اسم الكاتب : د.نايف بن نهار - أستاذ بجامعة قطر
لستُ أدّعي في هذه المقالة أن قطر لم تخسر، بل خسرت، لكنّ ما أدّعيه هنا أمران: الأول: أن مكاسب قطر أكبر بكثير من خسائرها، والأمر الثاني أنَّ المملكة خاسرة بكل المقاييس، ولا أقول إن خسائرها أكبر من أرباحها؛ لأنّي صراحةً عجزتُ عن إيجاد أي أرباح يمكن أن تجنيها المملكة من هذه الأزمة. وسوف أبيّن خسائر المملكة، ثم مكاسب قطر.
خسائر المملكة
أولاً: فقدان المملكة لدور القيادة في المشهد الخليجي. وقد ذكرت صحيفة الواشنطن بوست أنَّ النفوذ السعودي على الخليج ينحسر "Saudi Arabia’s influence over the six- country GCC is waning" فلم يعد الحديث إذن عن فقدان النفوذ في مناطق الخاصرة على أسوار الخليج، بل حتى عن فقدان النفوذ في الداخل الخليجي. فالمملكة التي كانت دول الخليج تحرص على عدم مخالفتها والعمل وفقًا لرؤيتها في الملفات الإقليمية صارت مجرد طرف من أطراف النزاع. وفقدان المملكة لدورها القيادي في الخليج يعني أتوماتيكيًا فقدان الخليج للقيادة، وتحوّله إلى ساحة منافسة تستثمر فيه القوى الإقليمية والدولية.
ثانيًا: أنَّ المملكة خسرت وحدة الرأي العام الخليجي عمومًا، والشعب القطري على وجه التحديد. فالمملكة التي وحّدت الرأي الشعبي الخليجي معها في حرب اليمن خسرت تلك الوحدة وصار هناك انقسام خليجي شعبي حاد حتى داخل المملكة تجاه عقلانية السلوك السياسي السعودي. والخطأ الأكبر الذي وقعت فيه المملكة أنها أنزلت الخلاف إلى المستوى الشعبي حين زجت بالشعب القطري في معادلة تصفية حساباتها مع الحكومة القطرية، مما جعل الشعب القطري كله يستنفر للتصدي على دعاوى المملكة ضد قطر؛ وإشكالية إنزال الخلاف السياسي إلى المستوى الشعبي أنه يحوّل الخصومة السياسية من موقف عابر إلى ثقافة شعبية، فيصبح كل شعب يضمر للشعب الآخر العداء، وهذا بالتأكيد لن يزول إلا بعد تعاقب أجيال.
ثالثًا: أنَّ السياسة الخارجية السعودية مثقلة بالملفات المفتوحة والمشتعلة، ملف النفوذ الإيراني الذي تسوّر أسوار المملكة من ثلاث جهات، وملف العراق وسوريا ولبنان واليمن، كل هذه الملفات المملكة لم تربح أيًا منها، وبدلاً من أن تعمل على حسم تلك الملفات الكبرى وإغلاقها، فاجأت المملكة الجميع في فتح ملف الخليج نفسه، فصار الخليج نفسه ملفًا مفتوحًا وعبئًا إضافيًا على السياسة الخارجية السعودية.
رابعًا: أنها شتت الرؤية لدى الرأي العام الخليجي، حيث كان الخليجيون متفقين على أولوية مواجهة النفوذ الإيراني، على أنه هو الخطر الأكبر، لكن اليوم لم يعد هناك أي شيء من هذا القبيل، فالشعب القطري تغيّر موقفه من إيران، لا سيما بعد أن رأى أنَّ إيران هي التي كانت ترسل الأغذية وتفتح أجواءها وأرضها للقطريين حين أغلقتها السعودية في وجوههم. فإن كانت المملكة نجحت في حشد الرأي العام الخليجي ضد إيران في المرحلة الماضية، فإنَّ ذلك الحشد تبدد وانقسم، وانقلب بعضه ضد المملكة نفسها، فالأولوية لدى المجتمع القطري اليوم ليست لمواجهة إيران بقدر مواجهة المملكة في سياستها الجديدة.
خامسًا: أنَّ خصوم المملكة هم الذين استفادوا من هذه الأزمة، فإذا كانت المملكة تعادي إيران وتركيا، فإنَّ هاتين الدولتين أكثر دولتين استفادتا من الأزمة، فالأتراك عززوا وجودهم العسكري في الخليج، وصار هناك لاعب إقليمي آخر يزاحم المملكة في الخليج بعد أن كانت متفرّدة به. والشركات التركية استوطنت في الأسواق القطرية على حساب الشركات السعودية. أما إيران فلا أعتقد أن أحدًا يجادل بأنها المستفيد الأكبر من هذه الأزمة على جميع الأصعدة، فقد استطاعت تحييد قطر من معادلة الصراع السعودي الإيراني، بعد أن صارت قطر مضطرة للتعاون معها في مجالات كثيرة، من أبرزها الجانب الاقتصادي حيث بلغ حجم التبادل التجاري مع إيران خمسة أضعاف ما كان عليه قبل الأزمة. والفائدة الأكبر التي جناها الإيرانيون من هذه الأزمة أنها جعلت خصمها "المملكة" مشغولاً بنفسه، فبدلاً من أن تحشد المملكة الجهود العربية لمواجهة النفوذ الإيراني _لا سيما مع وجود ترمب الذي تعقد عليه السعودية آخر أمل لمواجهة النفوذ الإيراني مواجهة صريحة_ قامت المملكة بتمزيق صفها الخليجي الذي يشكّل خط دفاعها الأخير. وهنا يحق للإيراني أن يضع قدمًا على قدم لينظر إلى المعركة وهي تنتقل إلى الداخل الخليجي بعد أن كانت المملكة قد هددته بنقلها إلى الداخل الإيراني !
مكاسب قطر من الأزمة
أولاً: تحرير القرار القطري من أعباء رغبات الجوار. فمن أهم نتائج هذه الأزمة أنَّ قطر لم تعد ملزمة بأن تتحمّل تبعات ما يسمّى الأمن الإقليمي الذي تضع محدداته المملكة العربية السعودية، وإنما أصبحت قطر ملزمة حصرًا بما يقتضيه أمنها الوطني، فمعيار السلوك السياسي الخارجي القطري بعد اليوم يتمثل في علاقته المباشرة بالأمن الوطني القطري بمعزل عن المسار الذي ترسمه المملكة وحلفاؤها.
ثانيًا: انتقال الاقتصاد القطري من حالة الخيار الواحد إلى حالة الخيار المتعدد، فلم تعد قطر بعد الأزمة تعيش حالة اعتماد على أي خيار اقتصادي بعينه، بل صارت لديها بدائل متعددة، متى ما تعطّل أحدها انتقلت بسلاسة إلى الآخر، مما يجعل الاقتصاد القطري اقتصادًا صلبًا لا يمكن أن يكون ورقة ضغط تلعب به القوى المجاورة لتحقيق مآربها السياسية.
ثالثًا: خلقت الأزمة لقطر أكبر ترويج دعائي لها في تاريخها، فالعالم كله عرف قطر، عرف قطر تلك الدولة الصغيرة التي صمدت في وجه أربع دول من بينها أكبر دولتين عربيتين. فقد كان العالم يتوقع أن قطر ستخضع بنحو كامل لمطالب الدول الأربع حرصًا على نجاتها، لكنها صمدت وانتصرت سياسيًا حين رفضت تلك المطالب، ونجحت في كسب موقف المجتمع الدولي لصالحها، فلم تعترف أي منظمة دولية في العالم بتهمة الإرهاب الموجهة لقطر، فبقيت صورة قطر في العالم أنها واجهت تلك الدول دون أي خضوع.
رابعًا: أن قطر ربحت سمعة اقتصادية كبيرة دوليًا، فعلى الرغم من الجهد الجبار الذي بذلته الدول الأربع لضرب الاقتصاد القطري فإنَّه لم يهتز ولم ينكسر، وبقي مستوى رفاهية المجتمع القطري على ما هو عليه قبل الأزمة. كما أنها في المقابل حافظت على عقودها التجارية حتى مع الدول المقاطعة لها، وقد ذكر رئيس شركة "توتال الفرنسية" أن ما قامت به قطر يخدم سمعتها الاقتصادية لأجيال قادمة. خلافًا لما فعلته المملكة والإمارات حين أقحما الخلاف السياسي في العقود التجارية.
خامسًا: أنَّ الأزمة كانت بمثابة اختبار لمستوى نجاعة عمل المؤسسات القطرية، فقد تعرفت قطر من هذه الأزمة على مواطن ضعفها وقوتها على جميع الأصعدة، وبذلك سهّلت عملية إصلاح مواطن الضعف.
سادسًا: أعطت الأزمة قطر فرصة تاريخية لإعادة تقييم حضورها في الملفات الإقليمية والدولية، وفي اعتقادي يجب على قطر أن تستغل هذه الفرصة التاريخية للتخلص من كل الملفات التي لم يعد للوجود القطري فيها أي فائدة عملية، لا سيما تلك الملفات التي صارت بأيدي القوى الكبرى، وصار الوجود القطري فيها مجرد استنزاف مالي.
سابعًا: يقول "جوستاف لوبون" إنه كما أن للحروب أضرارًا ومساوئ، فإن لها فوائد ومحاسن كذلك، ومن أبرز محاسنها أنها تنمي روح المسؤولية لدى الشعب وتزيد من اللحمة الوطنيةـ وقد حصل المجتمع القطري على فوائد الحروب دون الدخول في أتونها.
مكاسب وهمية للملكة
يقول ابن خلدون في مقدمته: "أفعال العقلاء لا بد وأن تكون لغرض مقصود في الانتفاع". ومن هنا يجب على صانع القرار السعودي أن يسأل: ما المكسب المرجو من وراء استمرار المملكة في هذه الأزمة؟ أو بمعنى آخر: ما الذي ستعجز قطر عن فعله بسبب هذه الأزمة؟
إن كانت المملكة تعتقد أنَّ مكسبها الوحيد يتمثل في تحجيم قطر فهي مخطئة؛ لأنَّ كل ما كانت تفعله قطر في السابق تستطيع اليوم فعله، بل إنها الآن تستطيع فعل ما لم تكن تستطيع فعله قبل الأزمة، فقبل الأزمة لم تكن قطر تستطيع أن تمس الشأن السعودي بأي كلمة، واليوم الجزيرة لا عمل لها سوى تسليط الضوء عل ملفات الشأن السعودي، وسقف الجزيرة ارتفع بنحو غير مسبوق فأصبحت القيادة السعودية نفسها تحت أضواء الجزيرة. قناة الجزيرة التي تعد الأقوى تأثيرًا في العالم العربي لا يمكن إنكار أنها كانت منبرًا سعوديًا بامتياز في حرب اليمن، فكانت الصورة التي تنقلها قناة الجزيرة للرأي العام العربي هي الصورة التي يريدها صانع القرار السعودي. هذا كله خسرته السعودية، وصرنا جميعًا نرى التحوّل الجذري لقناة الجزيرة إلى موقفٍ لا يسر صانع القرار السعودي. باختصار، خسرت المملكة سلاح الجزيرة الذي كان في يمينها طوال السنتين الماضيتين، بل صار متوجهًا ضدها، واستمرار الأزمة لا يعني سوى فتح مزيد من ملفات الداخل السعودي للرأي العام الدولي عمومًا والخليجي خصوصًا.
إذن استمرار الأزمة لن يساهم في كبح جماح قطر عن أي خطوة، فلو افترضنا أن قطر تدعم الإرهاب أو تتدخل في الشؤون الداخلية للدول الثلاث كما يقولون، فهل هذه الأزمة ستوقف قطر عن ذلك؟ لو كانت قطر تفعل ذلك فإنَّ المنطق يقتضي أنَّ الفرصة الآن متاحة أكثر بذريعة منطق الصراع المتبادل.
الخلاصة أنَّ المملكة هي الخاسر الأكبر من وراء هذه الأزمة، فقدت دورها ونفوذها، ومزّقت وحدة الصف الخليجي الذي يعدُّ خط دفاعها الأخير، واستمرارها في هذه الأزمة لا يعني إلا تعميق هذه الخسائر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق