سلطان العامر
أضيفت بتاريخ 25 فبراير 2017
عندما شرعت أكتب هذه المقالة، كانت الفكرة التي أريد كتابتها مختلفة. كنت أريد أن أعارض ثلاثة آراء سائدة حول الرئيس الأميركي، دونالد ترامب: الأول يروجه الليبراليون داخل أميركا وخارجها، والذي يصور ترامب شذوذا عمّا هي عليه أميركا، وتصوير ما يقوله وما يفعله باعتباره أجنبيا غريبا عمّا يجب أن تكون عليه أميركا. وكنت أريد، في اعتراضي على هذا الرأي، أن لا أقع في الفخّ الذي يقع فيه من يعارضه من أصحاب الرأي الآخر من اليساريين الذين يعتقدون أن الشر، كل الشر، هو ما تفعله أميركا، والذين يردّدون أنه لا جديد تحت الشمس، وأن ترامب مثل غيره، بل إن متبنين لهذا الرأي قد يمضون خطوة أخرى، ليقولوا إن ترامب هو من يعكس الوجه الحقيقي لأميركا. كنت أريد أن أعترض على الرأيين بطريقة تردّ أيضا على رأي ثالث، يتبناه يمينيون في أميركا وخارجها، يرى في ترامب رئيسا صادقا، وافيا بوعوده، وأن كل الدعاية القوية ضده ما هي إلا ردّة فعل الطغمة الفاسدة المتحكّمة بالإعلام والدولة العميقة. وللقيام بهذه المهمة، كنت أريد أن أتحدّث عن أكثر قرارين مثيرين، اتخذهما ترامب مطلع توليه السلطة، وأبيّن ما قام به فعلا، حظر دخول مواطني الدول العربية الست وإيران، وبناء الجدار مع المكسيك. ليس القرار الأول سوى بناء وتوسيع على قرارات وإجراءات اتخذها الرئيس السابق باراك أوباما، فسورية وليبيا توقف إصدار التأشيرات فيها منذ عام 2012، أما اليمن فتوقف منذ فبراير/ شباط 2015. أما إيران والصومال فلا توجد فيهما سفارات أميركية. وهذا يعني أنه عندما أصدر ترامب القرار، فإن مواطني هذه البلدان كانوا يجدون صعوبةً بالغة من أجل الحصول على تأشيرة أو مراجعة سفارة، وأن التكاليف التي يحتاجها السفر إلى دولة قريبة توجد فيها سفارة عالية، بحيث لا يمكن إلا لفئة صغيرة فقط الانتفاع من هذه الخدمات. بالنسبة للعراق والسودان، فالحرب في الأولى، والعلاقة الفاترة بين الثانية وأميركا، جعلت من أعداد المقبولين من الدولتين قليلةً نسبيا.
نجد انعكاس هذا على الأعداد التي تأتي من هذه الدول إلى أميركا في الفترة السابقة للحظر، فمجموع الممنوحين تأشيرة هجرة من هذه الدول من 2013إلى2015 يتراوح من 17 ألفا إلى 19 ألفا سنويا، وهذا يمثل ما نسبته من 3% – 4% من الإجمالي الذي يتراوح من 473 ألفا إلى 531 ألفا. أما مجموع الممنوحين تأشيرة مؤقتة (للسياحة والدراسة وما إلى ذلك) فيتراوح عددهم من 68 ألفا إلى 78 ألفا، وهذا يمثل ما نسبته نحو 2٪ من الإجمالي الذي يتراوح من 3,3 ملايين إلى 5 ملايين. وبمقارنة بسيطة، يتراوح عدد التأشيرات المؤقتة التي منحت لدولة إسلامية واحدة، هي السعودية، من 108 آلاف إلى 133 ألفا، أي أنها أكثر من إجمالي هذه الدول السبع مجتمعةً بفارق كبير. وتجدر الإشارة أيضا أن نصيب الأسد من هذه التأشيرات الممنوحة لهذه الدول السبع يذهب إلى إيران (بما نسبته 40%).
وإضافة إلى أن القادمين من هذه الدول يواجهون صعوبات قبل قرار ترامب، وإلى أن أعدادهم قليلة نسبيا، فإن الأساس القانوني الذي اعتمد عليه ترامب، في اختياره هذه الدول السبع، مبني على قرار أصدره أوباما عام 2015، يلغي فيه الإعفاء من التأشيرة لأيٍّ من مواطني الدول الأوروبية، يحمل جنسية أحد هذه الدول السبع، فكان هذا القانون هو البنية الأساسية لجمع هذه الدول معاً تحت مسمى “دول مقلقة”.
لم يأت قرار ترامب، إذن، من الفراغ، خلافا لما يقوله الليبراليون، بل مبني على أسس وإجراءات موجودة وأرساها أوباما، لكنه يعتبر متطرفا، خلافا لما يقوله اليساريون بانعدام الفروق بين الإدارات الأميركية، في مداه وأثره. أخيرا، وهذه المرة خلافا لمحبي ترامب، فإنه لم يف بوعده، فهو لم يمنع المسلمين من دخول أميركا، بل منع ما نسبته تقل من 20% من القادمين من الدول التي يصل عدد المسلمين فيها إلى أكثر من الخمسين بالمائة (أي بدون حساب دول مثل الهند والصين اللتين يصل عدد المسلمين فيهما إلى قرابة مائتي مليون).
ينطبق الأمر نفسه على قرار ترامب الآخر المتعلق بالجدار، فخلافا لما يتمناه الليبراليون، فإن قسما كبيرا من الحدود الأميركية والمكسيكية مسيّج لمنع المتسللين غير الشرعيين. وخلافا لما يزعمه اليساريون المؤمنون بأن سياسات أميركا لا تتغير، فإن قضية الحدود مع المكسيك لم تكن قضية مهمة، إلا ابتداء من التسعينيات، فبحسب بيتر آندرياس، صاحب كتاب “ألعاب الحدود.. تأمين الحدود المكسيكية – الأميركية”، سمح توقيع اتفاقيات التجارة المفتوحة بين دول أميركا الشمالية بمرور كل أنواع السلع، ما عدا اثنتين: المخدّرات والعمالة، أي أنه، بالتوازي
مع حريّة مرور البضائع الأخرى، بدأت أميركا إظهار غلظتها وشدّتها تجاه هذين النوعين من السلع، حيث بدأ السياسيون يتنافسون فيما بينهم، من أجل إظهار أنهم الأكثر حرصا على أعمال الأميركيين وصحتهم وأمنهم من غرمائهم، عبر اتخاذ تدابير متشدّدة تجاه الهجرة غير الشرعية، أي أن الحدّ أصبح مسرحا سياسيا، لكسب رضا الجماهير، في الداخل والخارج، أكثر من غاية منع حقيقي لتسلل هذه البضائع. وفعلا، منذ التسعينيات، تم بناء مئات الأميال من الأسياج على الحدود، واستخدمت تقنيات إلكترونية عسكرية معقدة لحماية الحدود، وآلاف الأشخاص تم توظيفهم (من 4 آلاف إلى 21 ألفا)، وطائرات بشرية ومسيّرة عديدة تحلق لمراقبة الحدود من السماء. ونتيجة هذا كله: الآلاف من القتلى من المتسللين غير الشرعيين. وبكلمة واحدة: فإن 700 ميل من الألف ميل التي وعد ترامب ببناء جدار عليها مسوّرة الآن. تعني هذه الحقائق أن ما وعد به ترامب موجود أصلا، أو على الأقل: غالبيته الكبرى، وفي هذا ردّ على من يراه، من يمينيي الداخل والخارج، صادقا وصريحا.
ما يقوله هذان المثالان أن جزءا كبيرا من الأثر الذي أوقعهما قرارا ترامب ليس في مضمونهما وأثرهما الفعلي، بل في تسميتهما، فدعايته سمّت حظر مواطني الدول السبع “منع المسلمين”، وسمت الحواجز والأسوار الموجودة على الحدود مع المكسيك جدارا. وهذه النتيجة هي التي دفعتني لصياغة المقال بشكل مختلف، فعوضا عن الاكتفاء بكشف “حقيقة” ما فعله ترامب، والرد على المواقف الثلاثة السابقة، أحببت أن أشير إلى القوّة العجيبة التي تملكها “التسمية” وأثرها على الناس. وهذه ملاحظة كنت قد لاحظتها أول ما ظهر تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وبدأت جرائم التي لا تختلف نوعيا، وأقل بكثير من ناحية العدد، من جرائم نظام الأسد أو إسرائيل، لكن ردة الفعل عليها أشد من غيرها، فيما جانب كبير من ردة الفعل هذه بسبب أن تسميتها بطريقة مختلفة.
المشترك في تسميات ترامب و”داعش” أفعالهما أنهما يصوغانها باعتبارها موجهةً ضد فئات بشرية محددة، وليس ضد قضايا أو مشكلات عامة، فالحظر موجه ضد المسلمين، وليس لحفظ الأمن أو مقاومة الإرهاب، والجدار ضد المكسيكيين، وليس لحماية الحدود أو مكافحة المخدرات، والتفجير ضد الشيعة، وليس لإسقاط الحكومة أو التوسع، وهكذا. إن صحّ هذا التشخيص، فإن السؤال الذي يعقبه هو ما حدث بأجهزتنا الإدراكية، ليجعلها حسّاسةً، لأسماء السياسات أكثر من واقعها وأثرها الحقيقي؟ هذا سؤال بحاجة لتأمل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق