منقول من مدونة
بقلم | عباس بن نخي
Posted on 2015-10-26 by
قبل اتفاقية الجزائر التي وقعت عام 1975 بين نائب الرئيس العراقي آنذاك صدام حسين وشاه إيران محمد رضا بهلوي، تحت إشراف رئيس الجزائر هواري بومدين (وهي التي ألغاها صدام عام 1980 بعد قيام الجمهورية الإسلامية، تمهيداً لإشعال الحرب عليها)… كان النزاع بين البلدين على أشده، وكان للصراع أدواته وأسلحته، وأهمها دعم الشاه للقوى الكردية والإسلامية المعارضة للنظام الحاكم في العراق، مثل الملا مصطفى البرزاني، وحزب الدعوة الإسلامية… وقد أعان النظام العراقي معارضيه على نفسه بسياساته القمعية وممارسته التمييز والتنكيل والاضطهاد الطائفي بأبشع صوره وأوسع أشكاله، ولا سيما منذ تولى حزب البعث السلطة في انقلاب السابع عشر من تموز عام 1968… وكان التهجير سياسة واستراتيجية ارتكز عليها النظام، فعمد إلى موجات تسفير جماعية، أبعد فيها شريحة عريضة من الشعب بحجة “التبعية”، وهم العراقيون من الأصول غير العربية (الإيرانية والهندية والأفغانية)، وما لبثت هذه السياسة أن امتدت إلى جميع المعارضين، فشملت غير التبعية أيضاً، ولا سيما في تسفير الثمانين الذي طال مليون مواطن عراقي، في خطوة مهد فيها النظام لحربه على إيران، واتخذت من حادثة تفجير المستنصرية التي اتهم فيها حزب الدعوة حجة وذريعة…
وفي خضم ذلك فـرَّ جملة من قادة حزب الدعوة وكوادره العليا من العراق إلى دول الجوار، فلجأ أبوحسن هادي السبيتي إلى عمان (الأردن)، ومحمد حسين فضل الله إلى بيروت، وطالب الرفاعي إلى القاهرة، ثم لحقهم مهدي الآصفي وعبدالزهرة عثمان (أبوياسين، عزالدين سليم) وسامي البدري إلى الكويت، ومرتضى العسكري ومحمد علي التسخيري ومحسن الأراكي ومحمد سعيد النعماني وغيرهم إلى إيران، وقد أُلحق جل من هاجر إلى إيران ووُظف للعمل في القسم العربي لـ “دار التبليغ”، وهي مؤسسة إعلامية ثقافية كبيرة كان يديرها ناصر مكارم شيرازي وسيد هادي خسروشاهي ولفيف من الحداثيين في حوزة قم، وهي من مؤسسات مرجعية السيد شريعتمداري، وقد كانت متهمة بأنها تابعة للسافاك، وتوفر غطاءً لنشاطه في الحوزة، وقد أوكل إليها النهوض بالفكر التنويري والإسلام التجديدي، في إطار وخطاب يقابل أو يسحب البساط من تحت أقدام دعاة الإسلام الثوري، الذي كان نهج السيد الخميني ومشروع أتباعه (المعروف بخط الإمام). وهي المؤسسة التي تناولتها جملة من الفتاوى التي سطرها السيد الخميني في كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من رسالته العملية تحرير الوسيلة، من قبيل: لو قامت قرائن على أن مؤسسة دينية كان تأسيسها أو إجراء مؤونتها من قبل الدولة الجائرة ولو بوسائط، لا يجوز للعالم تصديها، ولا لطلاب العلم الدخول فيها، ولا أخذ راتبها، بل لو احتمل احتمالاً معتداً به لزم التحرز عنها، لأن المحتمل مما يهتم به شرعاً، فيجب الاحتياط في مثله. (انظر: الشرط الرابع: أن لا يكون في إنكاره مفسدة/المسائل: 16، 17، 18، 19)
وكان للدعاة المنخرطين في دار التبليغ، الذين كانوا يصدرون مجلة الهادي (بالعربية) في منتصف السبعينات، دوراً سلبياً ولعله معادياً للثورة وخط الإمام، وقد استمروا في اللمز والغمز بأن أيد شيوعية تقف خلف الثورة، حتى بعد الانتصار وسقوط الشاه… ولكن ثبات الثورة وصمود الجمهورية الفتية أمام العالم بأسره، غيَّر موقف القوم وقلبه، دون أن يجْدِهم هذا التغيير كثير نفع، فالقلوب كانت مشحونة ضدهم، وذكرى مواقفهم المعادية للخميني وثورته كانت ماثلة بآلامها ومراراتها.
ومضى الأمر على هذا المنوال، حتى رحل السيد الخميني إلى ربه، وانتقلت السلطة إلى قيادة جديدة تبنَّت سياسة تقلص البون الشاسع الذي يفصلها عن القائد السابق، سواء في العلم أو الشعبية، وغيرها من مواصفات القيادة، فعمدت إلى الجذب والاحتواء مع مَن يلحق الجزَرة، والعصى الغليظة مع من يأبى ويعارض… فلم تكتف بإغفال ماضي حزب الدعوة فحسب، بل قرَّبته وأدنته وكأنه من لحمة الثورة وصميمها! وأوكلت إليه أدواراً في منتهى الأهمية والخطر. وذلك لأسباب خفية وغامضة عجز كثيرون عن فهمها؟! لعل التلاقي الفكري في أمر الحداثة، والمشرب الواحد للفريقين في التجديد الديني يكون إحداها، لكن الأمر في مجموعه وتفصيله غريب ومريب.
من هذا الموقع الجديد، استطاع حزب الدعوة أن يستدرج القيادة الإيرانية إلى معركة الشعائر الحسينية، ويقحمها في فتنة أشغلتها طويلاً بلا طائل، وكبدتها خسائر بلا جابر! وهو ما يباهي به الشيخ التسخيري ويفاخر، فقد أعلن أنه هو الذي أقنع القيادة الإيرانية بإصدار فتوى حظر التطبير (التي عبر عنها زميله مرتضى العسكري بأنها قدمت الإسلام ودفعته إلى الأمام ألف عام!)، وقال إنه هو الذي عبأ الطلاب والمهاجرين في بلاد الغرب ليراسلوا مكتب القيادة الإيرانية ويشكوه آفات التطبير وما يورثه من شين على الدين ويسببه من وهن للمذهب… فصدر حكم الحظر، وتبعته سلسلة أحكام وأوامر قمعت المطبرين ونكلت بهم، وزجتهم في السجون والمعتقلات، وطالت بعضهم بالنفي والتسفير، وحشدت حملات إعلامية شعواء، ما زالت تتوالى لم يخمد أوارها منذ ذلك اليوم المشؤوم، ٢٩ ذي الحجة 1414، الموافق 9/6/1994، وما زالت مؤسسات إيران الثقافية والإعلامية والسياسية، وأحياناً الأمنية، تخوض حرباً طاحنة، وتجدد في كل عام معارك حامية مع الهيئات الحسينية الشيعية في جميع بلاد العالم، وقد صرفت في هذه الحرب المؤلمة ما لا يحصى من أموال، وهدرت أعز الطاقات، وبددت أثمن الإمكانيات! وما زال التسخيري لم يشف غليله من الشعائر، وحزب الدعوة لم يستوف دينه من العزاء الحسيني!
وبعيداً عن المقومات الشرعية والمعطيات الفقهية والخلفية الدليلية لهذا القرار وهذه الحرب الجائرة، فإن الأمر وفق رؤية علمية حيادية، وتقييم موضوعي يتتبع الشواهد والأرقام، يكشف كم كان القرار فاحشة وساء سبيلاً، وكم كانت خشية الإملاق هنا خِطئاً كبيراً، أورث غلّاً ضرب أطنابه في النفوس، ورزع أحقاداً لن تقتلعها أجيال من الصدور! ويمكن التثبت من طيش الموقف وجنون الفكرة بملاحقة الأمر على صعدي: حقيقة تشويهه للمذهب، وإمكانية تنفيذ الحظر وإعماله.
وإذا كان الأول أمراً خارجياً يصعب حسمه والبت فيه والوقوف على إجابة رياضية حاسمة بنعم أم لا على واقعه، فتقول طائفة إنه مسيء وموهن، وترد أخرى إنه يورث المذهب عزَّة وهيبة وقوة، فإن الأمر الثاني جلي في فساده، بيِّن في فشله وإخفاقه، فالحظر لم يحقق أهدافه والمنع لم يطبق ولم ينفذ، فلا شك في أنه لم يحد من ممارسة التطبير، بل لعلَّه روَّج له وساهم في انتشاره، ليصبح شعيرة عامة بعد أن كان أداءً نخبوياً محدوداً، تنهض به فئة من جماعة، وصفوة من قلة!.. وإذا به يتحول إلى شعيرة جماعية وحالة شعبية، وهذه حقيقة محسوسة، تنهض بإثباتها الأرقام قبل أي شيء آخر:
التطبير في الكويت كان يقام في بيت صغير من بيوت الدعية، بأعداد محدودة لا تتجاوز عشرين رجلاً، جلهم من المقيمين العراقيين والإيرانيين، وكلهم شيرازيون… أما اليوم فقد أصبحت أعداد المطبرين تعد بآلاف الشباب الكويتي المؤمن، المتفاني في الولاء، والمتسابق على تعميقه في روحه، المتطلع بحرقة وإخلاص إلى بثه في مجتمعه، وهم ليسوا حزبيين ولا أتباع فئة مغلقة محدودة، بل هم نسيج الطائفة الطبيعي، من مقلدي المراجع العظام الخوئي والخميني والتبريزي والسيستاني والوحيد والروحاني والحكيم وغيرهم، والشعيرة الآن تقام في عدة أماكن منها: الحسينية الكربلائية (الدعية) / حسينية بن نخي (صباح السالم) / هيئة أئمة البقيع (الرميثية) / حوزة الرسول الأعظم (بنيد القار) / حسينية سيد الشهداء (القادسية) / حسينية بوحمد (الدعية) / حسينية الحائري (شرق) / هيئة شباب صاحب الزمان (بنيد القار)/ مضيف الإمام الرضا (الصوابر)/ حسينية الإمام علي (الدعية) / حسينية دار الحسين (سعد العبدالله) / الحسينية الزينبية (بنيد القار) / بيت السقاي (الدعية) / مجلس أنوار آل محمد (صباح السالم).
والحالة الكويتية متكررة بتفاصيلها في باقي بلاد الخليج، فالتطبير لم يكن يمارس في الأحساء والقطيف والمدينة المنورة أصلاً، ولكن بعد حرب القوم على هذه الشعيرة والمنع بالقهر والقوة، وما ظهر من نفوذ حزب الدعوة وهيمنته على القرار في إيران، وهو حزب يعرف الجميع أنه يبيّت النية للقضاء على الشعائر من رأسها، وفي استراتيجيته ودستوره مسخ الحسينيات وتسخيرها لفكره ومصالحه، أو اجتثاثها إن عجز وأعيته الحيلة، كونها مواقع ومحطات “عاطفية” تعيق المسيرة الجهادية والتوعوية التي يقودونها!.. من هنا توجَّس المؤمنون وخافوا على دينهم وشعائرهم، وقاموا ببناء السور الأول الذي يصد الغزاة ويدفع المهاجمين، فأصبح التطبير يقام في تلك البلاد المباركة في كثير من الأماكن منها: موكب عشاق الحسين (سنابس)/ موكب أنصار سيد شباب أهل الجنة (الخويلدية)/ موكب عرس الطف (الاوجام)/ الموكب الزينبي (الشويكة)/ موكب صوت الحسين (القديح)/ موكب أهل البيت (سيهات)/ موكب السبط الشهيد المحسن بن فاطمة (تاروت)/ موكب تطبير عشاق الحسين (أم الحمام)/ هيئة عابس والحر والشهيد (صفوى)/ موكب أم البنين (حلة محيش)/ موكب عشاق محمد (تاروت)/ موكب عشاق الحسين (البحاري)/ موكب صلاة العاشقين (سيهات)/ موكب عشاق الحسين (العوامية). والشعيرة تقام أيضاً في الأحساء والمدينة المنورة، في مواكب ضخمة وأعداد كبيرة، يعرف المؤمنون أماكنها ومواقيتها.
وكذا لم يكن التطبير يقام في سوريا (موطن السيد محسن الأمين غفر الله له) أصلاً، أما بعد المنع فصار يقام في منطقة السيدة زينب عليها السلام، وكان يشارك فيه قبل الحرب الأهلية القائمة هناك آلاف المطبرين، وكان أبرز الهيئات: موكب أنصار الحسين (يخرج من مؤسسة أهل البيت، بقيادة السيد محمد رضا شبر رحمه الله). أما الآن فالمواكب تناهز العشرين، أحصيت منها: هيئة خدام الطفل الرضيع/ هيئة قتيل العبرات/ هيئة خدام أم البنين (أمام المقبرة، بقيادة حسين رزوق)/ هيئة جنود الإمام المهدي عجل الله فرجه/ هيئة الزهراء عليها السلام/ هيئة أنصار الحسين/زهيئة خدام العقيلة/ هيئة خدام الحسين/ هيئة أهل البيت/هيئة علي الأكبر/ هيئة السيدة زينب/ هيئة لواء ابي الفضل العباس (كوع السودان، بقيادة أبوعجيب)/ هيئة كفيل زينب (قصر الضيافة، بقيادة علي ماميتا)/ هيئة عقيلة بني هاشم (حي الصادق، بقيادة سامر الروماني)/ هيئة أبي الفضل العباس (حسينية الكتاب والعترة، بقيادة حسن مرعي)/ موكب شباب علي الأكبر (الحسينية الحيدرية القديمة، جعفر فتاح)، وجل منتسبي هذه الهيئات والمطبرين فيها هم من المجاهدين الذين يحملون السلاح ويتولون الدفاع عن حرم السيدة عليها السلام، وقد رحل كثير منهم شهداء في هذا الطريق… وفي هذا العام خرجت للمرة الأولى مواكب ضخمة للتطبير في منطقة حمص ـ كفر عبد، التي توافدت المواكب عليها من عدة قرى مجاورة.
أما في لبنان فقد كان التطبير وقفاً على موكب واحد عظيم يقام في النبطية المحروسة، وآخر أصغر في بيروت الخندق الغميق (يديره الشيخ مرتضى عياد)، أما اليوم فهو يقام بعشرات الآلاف، أمكنني أن أحصي منها: حسينية الموسوي (بيروت، برج البراجنة)/ موكب الغبيري (المشرفية، حركة أمل)/ حسينية سيد الشهداء (بيروت، الصفير، شيرازية)/ موكب الشحيمي (برج البراجنة)/ بيت الشيخ جميل حمود (بيروت)/ حسينية حاريص (الجنوب)/ موكب يانوح (قضاء صور)/ موكب الغازية (قضاء صيدا)/ موكب جباع (قضاء النبطية)/ موكب القصيبة (قضاء النبطية)/ موكب عنقون (قضاء الزهراني)/ موكب الصرفند (قضاء صيدا)/ موكب الجوادين (صير الغربية، قضاء النبطية)/ موكب جرجوع (قضاء النبطية)/ موكب حبوش (قضاء النبطية).
أما في العراق فحدِّث ولا حرج، فالأمر بلغ حدوداً غير مسبوقة في تاريخ الشعيرة وتاريخ العراق على السواء (بلغت أعداد المطبرين هذا العام مليون نسمة وفق بعض التقديرات)، وعلى الرغم من أن العتبات المقدسة تتبع ـ رسمياً ـ إدارة الأوقاف التي كانت تحت سلطة حزب الدعوة وأتباع فضل الله والحكومات الفاسدة (لم تعد كذلك اليوم ولله الحمد)، إلا أن السلطة الثانية في إدارة العتبات المقدسة والمتمثلة بالمرجعية الدينية، رجحت كفَّتها وغلبت بزخمها الجماهيري الكاسح، وفرضت رأيها وموقفها، فشرعت أبواب العتبات لهيئات التطبير، ومئات آلاف المتشحين بالأكفان، الشاهرين سيوف العرفان، النازفين دماء العشق والولاء، بل سهلت لهم الأمر وأخذت له عدته بفرش أرضية الأفنية والصحون الشريفة بالنطوع اللازمة، وكسوة جدرانها بالأغطية التي تقيها الدماء… ولكننا لن ندرج الوضع هناك رقماً مقابل الحظر الإيراني، فالحق والإنصاف أن المانع في العراق كان النظام البعثي لا سواه، والحظر كان سارياً إبان حكم صدام، ومع سقوطه وهلاكه تحرر الناس وانطلقوا في ممارسة هذه الشعيرة وبلغوا منها هذه الحدود.
أما الهند وباكستان فالموقف في تلك البلاد تجاه هذه القضية أقرب إلى الهزل منه إلى الجد! إذ ما إن بلغ المؤمنين خبر حظر التطبير عبر وسائل الإعلام، حتى خرجوا في مظاهرات صاخبة لم توفر هتافاتها سباباً ولعناً، وما كانت الجماهير تنفضُّ قبل إحراق دمى تمثل وترمز إلى القيادة الإيرانية! وفي يوم الثالث من محرم (بعد أربعة أيام من إصدار الحكم الإيراني)، أُبلغ الناس ـ عبر وكلاء إيران ـ بأمر جديد يستدرك الأمر الأول، ويعلن أن المنع والحظر متوجه للداخل الإيراني لا الخارج الهندي والباكستاني! ما خلق مفارقة ومغالطة صارخة، وكشف عن خلل واضطراب في المباني والأحكام، جعل علَّة التصدي للمرجعية تتوجه للخارج دون الداخل، بينما أحكامها تتوجه للداخل دون الخارج، وهي معضلة عجز عن حلها جميع جهابذة النظام وفلاسفته حتى الآن!
ومع كوني متموضعاً في هذه المعركة، أتخذ طرفاً وأتخندق في جبهة، لا أسمح لنفسي بالحياد، وأخاف ربي أن ألحق بمحاربي العزاء… إلا أنني أتوجه إليهم بالنصح والإرشاد، وأقصد العقلاء في الجمهورية الإسلامية، وهم كثر، وهو ما يفرضه حق الأخوَّة في الدين والمذهب، لا أبالي ولا أكترث بالناهضين بحملة تشويه الشعائر الحسينية، من المهرجين والمرتزقة الذين لا دين لهم، فهؤلاء سيكفُّون إذا كفَّت الحكومة وينقلبون إذا انقلبت، وستراهم ـ حينها ـ يعدون التطبير علامة جهاد وتضحية، ورياضة للبذل، وإعداداً للفداء والعطاء! وخذ ما شئت من ألفاظ الإطراء…
تُرى يا إخوتي الكرام، هل من العقل والحكمة إلهاب الساحة سنوياً بهذه الفتنة المهلكة، وإشغالها بهذا السجال العقيم؟ هل من ثمرة لهذه المعارك العقائدية والفقهية غير بث الشقاق والفرقة والنزاع، وزرع الغل والأحقاد؟ ألم تتضح لكم استحالة النيل من هذا الأمر؟ ألم تثبت التجربة بالحس والشهود ناهيك بالحجة والبرهان، أنه كان قراراً خاطئاً، ما زال يفضي إلى نتائج عكسية؟ ألم يأن لكم أن تتراجعوا وترعووا، وتأمروا أتباعكم وموظفيكم بالكف؟ ولا سيما في ظل حرب ضروس تطال الطائفة بالقتل والتنكيل والحصار والتهجير، والمذهب بالتكفير والمروق من الدين؟ بالله من هو المستفيد من إشعال هذه النار وإذكائها في كل عام؟! المطبرون يقلدون مراجع يبيحون الأمر ويرون استحبابه، فأين المنكر هنا؟ فإن أبيتهم إلا النهي عنه، ترى أليس من شرائط النهي عن المنكر الاستطاعة واحتمال الأثر؟ ألم يثبت عملياً عجزكم؟ إن السياسة والكياسة التي طوعت مشروع النووي الإيراني لينسجم مع سياسة العالم الكافر المحارب، أولى أن تُعمَل مع إخوة في الدين والمذهب، وفي شأن خاص يمس مقدساتهم وعباداتهم.
إن الشيعة في العالم يحبون إيران، بصرف النظر عن نظام الحكم فيها، ملكياً كان أم جمهورياً، علمانياً كان أم إسلامياً، ذلك للصورة الحاضرة في الأذهان والماثلة للعيان: البلد الشيعي الأكبر في العالم، والوحيد (قبل تحرير العراق) الذي يحكمه شيعة، يمارس فيه الشيعي شعائره الدينية، ويظهر معتقداته دون خوف ولا تقية. هذه حقيقة واضحة وجلية… ولكن الحقيقة الأُخرى التي على المسؤولين في إيران أن يعوها ويدركوها، هي أن الشيعة يحبون التشيع أكثر من حبهم لإيران، يحبون دينهم أكثر من هذا أو ذاك العنوان، إنهم يحبون أهل البيت ويوالونهم أكثر من أي شيء في الدنيا، ولا يسمحون لشيء أو كائن أن ينافسه وينازعه على قلوبهم.
بقلم | عباس بن نخي
Posted on 2015-10-26 by
قبل اتفاقية الجزائر التي وقعت عام 1975 بين نائب الرئيس العراقي آنذاك صدام حسين وشاه إيران محمد رضا بهلوي، تحت إشراف رئيس الجزائر هواري بومدين (وهي التي ألغاها صدام عام 1980 بعد قيام الجمهورية الإسلامية، تمهيداً لإشعال الحرب عليها)… كان النزاع بين البلدين على أشده، وكان للصراع أدواته وأسلحته، وأهمها دعم الشاه للقوى الكردية والإسلامية المعارضة للنظام الحاكم في العراق، مثل الملا مصطفى البرزاني، وحزب الدعوة الإسلامية… وقد أعان النظام العراقي معارضيه على نفسه بسياساته القمعية وممارسته التمييز والتنكيل والاضطهاد الطائفي بأبشع صوره وأوسع أشكاله، ولا سيما منذ تولى حزب البعث السلطة في انقلاب السابع عشر من تموز عام 1968… وكان التهجير سياسة واستراتيجية ارتكز عليها النظام، فعمد إلى موجات تسفير جماعية، أبعد فيها شريحة عريضة من الشعب بحجة “التبعية”، وهم العراقيون من الأصول غير العربية (الإيرانية والهندية والأفغانية)، وما لبثت هذه السياسة أن امتدت إلى جميع المعارضين، فشملت غير التبعية أيضاً، ولا سيما في تسفير الثمانين الذي طال مليون مواطن عراقي، في خطوة مهد فيها النظام لحربه على إيران، واتخذت من حادثة تفجير المستنصرية التي اتهم فيها حزب الدعوة حجة وذريعة…
وفي خضم ذلك فـرَّ جملة من قادة حزب الدعوة وكوادره العليا من العراق إلى دول الجوار، فلجأ أبوحسن هادي السبيتي إلى عمان (الأردن)، ومحمد حسين فضل الله إلى بيروت، وطالب الرفاعي إلى القاهرة، ثم لحقهم مهدي الآصفي وعبدالزهرة عثمان (أبوياسين، عزالدين سليم) وسامي البدري إلى الكويت، ومرتضى العسكري ومحمد علي التسخيري ومحسن الأراكي ومحمد سعيد النعماني وغيرهم إلى إيران، وقد أُلحق جل من هاجر إلى إيران ووُظف للعمل في القسم العربي لـ “دار التبليغ”، وهي مؤسسة إعلامية ثقافية كبيرة كان يديرها ناصر مكارم شيرازي وسيد هادي خسروشاهي ولفيف من الحداثيين في حوزة قم، وهي من مؤسسات مرجعية السيد شريعتمداري، وقد كانت متهمة بأنها تابعة للسافاك، وتوفر غطاءً لنشاطه في الحوزة، وقد أوكل إليها النهوض بالفكر التنويري والإسلام التجديدي، في إطار وخطاب يقابل أو يسحب البساط من تحت أقدام دعاة الإسلام الثوري، الذي كان نهج السيد الخميني ومشروع أتباعه (المعروف بخط الإمام). وهي المؤسسة التي تناولتها جملة من الفتاوى التي سطرها السيد الخميني في كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من رسالته العملية تحرير الوسيلة، من قبيل: لو قامت قرائن على أن مؤسسة دينية كان تأسيسها أو إجراء مؤونتها من قبل الدولة الجائرة ولو بوسائط، لا يجوز للعالم تصديها، ولا لطلاب العلم الدخول فيها، ولا أخذ راتبها، بل لو احتمل احتمالاً معتداً به لزم التحرز عنها، لأن المحتمل مما يهتم به شرعاً، فيجب الاحتياط في مثله. (انظر: الشرط الرابع: أن لا يكون في إنكاره مفسدة/المسائل: 16، 17، 18، 19)
وكان للدعاة المنخرطين في دار التبليغ، الذين كانوا يصدرون مجلة الهادي (بالعربية) في منتصف السبعينات، دوراً سلبياً ولعله معادياً للثورة وخط الإمام، وقد استمروا في اللمز والغمز بأن أيد شيوعية تقف خلف الثورة، حتى بعد الانتصار وسقوط الشاه… ولكن ثبات الثورة وصمود الجمهورية الفتية أمام العالم بأسره، غيَّر موقف القوم وقلبه، دون أن يجْدِهم هذا التغيير كثير نفع، فالقلوب كانت مشحونة ضدهم، وذكرى مواقفهم المعادية للخميني وثورته كانت ماثلة بآلامها ومراراتها.
ومضى الأمر على هذا المنوال، حتى رحل السيد الخميني إلى ربه، وانتقلت السلطة إلى قيادة جديدة تبنَّت سياسة تقلص البون الشاسع الذي يفصلها عن القائد السابق، سواء في العلم أو الشعبية، وغيرها من مواصفات القيادة، فعمدت إلى الجذب والاحتواء مع مَن يلحق الجزَرة، والعصى الغليظة مع من يأبى ويعارض… فلم تكتف بإغفال ماضي حزب الدعوة فحسب، بل قرَّبته وأدنته وكأنه من لحمة الثورة وصميمها! وأوكلت إليه أدواراً في منتهى الأهمية والخطر. وذلك لأسباب خفية وغامضة عجز كثيرون عن فهمها؟! لعل التلاقي الفكري في أمر الحداثة، والمشرب الواحد للفريقين في التجديد الديني يكون إحداها، لكن الأمر في مجموعه وتفصيله غريب ومريب.
من هذا الموقع الجديد، استطاع حزب الدعوة أن يستدرج القيادة الإيرانية إلى معركة الشعائر الحسينية، ويقحمها في فتنة أشغلتها طويلاً بلا طائل، وكبدتها خسائر بلا جابر! وهو ما يباهي به الشيخ التسخيري ويفاخر، فقد أعلن أنه هو الذي أقنع القيادة الإيرانية بإصدار فتوى حظر التطبير (التي عبر عنها زميله مرتضى العسكري بأنها قدمت الإسلام ودفعته إلى الأمام ألف عام!)، وقال إنه هو الذي عبأ الطلاب والمهاجرين في بلاد الغرب ليراسلوا مكتب القيادة الإيرانية ويشكوه آفات التطبير وما يورثه من شين على الدين ويسببه من وهن للمذهب… فصدر حكم الحظر، وتبعته سلسلة أحكام وأوامر قمعت المطبرين ونكلت بهم، وزجتهم في السجون والمعتقلات، وطالت بعضهم بالنفي والتسفير، وحشدت حملات إعلامية شعواء، ما زالت تتوالى لم يخمد أوارها منذ ذلك اليوم المشؤوم، ٢٩ ذي الحجة 1414، الموافق 9/6/1994، وما زالت مؤسسات إيران الثقافية والإعلامية والسياسية، وأحياناً الأمنية، تخوض حرباً طاحنة، وتجدد في كل عام معارك حامية مع الهيئات الحسينية الشيعية في جميع بلاد العالم، وقد صرفت في هذه الحرب المؤلمة ما لا يحصى من أموال، وهدرت أعز الطاقات، وبددت أثمن الإمكانيات! وما زال التسخيري لم يشف غليله من الشعائر، وحزب الدعوة لم يستوف دينه من العزاء الحسيني!
وبعيداً عن المقومات الشرعية والمعطيات الفقهية والخلفية الدليلية لهذا القرار وهذه الحرب الجائرة، فإن الأمر وفق رؤية علمية حيادية، وتقييم موضوعي يتتبع الشواهد والأرقام، يكشف كم كان القرار فاحشة وساء سبيلاً، وكم كانت خشية الإملاق هنا خِطئاً كبيراً، أورث غلّاً ضرب أطنابه في النفوس، ورزع أحقاداً لن تقتلعها أجيال من الصدور! ويمكن التثبت من طيش الموقف وجنون الفكرة بملاحقة الأمر على صعدي: حقيقة تشويهه للمذهب، وإمكانية تنفيذ الحظر وإعماله.
وإذا كان الأول أمراً خارجياً يصعب حسمه والبت فيه والوقوف على إجابة رياضية حاسمة بنعم أم لا على واقعه، فتقول طائفة إنه مسيء وموهن، وترد أخرى إنه يورث المذهب عزَّة وهيبة وقوة، فإن الأمر الثاني جلي في فساده، بيِّن في فشله وإخفاقه، فالحظر لم يحقق أهدافه والمنع لم يطبق ولم ينفذ، فلا شك في أنه لم يحد من ممارسة التطبير، بل لعلَّه روَّج له وساهم في انتشاره، ليصبح شعيرة عامة بعد أن كان أداءً نخبوياً محدوداً، تنهض به فئة من جماعة، وصفوة من قلة!.. وإذا به يتحول إلى شعيرة جماعية وحالة شعبية، وهذه حقيقة محسوسة، تنهض بإثباتها الأرقام قبل أي شيء آخر:
التطبير في الكويت كان يقام في بيت صغير من بيوت الدعية، بأعداد محدودة لا تتجاوز عشرين رجلاً، جلهم من المقيمين العراقيين والإيرانيين، وكلهم شيرازيون… أما اليوم فقد أصبحت أعداد المطبرين تعد بآلاف الشباب الكويتي المؤمن، المتفاني في الولاء، والمتسابق على تعميقه في روحه، المتطلع بحرقة وإخلاص إلى بثه في مجتمعه، وهم ليسوا حزبيين ولا أتباع فئة مغلقة محدودة، بل هم نسيج الطائفة الطبيعي، من مقلدي المراجع العظام الخوئي والخميني والتبريزي والسيستاني والوحيد والروحاني والحكيم وغيرهم، والشعيرة الآن تقام في عدة أماكن منها: الحسينية الكربلائية (الدعية) / حسينية بن نخي (صباح السالم) / هيئة أئمة البقيع (الرميثية) / حوزة الرسول الأعظم (بنيد القار) / حسينية سيد الشهداء (القادسية) / حسينية بوحمد (الدعية) / حسينية الحائري (شرق) / هيئة شباب صاحب الزمان (بنيد القار)/ مضيف الإمام الرضا (الصوابر)/ حسينية الإمام علي (الدعية) / حسينية دار الحسين (سعد العبدالله) / الحسينية الزينبية (بنيد القار) / بيت السقاي (الدعية) / مجلس أنوار آل محمد (صباح السالم).
والحالة الكويتية متكررة بتفاصيلها في باقي بلاد الخليج، فالتطبير لم يكن يمارس في الأحساء والقطيف والمدينة المنورة أصلاً، ولكن بعد حرب القوم على هذه الشعيرة والمنع بالقهر والقوة، وما ظهر من نفوذ حزب الدعوة وهيمنته على القرار في إيران، وهو حزب يعرف الجميع أنه يبيّت النية للقضاء على الشعائر من رأسها، وفي استراتيجيته ودستوره مسخ الحسينيات وتسخيرها لفكره ومصالحه، أو اجتثاثها إن عجز وأعيته الحيلة، كونها مواقع ومحطات “عاطفية” تعيق المسيرة الجهادية والتوعوية التي يقودونها!.. من هنا توجَّس المؤمنون وخافوا على دينهم وشعائرهم، وقاموا ببناء السور الأول الذي يصد الغزاة ويدفع المهاجمين، فأصبح التطبير يقام في تلك البلاد المباركة في كثير من الأماكن منها: موكب عشاق الحسين (سنابس)/ موكب أنصار سيد شباب أهل الجنة (الخويلدية)/ موكب عرس الطف (الاوجام)/ الموكب الزينبي (الشويكة)/ موكب صوت الحسين (القديح)/ موكب أهل البيت (سيهات)/ موكب السبط الشهيد المحسن بن فاطمة (تاروت)/ موكب تطبير عشاق الحسين (أم الحمام)/ هيئة عابس والحر والشهيد (صفوى)/ موكب أم البنين (حلة محيش)/ موكب عشاق محمد (تاروت)/ موكب عشاق الحسين (البحاري)/ موكب صلاة العاشقين (سيهات)/ موكب عشاق الحسين (العوامية). والشعيرة تقام أيضاً في الأحساء والمدينة المنورة، في مواكب ضخمة وأعداد كبيرة، يعرف المؤمنون أماكنها ومواقيتها.
وكذا لم يكن التطبير يقام في سوريا (موطن السيد محسن الأمين غفر الله له) أصلاً، أما بعد المنع فصار يقام في منطقة السيدة زينب عليها السلام، وكان يشارك فيه قبل الحرب الأهلية القائمة هناك آلاف المطبرين، وكان أبرز الهيئات: موكب أنصار الحسين (يخرج من مؤسسة أهل البيت، بقيادة السيد محمد رضا شبر رحمه الله). أما الآن فالمواكب تناهز العشرين، أحصيت منها: هيئة خدام الطفل الرضيع/ هيئة قتيل العبرات/ هيئة خدام أم البنين (أمام المقبرة، بقيادة حسين رزوق)/ هيئة جنود الإمام المهدي عجل الله فرجه/ هيئة الزهراء عليها السلام/ هيئة أنصار الحسين/زهيئة خدام العقيلة/ هيئة خدام الحسين/ هيئة أهل البيت/هيئة علي الأكبر/ هيئة السيدة زينب/ هيئة لواء ابي الفضل العباس (كوع السودان، بقيادة أبوعجيب)/ هيئة كفيل زينب (قصر الضيافة، بقيادة علي ماميتا)/ هيئة عقيلة بني هاشم (حي الصادق، بقيادة سامر الروماني)/ هيئة أبي الفضل العباس (حسينية الكتاب والعترة، بقيادة حسن مرعي)/ موكب شباب علي الأكبر (الحسينية الحيدرية القديمة، جعفر فتاح)، وجل منتسبي هذه الهيئات والمطبرين فيها هم من المجاهدين الذين يحملون السلاح ويتولون الدفاع عن حرم السيدة عليها السلام، وقد رحل كثير منهم شهداء في هذا الطريق… وفي هذا العام خرجت للمرة الأولى مواكب ضخمة للتطبير في منطقة حمص ـ كفر عبد، التي توافدت المواكب عليها من عدة قرى مجاورة.
أما في لبنان فقد كان التطبير وقفاً على موكب واحد عظيم يقام في النبطية المحروسة، وآخر أصغر في بيروت الخندق الغميق (يديره الشيخ مرتضى عياد)، أما اليوم فهو يقام بعشرات الآلاف، أمكنني أن أحصي منها: حسينية الموسوي (بيروت، برج البراجنة)/ موكب الغبيري (المشرفية، حركة أمل)/ حسينية سيد الشهداء (بيروت، الصفير، شيرازية)/ موكب الشحيمي (برج البراجنة)/ بيت الشيخ جميل حمود (بيروت)/ حسينية حاريص (الجنوب)/ موكب يانوح (قضاء صور)/ موكب الغازية (قضاء صيدا)/ موكب جباع (قضاء النبطية)/ موكب القصيبة (قضاء النبطية)/ موكب عنقون (قضاء الزهراني)/ موكب الصرفند (قضاء صيدا)/ موكب الجوادين (صير الغربية، قضاء النبطية)/ موكب جرجوع (قضاء النبطية)/ موكب حبوش (قضاء النبطية).
أما في العراق فحدِّث ولا حرج، فالأمر بلغ حدوداً غير مسبوقة في تاريخ الشعيرة وتاريخ العراق على السواء (بلغت أعداد المطبرين هذا العام مليون نسمة وفق بعض التقديرات)، وعلى الرغم من أن العتبات المقدسة تتبع ـ رسمياً ـ إدارة الأوقاف التي كانت تحت سلطة حزب الدعوة وأتباع فضل الله والحكومات الفاسدة (لم تعد كذلك اليوم ولله الحمد)، إلا أن السلطة الثانية في إدارة العتبات المقدسة والمتمثلة بالمرجعية الدينية، رجحت كفَّتها وغلبت بزخمها الجماهيري الكاسح، وفرضت رأيها وموقفها، فشرعت أبواب العتبات لهيئات التطبير، ومئات آلاف المتشحين بالأكفان، الشاهرين سيوف العرفان، النازفين دماء العشق والولاء، بل سهلت لهم الأمر وأخذت له عدته بفرش أرضية الأفنية والصحون الشريفة بالنطوع اللازمة، وكسوة جدرانها بالأغطية التي تقيها الدماء… ولكننا لن ندرج الوضع هناك رقماً مقابل الحظر الإيراني، فالحق والإنصاف أن المانع في العراق كان النظام البعثي لا سواه، والحظر كان سارياً إبان حكم صدام، ومع سقوطه وهلاكه تحرر الناس وانطلقوا في ممارسة هذه الشعيرة وبلغوا منها هذه الحدود.
أما الهند وباكستان فالموقف في تلك البلاد تجاه هذه القضية أقرب إلى الهزل منه إلى الجد! إذ ما إن بلغ المؤمنين خبر حظر التطبير عبر وسائل الإعلام، حتى خرجوا في مظاهرات صاخبة لم توفر هتافاتها سباباً ولعناً، وما كانت الجماهير تنفضُّ قبل إحراق دمى تمثل وترمز إلى القيادة الإيرانية! وفي يوم الثالث من محرم (بعد أربعة أيام من إصدار الحكم الإيراني)، أُبلغ الناس ـ عبر وكلاء إيران ـ بأمر جديد يستدرك الأمر الأول، ويعلن أن المنع والحظر متوجه للداخل الإيراني لا الخارج الهندي والباكستاني! ما خلق مفارقة ومغالطة صارخة، وكشف عن خلل واضطراب في المباني والأحكام، جعل علَّة التصدي للمرجعية تتوجه للخارج دون الداخل، بينما أحكامها تتوجه للداخل دون الخارج، وهي معضلة عجز عن حلها جميع جهابذة النظام وفلاسفته حتى الآن!
ومع كوني متموضعاً في هذه المعركة، أتخذ طرفاً وأتخندق في جبهة، لا أسمح لنفسي بالحياد، وأخاف ربي أن ألحق بمحاربي العزاء… إلا أنني أتوجه إليهم بالنصح والإرشاد، وأقصد العقلاء في الجمهورية الإسلامية، وهم كثر، وهو ما يفرضه حق الأخوَّة في الدين والمذهب، لا أبالي ولا أكترث بالناهضين بحملة تشويه الشعائر الحسينية، من المهرجين والمرتزقة الذين لا دين لهم، فهؤلاء سيكفُّون إذا كفَّت الحكومة وينقلبون إذا انقلبت، وستراهم ـ حينها ـ يعدون التطبير علامة جهاد وتضحية، ورياضة للبذل، وإعداداً للفداء والعطاء! وخذ ما شئت من ألفاظ الإطراء…
تُرى يا إخوتي الكرام، هل من العقل والحكمة إلهاب الساحة سنوياً بهذه الفتنة المهلكة، وإشغالها بهذا السجال العقيم؟ هل من ثمرة لهذه المعارك العقائدية والفقهية غير بث الشقاق والفرقة والنزاع، وزرع الغل والأحقاد؟ ألم تتضح لكم استحالة النيل من هذا الأمر؟ ألم تثبت التجربة بالحس والشهود ناهيك بالحجة والبرهان، أنه كان قراراً خاطئاً، ما زال يفضي إلى نتائج عكسية؟ ألم يأن لكم أن تتراجعوا وترعووا، وتأمروا أتباعكم وموظفيكم بالكف؟ ولا سيما في ظل حرب ضروس تطال الطائفة بالقتل والتنكيل والحصار والتهجير، والمذهب بالتكفير والمروق من الدين؟ بالله من هو المستفيد من إشعال هذه النار وإذكائها في كل عام؟! المطبرون يقلدون مراجع يبيحون الأمر ويرون استحبابه، فأين المنكر هنا؟ فإن أبيتهم إلا النهي عنه، ترى أليس من شرائط النهي عن المنكر الاستطاعة واحتمال الأثر؟ ألم يثبت عملياً عجزكم؟ إن السياسة والكياسة التي طوعت مشروع النووي الإيراني لينسجم مع سياسة العالم الكافر المحارب، أولى أن تُعمَل مع إخوة في الدين والمذهب، وفي شأن خاص يمس مقدساتهم وعباداتهم.
إن الشيعة في العالم يحبون إيران، بصرف النظر عن نظام الحكم فيها، ملكياً كان أم جمهورياً، علمانياً كان أم إسلامياً، ذلك للصورة الحاضرة في الأذهان والماثلة للعيان: البلد الشيعي الأكبر في العالم، والوحيد (قبل تحرير العراق) الذي يحكمه شيعة، يمارس فيه الشيعي شعائره الدينية، ويظهر معتقداته دون خوف ولا تقية. هذه حقيقة واضحة وجلية… ولكن الحقيقة الأُخرى التي على المسؤولين في إيران أن يعوها ويدركوها، هي أن الشيعة يحبون التشيع أكثر من حبهم لإيران، يحبون دينهم أكثر من هذا أو ذاك العنوان، إنهم يحبون أهل البيت ويوالونهم أكثر من أي شيء في الدنيا، ولا يسمحون لشيء أو كائن أن ينافسه وينازعه على قلوبهم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق