليه، وإلا فنحن قبل ذلك على ما عليه غالب الناس من الشرك بالله من عبادة أهل القبور والاستغاثة بهم ، والتقرب إلى الله بالذبح لهم وطلب الحاجات منهم ... ". الدرر السنية (1/226 ). وفي رسالةٍ ثانية له يقول الإمام عبدالعزيز : "كنا والناس فيما مضى على دينٍ واحدٍ، ندعوا الله وندعوا غيره، وننذر له وننذر لغيره، ونذبح له نذبح لغيره ، ونتوكل عليه ونتوكل على غيره، ونخاف منه ونخاف غيره، ونقرُّ بالشرائع من صلاةٍ وصوم وحج،ٍ والذي يعمل بهذا عندنا القليل ... إلى أن قال : وبيَّن الله لنا التوحيد في آخر هذا الزمان على يدي ابن عبدالوهاب ، وقمنا معه ، وقام علينا الناس بالعدوان والإنكار لما خالف دين الآباء والأجداد..." الدرر 1/279 ). فإن كان الأخ راشد العساكر سيشكك في جميع هذه المراسلات ويطعن في مصداقيتها فسوف أنقل له نصاً لأحد معاصري الشيخ محمد ، وهو الأمير الصنعاني ـ رحمه الله ـ فقد قال في مقدمة كتابه (تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد ) : "هذا تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد ، وجب عليَّ تأليفه وتعين عليَّ ترصيفه ، لما رأيته و علمته من اتخاذ العباد الأنداد في الأمصار والقرى وجميع البلاد، من اليمن والشام ومصر ونجد وتهامة وجميع ديار الإسلام، وهو الاعتقاد في القبور وفي الأحياء ممن يدعي العلم بالمغيبات والمكاشفات". فكما نرى فإن الصورة واضحة تمام الوضوح. ونجدٌ قبل دعوة الشيخ لم تكن سوى قطعة من بلاد المسلمين العريضة بتخلفها وانحطاطها. فما الذي بقي لمن يشكك في حقيقة حال تلك البلاد قبل دعوة الشيخ؟ وعلى أي شيء سيعتمد ؟ وهل سيصرُّ على النفي المجرَّد المبني على لا شيء ؟! لقد أمرنا الله ـ سبحانه ـ بالتحدث بنعمته والإقرار بفضله ومنته. وإني أخشى أن يكون إنكار تلك الحال القديمة ـ مع شهرتها ـ مما يدخل في جحود نعمة الله علينا حين اختص هذه الأرض بدعوة الشيخ الإمام محمد ـ رحمه الله ـ . فأصبح أهلها (العامة منهم والخاصة ) من أبعد الناس عن مظاهر الوثنية التي لا تزال موجودة في سائر الأقطار. التاريخ :4/10/1433 هـ https://www.saaid.net/monawein/sh/24.htm |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق