إشكالات في صيام عاشوراء
ابن قيم الجوزية
قال ابن القيم رحمه الله:
وأما صيامُ يوم عاشوراء، فإنه كان يتحرَّى صومَه على سائِر الأيَّام، ولما قَدِمَ المدينة، وجد اليهودَ تصومُه وتُعظِّمُه، فقال: "نَحْنُ أَحَقُّ بمُوسى مِنْكُم". فصامه، وأمَر بصيامه، وذلك قبلَ فرض رمضان، فلما فُرِضَ رمضان، قال: "مَنْ شَاءَ صَامَهُ ومَنْ شَاءَ تَرَكَه" (متفق عليه).
وقد استشكل بعضُ الناس هذا وقال: إنما قَدِمَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة فى شهر ربيع الأول، فكيف يقولُ ابن عباس: إنه قدم المدينة، فوجد اليهود صُيَّاماً يومَ عاشوراء؟
وفيه إشكال آخر، وهو أنه قد ثبت فى الصحيحين من حديث عائشة، أنها قالت: كانت قُريشُ تصومُ يوم عاشوراء فى الجاهلية، وكان عليه الصلاةُ والسلامُ يصُومُه، فلما هاجر إلى المدينة، صامه، وأمرَ بصيامه، فلما فُرِضَ شهرُ رمضانَ قال: "مَنْ شَاءَ صَامَهُ وَمَنْ شَاءَ تَركَه" (متفق عليه).
وإشكال آخر، وهو ما ثبت فى الصحيحين أن الأشعث بن قيس دخل على عبد الله بن مسعود وهو يتغدَّى فقال: يا أبا محمد ؛ ادْنُ إلى الغَدَاءِ. فقال: أَوَ لَيْسَ اليومُ يومَ عاشُوراء؟ فقال: وهل تدرى ما يَوْمُ عاشُوراء؟ قال: وما هو؟ قال: إنما هُوَ يومٌ كان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُه قبل أن يَنْزِلَ رَمَضَانُ، فلما نزل رَمَضَانُ تركه.
وقد روى مسلم فى صحيحه عن ابن عباس، أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ صام يَوْمَ عاشُوراء وأَمَرَ بِصيامِه، قَالُوا: يا رسولَ الله ؛ إنَّهُ يومٌ تُعظِّمُه اليهودُ والنَّصارى، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذا كانَ العَامُ المُقْبِل إنْ شَاءَ الله صُمْنَا اليَوْمَ التَّاسِع".
فلم يأت العامُ المقبل حتَّى توفِّى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فهذا فيه أن صومَه والأمَر بصيامه قبل وفاته بعام، وحديثُه المتقدِّمُ فيه أن ذلك كان عندَ مَقْدَمِه المدينة، ثم إن ابن مسعود أخبر أن يومَ عاشوراء تُرِكَ بِرمضانَ، وهذا يُخالفه حديثُ ابن عباس المذكور، ولا يُمكن أن يُقال: تُرِكَ فرضُه، لأنه لم يُفرض، لما ثبت فى الصحيحين عن معاوية بن أبى سفيان، سمعتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "هذا يَوْمُ عَاشُوراء، ولم يَكْتُبِ الله عليكم صِيامَه، وأَنا صَائِمٌ، فمَن شَاءَ، فَلْيَصُمْ، ومَنْ شَاءَ فَلْيُفْطِر ". ومعاوية إنما سمع هذا بعد الفتح قطعاً.
وإشكال آخر: وهو أن مسلماً روى فى صحيحه عن عبد الله بن عباس، أنه لما قيل لِرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنَّ هذا اليومَ تُعظِّمُه اليهودُ والنصارى قال: "إنْ بَقيتُ إلى قَابِل، لأصُومَنَّ التَّاسِعَ " فلم يأتِ العامُ القابِلُ حتى تُوفِّى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم روى مسلم فى صحيحه عن الحكم بن الأعرج قال: انتهيتُ إلى ابن عباس وهو متوسِّد رداءه فى زمزم، فقلتُ له: أخبرنى عن صوم عاشوراء. فقال:"إذا رَأَيْتَ هِلال المُحرَّم، فاعدُدْ، وأصبح يَوْمَ التَّاسِعِ صَائِماً قُلْتُ: هَكَذَا كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصومه؟ قال: نعم".
وإشكال آخر: وهو أن صومَه إن كان واجباً مفروضاًَ فى أول الإسلام، فلم يأمرهم بقضائه، وقد فات تبييتُ النيةِ له من الليل وإن لم يكن فرضاً، فكيف أمرَ بإتمام الإمساك مَنْ كان أكل؟ كما فى المسند والسنن من وجوه متعددة، أنه عليه السلام، أمر مَن كان طَعِمَ فيه أن يصُومَ بَقيَّةَ يَوْمِه.(أحمد 4/388، وابن ماجة 1735)
وهذا إنما يكون فى الواجب، وكيف يَصِحُّ قولُ ابنِ مسعود: فلما فُرِضَ رمضانُ، تُرِكَ عاشوراء، واستحبابه لم يترك؟
وإشكال آخر: وهو أن ابن عباس جعل يوم عاشوراء يومَ التاسع، وأخبر أن هكذا كان يصومُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو الذى روى عن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "صُومُوا يَوْمَ عَاشُورَاء، وخَالِفُوا اليهودَ، صُومُوا يَوْماً قَبْلَهُ أَوْ يَوْماً بَعْدَهُ" (أحمد 1/241، وابن خزيمة 2095) ذكره أحمد. وهو الذى روى: "أمرنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بصَوْمِ عَاشُورَاء يَوْمَ العَاشِر " ذكره الترمذى(755).
فالجواب عن هذه الإشكالات بعون الله وتأييدِه وتوفيقه:
أما الإشكالُ الأول: وهو أنَّه لما قَدِمَ المدينة، وجدهم يصُومون يومَ عاشوراء، فليس فيه أن يومَ قدومِه وجدَهم يصومُونه، فإنه إنما قَدِمَ يومَ الاثنين فى ربيع الأول ثانى عشرة، ولكن أول علمه بذلك بوقوع القصة فى العام الثانى الذى كان بعد قدومه المدينة، ولم يكن وهو بمكة، هذا إن كان حسابُ أهل الكتاب فى صومه بالأشهر الهلالية، وإن كان بالشمسية، زال الإشكالُ بالكلية، ويكونُ اليومُ الذى نجى الله فيه موسى هو يوم عاشوراء من أول المحرَّم، فضبطه أهلُ الكتاب بالشهور الشمسية، فوافق ذلك مقدَم النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة فى ربيع الأول، وصومُ أهلِ الكتاب إنما هو بحساب سير الشمس، وصومُ المسلمين إنما هو بالشَّهر الهلالى، وكذلك حَجُّهم، وجميع ما تُعتبر له الأشهر من واجب أو مُستحَبٍّ، فقال النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نَحْنُ أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُم"، فظهر حكمُ هذه الأولوية فى تعظيم هذا اليوم وفى تعيينه، وهم أخطؤوا تعيينه لدورانه فى السنة الشمسية، كما أخطأ النصارى فى تعيين صومهم بأن جعلوه فى فصل من السنة تختلِف فيه الأشهر.
وأما الإشكال الثانى: وهو أن قريشاً كانت تصومُ عاشوراء فى الجاهلية، وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصُومُه، فلا ريبَ أن قريشاً كانت تُعظِّم هذا اليوم، وكانوا يكسُون الكعبة فيه، وصومه من تمام تعظيمه، ولكن إنما كانوا يعدُّون بالأهلة، فكان عندهم عاشِرَ المحرَّم، فلما قَدِمَ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة، وجدهم يُعظِّمون ذلك اليوم ويصومونه، فسألهم عنه، فقالوا: هو اليومُ الذى نجَّى الله فيه موسى وقومَه من فرعون، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"نحن أحقُّ منكم بموسى"، فصامه وأمر بصيامه تقريراً لتعظيمه وتأكيداً، وأخبر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّه وأُمَّتَه أحقُّ بموسى من اليهود، فإذا صامه موسى شُكراً للَّه، كنا أحقَّ أن نقتدى به من اليهود، لا سيما إذا قلنا: شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا مَا لَمْ يُخَالِفْهُ شَرْعُنَا.
فإن قيل: من أين لكم أن موسى صامه؟ قلنا: ثبت فى الصحيحين أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما سألهم عنه، فقالوا: يوم عظيم نجَّى الله فيه موسى وقومه، وأغرق فيه فرعون وقومه، فصامه موسى شكراً للَّه، فنحن نصومه، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَنَحْنُ أَحَقُّ وَأَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُم". فَصَامَهُ، وأَمر بصِيامِه، فلما أقرَّهم على ذلك، ولم يُكذبهم، عُلِمَ أن موسى صامه شكراً للَّه، فانضمَّ هذا القدرُ إلى التعظيم الذى كان له قبل الهجرة، فازداد تأكيداً حتى بعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منادياً يُنادى فى الأمصار بصومه، وإمساك مَن كان أكل، والظاهر: أنه حتَّم ذلك عليهم، وأوجبه كما سيأتى تقريره.
وأما الإشكال الثالث: وهو أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كان يصومُ يَوْمَ عاشوراء قبل أن ينزِل فَرضُ رمضان، فلما نزل فرضُ رمضان تركه، فهذا لا يُمكن التخلُّص منه إلا بأن صيامه كان فرضاً قبل رمضان، وحينئذ فيكون المتروكُ وجوب صومه لا استحبابه، ويتعين هذا ولا بُد، لأنه عليه السلام قال قبل وفاته بعام وقد قيل له إن اليهود يصومونه: "لئِن عِشْتُ إلى قَابِل لأَصُومَنَّ التَّاسِعَ" أى: معه، وقال: "خالِفوا اليهودَ وَصُومُوا يَوْماً قَبْلَهُ أو يَوْماً بَعْدَهُ"، أى: معه، ولا ريب أن هذا كان فى آخر الأمر، وأما فى أول الأمر، فكان يُحب موافقة أهلِ الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشئ، فعُلِم أن استحبابه لم يُترك.
ويلزم مَن قال: إن صومَه لم يكن واجباً أحدُ الأمرين، إما أن يقولَ بترك استحبابه، فلم يبق مُستحَباً، أو يقول: هذا قاله عبد الله بن مسعود رضى الله عنه برأيه، وخفى عليه استحبابُ صومه، وهذا بعيد، فإن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حثَّهم على صيامه، وأخبر أن صومه يُكفِّر السنة الماضية، واستمر الصحابةُ على صِيامه إلى حين وفاته، ولم يُرْوَ عنه حرف واحد بالنهى عنه وكراهة صومه، فعُلِمَ أن الذى تُرِكَ وجوبُه لا استحبابه.
فإن قيل: حديث معاوية المتفق على صحته صريح فى عدم فرضيته، وأنه لم يُفرض قط، فالجواب: أن حديث معاوية صريح فى نفى استمرار وجوبه، وأنه الآن غيرُ واجب، ولا ينفى وجوباً متقدماً منسوخاً، فإنه لا يمتنِعُ أن يقال لما كان واجباًً، ونُسِخَ وجوبُه: إن الله لم يكتبْه علينا.
وجواب ثان: أن غايته أن يكون النفى عاماً فى الزمان الماضى والحاضر، فيُخص بأدلة الوجوب فى الماضى، وترك النفى فى استمرار الوجوب.
وجواب ثالث: وهو أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إنما نفى أن يكون فرضُه ووجوبُه مستفاداً من جهة القرآن، ويدلُّ على هذا قوله: "إن الله لم يكتبه علينا"، وهذا لا ينفى الوجوب بغير ذلك، فإن الواجب الذى كتبه الله على عباده، هو ما أخبرهم بأنه كتبه عليهم، كقوله تعالى :{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [ البقرة: 183]، فأخبر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن صومَ يوم عاشوراء لم يكن داخلاً فى هذا المكتوب الذى كتبه الله علينا دفعاً لتوهم مَن يتوهم أنه داخل فيما كتبه الله علينا، فلا تناقضَ بين هذا، وبينَ الأمر السابقِ بصيامه الذى صار منسوخاً بهذا الصيام المكتوب، يوضِّح هذا أن معاوية إنما سمع هذا منه بعد فتح مكة، واستقرار فرض رمضان، ونسخ وجوب عاشوراء به، والذين شهدوا أمره بصيامه، والنداء بذلك، وبالإمساك لمن أكل، شَهِدُوا ذلك قبل فرض رمضان عند مقدَمِه المدينة، وفرض رمضان كان فى السنة الثانية من الهجرة، فَتُوفى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد صام تسعَ رمضانات، فمَن شهد الأمر بصيامه، شهده قبل نزول فرضِ رمضان، ومَن شهد الإخبار عن عدم فرضه، شهِده فى آخر الأمر بعد فرض رمضان، وإن لم يُسلك هذا المسلكُ، تناقضت أحاديثُ الباب واضطربت.
فإن قيل: فكيف يكون فرضاً ولم يحصُلْ تبييتُ النية من الليل وقد قال: "لا صِيامَ لِمَنْ لَمْ يُبِيِّتِ الصِّيامَ مِنَ اللَّيْل"(أبو داود 2454، الترمذي 730)؟ فالجواب: أن هذا الحديث مختلفٌ فيه: هل هو مِن كلام النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو مِنْ قولِ حفصةَ وعائشة؟ فأَما حديثُ حفصة: فأوقفه عليها معمرٌ، والزهرى، وسفيانُ بن عُيينة، ويونسُ بن يزيد الأيلى، عن الزهرى، ورفعه بعضُهم وأكثر أهلِ الحديثِ يقولون: الموقوفُ أصحُّ، قال الترمذى(730): وقد رواه نافع عن ابن عمر قولَه، وهو أصحُّ، ومنهم مَن يُصحح رفعَه لثقة رافعه وعدالته، وحديث عائشة أيضاً: روى مرفوعاً وموقوفاً، واختلف فى تصحيح رفعه. فإن لم يثبت رفعُه، فلا كلام، وإن ثبت رفعُه، فمعلومٌ أن هذا إنما قاله بعد فرض رمضان، وذلك متأخر عن الأمر بصيام يومِ عاشوراء، وذلك تجديدُ حكم واجب وهو التبييتُ، وليس نسخاً لحكم ثابت بخطاب، فإجزاء صيام يومِ عاشوراء بنية من النهار، كان قبل فرض رمضان، وقبل فرض التبييت مِن الليلِ، ثمَّ نُسِخَ وَجُوبُ صومِه برمضان، وتجدد وجوب التبييت، فهذه طريقة.
وطريقة ثانية هى طريقةُ أصحاب أبى حنيفة: أن وجوب صيام يوم عاشوراء تضمَّن أمرين: وجوبَ صومِ ذلك اليوم وإجزاء صومِه بنية من النهار، ثم نُسِخ تعيينُ الواجب بواجب آخر، فبقى حكم الإجزاء بنيةٍ من النهار غير منسوخ.
وطريقة ثالثة: وهى أن الواجب تابع للعلم، ووجوب عاشوراء إنما عُلِمَ من النهار، وحينئذ فلم يكن التبييتُ ممكناً، فالنيةُ وجبت وقت تجدُّدِ الوجوب والعلم به، وإلا كان تكليفاً بما لا يُطاق وهو ممتنع. قالُوا: وعلى هذا إذا قامت البينةُ بالرؤية فى أثناء النهار. أجزأ صومه بنية مقارِنة للعلم بالوجوب، وأصلُه صومُ يومِ عاشوراء، وهذه طريقة شيخنا، وهى كما تراها أصحُّ الطرق، وأقربُها إلى موافقة أُصول الشرع وقواعده، وعليها تَدُلُّ الأحاديثُ، ويجتمِعُ شملُها الذى يُظن تفرقه، ويُتخلص من دعوى النسخ بغير ضرورة، وغير هذه الطريقة لا بُدَّ فيه من مخالفة قاعدة مِن قواعد الشرع، أو مخالفة بعض الآثار. وإذا كان النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يأمر أهل قُباء بإعادة الصلاة التى صلَّوا بعضها إلى القِبْلة المنسوخة إذ لم يبلُغهم وجوبُ التحول، فكذلك مَن لم يبلغه وجوبُ فرضِ الصوم، أو لم يتمكن مِن العلم بسبب وجوبه، لم يُؤمر بالقضاء، ولا يُقال: إنه ترك التبييتَ الواجِبَ، إذ وجوبُ التبييت تابع للعلم بوجوب المبيّت، وهذا فى غاية الظهور.
ولا ريبَ أن هذه الطريقةَ أصحُّ مِن طريقة مَن يقول: كان عاشوراء فرضاً، وكان يُجزئ صيامُه بنية من النهار، ثم نُسِخَ الحكمُ بوجوبه، فنُسِخَتْ متعلقاتُه، ومن متعلقاته إجزاء صيامِه بنية من النهار، لأن متعلقاته تابعة له، وإذا زال المتبوع، زالت توابعُه وتعلقاتُه، فإن إجزاء الصوم الواجب بنية من النهار لم يكن من متعلقات خصوصِ هذا اليوم، بل من متعلِّقات الصومِ الواجب، والصومُ الواجب لم يَزُلْ، وإنما زال تعيينه، فنُقِل من محل إلى محل، والإجزاء بنيةٍ من النهار وعدمِه من توابع أصل الصوم لا تعيينه.
وأصحُّ مِن طريقة مَن يقول: إن صوم يوم عاشوراء لم يكن واجباً قط، لأنه قد ثبت الأمرُ به، وتأكيدُ الأمر بالنداء العام، وزيادة تأكيده بالأمر لمن كان أكل بالإمساك، وكلُّ هذا ظاهر، قوى فى الوجوب، ويقول ابن مسعود: إنه لما فُرِضَ رمضان تُرِكَ عاشوراء. ومعلوم أن استحبابه لم يُترك بالأدلة التى تقدَّمت وغيرها، فيتعين أن يكون المتروكُ وجوبه، فهذه خمس طرق للناس فى ذلك. والله أعلم.
وأما الإشكال الرابع: وهو أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لئِن بَقِيتُ إلى قَابِلٍ لأَصُومَنَّ التَّاسِعَ" ، وأنه توفى قبل العام المقبل، وقول ابن عباس: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يصوم التاسع، فابن عباس روى هذا وهذا، وصحَّ عنه هذا وهذا، ولا تنافى بينهما، إذ من الممكن أن يصومَ التاسِعَ، ويخبر أنه إن بقى إلى العام القابل صامه، أو يكون ابنُ عباس أخبر عن فعله مستنداً إلى ما عزم عليه، ووعد به، ويصِحُّ الإخبارعن ذلك مقيداً، أى: كذلك كان يفعل لو بقى، ومطلقاً إذا علم الحال، وعلى كل واحد من الاحتمالين، فلا تنافى بين الخبرين.
وأما الإشكال الخامس: فقد تقدَّم جوابه بما فيه كفاية.
وأما الإشكال السادس: وهو قول ابن عباس: اعدُدْ وأصبح يوم التاسع صائماً. فمَن تأمل مجموع روايات ابن عباس، تبيَّن له زوالُ الإشكال، وسعةُ علم ابن عباس، فإنه لم يجعل عاشوراء هو اليومَ التاسع، بل قال للسائل: صُمِ اليوم التاسع، واكتفى بمعرفة السائل أن يوم عاشوراء هو اليومُ العاشر الذى يعدُّه الناسُ كلُّهم يومَ عاشوراء، فأرشد السائل إلى صيام التاسع معه، وأخبر أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يصومُه كذلك. فإما أن يكون فِعلُ ذلك هو الأَوْلى، وإما أن يكون حَمْلُ فعله على الأمر به، وعزمه عليه فى المستقبل، ويدلُّّ على ذلك أنه هو الذى روى: "صُومُوا يوماً قبله ويوماً بعده"(البيهقي 4/287 وفيه ضعف)، وهو الذى روى: أمرنا رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بصيام عاشوراء يوم العاشر. وكل هذه الآثار عنه، يُصدِّقُ بعضُها بعضاً، ويُؤيِّد بعضُها بعضاً.
فمراتب صومه ثلاثة: أكملُها: أن يُصام قبله يومٌ وبعده يومٌ، ويلى ذلك أن يُصام التاسع والعاشر، وعليه أكثرُ الأحاديث، ويلى ذلك إفرادُ العاشر وحده بالصوم.
وأما إفراد التاسع، فمن نقص فهم الآثار، وعدمِ تتبع ألفاظها وطرقها، وهو بعيد من اللغة والشرع، والله الموفق للصواب.
وقد سلك بعضُ أهل العلم مسلكاً آخر فقال: قد ظهر أن القصدَ مخالفةُ أهل الكتاب فى هذه العبادة مع الإتيان بها، وذلك يحصلُ بأحد أمرين: إما بنقلِ العاشر إلى التاسع، أو بصيامِهما معاً. وقوله: "إذا كان العامُ المقبلُ صُمنا التاسِع": يحتمِل الأمرين. فتوفى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل أن يتبيَّن لنا مرادُه، فكان الاحتياطُ صيامَ اليومين معاً، والطريقة التى ذكرناها، أصوبُ إن شاء الله، ومجموع أحاديثِ ابن عباس عليها تدلُّ، لأن قوله فى حديث أحمد: "خالِفوا اليًَهُودَ، صُومُوا يَوْماً قَبْلَهُ أَوْ يَوْماً بَعْدَهُ"، وقوله فى حديث الترمذى:"أُمِرْنَا بِصِيامِ عاشوراء يوم العاشر" يبين صحة الطريقة التى سلكناها. والله أعلم.
وأما الإشكال الخامس: فقد تقدَّم جوابه بما فيه كفاية.
وأما الإشكال السادس: وهو قول ابن عباس: اعدُدْ وأصبح يوم التاسع صائماً. فمَن تأمل مجموع روايات ابن عباس، تبيَّن له زوالُ الإشكال، وسعةُ علم ابن عباس، فإنه لم يجعل عاشوراء هو اليومَ التاسع، بل قال للسائل: صُمِ اليوم التاسع، واكتفى بمعرفة السائل أن يوم عاشوراء هو اليومُ العاشر الذى يعدُّه الناسُ كلُّهم يومَ عاشوراء، فأرشد السائل إلى صيام التاسع معه، وأخبر أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يصومُه كذلك. فإما أن يكون فِعلُ ذلك هو الأَوْلى، وإما أن يكون حَمْلُ فعله على الأمر به، وعزمه عليه فى المستقبل، ويدلُّّ على ذلك أنه هو الذى روى: "صُومُوا يوماً قبله ويوماً بعده"(البيهقي 4/287 وفيه ضعف)، وهو الذى روى: أمرنا رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بصيام عاشوراء يوم العاشر. وكل هذه الآثار عنه، يُصدِّقُ بعضُها بعضاً، ويُؤيِّد بعضُها بعضاً.
فمراتب صومه ثلاثة: أكملُها: أن يُصام قبله يومٌ وبعده يومٌ، ويلى ذلك أن يُصام التاسع والعاشر، وعليه أكثرُ الأحاديث، ويلى ذلك إفرادُ العاشر وحده بالصوم.
وأما إفراد التاسع، فمن نقص فهم الآثار، وعدمِ تتبع ألفاظها وطرقها، وهو بعيد من اللغة والشرع، والله الموفق للصواب.
وقد سلك بعضُ أهل العلم مسلكاً آخر فقال: قد ظهر أن القصدَ مخالفةُ أهل الكتاب فى هذه العبادة مع الإتيان بها، وذلك يحصلُ بأحد أمرين: إما بنقلِ العاشر إلى التاسع، أو بصيامِهما معاً. وقوله: "إذا كان العامُ المقبلُ صُمنا التاسِع": يحتمِل الأمرين. فتوفى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل أن يتبيَّن لنا مرادُه، فكان الاحتياطُ صيامَ اليومين معاً، والطريقة التى ذكرناها، أصوبُ إن شاء الله، ومجموع أحاديثِ ابن عباس عليها تدلُّ، لأن قوله فى حديث أحمد: "خالِفوا اليًَهُودَ، صُومُوا يَوْماً قَبْلَهُ أَوْ يَوْماً بَعْدَهُ"، وقوله فى حديث الترمذى:"أُمِرْنَا بِصِيامِ عاشوراء يوم العاشر" يبين صحة الطريقة التى سلكناها. والله أعلم.
==============
الجواب عن شبهات حول ابتداء صيام عاشوراء
عبد الرحمن بن عبد الله السحيم
عضو مركز الدعوة والإرشاد بالرياض
فهذه بعض الشبهات التي أوردها البعض على مشروعية صيام عاشوراء . والذي منهم مصري تداول الناس مقطعا له على اليوتيوب والذي يزعم أنه شيخ أزهري من كلامه ولبسه .
فأرجو من الإخوة المشايخ الكرام وأهل العلم الأفاضل أن يشاركوا في الرد عليها . علما أن عاشوراء على الأبواب بإذن الله ولا يخفى فضل صيامه . وجزاكم الله خيرا .
منها : أن الحديث في البخاري يذكر أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يكن يعلم عن صيام عاشوراء حتى قدم المدينة ، فتعلم فضله من اليهود ثم إنه صامه عليه السلام وأمر بصيامه ، وقال : لو عشت لقابل لأصومن التاسع ، ولكنه مات قبل أن يفعل ذلك، فهل مات النبي صلى الله عليه وآله وسلم في السنة الأولى من الهجرة ، أو في الثانية بناء على هذا الحديث ؟
قال المشبه : فهذا مما يشهد ويدل على كذب الحديث مع أنه في البخاري .
ثانيا : يقول كيف يمكن أن يقال أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يعلم بفضل عاشوراء إلا من اليهود ؟ فهل هو يأخذ الدين من الله أو من اليهود ؟
أستغفر الله ونعوذ بالله من الضلال .
ثالثا: أضيفها أنا هنا للفائدة وقد ذكر بعضها مشبهون آخرون أن قدوم النبي عليه السلام للمدينة كان في ربيع الأول فكيف وجد اليهود يصومونه في محرم ؟
كما أن في البخاري كذلك أن كفار مكة كانوا يصومون عاشوراء وقد كان معروفا لهم وللرسول عليه السلام وأصحابه رضي الله عنهم . فكيف يقال أنه لم يكن يعرف عاشوراء إلا في المدينة، وعلى يد اليهود ؟
ثالثا: أن في الروايات الصحيحة في البخاري وغيره أن النبي عليه السلام هو وأصحابه قد صاموا أكثر من عاشوراء واحد قبل أن يفرض رمضان ، فكيف يصح أنهم قد صاموا أكثر من عاشوراء فرضا ثم نسخ ذلك بفرض رمضان ، ومعلوم أن رمضان لم يفرض إلا في السنة الثانية من الهجرة ؟
رابعا : في الروايات التي عند البخاري وغيره أن ممن روى أحاديث عاشوراء هو ابن عباس رضي الله عنهما ، وأنه يقول أنه رأى النبي عليه السلام يصومه ، وأنه تعلم فضله من اليهود عندما قدم المدينة ، فكيف لابن عباس أن يقول رأيت النبي عليه السلام يصوم عاشوراء ، ويتحدث أيضا عن قصة صيامه له أول ما دخل المدينة وأنه رآه يصوم أكثر من عاشوراء ، وهو لم يتجاوز عمره السنتين حيث إن من المعلوم أن ابن عباس رضي الله عنه ولد قبل الهجرة بسنتين ، إذًا فقد كان عند الهجرة له سنتان . فكيف يقول رأيت ويتحدث عن بدأ دخول الرسول عليه السلام المدينة وهو في هذه العمر فهل يعقل ذلك ؟
وقوله أيضا أن النبي عليه السلام قد صام أكثر من عاشوراء من قبل أن يفرض رمضان ، فإن فيه نظر كما سبق لأن رمضان قد فرض في السنة الثانية من الهجرة فكيف يمكن للنبي عليه السلام صيام أكثر من عاشوراء ؟
خامسا : ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما كما في مسلم والسنن أنه كان يصوم تاسوعاء وليس عاشوراء ، ولهذا ذهب ابن حزم رحمه الله إلى أن عاشوراء هو تاسوعاء وليس عاشوراء .
سادسا : أنه ورد عند البخاري رحمه الله وغيره أن معاوية رضي الله عنه قد أتى المدينة وطلب من علمائها أن يجيبوه وهو على المنبر لماذا لا يصام عاشوراء ؟ ثم أنه أخبر أن النبي عليه السلام صامه وأمر بصيامه ، وأنه هو ممن سوف يصومه ، ومن شاء منهم صام ومن لم يشأ فلا يصم .
فكيف يجهل العلماء في وقته ، وهم من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أمرا مثل ذلك ؟ وهو قد كان مفروضا عليهم قبل ذلك بسنين قليلة . فهل مثل تأريخ الفرض يجهله الصحابة وأبناؤهم ؟
ولذلك قالت الشيعة : أن هذا يدل على أن معاوية رضي الله عنه هو الذي أمر بصيام عاشوراء وشرعه ، وليس الرسول عليه السلام ، فهو بدعة دخيلة من بني أمية . هكذا زعموا .
سابعا : أنه ذكر في الأحاديث أن اليهود كانت تعظمه وتصومه ، وهو يوم عيد عندهم ، وقد صامه اليهود كما ذكر شكرا لله لنجاة موسى عليه السلام ومن معه من فرعون . وهذا غير معروف عن اليهود ، فهم لا يصومون عاشوراء ولا يعظمونه يومه اليوم ، ولو كان ذلك صحيحا لوجد ذكره في تأريخهم .
ثامنا : أنه ذكر أن عاشوراء كان يوم عيد عند اليهود فصاموه ، والحري بهم أن لا يصوموه بل ينبغي لهم أن يفرحوا فيه ويأكلوا ويشربوا ويتصدقوا .
لأن العيد لا يصام ، والصوم مشقة لا عيد .
كما ثبت عن بعض الصحابة رضي الله عنهم أنهم ليسوا ممن يصوم عاشوراء . منهم عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما .
هذا مجمل ما ذكره بعض المشبهين والطاعنين في مشروعية صيام عاشوراء .
أرجو من إخواني ممن كان له الأهلية أو العلم في المشاركة في الرد عليهم ، أو عرضه على هيئة كبار العلماء لتوضح الحق فيه .
الجواب :
أولا : قوله عليه الصلاة والسلام : لئن بَقيت إلى قابل لأصومن التاسع . رواه مسلم ، ولم يَروه البخاري .
وفي الصحيحين ( البخاري ومسلم ) من حديث عائشة رضي الله عنها : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يَصوم عاشوراء ، فلمّا هاجَر إلى المدينة صامه وأمَر بِصيامه .
وفي الصحيحين مِن حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لِمّا قَدِم المدينة وجدهم يصومون يوما - يعني عاشوراء - فقالوا : هذا يوم عظيم ، وهو يوم نَجّى الله فيه موسى وأغرق آل فرعون ، فصام موسى شكرا لله ، فقال : أنا أولى بموسى منهم ، فَصَامه وأمَرَ بِصيامه .
وسيأتي مزيد إيضاح حول قوله : " فَصَامه وأمَرَ بِصيامه " .
وما في الصحيحين مِن أحاديث – أو في أحدهما – قد تَلقَّتها الأمّة بالقبول ، والأمّة لا تجتمع على ضلالة ؛ وقد دلّ على ذلك القرآن الكريم ، وخبر الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام .
فأما القرآن ، فقوله تعالى : (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) ، وقوله عزَّ وجَلّ : (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) .
وأما السنة ، فقوله عليه الصلاة والسلام : إِنَّ اللَّهَ لا يَجْمَعُ أُمَّتِي - أَوْ قَالَ : أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى ضَلالَةٍ . رواه الترمذي ، وصححه الألباني .
قال ابن عبد البر : السُّنَّة يَكفي فيها قوله تعالى : (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) ، وقوله : (وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) .
وأما الإجماع فمأخوذ مِن قول الله تعالى : (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) الآية ، لأن الاختلاف لا يَصح معه هذا الظاهر ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم : " لا تجتمع أمتي على ضلالة " ، وعندي أن إجماع الصحابة لا يجوز خلافهم ؛ لأنه لا يجوز على جميعهم جهل التأويل ، وفي قول الله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) دليل على أن جماعتهم إذا اجتمعوا حُجّة على مَن خالفهم ، كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم حُجّة على جميعهم .
وقال في موضع آخر : إجماع الصحابة حجة على من بعدهم ، والنفس تَسكن إليهم . فأين الْمَهْرَب عنهم دون سُنة ولا أصل . اهـ .
وقد اتّفقت الأمة على صِحّة أحاديث الصحيحين ، وتلقّتها بالقبول .
فالذي يطعن في أحاديث الصحيحين – أو أحدهما – ويُكذّب شيئا منها ، يَحكم على مجموع الأمة بأنها اجتمعت على ضلالة ، وقد علمت أن الأمة لا تجتمع على ضلالة .
بل يَجعل عقله حاكما على عقول علماء الأمة خلال أكثر مِن ألف سنة ! وكأن علماء الأمة كانوا في غفلة عمّا توصّل إليه مُتعالِم في آخر الزمان !!
فنعوذ بالله من الضلال المبين ومِن تَزيين القبيح ، وذلك بأن يَرى الإنسان أنه تنبّه إلى ما لم يتنبّه له الجهابذة مِن زمن الصحابة إلى زماننا هذا !
وسَبيل أهل العِلْم والإيمان : الْجَمْع بين الأحاديث ما أمكن الْجَمْع ، وهو واجِب شَرعي .
قال الإمام النووي : ولا خلاف بين العلماء أنه إذا أمكن الجمع بين الأحاديث لا يُصار إلى ترك بعضها بل يجب الجمع بينها والعمل بجميعها .
قال الشيخ أحمد شاكر : إذا تعارض حديثان ظاهرا ، فإن أمكن الجمع بينهما فلا يُعدَل عنه إلى غيره بِحالٍ ، ويجب العمل بهما
وقال الشيخ الشنقيطي : الجمع واجب إذا أمكن ، وهو مُقَدَّم على الترجيح بين الأدلة كما علم في الأصول . اهـ .
وأما طريقة أهل الزيغ والضلال والبِدَع : فإنهم يَضْرِبون الأحاديث بعضها ببعض ، ويتّخذون ذلك ذريعة لِرَدّ أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ، والطّعن في السُّنة ، وتشكيك الناس في دينهم .
ثانيا : لم يأخذ النبي صلى الله عليه وسلم صيام يوم عاشوراء من اليهود ؛ ويدلّ على ذلك حديث عائشة رضي الله عنها قالت : كانت قريش تصوم عاشوراء في الجاهلية ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَصومه ، فلمّا هاجَر إلى المدينة صامه وأمَر بِصيامه ، فلما فُرِض شهر رمضان قال : من شاء صامه ، ومن شاء تركه .
وفي رواية قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمُر بصيامه قبل أن يُفرض رمضان ، فلما فُرض رمضان كان مَن شاء صام يوم عاشوراء ، ومَن شاء أفطر . رواه البخاري ومسلم .
وكذلك أخرجاه مِن حديث ابن عمر رضي الله عنهما .
فتعظيم النبي صلى الله عليه وسلم لذلك اليوم ، وافتراضه على الأمة كان قبل عِلمه صلى الله عليه وسلم بِصيام اليهود له .
فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم ذلك اليوم قبل الهجرة .
قال القرطبي في " الْمُفْهِم " : لَم يَصُم النبي صلى الله عليه وسلم عاشوراء اقتداء باليهود ؛ فإنه كان يَصوم قبل قدومه عليهم ، وقبل عِلْمه بِحَالِهم ، لكن الذي حَدَث له عند ذلك إلزامه والتزامه استئلافًا لليهود ، واستدراجًا لهم ، كما كانت الحكمة في استقباله قِبْلَتهم ، وكان هذا الوقت هو الوقت الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يُحِب فيه موافقة أهل الكتاب فيما لم يُنهَ عنه . اهـ .
والنبي صلى الله عليه وسلم لم يَتَشَبَّه باليهود ، وإنما خَالَفهم ، ففي حديث أبي موسى رضي الله عنه قال : كان أهل خيبر يَصومون يوم عاشوراء ، يتخذونه عِيدا ، ويُلبسون نساءهم فيه حُلِيهم وشَارتهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فصوموه أنتم . رواه مسلم .
وعَزَم على مُخالفتهم في آخر حياته ، ففي حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال : حين صام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء وأمَر بصيامه ، قالوا : يا رسول الله إنه يوم تُعظِّمه اليهود والنصارى . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فإذا كان العام المقبِل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع . قال : فلم يأت العام المقبِل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم . رواه مسلم . وسيأتي مزيد تفصيل .
ثالثا : الْجَمع بَين حديث عائشة في صيام النبي صلى الله عليه وسلم عاشوراء في مكة قبل الهجرة ، وبَين حديث ابن عباس في صيام النبي صلى الله عليه وسلم عاشوراء في المدينة بعد الهجرة :
أن يُقال : يُحتمل أن تكون قريش تَصومه في الجاهلية وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصومه قبل أن يُبعث ، فلما بُعِث تَرك ذلك ، فلما هاجر وعَلِم أنه كان من شريعة موسى عليه الصلاة والسلام صامه وأمَر بصيامه ، فلما فُرِض رَمَضان نُسِخ وُجوبه . قاله الباجي .
وقال النووي : والحاصل مِن مجموع الأحاديث : أن يوم عاشوراء كانت الجاهلية من كفار قريش وغيرهم واليهود يصومونه ، وجاء الإسلام بصيامه متأكدا ثم بَقِي صومه أخفّ مِن ذلك التأكد . اهـ .
رابعا : شُبهة (أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يعلم بفضل عاشوراء إلاّ مِن اليهود)
هذا باطِل مردود بِما ثَبَت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يَصومه قبل الهجرة ، أي : أنه عليه الصلاة والسلام عَلِم بِفَضْل صيام عاشوراء قبل أن يُهاجر إلى المدينة ، فيكون سؤاله عليه الصلاة والسلام لليهود عن سبب تخصيص ذلك اليوم بالتعظيم ، لا عن أصل مشروعية صيامه .
بل لعل يوم عاشوراء مما تتابعت الشرائع على تعظيمه ، ففي حديث عائشة رضي الله عنها : كانوا يصومون عاشوراء قبل أن يفرض رمضان وكان يوما تُستر فيه الكعبة . رواه البخاري ومسلم ، واللفظ للبخاري .
وقد سئل عكرمة عن صوم قريش عاشوراء ؟ فقال : أذنبت قريش في الجاهلية فَعَظُم في صدورهم ، فقيل لهم : صوموا عاشوراء يُكَفِّره .
قال ابن حجر : " وكان يوما تُستر فيه الكعبة " يُفيد أن الجاهلية كانوا يُعظّمون الكعبة قديما بالستور ، ويَقومون بها . اهـ .
ويُحتمَل أن يَكون سؤاله عليه الصلاة والسلام لليهود مثل سؤاله لهم عن آية الرَّجْم في التوراة ؛ لا ليستدلّ به ، ولا ليتَعلَّم مِن اليهود - كما زَعموا - ، ولكن ليُعلم مُوافقة ما جاء به عليه الصلاة والسلام لِمَا جاء به موسى عليه الصلاة والسلام ، وأنه يَخرج مِن مشكاة واحدة ، كما سيأتي .
ونظير هذا : تحديثه عليه الصلاة والسلام للمسلمين بِما جاء به وأخبر عنه تميم الداري رضي الله عنه مِن خَبَر الدجّال ، ويؤيِّد ذلك قوله عليه الصلاة والسلام : أتدرون لم جمعتكم ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : إني والله ما جمعتكم لرغبة ولا لرهبة ، ولكن جمعتكم لأن تميما الداري كان رجلا نصرانيا ، فَجَاء فبَايَع وأسْلَم ، وحدثني حديثا وافَق الذي كنت أُحَدِّثكم عن مسيح الدجال . رواه مسلم .
ويُشْبِه هذا : ما قاله النجاشي حينما سَمِع القرآن ، فإنه قال : إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة . رواه الإمام أحمد .
فَقَول (فهل هو يأخذ الدين من الله أو من اليهود) فيه سوء أدب مع مقام النبي صلى الله عليه وسلم ، ومع منْزِلة علماء الأمة ، وكأن هذا خَفِي على جميع علماء الأمة .
مع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في أول الهجرة يُحب مُوافقة اليهود – فيما لم يُؤمَر به بشيء ، ثم خالَفَهم .
ففي حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال : كان أهل الكتاب يَسدلون أشعارهم ، وكان المشركون يَفْرُقون رؤوسهم ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُحب مُوافقة أهل الكتاب فيما لم يُؤمَر به ، فَسَدَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ناصيته ثم فَرَق بعد . رواه مسلم .
وقد يُقال : إن ما وقع مِن صيام عاشوراء ومُوافقة أهل الكتاب مِن هذا الباب .
وأمَّا مَا في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : قَدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، فوجد اليهود يَصومون يوم عاشوراء ، فسُئلوا عن ذلك ؟ فقالوا : هذا اليوم الذي أظهر الله فيه موسى ، وبني إسرائيل على فرعون ، فنحن نصومه تعظيما له ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : نحن أولى بِمُوسى منكم ، فأمَر بِصَومه .
وفي رواية : فَصَامه وأمَرَ بِصيامه .
وفي حديث أبي موسى رضي الله عنه : فَصُومُوه أنتم . رواه البخاري ومسلم .
فليس فيه أن ابتداء الصيام كان بسبب سؤال اليهود ، بل يُحتمل :
1 - أن يكون أمَر بِصيامه تأكيدا ، وكَرَّر الأمْر بِصيامه ، وليس فيه نصّ على أنه لم يَصُمه إلاّ بعد سؤال اليهود وخَبَرهم .
ويدلّ على هذا ما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يَصوم عاشوراء ، فلمّا هاجَر إلى المدينة صامه وأمَر بِصيامه .
2 - أن يكون أمَرَ أمْر إرشاد بِصيام عاشوراء بعد أن فُرِض رمضان ، كما في حديث أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه مرفوعا وفيه : وسئل عن صوم يوم عاشوراء ؟ فقال : يُكفر السنة الماضية . رواه مسلم .
3 - أن يَكون أراد إظهار ذلك لليهود ؛ لِقوله عليه الصلاة والسلام : نحن أولى بِمُوسى منكم . وهذا يعني : إذا كُنّا أوْلَى بِموسى عليه الصلاة والسلام مِن اليهود ، فنحن نصومه .
مع ما في ذلك مِن تأليف قلوب اليهود ، إذا رأوا تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم لنبي الله موسى عليه الصلاة والسلام .
قال القرطبي في " الْمُفْهِم " : وقوله صلى الله عليه وسلم : " فإذا كان العام المقبل صُمنا اليوم التاسع " ؛ إنما قال هذا صلى الله عليه وسلم لحصول فائدة الاستئلاف المتقدِّم . وكانت فائدته : إصغاءهم لِمَا جاء به حتى يتبين لهم الرشد مِن الغي ، فيَحيا مَن حيّ عن بينة ويَهلك من هلك عن بينة . ولَمَّا ظهر عنادهم كان يحب مخالفتهم - أعني : أهل الكتاب - فيما لم يُؤمَر به . وبهذا النظر ، وبالذي تقدَّم يرتفع التعارض الْمُتَوَهَّم في كونه صلى الله عليه وسلم كان يُحب موافقة أهل الكتاب ، وكان يحب مخالفتهم . وأن ذلك في وقتين وحالتين ، لكن الذي استقر حاله عليه : أنه كان يحب مخالفتهم ؛ إذ قد وَضح الحق ، وظَهر الأمْر ، ولو كَرِه الكافرون .
وقال أيضا : وسؤال النبي صلى الله عليه وسلم لليهود عن يوم عاشوراء إنما كان ليستكشف السبب الحامل لهم على الصوم ، فلما عَلِم ذلك قال لهم كلمة حق تقتضي تأنيسهم واستجلابهم ، وهي : " نحن أحق وأولى بموسى منكم " ؛ وَوَجْه هذه الأولوية : أنه عَلِم مِن حال موسى وعَظيم مَنْزِلته عند الله ، وصِحّة رسالته وشريعته ، ما لم يَعلموه هُم ، ولا أحدٍ مِنهم . اهـ .
4 – أن ذلك كان مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم على سبيل الإخبار لِمن أسلَم منهم ، لزيادة إيمانه وتقرير ذلك في نفسه .
قال القاضي عياض : رَوى مُسلم أن قريشا كانت تَصومه ، فلما قَدِم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة صامه .. إنما هي صِفة حال ، وجواب سؤال ، فقوله : " صامَه " ليس فيه أنه ابتدأ صومه حينئذ بِقَولِهم ، ولو كان هذا لَحَمَلْنَاه على أنه أَخْبَرَ بِه مَن أسْلَم مِن عُلمائهم ، كابْنِ سَلاَم وغيره . اهـ .
5 – أن الأمر بصيام عاشوراء ليس اتِّبَاعا لأهل الكتاب ، وإنما هو أمْر بالاقتصار على الصيام دون غيره مما تفعله اليهود .
ويُؤكِّد هذا ما جاء في حديث أبي موسى رضي الله عنه قال : كان يوم عاشوراء تَعدّه اليهود عِيدا ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : فَصُومُوه أنتم . رواه البخاري ومسلم . – وقد تقدّم - .
فقوله عليه الصلاة والسلام : " فَصُومُوه أنتم " يَعني : اقْتَصِروا أنتم على الصيام دون غيره مِن مظاهر العيد التي كانت عند اليهود .
قال القرطبي في " الْمُفْهِم " : الذي حَدَث له عند ذلك إلزامه والْتِزَامه استئلافًا لليهود ، واستدراجًا لهم . اهـ . وقد تقدَّم بتمامه .
وقال النووي : مختصر ذلك : أنه صلى الله عليه و سلم كان يَصومه كما تَصومه قريش في مكة ، ثم قَدِم المدينة فَوَجَد اليهود يَصومونه فَصَامه أيضا بِوَحْي ، أوْ تواتر ، أو اجتهاد ، لا بِمُجرد أخبار آحادهم . اهـ .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : فإذا كان أصل صومه لم يكن مُوافِقا لأهل الكتاب ، فيكون قوله : " فنحن أحق بموسى منكم " توكيدا لصومه ، وبيانا لليهود : أن الذي يَفعلونه مِن موافقة موسى نحن أيضا نفعله ، فنكون أولى بموسى منكم . اهـ .
ولو افترضنا جَدَلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلقّاه مِن اليهود ، فإنه لو تلقّاه منهم ما كان له أن يأخذه ابتداء منهم إلاّ بِوَحْي ، ولو افترضنا جَدَلاً أنه تلقّاه بلا وَحْي ، فإن لا يُقرّ على الخطأ في اجتهاده ، كما في قضية الأسرى والأعمى ، وفي غيرها ، بل يأتيه الوحي لِبيان ما فيه خطأ .
ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية في بعض أجوبته :
فالنبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي كان له أن يوافقهم ؛ لأنه يَعْلَم حَقّهم مِن بَاطِلهم ؛ بما يُعلّمه الله إياه ، ونحن نَتَّبِعه . اهـ .
وبهذا تُهْدَم شُبهة (أنه لم يكن يعرف عاشوراء إلاّ في المدينة ، وعلى يد اليهود) .
فلَم يتَلقَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم صيام عاشوراء عن اليهود .
خامسا : دعوى أن صيام عاشوراء كان مِن بِدع بني أميّة ، مَردُود مِن وُجوه :
الوجه الأول : أن معاوية رضي الله عنه قَدِم المدينة في يوم عاشوراء ، فلم يأمُر بصيام ذلك اليوم ! بل بيَّن للناس فضل يوم عاشوراء .
ففي الصحيحين مِن طريق حُميد بن عبد الرحمن أنه سمع معاوية بن أبي سفيان خطيبا بالمدينة - يعني في قَدمة قَدِمها - خطبهم يوم عاشوراء ، فقال : أين علماؤكم يا أهل المدينة ؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لهذا اليوم : هذا يوم عاشوراء ، ولم يَكتب الله عليكم صيامه ، وأنا صائم ، فمن أحب منكم أن يصوم فليصم ، ومَن أحب أن يُفطر فليفطر .
ومعاوية رضي الله عنه يُخبر بِقول النبي صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم عاشوراء ، وهو مؤتمَن على ما هو أعظم من ذلك : ألاَ وهو كتابة الوحي ، فالطَّعن في معاوية رضي الله عنه طَعن في الدِّين كلّه .
قال النووي : قوله عن معاوية : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لهذا اليوم : هذا يوم عاشوراء ، ولم يكتب الله عليكم صيامه ، وأنا صائم ، فمن أحب منكم أن يصوم فليَصُم ، ومن أحب منكم أن يفطر فليفطر " هذا كُله مِن كلام النبي صلى الله عليه وسلم هكذا جاء مُبَيّنًا في رواية النسائي . اهـ .
الوجه الثاني : أن الصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا يُحَابُون الأمراء ولا يُجاملونهم على حساب دِينهم ، بل يُنكرون عليهم علانية .
ففي صحيح مسلم أن عمارة بن رُؤيبة رأى بِشر بن مروان على المنبر رافعا يديه ، فقال : قبح الله هاتين اليدين ، لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يزيد على أن يقول بيده هكذا، وأشار بإصبعه المسبحة .
وأنْكر كعب بن عُجرة رضي الله عنه على عبد الرحمن بن أم الحكم حين خَطب قاعدا ، فقال كعب رضي الله عنه : انظروا إلى هذا الْخَبِيث ! يَخْطُب قَاعِدًا ، وقال الله تعالى : (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا) . رواه مسلم .
وفي صحيح مسلم مِن طريق طارق بن شهاب قال : أول مَن بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة مروان ، فقام إليه رجل فقال الصلاة قبل الخطبة ، فقال : قد تُرك ما هنا لك ، فقال أبو سعيد : أما هذا فقد قضى ما عليه ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان .
وفي صحيح مسلم أيضا مِن طريق الحسن أن عائذ بن عمرو وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على عبيد الله بن زياد ، فقال : أي بني إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن شرّ الرّعاء الحطمة ، فإياك أن تكون منهم ، فقال له : اجلس فإنما أنت مِن نخالة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فقال : وهل كانت لهم نخالة ؟! إنما كانت النخالة بعدهم وفي غيرهم !
والأمثلة على ذلك كثيرة .
فكيف يُظنّ بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مُحاباة أحد كائنا مَن كان ؟
الوجه الثالث : أنه لا يُعرَف في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم مَن وَقَع في البِدْعَة ، وقد زكّاهم الله تبارك وتعالى ، وزكّاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلا يصِحّ ولا يجوز القول بأن صيام يوم عاشوراء بِدعة ابتدعها معاوية رضي الله عنه .
الوجه الرابع : أن جمهور أهل العِلْم على استحباب صيام يوم عاشوراء ، فهل غاب ذلك عن جماهير علماء الأمة لو كان حقا ؟!
قال الترمذي : والعمل عند أهل العِلم على حديث عائشة ، وهو حديث صحيح ؛ لا يَرون صيام يوم عاشوراء واجِبا إلاّ مَن رَغِب في صيامه لِمَا ذُكِر فيه مِن الفَضل . اهـ .
قال ابن عبد البر : ولَمّا فُرِض رمضان صامَ رسول الله صلى الله عليه وسلم على وَجه الفضيلة والتبرّك ، وأمَر بِصيامه على ذلك ، وأخبر بِفَضْل صَومه ، وفعل ذلك بعده أصحابه . اهـ .
وقال النووي : وذهب جماهير العلماء مِن السلف والخلف بأن عاشوراء هو اليوم العاشر من الْمُحَرَّم ، وهذا ظاهر الأحاديث . اهـ .
بل نَقَل النووي الإجماع على استحباب صيام يوم عاشوراء .
فإنه قال : اتفق العلماء على أن صوم يوم عاشوراء اليوم سُنة ليس بواجب . اهـ .
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هذا يوم عاشوراء ، ولم يكتب الله عليكم صيامه ، وأنا صائم ، فمن شاء فليَصُم ، ومَن شاء فليُفطر . رواه البخاري ومسلم .
قال ابن عبد البر :
وفي هذا الحديث دليل على فَضْل صوم يوم عاشوراء ، لأنه لم يخصه رسول الله صلى الله عليه وسلم بِنَدْبِه أُمّته إلى صيامه وإرشادهم إلى ذلك ، وإخباره إياهم بأنه صائم له ليقتدوا به إلاَّ لِفَضْل فيه ، وفي رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة الْحَسَنة . اهـ .
الوجه الخامس : أن معاوية رضي الله عنه لم يَنْفَرِد برواية هذا الحديث ، بل جاء مِن حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت : إن قريشا كانت تصوم يوم عاشوراء في الجاهلية، ثم أمَر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصيامه حتى فُرِض رمضان ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مَن شاء فليَصمه ، ومن شاء أفطر . رواه البخاري ومسلم .
وفي رواية لمسلم : إن يوم عاشوراء كان يُصام في الجاهلية ، فلما جاء الإسلام مَن شاء صامه ، ومن شاء تركه .
خامسا : شُبهة (أن النبي عليه السلام هو وأصحابه قد صاموا أكثر من عاشوراء واحد قبل أن يُفرض رمضان ، فكيف يصح أنهم قد صاموا أكثر من عاشوراء فرضا ثم نسخ ذلك بِفرض رمضان ، ومعلوم أن رمضان لم يفرض إلا في السنة الثانية من الهجرة)
سبق القول : أن طريقة أهل العِلم والإيمان : التوفيق بين النصوص والْجَمْع بينها ، وطريقة أهل الزيغ : ضَرْب النصوص بعضها ببعض !
ولو كَلّف المتكلِّم نفسه البحث عن جواب لَوَجد أجوبة عن هذا ، وليس جوابا واحدا
أحدها : أن يُحْمَل هذا على ما كان قبل الهجرة وما بعدها ، فيُمكن تكرر الصيام .
ويدلّ عليه حديث عائشة رضي الله عنها – وقد سَبَق - قالت : إن قريشا كانت تصوم يوم عاشوراء في الجاهلية ، ثم أمَر رسول الله صلى الله عليه وسلم بِصيامه حتى فُرِض رمضان ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مَن شاء فليَصمه ، ومن شاء أفطر . رواه البخاري ومسلم .
وأن صيام عاشوراء كان فَرْضا حتى فُرِض صيام رمضان ، ويَدلّ على هذا ما في حديث عائشة رضي الله عنها . رواه البخاري ومسلم .
ثانيها : أن ذلك قد يُحْمل على مَن تأخّرت هجرته ، فيكون صام أكثر من عاشوراء قبل أن يُهاجر ؛ فيكون صومه لعاشوراء قبل أن يبلغه نَسخ فرضيته ؛ فيكون صام رمضان وصام عاشوراء .
ثالثها : أن صيام النبي صلى الله عليه وسلم لعاشوراء لم ينقطع عندما فُرِض صيام رمضان ، بدليل : أنه عليه الصلاة والسلام قال في صيام عاشوراء : فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع . قال : فلم يأتِ العام المقبل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم عاشوراء حتى قُبض عليه الصلاة والسلام .
فإيراد هذه الشُّبْهة ليس وراءها إلاّ التشويش على السُّنة ، وضَرْب بعض النصوص ببعض !
فقول : (وقوله أيضا أن النبي عليه السلام قد صام أكثر من عاشوراء من قبل أن يفرض رمضان) هذا مِن تعبير صاحب الشُبهة ، وليس مِن لفظ ابن عباس رضي الله عنهما .
فليس في قول ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم صام أكثر مِن عاشوراء في المدينة قبل أن يُفرض رمضان .
سادسا : شُبهة (أن قدوم النبي عليه السلام للمدينة كان في ربيع الأول فكيف وجد اليهود يصومونه في محرم ؟)
وهل مكث النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة سَنة واحدة حتى يَرد مثل هذا السؤال أصلا ؟!
إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم هاجَر في ربيع الأول ، فقد يَجِد اليهود يصومون يوم عاشوراء في السنة الثانية ، أو في السنة الثالثة !
ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم مَكث في المدينة عشر سنوات .
وليس في النص ما يُفيد أن صيام اليهود لعاشوراء كان في السنة الأولى مِن الهجرة ، ولو كان فيه ما يُفيد ذلك لأمكن الجواب عنه بأنه وَجَد ذلك خلال سَنة مِن هجرته ، أي : قبل أن يَحول الحول وتدور السنة على هجرته !
هذا لِمن كان يبحث عن جواب سَديد ، أو كان يُعظِّم النصوص .
سابعا : التعبير عن رواية الصحابي وقوله بِفهْم صاحب الشبهة ؛ مردود ، فإنه قال :
(في الروايات التي عند البخاري وغيره أن ممن روى أحاديث عاشوراء هو ابن عباس رضي الله عنهما ، وأنه يقول أنه رأى النبي عليه السلام يصومه ، وأنه تعلّم فضله من اليهود عندما قدم المدينة)
فهذا طَعن في الصحابي رضي الله عنه ، وسوء أدب مع حبر الأمة وترجمان القرآن ، وطَعن في صحيح البخاري ، والجامع بينهما : الطعن في الدِّين !
وإلاَّ فإن ابن عباس رضي الله عنهما لم يَقُل إن النبي صلى الله عليه وسلم تعلَّم فضل يوم عاشوراء مِن اليهود ، بل غاية ما فيه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وَجَد اليهود يصومون يوم عاشوراء ، وأنهم سُئلوا عن سبب صيامهم .
وقد تقدَّم الجواب عن شُبهة تلقّيه من اليهود .
وأما قول : (فكيف لابن عباس أن يقول رأيت النبي عليه السلام يصوم عاشوراء ، ويتحدث أيضا عن قصة صيامه له أول ما دخل المدينة وأنه رآه يصوم أكثر من عاشوراء ، وهو لم يتجاوز عمره السنتين حيث إن من المعلوم أن ابن عباس رضي الله عنه وُلد قبل الهجرة بسنتين)
وهذا مردود مِن وجوه :
الوجه الأول : أن ابن عباس رضي الله عنهما لم يَقُل إنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصوم عاشوراء ، والذي في صحيح البخاري : قال ابن عباس رضي الله عنهما : قَدِم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فَرَأى اليهود تصوم يوم عاشوراء .
فالذي رأى هو النبي صلى الله عليه وسلم ، ورأى اليهود تصوم يوم عاشوراء .
وفي صحيح البخاري أيضا قول ابن عباس : ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يَتحرّى صيام يوم فَضّله على غيره إلاّ هذا اليوم يوم عاشوراء .
فهذا ليس صريحا في رؤيته للنبي صلى الله عليه وسلم صائما ، بل هي مُحتملة للرأي .
فالرؤية قد تُطْلَق على الرؤية البَصَرِيّة .
وقد تُطْلَق على الرؤية القَلْبِيّة .
وقد تُطْلَق على الرأي والعِلْم بالشيء .
ويُؤيّد أنها العِلْم : رواية عبد الرزاق : ما عَلِمْت رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يتحرى صيام يوم يبتغي فضله على غيره إلاّ هذا اليوم يوم عاشوراء .
الوجه الثاني : أن ابن عباس وُلِد قبل الهجرة ، واخْتُلف في سِنّه وقت الهجرة .
قال ابن حجر في " الإصابة " : وُلد وبنو هاشم بالشّعب قبل الهجرة بثلاث . وقيل بخمس . والأول أثبت .
ونَقَل عن الواقديّ قوله : لا خلاف عند أئمتنا أنه وُلد بالشعب حين حَصرت قريش بني هاشم ، وأنه كان له عند موت النبيّ صلى اللَّه عليه وسلّم ثلاث عشرة سنة . اهـ .
وقد كان خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومَن معه مِن الشِّعب قبل الهجرة بثلاث سنين ، كما ذَكَر أهل السِّيَر .
فاحتمال أن يكون عُمر ابن عباس خمس سنوات أو أكثر عند الهجرة .
فإذا كان هاجر وله خمس سنوات ، فهو سِنّ تَحَمُّلٍ للحديث ، وإن أدّى الحديث فيما بعد .
وقد بوّب الإمام البخاري : باب متى يصح سماع الصغير ؟
ثم رَوى فيه حديث ابن عباس رضي الله عنهما ، وفيه : أقبلت راكبا على حمارٍ أتان وأنا يومئذ قد ناهَزت الاحتلام ورَسول الله صلى الله عليه وسلم يُصلِّي بِمنى ...
وحديث محمود بن الربيع رضي الله عنه قال : عَقَلت مِن النبي صلى الله عليه وسلم مَجّة مَجّها في وجهي وأنا ابن خمس سنين مِن دَلو .
بل رواية مَن هو أصغر من ذلك إذا عَقَل القصة والحادثة .
قال ابن بطال في شرح تبويب البخاري السابق :
وأصغر سِنّا منهما : عبد الله بن الزبير، ولم يُخرِّجه يوم رأى أباه يختلف إلى بني قريظة في غزوة الخندق ، فقال لأبيه : يا أبتاه ، رأيتك تختلف إلى بني قريظة ، فقال : يا بني إن النبي صلى الله عليه وسلم أمَرَني أن آتيه بِخبرهم . والخندق على أربع سنين مِن الهجرة ، وعبدُ الله أوُل مولود وُلد في الهجرة .
وقال ابن حجر في تبويب البخاري السابق : ومقصود الباب : الاستدلال على أن البلوغ ليس شرطا في التَّحَمُّل . وقال الكرماني : إن معنى الصحة هنا جواز قبول مَسْمُوعِه . قلت : وهذا تفسير لثمرة الصحة لا لنفس الصحة . اهـ .
فَرِوَاية ابن الخمس سنين مقبولة عند جمهور الْمُحدِّثين ، كما رجّحه الخطيب البغدادي في " الكفاية " .
قال الخطيب البغدادي : وممن كَثُرت الرواية عنه مِن الصحابة وكان سماعه في الصِّغر : أنس بن مالك وعبد الله بن عباس وأبو سعيد الخدري .
وقال الخطيب رحمه الله : قد حَفِظ سهل بن سعد الساعدي عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث ، وكان يقول: كنت ابن خمس عشرة سنة حين قُبِض رسول الله صلى الله عليه وسلم , ولو كان السماع لا يَصح إلاّ بعد العشرين لَسَقَطَت رواية كثير مِن أهل العِلم سِوى مَن هو في عِداد الصحابة , ممن حَفِظ عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصِّغر , فقد رَوى الحسن بن علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم ومولده سنة اثنتين مِن الهجرة , وكذلك عبد الله بن الزبير بن العوام , والنعمان بن بشير , وأبو الطفيل الكناني , والسائب بن يزيد , والمسور بن مخرمة , ورَوى مَسْلمة بن مخلد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم , وكان له حين قُبض عشر سنين , وقيل: أربع عشرة سنة , وتزوّج رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها وهي بنت ست سنين , وبَنى بها وهي بنت تسع , ورَوت عنه ما حَفظته في ذلك الوقت , وروى عُمر بن أبي سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : " ادن يا غلام وسَمّ الله وكل بيمينك مما يليك " , ورَوى معاوية بن قُرّة المزني عن أبيه قال : كنت غلاما صغيرا , فَمَسح رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسي ودعا لي . وقال عبد الله بن جعفر بن أبي طالب : كنت غلاما ألعب ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم مِن سفر فاستقبلته ، فَحَملني بين يديه ، وقال يوسف بن عبد الله بن سلام : سَمّاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوسف , وأقعدني في حِجره ، ومَسح على رأسي . اهـ .
وذَكَر ابن عبد البر في " الاستيعاب " أن مَسْلَمة بن مُخَلَّد قال : وُلِدت حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ، ومات وأنا ابن عشر سنين . اهـ .
فَعَلى هذا : يكون مَسْلَمة بن مُخَلَّد ويوسف بن عبد الله بن سلام أصغر مِن ابن عباس ، ومع ذلك فلَم يردّ أحد روايتهم لِصِغر سِنّهم ، بل ولا مَن ذكَرهم الخطيب البغدادي مِن قبْل .
وقد جَزَم صاحب الشُّبْهة أن عُمْر ابن عباس عند الهجرة لم يتجاوز عمره السنتين !
وقد عَرَفْت قول أصحاب السِّيَر مِن قَبْل .
فقول القائل : (فكيف يقول رأيت ويتحدث عن بدء دخول الرسول عليه السلام المدينة وهو في هذه العمر فهل يعقل ذلك ؟)
نقول : إذا ثَبَت أنه عَقَل مَن هو أصغر منه ، فيصحّ أن يتحدّث عن بدء دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، ويجوز أن يكون رَواه عن غيره .
فإن عائشة رضي الله عنها رَوَتْ حديث بدء الوحي ، وبَدء الوحي كان قبل مَولِدها ، وهو حديث صحيح لا مَطْعَن فيه ، بل خرّجه أصحاب الصحيح (البخاري ومسلم) ، وتلقّته الأمة بالقبول .
الوجه الثالث : أن الصحابة رضي الله عنهم يَروي بعضهم عن بعض ، وقد يُصرِّح الصحابي عمّن حدّثه ، وقد لا يُصرِّح بذلك ، إلاّ أن الصحابي لا يقول : سَمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيما يَرويه عن غيره .
ومعلوم أن رواية كثير مِن صِغار الصحابة كانت عن كبار الصحابة ، وسواء ذَكَر الصحابي مَن حدّثه أوْ لم يَذْكر مَن حَدّثه ، فإن روايته عن غيره مقبولة بالاتّفاق ، وأن جهالة الصحابي لا تضرّ ، حتى في رواية التابعي عن الصحابي .
قال ابن حبان في مُقدّمة صحيحه : وإنما قَبِلْنا أخبار أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا رَوَوها عن النبي صلى الله عليه وسلم وإن لم يُبَيِّنُوا السماع في كل ما رَوَوا ، وبِيَقِين نَعلم أن أحَدهم ربما سَمِع الخبر عن صحابي آخر ورَوَاه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غير ذِكْر ذلك الذي سَمِعه منه ، لأنهم رضي الله تعالى عنهم أجمعين كلهم أئمة سادَة قادَة عدول نَزَّه الله عز وجل أَقْدَارَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أن يُلْزَق بِهم الوَهن . اهـ .
ثامنا : القول (أن النبي عليه السلام قد صام أكثر من عاشوراء من قبل أن يفرض رمضان ، فإن فيه نظر كما سبق لأن رمضان قد فرض في السنة الثانية من الهجرة فكيف يمكن للنبي عليه السلام صيام أكثر من عاشوراء)
سبق أنه ليس عند البخاري بهذا اللفظ ، ولم يَرِد في صحيح البخاري ولا في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صام أكثر من عاشوراء من قبل أن يفرض رمضان ، أي : ليس بهذا اللفظ لا مِن حديث ابن عباس رضي الله عنهما ، ولا مَن حديث غيره مِن الصحابة .
بل جاء مُصرّحا في حديث معاذ رضي الله عنه ، فإنه قال : فصام تسعة عشر شهرا مِن ربيع الأول إلى رمضان مِن كل شهر ثلاثة أيام ، وصام يوم عاشوراء ، ثم إن الله فرض عليه الصيام . رواه الإمام أحمد .
فهذا لم يَغب عن الرواة ، ولا عن الأئمة النقّاد .
فهل غاب هذا النقد البارد عن جهابذة السُّنّة وصيارفتها ونُقّادها ؟! وهُم الذين يَنتقدون اللفظة الواحدة مِن الراوي ، ويَقولون : أخطأ فلان ، ولو كان إماما مُعتبرا .
ورحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية إذْ كان يقول : وكل قول يَنْفَرِد به المتأخر عن المتقدمين ، ولم يَسبقه إليه أحَدٌ منهم ؛ فإنه يكون خطأ . اهـ .
تاسعا : قول (فكيف يجهل العلماء في وقته ، وهم من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أمرا مثل ذلك ؟ وهو قد كان مفروضا عليهم قبل ذلك بسنين قليلة . فهل مثل تأريخ الفرض يجهله الصحابة وأبناؤهم ؟)
ذلك مردود مِن وجهين :
الأول : أنه لا يَعني أنهم كلّهم جَهِلوه ، بل قد يكون مِن باب التذكير ، وقد يَغيب عن بعضهم ، كما قال عمر رضي الله عنه في شأن الاستئذان : خَفِيَ عَلَيَّ هَذَا مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَلْهَانِي عَنْهُ الصَّفْقُ بِالأَسْوَاقِ . رواه البخاري ومسلم .
قال ابن عبد البر :
وَفِيهِ أَنَّ الرَّجُلَ الْعَالِمَ الْحَبْرَ قَدْ يُوجَدُ عِنْدَ مَنْ هُوَ دُونَهُ فِي الْعِلْمِ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ مِنَ الْعِلْمِ إِذَا كان طريق ذلك العِلْم السَّمْع ، وَإِذَا جَازَ مِثْلُ هَذَا عَلَى عُمَرَ عَلَى مَوْضِعِهِ فِي الْعِلْمِ ، فَمَا ظَنُّكَ بِغَيْرِهِ بَعْدَهُ . اهـ .
الثاني : أنه مِن باب استشهاد أهل العِلْم والفضل ، كما استشهد الله بأهل العِلْم على أعظم مشهود (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) .
وقال القرطبي في " الْمُفْهِم " : وقَول مُعاوية لأهل المدينة : " أين علماؤكم ؟ " إنما خصَّ العلماء بالنداء ليلقِّنوا عنه ، وليُصِدِّقوه ؛ إذْ قد كان عِلْمُ ذلك عند كثير منهم ، وذلك لأنهم أعلم بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحواله مِن غيرهم . اهـ .
عاشرا : القول بـ (أن عاشوراء كان يوم عيد عند اليهود فصاموه ، والحري بهم أن لا يصوموه بل ينبغي لهم أن يفرحوا فيه ويأكلوا ويشربوا ويتصدقوا)
معلوم أن يهود ليسوا على مِلّة واحدة ، ولم يكونوا في منطقة واحدة ، فبعضهم كان في المدينة ، وبعضهم كان في خيبر .
فقد يُوجد منهم مَن يصوم ، ويُوجد منهم من يَحتفِل ، ويوجد منهم مَن يجمع بين الأمرين .
ففي حديث أبي موسى رضي الله عنه قال : كان أهل خيبر يَصومون يوم عاشوراء ، يتخذونه عِيدا ، ويُلبسون نساءهم فيه حُلِيهم وشَارتهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فَصُومُوه أنتم .
فتخصيص أهل خيبر بالذِّكْر دون غيرهم له دلالته ، إذْ لو كان كل اليهود كذلك لَخَصّ يهود المدينة ؛ لأنهم أقرب .
فالواجب على المسلم – فضلا عن طالب العِلْم – أن يتّهم نفسه وفَهمه ، لا أن يتّهم النصوص بالتناقض .
فإن التسليم للنصوص دِين ندين الله به ، وهو مِن أعظم أسباب الثبات .
قال الإمام الطحاوي في عقيدة أهل السنة والجماعة : ولا تثبت قَدم الإسلام إلاَّ على ظهر التسليم والاستسلام .
قال ابن أبي العز : أي : لا يثَبت إسلام مَن لم يُسَلِّم لِنُصوص الوحيين وينقاد إليها ، ولا يَعْتَرِض عليها ، ولا يُعارضها بِرأيه ومَعْقُولِه وقِياسه . روى البخاري عن الإمام محمد بن شهاب الزهري رحمه الله أنه قال : مِن الله الرسالة ، ومِن الرسول البلاغ ، وعلينا التسليم . وهذا كلام جامع نافع . اهـ .
وقال ابن القيم رحمه الله :
التَّواضع للدِّين هو الانقياد لِمَا جاء به الرسول والاستسلام له والإذعان ، وذلك بثلاثة أشياء :
الأول : أن لا يُعَارِض شيئا مما جاء به بشيء مِن المعارَضات الأربعة السارية في العالَم ، المسماة بالمعقول والقياس والذوق والسياسة !
الثاني : لا يَتَّهِم دليلاً مِن أدلة الدِّين بَحيث يَظنه فَاسِد الدلالة ، أو ناقص الدلالة أو قاصرها ، أو أنّ غيرَه أوْلى منه .
قال : ومَتى عَرَض له شيءٌ من ذلك فَلْيَتَّهم فَهمَه ، وليعلم أن البَليِّة منه .
كما قيل :
وكَم مِن عائب قولا صحيحا *** وآفَته مِن الفَهم السقيم
ولكن تأخذ الأذهان منه *** على قَدْر القَرائح والفُهُوم
وإذا رأيتَ مِن أدِلّة الدِّين ما يُشْكِل عليك ، ويَنْبُو فَهمك عنه ، فاعْلَم أنه لِعَظَمَتِه وشَرَفِه اسْتَعْصَى عليك ، وأن تحته كَنْزًا مِن كنوز العِلْم ، ولم تُؤتَ مِفتاحه بعد ؛ هذا في حقّ نفسك . وأما بالنسبة إلى غيرك فاتَّهِم آراء الرِّجال على نُصوص الوحي ، وليكن رَدّها أيسر شيء عليك للنصوص ، فما لم تفعل ذلك فَلَسْتَ على شيء ، ... وهذا لا خلاف فيه بين العلماء . قال الشافعي قدّس الله روحه : أجمع المسلمون على أنَّ مَن اسْتَبَانَتْ له سُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لَم يَحِلّ له أن يَدَعها لِقول أحَد .
الثالث : أن لا يَجد إلى خِلاف النص سبيلا البتة ، لا بباطنه ولا بِلِسانه ولا بِفِعْله ولا بِحَاله . اهـ
حادي عشر : قوله : (إنه صامه عليه السلام وأمر بصيامه ، وقال : لو عشت لقابل لأصومن التاسع ، ولكنه مات قبل أن يفعل ذلك ، فهل مات النبي صلى الله عليه وآله وسلم في السنة الأولى من الهجرة ، أو في الثانية بناء على هذا الحديث ؟)
يُكره الاقتصار على قول (عليه السلام) كما نص على ذلك غير واحد مِن أهل العلم .
ولم يَكن قوله عليه الصلاة والسلام : " لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع " إلاّ في آخر حياته عليه الصلاة والسلام ؛ لقول ابن عباس رضي الله عنهما : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع . رواه مسلم .
وفي رواية له : حين صام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء وأمَر بصيامه قالوا : يا رسول الله ، إنه يوم تعظِّمه اليهود والنصارى ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فإذا كان العام الْمُقبِل إن شاء الله صُمْنا اليوم التاسع .
قال : فلم يأت العام الْمُقْبِل ، حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فهذا صريح أن هذا كان في آخر حياته صلى الله عليه وسلم ، ولم يتمكّن مِن صيام التاسع مع العاشر .
فليس فيه أن ذلك كان أوّل ما صام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء ، ولا أن ذلك في أول مَقْدَمه المدينة .
ويُحمَل قوله : " حين صام " أي : حين صامه تلك السنة ، أو حين صام آخر عاشوراء في حياته .
قال القرطبي في " الْمُفْهِم " : وفي حديث ابن عباس الآخر قول الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم :" إن يوم عاشوراء يوم تعظمه اليهود " ؛ كان هذا القول مِن النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن تَمادى على صومه عشر سنين أو نحوها ، بدليل : أن أمْرَه بِصومه إنما كان حين قَدِم المدينة ، وهذا القول الآخر كان في السَّنة التي توفي فيها في يوم عاشوراء مِن مُحرم تلك السنة ، وتوفي هو صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الأول منها ، لم يُخْتَلَف في ذلك . اهـ .
الثاني عشر : رأيت لبعض الفضلاء رَدًّا ، حاول فيه تضعيف حديث ابن عباس : لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع .
وضعّفه لأنه من رواية القاسم بن عباس ، عن عبد الله بن عمير ..
وهذا لو سلّمنا به ، لم تكن تلك العِلّة في الطريق السابقة لهذا اللفظ ؛ فقد رواه مسلم قبل ذلك عن الحسن بن علي الحلواني ، حدثنا ابن أبي مريم ، حدثنا يحيى بن أيوب ، حدثني إسماعيل بن أمية ، أنه سمع أبا غطفان بن طريف المري ، يقول : سمعت عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ، يقول : حين صام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا : يا رسول الله ، إنه يوم تعظّمه اليهود والنصارى ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صُمنا اليوم التاسع
قال : فلم يأت العام المقبل ، حتى تُوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فهذا طريق سالِم من الاعتراض المذكور في رد الشيخ الفاضل .
ثم إن قوله : " إذا كان العام المقبل إن شاء الله صُمنا اليوم التاسع " هو معنى : " لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع " ، يَعني مضموما إلى اليوم العاشر .
وقد روى عبد الرزاق عن ابن جريج قال : أخبرني عطاء أنه سَمِع ابن عباس يقول في يوم عاشوراء : خالفوا اليهود ، وصوموا التاسع والعاشر . وهذا إسناد صحيح .
ورواه البيهقي في " الكبرى " من طريق عبد الرزاق ، ورَواه في " شُعب الإيمان " من غير طريق عبد الرزاق .
وهذا الحديث الصحيح عن ابن عباس ، الصريح في صيام التاسع والعاشر ؛ يَردّ قَول مَن قال مِن أهل العِلْم (بأن مذهب ابن عباس أن عاشوراء هو اليوم التاسع مِن الْمُحَرَّم) .
ثم ضعّف الشيخ الفاضل حديث " لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع " بأن ذلك كان في آخر حياته صلى الله عليه وسلم ، مع ضَعف اليهود وتشريدهم ...
وهذا مُتعقّب بأن قصد النبي صلى الله عليه وسلم مُخالفة اليهود متأخّر ، بل هو آخر الأمرين ، كما تقدّم في (رابعا) ، وفيه حديث ابن عباس في صحيح مسلم .
وقد ذَكَر شيخ الإسلام ابن تيمية في " الاقتضاء " موافقة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الكتاب في صيام عاشوراء ، ثم قال :
ثم الجواب عن هذا ، وعن قوله : " كان يُحب مُوافقة أهل الكتاب فيما لم يُؤمَر فيه بشيء " مِن وُجوه :
أحدها : أن هذا كان مُتَقدِّما ، ثم نَسَخ الله ذلك ، وشَرَع له مخالفة أهل الكتاب ، وأمَرَه بذلك ... والذي يوضح ذلك: أن هذا اليوم - عاشوراء - الذي صامه وقال: " نحن أحق بموسى منكم " قد شَرَع - قبيل موته - مخالفة اليهود في صومه ، وأمر صلى الله عليه وسلم بذلك ...
ومما يوضح ذلك : أن كل ما جاء مِن التشبّه بهم ، إنما كان في صدر الهجرة ، ثم نُسخ ؛ ذلك أن اليهود إذ ذاك ، كانوا لا يتميزون عن المسلمين لا في شعور ، ولا في لباس ، لا بعلامة ، ولا غيرها .
ثم إنه ثبت بعد ذلك في الكتاب والسنة والإجماع ، الذي كَمل ظهوره في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ما شَرعه الله مِن مخالفة الكافرين ومفارقتهم في الشعار والهدي .
وسبب ذلك : أن المخالفة لهم لا تكون إلاّ مع ظهور الدِّين وعُلُوّه كالجهاد ، وإلزامهم بالجزية والصَّغار ، فلما كان المسلمون في أول الأمر ضعفاء لم تُشْرع المخالفة لهم ، فلما كَمل الدِّين وظهر وعَلا ؛ شُرِع بذلك .
الوجه الثاني : لو فرضنا أن ذلك لم يُنسخ ، فالنبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي كان له أن يُوافقهم ؛ لأنه يَعلم حَقّهم مِن باطلهم؛ بما يُعلمه الله إياه ، ونحن نتّبعه، فأما نحن فلا يجوز لنا أن نأخذ شيئا مِن الدِّين عنهم : لا من أقوالهم ، ولا من أفعالهم بإجماع المسلمين المعلوم بالاضطرار مِن دِين الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولو قال رجل : يُستحب لنا موافقة أهل الكتاب الموجودين في زماننا؛ لكان قد خَرج عن دِين الأمة .
الثالث : أن نقول بموجبه : كان يُعجبه موافقة أهل الكتاب فيما لم يُؤمر فيه بشيء ، ثم إنه أمِر بِمُخالفتهم ، وأُمِرنا نحن أن نتّبع هديه وهدي أصحابه السابقين الأولين مِن المهاجرين والأنصار .
والكلام إنما هو في أنا مَنْهيُّون عن التشبُّه بهم فيما لم يكن سلف الأمة عليه ، فأما ما كان سلف الأمة عليه فلا ريب فيه ؛ سواء فعلوه ، أو تركوه ؛ فإنا لا نترك ما أمَر الله به لأجل أن الكفار تفعله مع أن الله لم يأمرنا بشيء يُوافِقونا عليه إلاَّ ولا بُدّ فيه مِن نوع مغايرة يتميز بها دين الله الْمُحْكَم مما قد نُسخ أو بُدِّل . انتهى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية .
ومما ضعّف به الشيخ الفاضل حديث ابن عباس : أن مقتضى ذلك استمرار النبي صلى الله عليه وسلم بصيام عاشوراء حتى آخر عمره .
وهذا القول ضعيف ، بل مَردود بأنه صلى الله عليه وسلم حضّ على صيام عاشوراء ، كما في حديث أبي قتادة في صحيح مسلم ، وفيه : وسُئل عن صوم يوم عاشوراء ؟ فقال : يُكفر السنة الماضية . رواه مسلم .
وسبق أن النووي نَقَل الإجماع على استحباب صيام يوم عاشوراء .
فإنه قال : اتفق العلماء على أن صوم يوم عاشوراء اليوم سُنة ليس بواجب . اهـ .
وليس لدينا نصّ صريح في أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يَصُم عاشوراء حتى آخر حياته ، بل لدينا النص الصريح – أو كالصريح – أنه صلى الله عليه وسلم صام عاشوراء في العام الأخير ، فقد سبق – وتكرر – حديث ابن عباس رضي الله عنهما ، وفيه : فإذا كان العام الْمُقبِل إن شاء الله صُمْنا اليوم التاسع .
قال : فلم يأت العام الْمُقْبِل ، حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ومما ضَعَّف به الشيخ حديث ابن عباس " لئن بَقيت إلى قابل لأصومن التاسع " : ظاهر الأحاديث الصحيحة ، كحديث ابن مسعود وابن عمر وعائشة ، والذي فيها : " فلما نزل رمضان كان رمضان الفريضة وتُرِك عاشوراء " .
فهذه الأحاديث ليس فيها أنه لا يُشْرَع صوم يوم عاشوراء ، ولا أن النبي صلى الله عليه وسلم تَرَك صيامه بالكُليّة ، بل غاية ما فيها أنه تُرِك صيامه فَرْضا ، بدليل ما جاء في الأحاديث : " فكان مَن شاء صامه ، ومَن شاء لم يَصُمه " ، فهو باقٍ على التخيير ، وصيامه سُنّة بدليل حديث أبي قتادة .
وفي رواية مِن حديث عائشة : فلما نَزل رمضان كان رمضان هو الفريضة ، وتُرِك عاشوراء .
قال الترمذي : والعمل عند أهل العلم على حديث عائشة ، وهو حديث صحيح ؛ لا يَرون صيام يوم عاشوراء واجِبا إلاّ مَن رَغِب في صيامه لِمَا ذُكِر فيه مِن الفَضل . اهـ .
وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن عاشوراء يوم مِن أيام الله ، فمن شاء صامه ، ومَن شاء تركه . رواه البخاري ومسلم .
فلم يُنسَخ صيام عاشوراء ، وإنما نُسِخ فرض صيامه ، وبَقِي فَضل صيامه لِمن شاء أن يَصومه .
وأما فِعل ابن مسعود رضي الله عنه ، فهو خاص به ، وهو خِلاف ما في الأحاديث المرفوعة والموقوفة ، ومعلوم أن فِعل الصحابي إنما يكون حُجة إذا لم يُخالِف النص ، ولم يُخالِفه غيره .
وقد جاء عن غير واحد من الصحابة رضي الله عنهم أنهم كانوا يصومون عاشوراء ، ويأمرون غيرهم بصيامه .
رَوى عبد الرزاق عن ابن جريج قال : أخبرني عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث عن أبيه أن عمر بن الخطاب أرسل إلى عبد الرحمن بن الحارث ليلة عاشوراء أن تَسَحَّر وأصبح صائما ، قال : فأصبح عبد الرحمن صائما .
فلا يَكون فِعل ابن مسعود رضي الله عنه حُجّة مع المخالَفة .
وسبق قول ابن عبد البر : ولَمّا فُرِض رمضان صامَ رسول الله صلى الله عليه وسلم على وَجْه الفضيلة والتبرُّك ، وأمَر بِصيامه على ذلك ، وأخبر بِفَضْل صَومه ، وفعل ذلك بعده أصحابه . اهـ .
وبهذا تَجتمع الأدلة ، ولا يُرَدّ منها شيء ، وقد عَلِمت أن الْجَمْع بين الأدلة واجب ما أمكن .
الثالث عشر : القول بأن صيام يوم عاشوراء (غير معروف عن اليهود ، فهم لا يصومون عاشوراء ولا يعظمون يومه اليوم ، ولو كان ذلك صحيحا لوُجد ذِكره في تأريخهم)
وهذه النفي سَبَق الردّ عليه ، والنقل عن ابن كثير في " البداية والنهاية " ، وعن الدكتور عبد الوهاب المسيري في " موسوعة المفاهيم والمصطلحات الصهيونية " .
ويَكفي في الرد عليه أن عند اليهود نصّ فيه (" احتفلوا دائما بِفصح الرب إلهكم في شهر أبيب ، ففي هذا الشهر أخرجكم الرب إلهكم مِن مصر ليلا " )
والجواب بتمامه في الرابط أدناه ، ردّا على مَن زَعَم أن صيام عاشوراء بدعة !
يُضاف إلى ذلك : أنه وَرَد في حديث ابن عباس : قالوا : يا رسول الله إنه يوم تُعظِّمه اليهود والنصارى .
فلم يقتصر تعظيم عاشوراء على اليهود ، بل تَوَارثه النصارى أيضا .
قال ابن حجر : واستُشْكِل بأن التعليل بنجاة موسى وغَرَق فرعون يختص بموسى واليهود .
وأُجيب : باحتمال أن يكون عيسى كان يَصومه ، وهو مما لَم يُنْسَخ مِن شريعة موسى ؛ لأن كثيرا منها ما نُسِخ بِشريعة عيسى ؛ لقوله تعالى : (وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) ، ويقال إن أكثر الأحكام الفرعية إنما تتلقاها النصارى مِن التوراة . اهـ .
ولهذا – والله أعلم – كان قريش تُعظِّم هذا اليوم في الجاهلية .
وسبقت الإشارة إلى سبب ذلك .
الرابع عشر : القول بأنه (ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما كما في مسلم والسنن أنه كان يصوم تاسوعاء وليس عاشوراء) غير صحيح على إطلاقه ، بل هو فَهْم لِصاحب الشُبهة !
ولأهل العِلم تفصيل في هذه المسألة .
وقد صحّ عن ابن عباس رضي الله عنهما خِلاف ذلك ؛ فقد روى عبد الرزاق عن ابن جريج قال : أخبرني عطاء أنه سَمِع ابن عباس يقول في يوم عاشوراء : خالفوا اليهود ، وصوموا التاسع والعاشر . وهذا إسناد صحيح .
ورواه البيهقي في " الكبرى " من طريق عبد الرزاق ، ورواه في " شُعب الإيمان " من غير طريق عبد الرزاق .
قال القرطبي في " الْمُفْهِم " : ظاهره أنه كان عَزم على أن يَصوم التاسع بدل العاشر ، وهذا هو الذي فهمه ابن عباس حتى قال للذي سأله عن يوم عاشوراء : إذا رأيت هلال الْمُحرَّم فاعْدُد وأصبح يوم التاسع صائما . وبهذا تَمَسّك مَن رآه التاسع ، وقوله : هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه ، يعني أنه لو عاش لَصَامَه كذلك لِوَعْدِه الذي وَعَد به ، لا أنه صام التاسع بدل العاشر إذْ لم يُسْمَع ذلك عنه ولا رُوي قط . اهـ .
ولو صَحّ هذا الفَهْم عن ابن عباس رضي الله عنهما على إطلاقه ، فإن العِبرة بِما رَوى الراوي لا بِما رأى ، كما هو مُتَقرِّر في عِلم المصطلح .
وقد سبق التفصيل في مسألة نَسْخ عاشوراء ، وهل المقصود بصيام عاشوراء هو اليوم التاسع ، وهو ما فُهِم من بعض الروايات عن ابن عباس رضي الله عنهما .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق