قبل حرب تموز 2006 بين حزب الله وإسرائيل، بأسابيع معدودة، كنت في ضاحية بيروت الجنوبية، رفقة الصديقين منصور النقيدان وحبيب آل جميع، ننتظر في البهو الداخلي لمكتب المرجع الديني الراحل السيد محمد حسين فضل الله.
لم يدم انتظارنا طويلا، حيث دخلت قبلنا الوزيرة ليلى الصلح، لنتبعها نحن، في ضيافة من اعتبر حينها "رأس حربة" في مشرع "تجديد الفكر الشيعي".
ما إن دخلنا حتى استقبلنا فضل الله بابتسامته العريضة، وما هي إلا لحظات حتى دارت رحى الحديث، الذي كان فيه الرجل واضحا، وضوح الشمس، حينما قال إنه يخشى على الفكر الشيعي من "المتخلفين". كان وقتها يسرد بحرقة تصوره لمستقبل تطور الفقه والفكر لدى أتباع مدرسة "آل البيت"، محذرا من الفكر "الظلامي" ومن "الخرافة" ومن عواقب "الانغلاق"، وخطورة ثقافة "الغيبيات المطلقة"، مبديا تعجبه في ذات الوقت من صمت من أسماهم بـ "المرجعيات المتخلفة"، حيال ممارسات "دخيلة" ليس لها أي علاقة بالدين، ألبست لبوسه باسم "الشعائر"، فيما هي طقوس اجتماعية، نبعت من بيئات مختلفة، أضفيت عليها "قداسة" مزعومة.
بعيد خروجنا من عند المرجع الديني، وحديثه الصريح والموجع، أتانا نبأ مقتل رجل "القاعدة" الأول في العراق، أبا مصعب الزرقاوي، وكأننا على موعد مع خطر التطرف، سواء كان فكرا، أو ممارسة وقتلا!
فضل الله لم يكن الوحيد وقتها الذي لاحظ نمو تيار "متحجر" في الوسط الشيعي، فهنالك رجل الدين السعودي الراحل د.عبد الهادي الفضلي، وقبلهما بسنوات كتب حول ذلك علي شريعتي، ومرتضي مطهري، ومحمد مهدي شمس الدين.
الأسماء السابقة كانت تلتقي على ضرورة إعمال العقل، وعدم التسليم لكل ما جاء في كتب التراث، معتبرة أن الفكر الشيعي طيلة عهده، تميز بفتح باب الاجتهاد، والتعاطي مع الأطروحات الكلامية المختلفة. من هنا، كان التشيع أقرب للفكر "المعتزلي"، وكان الإمام جعفر الصادق يناقش "الملاحدة" و"الزنادقة" دون غضاضة، ودون تعصب، وكان يحث أصحابه على ثقافة السؤال والنقاش، قائلا "اسأل عن دينك حتى يقال عنك مجنون"، في كناية عن مكانة السؤال ودوره في تشييد بنيان معرفي وعقدي قويم.
الذي تبدل في السنوات الأخيرة، ومع سطوة التقنية الحديثة، وانتشار الفضائيات الدينية، ووسائل التواصل الاجتماعي، كل ذلك أدى لتسطيح عقل المتلقي، خصوصا أن كثيرا ممن يظهرون في هذه الفضائيات، لا يمتلكون رصيدا معرفيا كبيرا، أو عمقا وفهما للدين والحياة. إنما أقصى ما يمارسونه هو السرد وتحليل الوقائع بطريقة ذاتية غير علمية، فهم "دعاة" متواضعون، وقُراء سيرة، لا أكثر ولا أقل.
قُراء السيرة هؤلاء، ووسط جو من الاستقطاب المذهبي، والمعارك الكلامية الدائرة بين متطرفي الطوائف، هؤلاء "الوعاظ" تحولوا لمصدر أولي للمعرفة لدى جمهور عريض، وصار لحديثهم وخطابهم سطوة عاطفية، تحت عناوين حماية المذهب والطائفة، والرد على المشككين، ووحدة الصف الداخلي، وشد عصب الجماعة. وساهم في ذلك اللغة "الشتائمية" والفتاوى التي يطلقها التكفيريون، والسيارات الملغومة، و"الانتحاريون" الذين يزرعون الموت في كل زاوية!. مما جعل المشهد حكرا على "المتعصبين" من الطائفتين، ليتوارى صوت العقل، ويكون خفيضا.
وسط هذا التراجع الفكري والاحتقان، جاء صوت رجل الدين العراقي، السيد كمال الحيدري، قارعا الجرس وبقوة، ومحذرا من سيطرة "العوام" على الفكر الشيعي!.
الحيدري، الذي كان لديه برنامج يقدمه عبر قناة "الكوثر" الإيرانية، فاجأ متابعيه بطرح ناقد، صريح ومباشر!. فبعد أن قدم على مدى سنوات، مراجعة للتراث الإسلامي السلفي، وبنى قاعدة واسعة بوصفه منافحا عن "المذهب"، قدم الحيدري لمتابعيه ما لم يكن في حسبانهم. حيث وضع التراث الشيعي على طاولة النقد والتمحيص، مطالبا المرجعيات الدينية بالإجابة على الأسئلة الملحة للجيل الجديد، ومنتقدا الطابع "الشعائري" لعاشوراء، ومطالبا بتنقيح التراث الشيعي، مما أدخل فيه من سرديات "يهودية ومسيحية". قاذفا الكرة إلى أبعد من ذلك، عندما اعتبر خلافه مع عدد من المراجع الدينية الكبيرة، اختلاف جذريا في "المنهج والرؤية"، لا مجرد خلاف على فهم النصوص وتفسيرها، مطالبا بإعادة الاعتبار للمنهج "القرآني"، قبالة المنهج "الروائي".
حديث الحيدري جاء محركا للمياه الراكدة، واستقبله الطائفيون من السنة والشيعة، كل بحسب أهوائه ومصلحته أو ما يعتقده، في معركة السجال الدائر رحاها!. بين مهلل فرح، رافعا إياه كدليل على بطلان عقائد "الرافضة". وبين مستنكر الطرح، ومعتبرا إياه هدما لأسس المذهب.
الشجاعة التي أبداها الحيدري، خفتت "قليلا"، بعد أن جوبه بحملة عاتية، من رجال دين، ووعاظ، اتهمته بـ"الحياد عن الصراط"، حيث انهالت عليه الردود من حيث لا يحتسب. القليل من الردود كان علميا، فيما أكثرها لا يمت للمنطق بصلة!. الأمر الذي دفع الحيدري، للتراجع خطوة إلى الوراء، وعله بذلك يحاول امتصاص النقمة "الشعبية" من جمهور المتعصبين، أو يحاول الحفاظ على ما تبقى له من رصيد شعبي لدى "المؤمنين".
الحيدري في طرحه، لم يتجاوز النقد من داخل البيت "الديني"، أي أنه لم يذهب ليقدم إعادة صياغة "لاهوتية"، يبنى من خلالها رؤية حداثية لمفهوم الدين والمعرفة الدينية، وإنما سعى لتجديد "الخطاب الديني"، ونفض الغبار عنه، لا أكثر. إلا أن أهمية ما قدمه المرجع العراقي من أفكار واستفهامات، أنها أتت من رجل يعتبر ابن الحوزة العلمية في "قم"، وأحد أساتذتها، ومن شخص يشهد له بالعلم والمعرفة، ولديه أتباع مقلدون له، ما يمنحه مصداقية في طرحه، وهو ما أربك الكثيرين في ردودهم عليه.
وسط هذا السجال، سألت أحد أقربائي عن رأيه في أطروحات الحيدري، ليجيبني بابتسامة ماكرة واقتضاب لا يخلو من حكمة، قائلا: "لم تقبل الحوزة بطرح السيد محمد حسين فضل الله، الهادئ والمهذب، فجاءهم السيد الحيدري بعاصفته". عاصفة قد تكون "ضرورية" لأن بنيان "التخلف" صار متجذرا، ويحتاج لـ"صدمة" معرفية، عل جموع النائمين تفيق
لم يدم انتظارنا طويلا، حيث دخلت قبلنا الوزيرة ليلى الصلح، لنتبعها نحن، في ضيافة من اعتبر حينها "رأس حربة" في مشرع "تجديد الفكر الشيعي".
ما إن دخلنا حتى استقبلنا فضل الله بابتسامته العريضة، وما هي إلا لحظات حتى دارت رحى الحديث، الذي كان فيه الرجل واضحا، وضوح الشمس، حينما قال إنه يخشى على الفكر الشيعي من "المتخلفين". كان وقتها يسرد بحرقة تصوره لمستقبل تطور الفقه والفكر لدى أتباع مدرسة "آل البيت"، محذرا من الفكر "الظلامي" ومن "الخرافة" ومن عواقب "الانغلاق"، وخطورة ثقافة "الغيبيات المطلقة"، مبديا تعجبه في ذات الوقت من صمت من أسماهم بـ "المرجعيات المتخلفة"، حيال ممارسات "دخيلة" ليس لها أي علاقة بالدين، ألبست لبوسه باسم "الشعائر"، فيما هي طقوس اجتماعية، نبعت من بيئات مختلفة، أضفيت عليها "قداسة" مزعومة.
بعيد خروجنا من عند المرجع الديني، وحديثه الصريح والموجع، أتانا نبأ مقتل رجل "القاعدة" الأول في العراق، أبا مصعب الزرقاوي، وكأننا على موعد مع خطر التطرف، سواء كان فكرا، أو ممارسة وقتلا!
فضل الله لم يكن الوحيد وقتها الذي لاحظ نمو تيار "متحجر" في الوسط الشيعي، فهنالك رجل الدين السعودي الراحل د.عبد الهادي الفضلي، وقبلهما بسنوات كتب حول ذلك علي شريعتي، ومرتضي مطهري، ومحمد مهدي شمس الدين.
الأسماء السابقة كانت تلتقي على ضرورة إعمال العقل، وعدم التسليم لكل ما جاء في كتب التراث، معتبرة أن الفكر الشيعي طيلة عهده، تميز بفتح باب الاجتهاد، والتعاطي مع الأطروحات الكلامية المختلفة. من هنا، كان التشيع أقرب للفكر "المعتزلي"، وكان الإمام جعفر الصادق يناقش "الملاحدة" و"الزنادقة" دون غضاضة، ودون تعصب، وكان يحث أصحابه على ثقافة السؤال والنقاش، قائلا "اسأل عن دينك حتى يقال عنك مجنون"، في كناية عن مكانة السؤال ودوره في تشييد بنيان معرفي وعقدي قويم.
الذي تبدل في السنوات الأخيرة، ومع سطوة التقنية الحديثة، وانتشار الفضائيات الدينية، ووسائل التواصل الاجتماعي، كل ذلك أدى لتسطيح عقل المتلقي، خصوصا أن كثيرا ممن يظهرون في هذه الفضائيات، لا يمتلكون رصيدا معرفيا كبيرا، أو عمقا وفهما للدين والحياة. إنما أقصى ما يمارسونه هو السرد وتحليل الوقائع بطريقة ذاتية غير علمية، فهم "دعاة" متواضعون، وقُراء سيرة، لا أكثر ولا أقل.
قُراء السيرة هؤلاء، ووسط جو من الاستقطاب المذهبي، والمعارك الكلامية الدائرة بين متطرفي الطوائف، هؤلاء "الوعاظ" تحولوا لمصدر أولي للمعرفة لدى جمهور عريض، وصار لحديثهم وخطابهم سطوة عاطفية، تحت عناوين حماية المذهب والطائفة، والرد على المشككين، ووحدة الصف الداخلي، وشد عصب الجماعة. وساهم في ذلك اللغة "الشتائمية" والفتاوى التي يطلقها التكفيريون، والسيارات الملغومة، و"الانتحاريون" الذين يزرعون الموت في كل زاوية!. مما جعل المشهد حكرا على "المتعصبين" من الطائفتين، ليتوارى صوت العقل، ويكون خفيضا.
وسط هذا التراجع الفكري والاحتقان، جاء صوت رجل الدين العراقي، السيد كمال الحيدري، قارعا الجرس وبقوة، ومحذرا من سيطرة "العوام" على الفكر الشيعي!.
الحيدري، الذي كان لديه برنامج يقدمه عبر قناة "الكوثر" الإيرانية، فاجأ متابعيه بطرح ناقد، صريح ومباشر!. فبعد أن قدم على مدى سنوات، مراجعة للتراث الإسلامي السلفي، وبنى قاعدة واسعة بوصفه منافحا عن "المذهب"، قدم الحيدري لمتابعيه ما لم يكن في حسبانهم. حيث وضع التراث الشيعي على طاولة النقد والتمحيص، مطالبا المرجعيات الدينية بالإجابة على الأسئلة الملحة للجيل الجديد، ومنتقدا الطابع "الشعائري" لعاشوراء، ومطالبا بتنقيح التراث الشيعي، مما أدخل فيه من سرديات "يهودية ومسيحية". قاذفا الكرة إلى أبعد من ذلك، عندما اعتبر خلافه مع عدد من المراجع الدينية الكبيرة، اختلاف جذريا في "المنهج والرؤية"، لا مجرد خلاف على فهم النصوص وتفسيرها، مطالبا بإعادة الاعتبار للمنهج "القرآني"، قبالة المنهج "الروائي".
حديث الحيدري جاء محركا للمياه الراكدة، واستقبله الطائفيون من السنة والشيعة، كل بحسب أهوائه ومصلحته أو ما يعتقده، في معركة السجال الدائر رحاها!. بين مهلل فرح، رافعا إياه كدليل على بطلان عقائد "الرافضة". وبين مستنكر الطرح، ومعتبرا إياه هدما لأسس المذهب.
الشجاعة التي أبداها الحيدري، خفتت "قليلا"، بعد أن جوبه بحملة عاتية، من رجال دين، ووعاظ، اتهمته بـ"الحياد عن الصراط"، حيث انهالت عليه الردود من حيث لا يحتسب. القليل من الردود كان علميا، فيما أكثرها لا يمت للمنطق بصلة!. الأمر الذي دفع الحيدري، للتراجع خطوة إلى الوراء، وعله بذلك يحاول امتصاص النقمة "الشعبية" من جمهور المتعصبين، أو يحاول الحفاظ على ما تبقى له من رصيد شعبي لدى "المؤمنين".
الحيدري في طرحه، لم يتجاوز النقد من داخل البيت "الديني"، أي أنه لم يذهب ليقدم إعادة صياغة "لاهوتية"، يبنى من خلالها رؤية حداثية لمفهوم الدين والمعرفة الدينية، وإنما سعى لتجديد "الخطاب الديني"، ونفض الغبار عنه، لا أكثر. إلا أن أهمية ما قدمه المرجع العراقي من أفكار واستفهامات، أنها أتت من رجل يعتبر ابن الحوزة العلمية في "قم"، وأحد أساتذتها، ومن شخص يشهد له بالعلم والمعرفة، ولديه أتباع مقلدون له، ما يمنحه مصداقية في طرحه، وهو ما أربك الكثيرين في ردودهم عليه.
وسط هذا السجال، سألت أحد أقربائي عن رأيه في أطروحات الحيدري، ليجيبني بابتسامة ماكرة واقتضاب لا يخلو من حكمة، قائلا: "لم تقبل الحوزة بطرح السيد محمد حسين فضل الله، الهادئ والمهذب، فجاءهم السيد الحيدري بعاصفته". عاصفة قد تكون "ضرورية" لأن بنيان "التخلف" صار متجذرا، ويحتاج لـ"صدمة" معرفية، عل جموع النائمين تفيق
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق