فهمي هويدي
نشر فى : الإثنين 5 سبتمبر 2016 | آخر تحديث : الإثنين 5 سبتمبر 2016 - 9:25 م
عسكرة الاقتصاد ملف مسكوت عليه فى مصر. ليتنا نفتحه قبل فوات الأوان، لنزيل ما أصابه من غموض والتباس ومحاذير.
(١)
انطلاقا من متابعة القوات المسلحة لكل ما يشغل الرأى العام المصرى، ومن منطلق حرصها على توضيح الأمور وإزالة اللغط لدى المواطنين فيما يتعلق بقضية أزمة نقص لبن الأطفال لزم التنويه على الآتى: (١) لاحظت القوات المسلحة قيام الشركات المختصة باستيراد عبوات لبن الأطفال باحتكار العبوات للمغالاة فى سعرها.
(٢) تقوم القوات المسلحة انطلاقا من دورها فى خدمة المجتمع المدنى، بالتنسيق مع وزارة الصحة بالتعاقد على نفس عبوات الألبان، ليصل سعر العبوة للمواطن المصرى إلى ٣٠ جنيها بدلا من ٦٠ جنيها، أى بنسبة تخفيض تصل إلى ٥٠٪.
ما سبق جزء من بيان أصدره يوم السبت ٣/٩ المتحدث العسكرى باسم القوات المسلحة المصرية العميد محمد سمير أوضح فيه الموقف إزاء الالتباس الذى جرى فى أزمة ألبان الأطفال. تلك التى دفعت بعض الأمهات إلى التظاهر وقطع الطريق فى بعض المدن تعبيرا عن الاحتجاج والغضب بسبب عدم توافر السلعة، وفى نص البيان إشارات إلى دور القوات المسلحة فى «ضرب الاحتكار الجشع» انطلاقا من «شعورها باحتياجات المواطن البسيط أسوة بما تقوم به من توفير لجميع السلع الأساسية من لحوم ودواجن وغير ذلك فى منافذ البيع بجميع المحافظات» «وصولا إلى بذل قصارى الجهد لتخفيف العبء على المواطن البسيط».
(٢)
بيان المتحدث العسكرى عن الدور الذى تقوم به القوات المسلحة ليس فريدا فى بابه، لكنه مجرد صفحة فى سجل المرحلة، والدور الذى تحدث عنه العميد سمير، نوه إليه الرئيس عبدالفتاح السيسى فى حواره مع رؤساء تحرير الصحف القومية (فى ٢٣/٧/٢٠١٦) حين قال إن دور القوات المسلحة هو أداء عمل شركات المقاولات الوطنية بمعنى أنها ليست شركة لكنها عقل يدير العمل ويشرف على التنفيذ: فى هذا الصدد أشار الرئيس إلى أن ٢٠٠٠ شركة وطنية تعمل فى المشروعات التى تشرف عليها القوات المسلحة، منوها بالدور الذى تقوم به فى ضبط الأسعار من خلال استيراد اللحوم الحية والمجمدة والدواجن بغير وسطاء، إلى جانب دورها فى توفير الزيوت والسكر والألبان والأرز.
موقع «مدى مصر» بث فى الثالث من سبتمبر الحالى تقريرا كتبه الزميل محمد حمامة عن القطاعات الاقتصادية التى دخلتها القوات المسلحة خلال الاثنى عشر شهرا الأخيرة فقط. وهو تقرير حافل بالتفاصيل التى تسلط ضوءا أكبر على القضية التى نحن بصددها، وليس فى مقدورى عرض تلك التفاصيل لسبب يتعلق بالمساحة المتاحة، إلا أننى أقرر أن مضمونه كان مفاجئا لى على الأقل. ذلك أنه جمع المعلومات المتناثرة التى يجرى نشرها فى بعض الصحف المتخصصة والمواقع التى تخص الجهات الرسمية فى الدولة. ومن التفاصيل المنشورة نرى كيف دخلت القوات المسلحة من خلال أذرعها المختلفة فى مجالات التموين والأوقاف وتصنيع عدادات المياه وميكنة بطاقات الحيازة وإنشاء المحال التجارية وتصنيع أدوية الأورام وتوريد صمامات ودعامات القلب وشق الطرق وإدارتها والإعلان فيها. إضافة إلى الدخول فى مجالات إنتاج الطاقة الشمسية والاستزراع السمكى على مساحات قدرت بألوف الأفدنة. وأخيرا إنتاج أجهزة تكييف الهواء وترميم معهد القلب، وصولا إلى تطوير قصر الثقافة فى كل من المحلة الكبرى وطنطا إلى جانب إنشاء المدراس الدولية التى تطبق النموذجين البريطانى والأمريكى.
فى زوايا وأرجاء تلك المساحة الهائلة تتواجد القوات المسلحة بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وأكرر أننا نتحدث عن صورة عام واحد من الأعوام الثلاثة التى أعقبت قيام نظام الثالث من يوليو ٢٠١٣.
إلى جانب الانتشار فى مجالات الإنتاج والخدمات فإن أنشطة القوات المسلحة تمتعت بوضع خاص تمثل فى الإعفاء من الضرائب العقارية. ذلك أن الحكومة اعفت بعض مؤسسات القوات المسلحة من تلك الضرائب،وحسب القرار الذى نشرته الوقائع المصرية فى ٣ يونيو عام ٢٠١٥. فإن قائمة الإعفاء شملت ٩ قرى سياحية و٥٢ ناديا إضافة إلى ٢٩ فندقا فى القاهرة والإسكندرية.كما ضمت ٨ دور للسينما والمسرح، إضافة لمجموعة شركة «دهب» للسياحة و٤ معاهد للغات ومجمعات خدمية وعشرات المصايف والعقارات والفيللات والمحال الكبرى (سوبر ماركت) والحدائق.
(٣)
ما حكاية قيام الجيش بأنشطة خارج مهمته فى حماية أمن البلاد (نص المادة ٢٠٠ من الدستور) وتدخله فى أنشطة اقتصادية آخرها توفير لبن الأطفال الذى هو من مهمة إحدى شركات القطاع العام؟ وما حكاية إقامته لمدارس مدنية بمصروفات؟ وهل التعليم المدنى وتطويره من مهام الجيش؟ وهل تخضع هذه المدارس ماليا وإداريا لرقابة وزارة التعليم، أم أن هذه الوزارة الأخيرة بلا لزوم؟ ـــ وما حكاية قيام الجيش بمشروعات الطرق وإدارته لها وتقريره لرسوم المرور فيها وملكيته للأراضى المحيطة بها؟.
حزمة الأسئلة السابقة وغيرها ليست لى، ولا هى صادرة عن طرف معارض، لكن صاحبها يقف فى قلب معسكر الموالاة ضمن ائتلاف ٣٠ يونيو، فقد سجلها الدكتور نور فرحات أستاذ القانون المرموق على صفحته يوم السبت الماضى، وفضلا عن كونه أستاذا للقانون فإنه أحد قياديى الحزب الديمقراطى الاجتماعى، وكان مرشحا لقيادة الحزب، وقد ذكرت ذلك الإيضاح حتى لا يسارع أحد المتشنجين إلى إطلاق سلسلة الاتهامات المعروفة لصاحب أى رأى مخالف، بدءا من الإساءة إلى القوات المسلحة وانتهاء بدعوى إسقاط الدولة ومرورا بالانضمام إلى الطابور الخامس والانخراط فى المؤامرة العالمية على النظام المصرى التى تستهدف منع السيسى من الترشح لولاية ثانية.
ليس ما ذكره الرجل رأيا شاذا أو استثنائيا، ولكنه غيض من فيض يشهر علامات الاستفهام والتعجب إزاء ما يجرى، خصوصا ما يتصل منه بمكانة القوات المسلحة ودورها فى حماية الوطن والحفاظ على حدوده وكرامته. ومن يتابع مواقع التواصل الاجتماعى يجد أن أسئلة الدكتور فرحات هى من أكثر الملاحظات موضوعية واحتشاما وغيرة على الجيش والوطن.
سمعت تسجيلا للدكتور حازم حسنى الأستاذ بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية عبر فيه عن القلق من المسار ذاته، ومما قاله أنه يقطع الطريق أمام الاستثمار لأن المستثمر لن يجذبه شىء فى بلد تسيطر فيه القوات المسلحة على الاقتصاد، ثم إن هذا التوجه يقطع الطريق أمام القطاع الخاص ويؤدى إلى ضموره.
(٤)
فى النظم الديمقراطية، الجيش يحمى الدولة،بمعنى حماية حدودها وكيانها. أما فى النظم غير الديمقراطية فإن الجيش الذى يسخر لخدمة النظام وليس المجتمع. والحاصل فى سوريا الآن يشهد بذلك، إذ يفتك الجيش وزبانيته بالمجتمع حماية لنظام الأسد. وفى مجال العلوم السياسية يستشهد بالنموذجين التركى والجزائرى. إذا اعتبر الجيش التركى نفسه منقذ الدولة الذى حال دون سقوطها إبان الحرب العالمية الأولى. وبسبب دوره فإنه أصبح مسئولا عن الدفاع عن الجمهورية والنظام الكمالى، وانطلاقا من ذلك فإنه قام بثلاثة انقلابات ونصف بدعوى حماية النظام الجمهورى. وهو ما فعله جيش التحرير الجزائرى الذى خلص البلاد من الاحتلال الفرنسى حتى اعتبر نفسه صانع الدولة وحارسها. ومنذ التحرير فى الستينيات فإن دارسى العلوم السياسية يتداولون فيما بينهم أن لكل دولة جيشا لكن الجيش له دولة فى الجزائر. كان ولا يزال حتى الآن، بدرجة أو بأخرى.
السؤال صار مثارا فى مصر منذ عام ٢٠١٣، ولا تستطيع أن تصنف وضعها الراهن ضمن القائمة التى تضم تركيا والجزائر وسوريا، لكن ذلك لا يعنى أن الأمر صار ملتبسا ومحيرا لكثيرين، بحيث غدا بحاجة إلى مناقشة تضبط الحدود وتزيل مظان الالتباس. إذ رغم أن بعض تدخلات القوات المسلحة يمكن أن تكون مبررة ومفهومة فإن بعضها الآخر ليس كذلك. فضلا عن أحدا لا يعلم ما إذا كان الانتشار الحاصل للقوات المسلحة فى مجالى الخدمات والإنتاج مؤقت أم أنه مستمر. وإذا كان مؤقتا فلأى أجل، وإذا كان مستمرا فهل يعنى ذلك أن القوات المسلحة صارت بديلا عن القطاع العام. وكيف يمكن أن توفق بين مسئولياتها العارضة فى الداخل ومسئولياتها الأصيلة والكبيرة فى الدفاع عن الوطن والأمة والتصدى لأعدائها المتربصين، وإن ارتدوا ثياب «الحملان» الآن.
أدرى أن الموضوع دقيق وحساس، وربما كان ذلك سببا لعزوف البعض عن الحديث فيه. لكن ذلك الحديث لابد أن يفتح يوما ما، وليتنا نبادر إلى ذلك طائعين، بدلا من أن نتطرق إليه مضطرين ومكرهين، وفى ظل الأحوال فليت المنافقين المتشنجين يمتنعون ويخدمون الوطن والمستقبل بسكوتهم الذى هو من ذهب فى هذه الحالة.
نشر فى : الإثنين 5 سبتمبر 2016 | آخر تحديث : الإثنين 5 سبتمبر 2016 - 9:25 م
عسكرة الاقتصاد ملف مسكوت عليه فى مصر. ليتنا نفتحه قبل فوات الأوان، لنزيل ما أصابه من غموض والتباس ومحاذير.
(١)
انطلاقا من متابعة القوات المسلحة لكل ما يشغل الرأى العام المصرى، ومن منطلق حرصها على توضيح الأمور وإزالة اللغط لدى المواطنين فيما يتعلق بقضية أزمة نقص لبن الأطفال لزم التنويه على الآتى: (١) لاحظت القوات المسلحة قيام الشركات المختصة باستيراد عبوات لبن الأطفال باحتكار العبوات للمغالاة فى سعرها.
(٢) تقوم القوات المسلحة انطلاقا من دورها فى خدمة المجتمع المدنى، بالتنسيق مع وزارة الصحة بالتعاقد على نفس عبوات الألبان، ليصل سعر العبوة للمواطن المصرى إلى ٣٠ جنيها بدلا من ٦٠ جنيها، أى بنسبة تخفيض تصل إلى ٥٠٪.
ما سبق جزء من بيان أصدره يوم السبت ٣/٩ المتحدث العسكرى باسم القوات المسلحة المصرية العميد محمد سمير أوضح فيه الموقف إزاء الالتباس الذى جرى فى أزمة ألبان الأطفال. تلك التى دفعت بعض الأمهات إلى التظاهر وقطع الطريق فى بعض المدن تعبيرا عن الاحتجاج والغضب بسبب عدم توافر السلعة، وفى نص البيان إشارات إلى دور القوات المسلحة فى «ضرب الاحتكار الجشع» انطلاقا من «شعورها باحتياجات المواطن البسيط أسوة بما تقوم به من توفير لجميع السلع الأساسية من لحوم ودواجن وغير ذلك فى منافذ البيع بجميع المحافظات» «وصولا إلى بذل قصارى الجهد لتخفيف العبء على المواطن البسيط».
(٢)
بيان المتحدث العسكرى عن الدور الذى تقوم به القوات المسلحة ليس فريدا فى بابه، لكنه مجرد صفحة فى سجل المرحلة، والدور الذى تحدث عنه العميد سمير، نوه إليه الرئيس عبدالفتاح السيسى فى حواره مع رؤساء تحرير الصحف القومية (فى ٢٣/٧/٢٠١٦) حين قال إن دور القوات المسلحة هو أداء عمل شركات المقاولات الوطنية بمعنى أنها ليست شركة لكنها عقل يدير العمل ويشرف على التنفيذ: فى هذا الصدد أشار الرئيس إلى أن ٢٠٠٠ شركة وطنية تعمل فى المشروعات التى تشرف عليها القوات المسلحة، منوها بالدور الذى تقوم به فى ضبط الأسعار من خلال استيراد اللحوم الحية والمجمدة والدواجن بغير وسطاء، إلى جانب دورها فى توفير الزيوت والسكر والألبان والأرز.
موقع «مدى مصر» بث فى الثالث من سبتمبر الحالى تقريرا كتبه الزميل محمد حمامة عن القطاعات الاقتصادية التى دخلتها القوات المسلحة خلال الاثنى عشر شهرا الأخيرة فقط. وهو تقرير حافل بالتفاصيل التى تسلط ضوءا أكبر على القضية التى نحن بصددها، وليس فى مقدورى عرض تلك التفاصيل لسبب يتعلق بالمساحة المتاحة، إلا أننى أقرر أن مضمونه كان مفاجئا لى على الأقل. ذلك أنه جمع المعلومات المتناثرة التى يجرى نشرها فى بعض الصحف المتخصصة والمواقع التى تخص الجهات الرسمية فى الدولة. ومن التفاصيل المنشورة نرى كيف دخلت القوات المسلحة من خلال أذرعها المختلفة فى مجالات التموين والأوقاف وتصنيع عدادات المياه وميكنة بطاقات الحيازة وإنشاء المحال التجارية وتصنيع أدوية الأورام وتوريد صمامات ودعامات القلب وشق الطرق وإدارتها والإعلان فيها. إضافة إلى الدخول فى مجالات إنتاج الطاقة الشمسية والاستزراع السمكى على مساحات قدرت بألوف الأفدنة. وأخيرا إنتاج أجهزة تكييف الهواء وترميم معهد القلب، وصولا إلى تطوير قصر الثقافة فى كل من المحلة الكبرى وطنطا إلى جانب إنشاء المدراس الدولية التى تطبق النموذجين البريطانى والأمريكى.
فى زوايا وأرجاء تلك المساحة الهائلة تتواجد القوات المسلحة بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وأكرر أننا نتحدث عن صورة عام واحد من الأعوام الثلاثة التى أعقبت قيام نظام الثالث من يوليو ٢٠١٣.
إلى جانب الانتشار فى مجالات الإنتاج والخدمات فإن أنشطة القوات المسلحة تمتعت بوضع خاص تمثل فى الإعفاء من الضرائب العقارية. ذلك أن الحكومة اعفت بعض مؤسسات القوات المسلحة من تلك الضرائب،وحسب القرار الذى نشرته الوقائع المصرية فى ٣ يونيو عام ٢٠١٥. فإن قائمة الإعفاء شملت ٩ قرى سياحية و٥٢ ناديا إضافة إلى ٢٩ فندقا فى القاهرة والإسكندرية.كما ضمت ٨ دور للسينما والمسرح، إضافة لمجموعة شركة «دهب» للسياحة و٤ معاهد للغات ومجمعات خدمية وعشرات المصايف والعقارات والفيللات والمحال الكبرى (سوبر ماركت) والحدائق.
(٣)
ما حكاية قيام الجيش بأنشطة خارج مهمته فى حماية أمن البلاد (نص المادة ٢٠٠ من الدستور) وتدخله فى أنشطة اقتصادية آخرها توفير لبن الأطفال الذى هو من مهمة إحدى شركات القطاع العام؟ وما حكاية إقامته لمدارس مدنية بمصروفات؟ وهل التعليم المدنى وتطويره من مهام الجيش؟ وهل تخضع هذه المدارس ماليا وإداريا لرقابة وزارة التعليم، أم أن هذه الوزارة الأخيرة بلا لزوم؟ ـــ وما حكاية قيام الجيش بمشروعات الطرق وإدارته لها وتقريره لرسوم المرور فيها وملكيته للأراضى المحيطة بها؟.
حزمة الأسئلة السابقة وغيرها ليست لى، ولا هى صادرة عن طرف معارض، لكن صاحبها يقف فى قلب معسكر الموالاة ضمن ائتلاف ٣٠ يونيو، فقد سجلها الدكتور نور فرحات أستاذ القانون المرموق على صفحته يوم السبت الماضى، وفضلا عن كونه أستاذا للقانون فإنه أحد قياديى الحزب الديمقراطى الاجتماعى، وكان مرشحا لقيادة الحزب، وقد ذكرت ذلك الإيضاح حتى لا يسارع أحد المتشنجين إلى إطلاق سلسلة الاتهامات المعروفة لصاحب أى رأى مخالف، بدءا من الإساءة إلى القوات المسلحة وانتهاء بدعوى إسقاط الدولة ومرورا بالانضمام إلى الطابور الخامس والانخراط فى المؤامرة العالمية على النظام المصرى التى تستهدف منع السيسى من الترشح لولاية ثانية.
ليس ما ذكره الرجل رأيا شاذا أو استثنائيا، ولكنه غيض من فيض يشهر علامات الاستفهام والتعجب إزاء ما يجرى، خصوصا ما يتصل منه بمكانة القوات المسلحة ودورها فى حماية الوطن والحفاظ على حدوده وكرامته. ومن يتابع مواقع التواصل الاجتماعى يجد أن أسئلة الدكتور فرحات هى من أكثر الملاحظات موضوعية واحتشاما وغيرة على الجيش والوطن.
سمعت تسجيلا للدكتور حازم حسنى الأستاذ بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية عبر فيه عن القلق من المسار ذاته، ومما قاله أنه يقطع الطريق أمام الاستثمار لأن المستثمر لن يجذبه شىء فى بلد تسيطر فيه القوات المسلحة على الاقتصاد، ثم إن هذا التوجه يقطع الطريق أمام القطاع الخاص ويؤدى إلى ضموره.
(٤)
فى النظم الديمقراطية، الجيش يحمى الدولة،بمعنى حماية حدودها وكيانها. أما فى النظم غير الديمقراطية فإن الجيش الذى يسخر لخدمة النظام وليس المجتمع. والحاصل فى سوريا الآن يشهد بذلك، إذ يفتك الجيش وزبانيته بالمجتمع حماية لنظام الأسد. وفى مجال العلوم السياسية يستشهد بالنموذجين التركى والجزائرى. إذا اعتبر الجيش التركى نفسه منقذ الدولة الذى حال دون سقوطها إبان الحرب العالمية الأولى. وبسبب دوره فإنه أصبح مسئولا عن الدفاع عن الجمهورية والنظام الكمالى، وانطلاقا من ذلك فإنه قام بثلاثة انقلابات ونصف بدعوى حماية النظام الجمهورى. وهو ما فعله جيش التحرير الجزائرى الذى خلص البلاد من الاحتلال الفرنسى حتى اعتبر نفسه صانع الدولة وحارسها. ومنذ التحرير فى الستينيات فإن دارسى العلوم السياسية يتداولون فيما بينهم أن لكل دولة جيشا لكن الجيش له دولة فى الجزائر. كان ولا يزال حتى الآن، بدرجة أو بأخرى.
السؤال صار مثارا فى مصر منذ عام ٢٠١٣، ولا تستطيع أن تصنف وضعها الراهن ضمن القائمة التى تضم تركيا والجزائر وسوريا، لكن ذلك لا يعنى أن الأمر صار ملتبسا ومحيرا لكثيرين، بحيث غدا بحاجة إلى مناقشة تضبط الحدود وتزيل مظان الالتباس. إذ رغم أن بعض تدخلات القوات المسلحة يمكن أن تكون مبررة ومفهومة فإن بعضها الآخر ليس كذلك. فضلا عن أحدا لا يعلم ما إذا كان الانتشار الحاصل للقوات المسلحة فى مجالى الخدمات والإنتاج مؤقت أم أنه مستمر. وإذا كان مؤقتا فلأى أجل، وإذا كان مستمرا فهل يعنى ذلك أن القوات المسلحة صارت بديلا عن القطاع العام. وكيف يمكن أن توفق بين مسئولياتها العارضة فى الداخل ومسئولياتها الأصيلة والكبيرة فى الدفاع عن الوطن والأمة والتصدى لأعدائها المتربصين، وإن ارتدوا ثياب «الحملان» الآن.
أدرى أن الموضوع دقيق وحساس، وربما كان ذلك سببا لعزوف البعض عن الحديث فيه. لكن ذلك الحديث لابد أن يفتح يوما ما، وليتنا نبادر إلى ذلك طائعين، بدلا من أن نتطرق إليه مضطرين ومكرهين، وفى ظل الأحوال فليت المنافقين المتشنجين يمتنعون ويخدمون الوطن والمستقبل بسكوتهم الذى هو من ذهب فى هذه الحالة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق