خالد أبو بكر
.
نشر فى : الأحد 31 يوليو 2016
مازلنا مستمرين فى حضرة الجغرافى العظيم والمفكر الفذ، الدكتور جمال حمدان، صاحب موسوعة «شخصية مصر.. دراسة فى عبقرية المكان»، وإذا كنا قد تحدثنا فى المقال السابق عن توصيفه لـ«داء الشخصية المصرية»، الذى حدده فى «الإعجاب الزائد للمصريين بذواتهم دون مبرر، وعدم قبولهم النقد»، فإننا فى هذا المقال سنتعرض لموضوع شديد الاتصال بموضوع المقال السابق وهو مفهوم «النفاق الوطنى» كما صكه حمدان، والذى أشار إليه فى تقديمه لموسوعته الاستثنائية، فى معرض حديثه عن «الإرهاب الفكرى» الذى يمارس ضد أصحاب العقليات النقدية، الذين يشيرون دون مواربة إلى مواضع الخلل لعلاجها، بغية رفعة أوطانهم، فى مواجهة أصحاب عقلية «كله تمام»، ونظرية أننا أعظم شعب فى الوجود، رغم أن التقارير الدولية الموضوعية تؤكد تراجعنا فى معظم المجالات!.
يقول حمدان: «لا يمكن لكاتب أو عالم أو مفكر أن يوجه إلى مصر نقدا موضوعيا بناء صادقا ومخلصا إلا وَعُدَّ ــ على التو والفور وللغرابة والدهشة ــ عَدُوّا بغيضا أو حاقدا موتورا إن كان أجنبيا، وخائنا أعظم أو أحقر إن كان مصريا، وهذا وذلك إنما (افتراءات على مصر والمصريين) أو أكاذيب وأباطيل.. إلخ وبالاختصار، فنحن ــ المصريين ــ أكبر جدا من النصح، ومصر فوق النقد».
هذا الموقف السائد بقوة فى اللحظة الراهنة يرى حمدان أنه «خطر للغاية، يصل إلى حد الإرهاب الفكرى والمصادرة على المطلوب مسبقا، وهو ببساطة مفجعة أكبر ضمان للتدهور والانحدار الوطنى والتجميد والتخثر والتعثر القومى؛ لأننا بمنطقه مطلوب منا ببساطة أن نصور مصر والمصريين كيوتوبيا على الأرض، كفردوس أرضى؛ فالخطر كل الخطر فى وجه هذا الموقف أن يصبح خط المقاومة الدنيا هو الطريق السهل، خط الديماجوجية والنفاق الوطنى وتملق ودغدغة غرائز الشعب وإرضاء غروره بتزيين عيوبه وتضخيم محاسنه».
وفق منهج النفاق الوطنى ــ برأى حمدان ــ «يمسى الكاتب، كشاعر القبيلة فى الجاهلية، (صناجة الوطن) وبوق الشعب كيفما كانت حقيقتهما ومهما كانت هذه حقا أو باطلا؛ وبذلك يفقد الكاتب توا وظيفته الاجتماعية ومبرر وجوده الوطنى. هذا وإلا فهو الصمت الكظيم يفرضه على نفسه فى اغتراب ونفى ذاتى عن حماة الشعوبية ولا نقول الشعب، أو أن يلوذ بالمنطق الوحيد المفتوح أمامه، المنطق الانتقامى والانهزامى معا للأسف أو الانتحار باختصار، وهو منطق «خير عقاب لهذا الشعب هو ما هو فيه».
على عكس السائد فى أيامنا هذه يحدد حمدان صفات ابن مصر البار، وأعدى أعدائها فيقول بمباشرة لا لبس فيها: «الحقيقة أن ابن مصر البار الغيور على أمه الكبرى إنما هو وحده الذى ــ لصالحها ــ ينقدها بقوة وبقسوة إذا لزم الأمر وبلا مداراة أو مداورة؛ فصديقك من صَدَقَك لا من صَدَّقَك، ومن يكُ حازما فليقسُ أحيانا على من يرحم، بل إن هذا الكاتب ليؤمن إيمانا مطلقا بأن مصر لن تتغير ولن تتطور أو تخرج من حمأتها التاريخية الراهنة إلا حين يأتيها المفكر والحاكم الصادق كلاهما مع نفسه والجرىء مع جمهوره فيواجهه علنا وبعيوبه بلا وجل ولا دجل.
بالمقابل، وإن عن غير قصد بالطبع، قد يكون أعدى أعداء مصر هم بعض المصريين المتعصبين، أولئك الذين يدفنون بإصرار رءوسهم فى الرمال ويتغابون أو يتغافلون عمدا عن عيوبنا، زاعمين باستمرار أن أم الدنيا مصر بخير، وأنه ليس فى الإمكان أبدع مما هو كائن، متشنجين على كل مصرى ينقد مصر لصالحها، ومتهمينه بتعنت أو بتخابث بعدم الولاء أو بالخيانة..إلخ».
فى الأخير نقول: لا تقدم ولا نهضة ولا رفعة من دون إطلاق العنان للعقلية النقدية، عوضا عن العقلية الاتباعية التقليدية المستسلمة للموروث دون الأخذ بمعطيات العصر.. هذا ما تقوله لنا تجارب العمران البشرى منذ بدء الخليقة وإلى أن تقوم الساعة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق