رضا أحمد صمدي
تمهيد:
استقر في الأوساط العلمية عند المسلمين مبدأ الإسناد في النقول، واعتمده المحدثون آلية لنقل وحفظ النصوص الشرعية، وانتشرت الرواية بالأسانيد في كل البلاد، وأينما حل المسلمون أو ارتحلوا وفي كل بلد فتحوها وأقاموا البناء العلمي فيه معتمدا على التقليد الذي استقر وهو الإسناد.
ومن جراء ذلك كثرت الأسانيد والطرق المهلة للنصوص، كما كثر في الأوساط العلمية الرواة النقلة الذين قد تضعف ملكتهم في رعاية وحفظ تلك النصوص.
فانتبه الجهابذة المحدثون في وقت مبكر إلى هذا الخلل الذي ابتدأ يظهر في المرويات والأسانيد، فابتكروا آلية أخرى لتنقية هذه الأسانيد مما داخلها من خلل، إذ رأوا أن الخلل إنما هو من الرواة الذين ضعفت ملكتهم أو قدح في عدالتهم بما لا يؤمن تأديتهم للرواية على الوجه المأمون من الانتحال والتحريف فنشأ منذ ذلك الحين علم الجرح والتعديل.
قال صديق حسن خان: «وعلم الجرح والتعديل يبحث فيه جرح الرواة وتعديلهم بألفاظ مخصوصة، وعن مراتب تلك الألفاظ، وهذا العلم من فروع علم رجال الأحاديث ولم يذكره أحد من أصحاب الموضوعات مع أنه فرع عظيم».
وقد أفرده الحاكم علما مستقلا من علوم الحديث وشرح بعض فصوله في كتابي:
المدخل إلى معرفة الصحيح والمدخل إلى معرفة كتاب الإكليل. كما صنف فيه على وجه التأصيل إجمالا كل من ألف في مصطلح الحديث ، أما على وجه التطبيق فتعتبر كتب الرجال والعلل والتواريخ بأنواعها المختلفة هي كتب الجرح والتعديل على الحقيقة.
نشأة الجرح والتعديل
لقد كانت التحديات الكبيرة التي تواجه المحدثين إزاء هذا السيل الدافق من الأسانيد والمرويات تحتم عليهم وقفة أخرى – بعد تقعيد نظرية الإسناد – ليراجعوا البناء الذي قام على مبدأ الإسناد.
ولم تكن كثرة الأسانيد والمرويات لمجردها هي الدافع لتلك الوقفة والمراجعة، بل إن الفتن التي ظهرت في المجتمع المسلم والتقلبات المختلفة التي واجهها المسلمون لسبب الفتوحات الكبرى وما لحقها من تجاور للحضارات المغلوبة.. أو تمازج، وما أغرزه هذا التجاور أو التمازج من تأثيرات سلبية أو إيجابية.. كل ذلك أدى إلى تلك المراجعة.
لكن أعظم حدث استدعى حفيظة المحدثين ونقلة الشرع.. تلك الفتن السياسية التي تخفى في عجرها وبجرها فئات من أعداء الدين أو أصحاب الأهواء الذين ضعف إيمانهم أو انعدم واختل ولاؤهم للدين أو انصرم.
استحلت تلك الفئات لنفسها أن تتخذ من الإسناد تكأة لانتحال نصوص نبوية تؤيد مذهبهم واتجاههم.
فكان الواحد منهم يعمد إلى إسناد مشهور بنظافته مثل سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أو علقمة عن عبد الله بن مسعود وينسبون من خلالها الأحاديث، أو يخترعون أي إسناد (وإن جهل رجاله) ويذيعون بواسطته الآثار والأخبار، إذ كان الناس يومئذ على أصل الصدق، ولم يكونوا ليظنوا أن أحدا يجرأ على الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم والإسلام بعد في ذروة انتصاراته وفتوحاته.
فلما أحس المحدثون برواج تلك الآثار وخاصة بين الطوائف السياسية المتنازعة ابتدءوا في أخذ الحيطة ورسم السبل لدرء هذه المحاولة الجديدة في تحريف مصادر التلقي عند المسلمين.
وقد سبق أن تعرضنا في "نظرية الإسناد" لأثر محمد بن سيرين الذي يقول فيه: « لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم فينظر إلى حديث أهل السنة فيؤخذ حديثهم وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم».
وقلنا إن هذا الأثر حري أن يكون نصا في تأريخ نشأة علم الجرح والتعديل ، لذلك كان من المناسب أن نوسع القول في حقيقة المراد بالفتنة التي وردت في عبارة ابن سيرين.
يرى "روبسون" أن المقصود بالفتنة فتنة عبد الله بن الزبير (في حدود 76هـ) ويستند روبسون إلى عبارة رويت عن مالك أطلق فيها كلمة "الفتنة" على حركة ابن الزبير، وهذا التفسير – في رأيه – يتفق مع عمر ابن سيرين الذي كانت ولادته سنة 32هـ، مما يجعله عند حدوث فتنة ابن الزبير في عمر يمكنه من الكلام بإدراك وإطلاع عما حدث في هذه الفترة.
ورأي "روبسون" على وهائه أدنى من رأي "شاخت" الذي فسر الفتنة في كلام ابن سيرين أنها فتنة الوليد بن يزيد (ت 126هـ) معتمدا على التوافق في استعمال حكمة الفتنة بين قول ابن سيرين ونص ورد في تاريخ الطبري حيث قال في حوادث سنة 162هـ: "واضطر أمر بني مروان وهاجت الفتنة"، ومن ثم اعتبر شاخت أثر ابن سيرين موضوعا عليه لأنه توفي سنة 110هـ أي قبل الفتنة.
ويعقب الأستاذ محمد العظمي على هذا قائلا: « ومن الواضح الآن أن كل مناقشة – يعني شاخت – مبنية على تفسيره لكلمة فتنة، وهو تفسير تابع لهواه».
وقد انزلق في هذه الطريقة في الربط بين تشابه كلمة الفتنة في التاريخ الأستاذ أكرم العمري حيث حدد زمان الفتنة في عبارة ابن سيرين بفتنة مقتل عثمان بن عفان ، لكنه استدل بعبارة لابن سيرين نفسه في موطن آخر ، وفيها يقول : " ثارت الفتنة وأصحاب رسول الله صلىالله عليه وسلم عشر ةآلاف لم يخف منهم أربعون رجلا " .
وهي طريقة غير سديدة في فهم العبارات المتشابهة وحمل بعضها على بعض خاصة إذا عرفنا أن الفتن التي حدثت في حياة ابن سيرين تبلغ أكثر من عشر فتن في أرجاء العالم الإسلامي ، وكلها كان يطلق عليها فتن ، وكانت أصداؤها تتردد في كل أرجاء العالم الإسلامي محدثة أثرها بوجه أو بآخر .
فمن التعسف إذن أن نفسر كلمة بمعنى لمجرد أن صاحبها استعملها بمعنى في موطن آخر .
وقد حاول الأستاذ الأعظمي أن يكون ماديا حيث بحث عن آثار الفتنة في الحديث فوجد أنها الوضع والاختلاق ، فاستقرأ الأحاديث الموضوعة في كتاب " الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة " للإمام الشوكاني فلاحظ وجود 42 حديثا موضوعا بخصوص النبي صلىالله عليه وسلم ، و38 حديثا موضوعا بخصوص الخلفاء الراشدين ، و96 حديثا موضوعا بخصوص علي وفاطمة ، و14 حديثا موضوعا بخصوص معاوية ، مما ينبئ أن حركة الوضع كانت دائرة حول الأشخاص الذين يمثلون محور الفتنة ، وهما علي بن أبي طالب ومعاوية رضي الله عنهما ، فاستنتج من هذا كله أن المراد بالفتنة في كلام ابن سيرين هو فتنة تقاتل علي ومعاوية .
وهذه الطريقة على وجاهتها قد أخطأت النتيجة ، لأن الأستاذ الأعظمي يفترض أن من الضروري أن تكون تلك الأحاديث وضعت في زمان الفتنة نفسها ، وهذا ليس بلازم ، بل مخالف للشواهد كما سنبين .
إن المنهج العلمي يدعونا إلى ربط الأسباب بمسبباتها ، ودراسة الاحتمالات وسبرها ثم تعيين الاحتمال الذي يكون أكثر واقعية في ظل الظروف والحالة العامة المتصورة للقضية .
وفي عبارة ابن سيرين جملتان جديرتان بالتأمل ، لأن فيهما إشارة إلى تعيين الفتنة التي نحن بصددها .
هاتان الجملتان هما قوله : " فلما وقعت الفتنة قالوا : سموا لنا رجالكم " وقوله : " وينظر إلى أهل البدعة " .
فالجملة الأولى مشعرة بوجود فريقين يتجادلان ، وأن كل فريق كان يستدل بنصوص مسندة ، والجملة الثانية مشعرة بأن معنى البدعة كان حاضرا في ذهن ابن سيرين وهو يتحدث عن الفتنة ويتحدث عن الفريق الآخر الذي استدل بتلك النصوص المسندة .
وكأن الفريق الآخر كان مبتدعا في نظر ابن سيرين أو على أقل تقدير يستدل بنصوص رواها من عرف أنه من أهل البدع ، والبدعة بالمعنى الشرعي لم تعرف في ذلك العصر إلا في فريقين : الخوارج والشيعة ، فهؤلاء هم الذين عرفوا بالابتداع من بين الفرق السياسية المتقاتلة ، أما الفرق التي تقاتلت من غيرهما فلم يعرف عنها ابتداع مثل عبد الله بن الزبير ومن ناصره وعبد الملك بن مروان ونصراؤه ونحوهما ، أما البدع الأخرى التي ظهرت في ذلك العصر مثل الإرجاء والقدر فلم تكن ذات صبغة سياسية ، بل ولم يطلق عليها أنها فتنة .
ومن هذا التتبع ينحصر البحث في بدعتين هما اللتان يجدر أن تكونا سببا في حركة الوضع ، لكن التاريخ يثبت أن الخوارج لم يعرف عنهم الوضع والكذب ، يقول مالك عن عمران بن حطان : " لأن يخر عمران من السماء أحب إليه من أن يكذب " ، وكان عمران بن حطان من دعاة الخوارج .
فلم يبق عندئذ إلا بدعة التشيع التي علم التصاق حركة الوضع بها ، لكننا نجزم أن وضع الشيعة للأحاديث لم يكن في عصر علي رضي الله عنه لأمور :
الأول : أن الوضع لو حدث في عصر علي لقاومه أشد مقاومة ، كما فعل مع من زعم ألوهيته حيث لم يتهاون معهم ، بل حرقهم تحريقا وأنشد :
لما رأيت الأمر أمرا منكرا أججت ناري ودعوت قَنْبُرَا
ولا يعقل أن يكون علي رضي الله عنه - وهو المشهور بتحوطه في رواية الأحاديث – يرى أحاديث توضع بحضرته أو بمسمع منه فيقرها ويسكت عنها أو يتهاون في محاربة واضعيها .
ولما أشيع في حياته بأن أهل البيت لهم علم خاص ورثوه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر ذلك . ففي صحيح البخاري أن أبا جُحيفة قال لعلي بن أبي طالب : هل عندكم شيء من الوحي إلا ما في كتاب الله ؟ وفي رواية : ما ليس عند الناس ؟ فقال علي بن أبي طالب : " والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما عندنا إلا ما في القرآن ، إلا فهما يعطى رجل في كتابه وما في الصحيفة " قلت : وما في ا لصحيفة ؟ قال : "العقل وفكاك الأسير وأن لا يقتل مسلم بكافر " .
الثاني : أن حركة الوضع التي قام بها الشيعة لوكانت في حياة علي رضي الله عنه لكان خصومة أكثر الناس تشهيرا واستغلالا لذلك ، لكنه لم ينقل في سجالات الفريقين ( علي ومعاوية في حياتهما ) أنه اتهم أحدهما الآخر بوضع الأحاديث والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم .
الثالث : ما جاء في مقدمة في صحيح مسلم بسنده عن طاووس قال : " أُتى ابن عباس بكتاب فيه قضاء علي رضي الله عنه ، فمحاه إلا قدر ذراع – وكان الكتاب مستطيلا أي طويلا – ثم بسنده إلى الأعمش عن أبي إسحاق قال : " لما أحدثوا تلك الأشياء بعد علي رضي الله عنه قال رجل من أصحاب علي : قاتلهم الله ! أي علم أفسدوا " .
قال النووي في شرح ذلك : " أشار بذلك إلى ما أدخلته الروافض والشيعة في علم علي رضي الله عنه وحديثه ، وتقولوه عليه من الأباطيل ، وأضافوه إليه من الروايات والأقاويل المفتعلة والمختلقة ، وخلطوه بالحق فلم يتميز ماهو صحيح عنه بما اختلقوه " .
وهذا كله يفيد أن الفئة التي وصفت بأنها من أهل البدع في كلام ابن سيرين تصدق أقرب ما تصدق على الشيعة لأنها هي البدعة الوحيدة التي شاركت في صنع الفتنة ووضع الحديث على ما هو مشهور في التاريخ ، ويؤيد ذلك قول ابن عباس : " إنا كنا مرة إذا سمعنا رجلا يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتدرته أبصارنا وأصغينا إليه بآذاننا ، فلما ركب الناس الصعب والذلول لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف " .
وفي رواية أخرى : " إنا كنا نحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ لم يكن يكذب عليه فلما ركب الناس الصعب والذلول تركنا الحديث عنه " .
والذي يترجح لي أن الفتنة التي عناها محمد بن سيرين هي فتنة المختار بن عبيد الثقفي والتي أدت إلى ظهور وانتشار طائفة الكيسانية التي اعتنق المختار مبادئها في نهاية الأمر ، وهم من الشيعة الغلاة ، بل لا يستراب في كفر أقوال صدرت منهم ، وقد ظهر المختار هذا على العراق وانتشر صيته وذاع أمره .
وليس بمستبعد أن المختار عندما ظهر أمره كان له من أصحاب الجدل والمناظرة من يدعون إلى بدعته ويروجون لأفكاره ، والاصطدام المباشر من الناحية الفكرية لا بد أن يكون مع أهل السنة وخاصة طائفة أهل الحديث ونقلته الذي كانوا بمعزل عن كل تلك الفتن ، وهنا يمكن تصور الظرف الذي قال فيه محمد بن سيرين مقولته .
والذي يدعونا إلى تأخير تعيين وقت الفتنة – التي أرخ بها ابن سيرين بدأ الجرح والتعديل – هو استحالة ظهور الوضع وانتشاره في عهد الصحابة رضوان الله عنهم، إذ المتصور أنهم سيكونون أول المتصدين لأولئك الكذبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما فعل عبد الله بن عباس فيما مر معنا .
لكن يظهر أن الوضع قد بدأ يتعاظم بعد أن قل عدد الصحابة رضوان الله عليهم وأمن الكذابون من تصدي الصحابة ،فما اسهل أن يدعي كاذب أنه سمع من أبي سعيد الخدري وأبي هريرة بعد موتهما ، فعندئذ لم يعودوا يقبلون أي سند إلا أن يعرف راويه أنه من أهل السنة لتزول الشبهة في انتحاله وكذبه .
والذي يرجح أن الكذب ابتدأ انتشاره على يد الكيسانية ما جاء عن حرملة بن نصر العبسي ( من أصحاب علي بن أبي طالب ) أنه لما رأى أصحاب المختار بن عبيد الثقفي يكذبون في الحديث قال : " مالهم قاتلهم الله ، أي عصابة شانوا وأي حديث أفسدوا " .
وعن إبراهيم النخعي قال : " إنما سئل عن الإسناد أيام المختار " قال ابن رجب : " وسبب هذا أنه كثر الكذب على علي في تلك الأيام " .
وهذا مرجح قوي أن الفتنة المقصودة في كلام ابن سيرين هي فتنة المختار ، وقد ذهب إلى تعيين زمان السؤال عن الإسناد فتنة المختار الأستاذ نور الدين عتر في كتابه : منهج النقد في علوم الحديث .
ومع أن عبارة ابن سيرين لا تنص على الأشخاص الذين ابتدءوا حركة السؤال عن الرجال والتفتيش في الأسانيد إلا أن النقاد تكاد تتفق كلمتهم على أن محمد بن سيرين نفسه أول من اشتهر عنه فعل ذلك .
ومن ذلك عبارته الشهيرة : " إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذوا دينكم " .
وقد ذكر ابن رجب الحنبلي أن محمد بن سيرين هو أول من انتقد الرجال وميزن الثقات من غيرهم ، ونقل عن يعقوب بن شيبة قال : قلت ليحيى بن معين : أتعرف أحدا من التابعين كان ينتقي الرجال كما كان ابن سيرين ينتقيهم ؟ فقال برأسه : أي لا . قال يعقوب : وسمعت علي بن المديني يقول : كان ممن ينظر في الحديث ويفتش عن الإسناد ولا نعلم أحدا أول منه ( كذا ) محمد بن سيرين ثم كان أيوب ( يعني السختياني ) وابن عَون ( يعني جعفر بن عون المخزومي ) ثم كان شعبة ثم كان يحيى بن سعيد وعبد الرحمن ( يعني ابن مهدي ) .
فهذا تنصيص عن اثنين من كبار نقاد الحديث ( يحيى بن معين وعلي بن المديني ) على أولية محمد بن سيرين في التفتيش عن الإسناد وأقرهما على ذلك عالم مطلع هو ابن رجب الحنبلي رحم الله الجميع .
ويشكل على هذا ماجاء عن صالح جَزَرَة ( وهو من أئمة نقد الحديث أيضا ) أنه قال : " أول من تكلم في الرجال شعبة ثم تبعه يحيى بن سعيد القطان ثم أحمد وابن معين " فحاول السيوطي أن يؤول ذلك ، جمعا بين الآراء ، فقال : " يعني أن أول من تصدى لذلك " .
والأولى أن يقال إن شعبة هو أول من تصدى لتجريح الرجال وإشهار الكلام عن الضعفاء والتحذير من الرواية عنهم ( كما روي عنه ذلك ) وتعقب المرويات لمعرفة أصولها والخطأ فيها ، أما ابن سيرين فكان أول من فتش عن أحوال الرجال على أساس معرفة من هم من أهل السنة أو من أهل البدعة كما يفهم ذلك من تفسيره كيفية السؤال عن الإسناد في عبارته المنقولة .
وشعبة تجاوز ذلك إلى مرحلة المعارضة بين الروايات والأخذ عن الثقات أي عمن عرف بالضبط والحفظ أيضا ، وليس مجرد أن يكون من أهل السنة ، هذا ما بدا لي من تأمل ما نقل عن ابن سيرين وشعبة رحم الله الجميع .
وبهذا يتبين لنا أن الجرح والتعديل ابتدأ كعلم في عصر أتباع التابعين وبالأخص على يد شعبة بن الحجاج أبو بِسطام البصري ، ثم انتشر بعد ذلك في كل الأقطار .
وما ذكرنا عن أولية شعبة أو محمد بن سيرين لا ينفي بدء حصول الجرح والتعديل منذ وقت مبكر وليس على نحو منظم يعطيه صبغة العلم .
ويناسب هنا أن نؤرخ لهؤلاء الذين عرف عنهم التثبت فيما ينقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتبين لنا أ، علم الجرح والتعديل لم يكن علما لقيطا نشأ على غير رِشدة ، بل له جذور ضاربة في عمق العصور الفاضلة .
وأصل الجرح والتعديل إنما هو التثبت الذي هو خلق إسلامي حض عليه الدين وندب إليه المؤمنون ، فقال الله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين " .
وقد توافرت آيات عديدة في التحذير من الخرص والظن والقول بغير علم ، قال الله تعالى : (قتل الخراصون ) ، وقال تعالى : ( وإن الظن لا يغني من الحق شيئا ) ، وقال تعالى : ( ولا تقف ما ليس لك به علم ) .
وقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من اتباع الظن فقال : " إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث " .
وفي عصر أبي بكر بن الصديق جاءت امرأة ( جدة ) تسأله الميراث ، فسأل الصحابة فأجابه المغيرة بأنها ترث السدس بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فطلب منه أن يأتيه بشاهد ، فشهد معه محمد بن مسلمة .
ولذلك قال الحافظ الذهبي عن أبي بكر الصديق : " هو أول من احتاط في قبول الأخبار " ، وقال أيضا : " وإليه المنتهى في التحري في القول والقبول " .
وفعل ذلك عمر بن الخطاب مع أبي موسى الأشعري حين ذكر له حديث النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع " فقال عمر : والله لتقيمن عليه البينة ، فجاء حلقة الصحابة وشهد معه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه عنهم .
ولم يكن أبو بكر ولا عمر يتهمان الصحابة بالتقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا يردعانهم عن التبليغ عنه ، بل فعلا ذلك حتى لا يجترئ من بعدهم أو غيرهم ممن ليس محله في الإسلام كمحلهم .
وكان علي بن أبي طالب يستحلف من يحدثه بحديث النبي صلى الله عليه وسلم إذ كان يقول: " كنت إذا سمعت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا نفعني الله عز وجل بما شاء أن ينفعني منه ، وإذا حدثني غيره استحلفته فحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر .. " .
وقد فهم كثير من الباحثين من هذه الرواية – على ما فيها – أن علي بن أبي طالب كان يستحلف كل أحد يروي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا أو إنه اتخذ ذلك منهجا له ، وليس هذا بصحيح ، فواضح من الرواية أن عليا لم يستحلف أبا بكر ، ويظهر أن عليا رضي الله عنه كان يستحلف من يستراب في حديثه .
وذكر الحاكم أن أبا بكر وعمر وعلي بن أبي طالب وزيد بن ثابت جرحوا وعدلوا وبحثوا عن صحة الروايات وسقيمها .
ثم استن بسنتهم واهتدى بهديهم في هذا جماعات من التابعين ،ثم من بعدهم على اختلاف مدارسهم ومشاربهم وبلدانهم .
ثم أتت بعد ذلك مرحلة احتاج فيها المحدثون لتأصيل هذا المنهج في الجرح والتعديل وبيان أصالته واستناده إلى أدلة الشرع واحتياج المسلمين إليه من جهة صيانة نصوص الشريعة عن غائلة الانتحال والكذب والخطأ من الرواة .
التأصيل الشرعي
قد أسلفنا عند الكلام عن نظرية الإسناد أن نصوص الشرع وجهت إلى مبدأ الإسناد وروحه، ودلت تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم على تزكيته بل اعتماده .
ومن ثم لم تكن هناك معارضة لهذا المبدأ ولم يحاول أحد في تلك لعصور أن يشكك في شرعية مبدأ الإسناد ، بل سرى حتى غدا تقليدا متبعا ومهيعا مسلوكا كما ذكرنا .
ولذلك لما نظر ابن المبارك لمبدأ الإسناد قائلا : :" إن الإسناد دين " لم يعترض أحد من الناس بدعوى أنه ابتداع ، أو يستنكر على ابن المبارك إدخال ما ليس من الدين فيه .
ولكن علم الجرح والتعديل لم يكن بهذه المثابة ، فقد نشأ هذا العلم في رحم الإسناد ولكنه لم يأخذ سمة العلم إلا في وقت متأخر ، في الوقت الذي كان مبدأ الإسناد قد استقر واعتمد بدون أي خلاف فيه .
وقد علمنا أن الجرح والتعديل قد مارسه الصحابة رضي الله عنهم والتابعون من بعدهم ، ولكن طائفة لم تستوعب هذا الاتجاه الجديد في نقد الإخبار والأسانيد ، وظنت أن جرح الرواة لا يعدو أن يكون من الغيبة أو البهتان على الناس ، وهو مما نهى عنه الشارع .
فنشط المحدثون لتأصيل نظرية الجرح والتعديل من الناحية الشرعية ، وبيان وجه الحاجة إليه لحفظ الشريعة من انتحال المبطلين .
وممن أصل لذلك الإمام مسلم في مقدمة صحيحه ، والإمام الترمذي في العلل الصغير الذي ألحقه بكتاب الجامع .
ونورد هنا ما ذكره الإمام الترمذي لأنه أصرح وأقعد ، قال رحمه الله : " وقد عاب بعض من لا يفهم على أصحاب الحديث الكلام في الرجال ، وقد وجدنا غير واحد من الأئمة من التابعين قد تكلموا في الرجال ، منهم الحسن البصري وطاووس قد تكلما في معبد الجهني ، وتكلم سعيد بن جبير في طلق بن حبيب ، وتكلم إبراهيم النخعي وعامر الشعبي في الحارب الأعور ، وهكذا روي عن أيوب السختياني وعبد الله بن عوف وسليمان التيمي وشعبة بن الحجاج وسفيان الثوري ومالك بن أنس والأوزاعي وعبد الله بن المبارك ويحيى بن سعيد القطن ووكيع بن الجراح وعبد الرحمن بن مهدي وغيرهم من أهل العلم أنهم تكلموا في الرجال وضعفوا ، فما حملهم على ذلك عندنا والله أعلم إلا النصيحة للمسلمين ، لا نظن أنهم أرادوا الطعن على الناس أو الغيبة ، إنما أرادوا عندنا أن يبينوا ضعف هؤلاء لكي يعرفوا لن بعضهم ( كذا ) من الذين ضعفوا كان صاحب بدعة وبعضهم كان متهما في الحديث وبعضهم كانوا أصحاب غفلة وكثرة خطأ فأراد هؤلاء الأئمة أن يبينوا أحوالهم شفقة على الدين وتبيينا لأن الشهادة في الدين أحق أ، يتثبت فيها من الشهادة في الحقوق والأموال ".
ثم يشرح ابن رجب كلام الترمذي فيقول : " مقصود الترمذي رحمه الله أن يبين أن الكلام في الجرح والتعديل جائز ، قد أجمع عليه سلف الأمة وأئمتها لما فيه من تمييز ما يجب قبوله من السنن مما لا يجوز قبوله ، وقد ظن بعض من لا علم عنده أن ذلك من باب الغيبة ، وليس كذلك ، فإن ذكر عيب الرجل إذا كان فيه مصلحة ولو كانت خاصة كالقدح في شهادة شاهد زور جائز بغير نزاع ، فما كان فيه مصلحة عامة للمسلمين أولى ... وكذلك يجوز ذكر العيب إذا كان فيه مصلحة خاصة " .
وقد استبان لي أن من ذكرهم الترمذي وابن رجب من أنهم عابو أهل الحديث هم بعض الصوفية والمتزهدة الذي نالهم شيء من جرح المحدثين ، فقد روى البيهقي من طريق الحسن بن ربيع قال : " قال ابن المبارك : المعلى بن هلال هو ( كذا ) إلا أنه إذا جاء الحديث يكذب ، فقال له بعض الصوفية : يا أبا عبد الرحمن تغتاب ؟ قال : اسكت ، إذا لم تبين كيف يُعرف الحق من الباطل .. أو نحو هذا " .وقد أصل العلماء والمحدثون جواز الجرح والتعديل بأدلة من الكتاب والسنة وعلم السلف.
فمن الكتاب قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ) ، ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم في الأحمق المطاع : " بئس أخو العشيرة وبئس ابن العشيرة " ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس حينما استشارته في نكاح معاوية أو أبي جهم : " أما معاوية فصعلوك لا مال له ، وأما أبو جهم فلا يضع العصا عن عاتقه " .
ومن التعديل قوله تعالى : ( والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه ) ، وقوله صلى الله عليه وسلم في تزكية القرون الثلاثة : " خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم " ، وقوله صلى الله عليه وسلم في تزكية أويس القرني : " إن خير التابعين رجل يقال لـه أويـس " .
وقد أحس السلف بوطأة الناقدين عليهم فأخذوا يبينون للناس وجه تصديهم لهذا الشأن ، فعن شعبة أنه كان يسمي الجرح والتعديل : الغيبة في الله ، وقال إسماعيل بن عُلَيَّة : إن هذا أمانة وليس بغيبة .
وسئل أبو مُسْهِر عن الرجل يغلط ويهم ويصحف ؟ فقال : بين أمره ، فقيل له : أترى ذلك غيبة ؟ قال: لا .
ومثل هذا روي ن أحمد بن حنبل حين رآه شيخ وهو يجرح الرواة ، فقال له الشيخ : يا شيخ لا تغتب العلماء ، فالتفت إليه أحمد وقال : ويحك هذا نصيحة وليس بغيبة .
والآثار في ذلك كثيرة عن المحدثين ، المقصود أنهم لم يقدموا على هذا الشأن إلا بدافع شرعي سام ، وهو مصلحة المسلمين بحفظ نصوص الشرع عليهم من الانتحال والتحريف .
وقد استوفى ذلك الحافظ الخطيب البغدادي تلك الآثار في " الكفاية في علم الرواية " فذكر الأدلة والنصوص والآثار عن السلف في بيان أن الجرح والتعديل ليس بغيبة ، وأن فيه مصلحة كبيرة للمسلمين ، وهذا يدل على أن المحدثين قد بنو نظرية الجرح والتعديل على أساس علمي سليم ولم يكن وليد هوى وشهوة نفس .
شروط الجارح والمعدل
وقد أدرك المحدثون جلالة ماهم فيه من تعرض لأحوال الرواة ، واعترفوا بأن مجال الجرح والتعديل مخطرة لا ينجو من تبعتها إلا من استعمل الديانة وركب متن التقوى والأمانة ، واشترطوا في الجارح والمعدل الخصال التي تجعل حكمه منصفا مبينا حال الراوي ، وهي :
أولا : العلم والتقوى والتحري . يقول الحافظ ابن حجر : " وينبغي ألا يُقبل الجرح والتعديل إلا من عدل متيقظ أي مستحضر ذي يقظة تحمله على التحري والضبط فيما يصـــــــدر عنه " .
ثانيا : أن يكون عالما بأسباب الجرح والتعديل . قال ابن حجر : " وتقبل التزكية من عارف بأسبابها لا من غير عارف لئلا يزكي بمجرد ما يظهر له ابتداء من غير ممارسة واختبار " .
ثالثا : أن يكون عارفا باصطلاح أهل الجرح والتعديل ومن باب أولى بتصاريف كلام العرب لئلا يخطئ في استعمال الألفاظ الموهمة .
رابعا : قد تقبل تزكية وتجريح كل عدل : ذكرا كان أو أنثى ، حرا كان أو عبدا متى استوفى الشروط الأخرى .
خامسا : يكفي أن يكون الجارح والمعدل واحدا لكي يثبت الجرح والتعديل بشرط أن يكون مستوفيا للشروط ، وقيل لا يثبت إلا برجلين كما في الشهادة . ورجح الأول الجمهور ، ومنهم ابن الحاجب والآمدي وابن الصلاح .
كما اشترطوا في الجارح آدابا يتأكد عليه الالتزام بها ديانة ، فمن ذلك :
أولا : عدم التجريح بما فوق الحاجة . قال السخاوي في فتح المغيب : " لا يجوز التجريح بشيئين إذا حصل بواحـــــد " .
ثانيا : لا يجوز الاكتفاء بإيراد الجرح فقط فيمن وجد فيه الجرح والتعديل .قال الذهبي عن كتاب الضعفاء لابن الجوزي : " وهذا من عيوب كتابه ، يسرد الجرح ويسكت عن التوثيق " .
ثالثا : لا يجرح من لا يحتاج إلى جرحه مثل العلماء الذي لا يحتاج إلى روايتهم . يقول ابن المرابط : " قد دونت الأخبار وما بقي للتجريح فائدة " ، يعني في حق رجال الأسانيد المتأخرة كما أسلفنا في نظرية الإسناد .
وقد اشتهر عن ابن دقيق العيد – من كبار علماء النقد – قوله : " أعراض المسلمين حفرة من حفر النار وقف على شفيرها طائفتان من الناس : المحدثون والحكام " .
ومما ورد عن أئمة الجرح والتعديل في خوفهم من هذه المسئولية ما جاء عن ابن أبي حاتم أنه دخل عليـه يوسف بن الحسين الصوفي وهو يقرأ كتابه في الجرح والتعديل ، فقال له : كم من هؤلاء قد حطوا رواحلهم في الجنة منذ مائة سنة ومائتي سنة وأنت تذكرهم وتغتابهم ؟ فبكى عبد الرحمن .
لم تقتصر جهود المحدثين على اشتراط شروط قاسية في الناقد الجارح والمعدل ، بل إن الأمر تجاوز إلى وضع الضوابط والقواعد في الجرح والتعديل نفسه بحيث تكون الصفات المعتبرة في الجرح والتعديل أمرا غير خاضع للذوق أو الهوى الشخصي ، فوضعوا تلك الصفات على هدي من روح الشريعة ونظام النقد عند المحدثين .
أجمل هذه الصفات أبو عمرو بن الصلاح ، قال : " أجمع جماهير أئمة الحديث والفقه على أنه يشترط فيمن يحتج بروايته أن يكون عدلا ضابطا لما يرويه ، وتفصيله أن يكون مسلما بالغا عاقلا سالما من أسباب الفسق وخوارم المرؤءة متيقظا غير مغفل حافظا إذا حدث من حفظه ، ضابطا لكتابه إن حدث من كتابه ، وإن كان يحدث بالمعنى اشترط فيه مع ذلك أن يكون عالما بما يحيل المعاني " .
وبالتأمل فيما ذكره ابن الصلاح نلاحظ أن صفات القبول والرد بالنسبة للرواة ترجع إلى أمرين : العدالة ، والضبط ، فمتى توفرا في راو قُبِل ، ويرد الراوي باختلال إحدى هاتين الصفتين .
وينبغي أن نوسع الكلام شيئا في هذين الأمرين لفهم منهج المحدثين في التعديل والتجريح .
الخلاصة
1- نشأ الجرح والتعديل من حيث المبدأ في عهد الصحابة ، وكان أبوبكر الصديق وعمر بن الخطاب أول من عرفوا بالاحتياط في قبول الأخبار ، ثم كان محمد بن سيرين من أوائل التابعين الذين اهتموا بالتفتيش في الأسانيد ، ويمكن اعتبار فتنة المختار بن عبيد الثقفي هي السبب المباشر في بداية اهتمام ذلك الجيل بالإسناد .
2- قام المحدثون بالتأصيل الشرعي لمبدأ الجرح والتعديل والتنظير له منذ وقت مبكر ، وقد واجه الجرح والتعديل هجوما من بعض الأوساط لكنه احتل مكانته العلمية التي لم تعد تحتمل الخلاف فيه بعد ذلك .
3- اشترط في الجارح والمعدل آداب تمثل البعد الأخلاقي في منهج النقد عند المحدثين .
العدالة والضبط ومنهج المحدثين فيهما
أولا : العدالة
هي ملكة تحمل صاحبها على فعل الطاعات واجتناب الموبقات والتنزه عن ما يخل بالمروءات.
ويشترط في العدالة التامة الأمور التالية :
1) الإسلام ، لقول الله تعالى : ( ممن ترضون من الشهداء ) ، وغير المسلم ليس من أهل الرضا قطعا .
2) البلوغ ، لأنه مناط تحمل المسئولية والتزام الواجبات وترك المحظورات .
3) العقل ، لأنـه لا بد منه لحصول الصدق وضبط المسموع والمشاهد عند التحمل .
4) التقوى ، وهي اجتناب الكبائر وترك الإصرار على الصغائر .
5) الاتصاف بالمروءة وترك ما يخل بها ، وهو كل ما يحط من قدر الإنسان في العرف الاجتماعي الصحيح .
وينبغي أن يعلم أن هذه الشروط يجب توافرها في الراوي عند الأداء ، أما عند التحمل فقد قبل المحدثون رواية الذي تحمل حال كونه كافرا أو صبيا مميزا ، وقد مر معنا في نظرية الإسناد .
وعليه فلا تقبل رواية الذي يؤدي روايته حال كونه كافرا أو فاسقا أو غير مميز ولا عاقل واشتراط هذه الشروط من باب الاحتياط العام والتثبت في القبول عمن يظن أنه لا يكذب ، وأصل ذلك قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا .. ) .
وتأسيسا على هذه الشروط بحث المحدثون في رواية التائب من الكذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورواية المبتدع ومن أخذ على الحديث أجرا فلنفرد الكلام حول كل مسألة من تلك المسائل لأنها تنادي على دقة منهج المحدثين في النقد .
رواية التائب من الكذب على رسول صلى الله عليه وسلم
يقول ابن الصلاح : " التائب من الكذب في حديث الناس وغيره من أسباب الفسق تقبل روايته، إلا التائب من الكذب متعمدا في حديث رسول صلى الله عليه وسلم ، فإنه لا تقبل روايته أبدا وإن حسنت توبته على ما ذكر غير واحد من أهل العلم ، منهم : أحمد بن حنبل وأبو بكر الحميدي شيخ البخاري .. " .
والسبب في ذلك هو الاحتياط في حديث من هذا حاله ، ومبالغة في زجر من تسول له نفسه فعل ذلك .
وقاس السيوطي عدم قبول خبر التائب من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم على الزاني إذا ثبت زناه ثم تاب وحسنت توبته فإنه لا يعود محصنا ولا يحد قاذفه بعد ذل لبقاء ثلمة عرضه ، فهذا نظير أن الكاذب لا يقبل خبره أبدا .
والأولى عندي أن يقاس على القاذف الذي لم يأت بأربعة شهود وهو من قياس الأولى ، لأن الافتراء على رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد حتى نقل عن بعض أهل العلم تكفير الذي يكذب على النبي صلى الله عليه وسلم متعمدا .
رواية المبتدع
قال ابن الصلاح : " اختلفوا في قبول رواية المبتدع الذي لا يكفر في بدعته ، فمنهم من رد روايته مطلقا لأنه فاسق ببدعته .. ، ومنهم من قبل رواية المبتدع ، إذا لم يكن ممن يستحل الكذب في نصرة مذهبه أو لأهل مذهبه سواء كان داعية إلى بدعته أو لم يكن . وقال قوم : تقبل روايته إذا لم يكن داعية إلى بدعته ، وهذا مذهب الكثير أو الأكثر من العلماء ، وقال أبو حاتم بن حبان البستي من أئمة الحديث : الداعية إلى البدع لا يجوز الاحتجاج به عند أئمتنا قاطبة لا أعلم فيه خلافا . وهذا المذهب الثالث أعدلها وأولاها ، والأول بعيد مباعد للشائع عن أئمة الحديث فإن كتبهم طافحة بالرواية عن المبتدعة غير الدعاة ، وفي الصحيحين كثير من أحاديثهم في الشواهد والأصول " .
وتحصل من هذا أن المحدثين لهم في ذلك ثلاثة أقوال :
الأول : أنه لا تقبل رواية المبتدع مطلقا سواء كان داعيا على بدعته أو غير داع لها . وهذا المذهب مُطَّرح مهجور أو كما قال ابن الصلاح : " بعيد مباعد للشائع عن أئمة الحديث " .
الثاني : أنه تقبل روايته إذا كان صادق اللهجة ولا يستحل الكذب في نصرة مذهبه سواء كان داعية أو غير داعية لبدعته . وهذا القول انتصر له جمال الدين القاسمي في رسالته في الجرح والتعديل ورجحه أحمد شاكر حيث قال : " والعبرة في الرواية بصدق الراوي وأمانته ، والثقة بدينه وخلقه ، والمتتبع لأحوال الرواة يرى كثيرا من أهل البدع موضعا للثقة والاطمئنان وإن رووا ما يوافق رأيهم" .
واحتج أصحاب هذا القول بأن البخاري ومسلما أوردا في صحيحهما أحاديث مبتدعة دعاة، ولم يقدح ذلك في كتابتها ولا حديثهما بل صحيحاهما من أصح كتب الحديث عند النقاد .
وقد تمحل ابن حجر عذرا للصحيحين في ذلك بأن ما وقع فيهما نم الرواية لبعض المبتدعة الدعاة أنه من القليل النادر الذي لا يخل بالقاعدة ، وأيده في ذلك نور الدين العتر ، وليس بسديد ، لأنه مخل بالقاعدة على ندرته ..مع أن بعض الباحثين تصدى لإحصاء عدد المبتدعة في الكتب المشهورة فبلغ بهم 141 راويا من المبتدعة روي لهم في الكتب الستة .
القول الثالث : انه لا تقبل رواية المبتدع إذا دعا إلى بدعته . وهذا القول هو الذي عليه جمهور المحدثين وادعى فيه ابن حبان إجماع أهل الحديث عليه .
وهذا القول رجحه الأستاذ محمد الأعظمي لكنه استدل له بأبحاث لبعض علماء النفس تفيد أن المتعصبين لمذاهب متطرفة قد يكذبون بطريقة لا شعورية وأن هذا يؤكد صواب مذهب المحدثين الذي لم يقبلوا رواية المبتدع الداعي إلى بدعته إذا كان الحديث يؤيد بدعته .
وهذا استدلال متهافت جدا ، لأن أبحاث علم النفس مازالت غير مجمع على حجيتها في محيط الدراسات الإنسانية بسبب نسبيتها الشديدة وتعقد معطياتها التي تفقد نتائجها سمة الحتمية والقانونية ، فكيف نستجيز أن نستدل أو حتى نستأنس بها في تصحيح أو تأييد مسالك في علم نقد الرجال الذي تميز بشفافية شديدة وأخلاقية صارمة .
ثم إن الدراسات المذكورة أجراها أصحابها كما قال الأستاذ الأعظمي على أصحاب المذاهب المتطرفة التي تحجرت اتجاهاتها على احتقار أجناس وطوائف معينة من البشر ، ونحن لا نعرف بالتحديد نوعية تلك المذاهب المتطرفة ، ولكنها – على الجزم – تختلف في دينها وأخلاقياتها واتجاهاتها عن مبتدعة الملة الإسلامية ، وهذا التفاوت اليقيني كاف في دفع الاستدلال وفساده .
وأرى أن الصواب هو المذهب القائل بعدم قبول رواية المبتدع الداعي لبدعته وإذا كانت روايته في نصرة بدعته ، وليس ذلك إلا في إطار نظرية التثبت الكبرى التي بنى عليها المحدثون نظرياتهم في نقد الأحاديث ، والاحتياط سمة ظاهرة في كل التصرفات النقدية عند المحدثين ، أما ما ورد في الصحيحين من الرواية عن بعض الدعاة إلى بدعتهم – وإن لم يكن نادرا – فذلك محمول على أن الشيخين – البخاري ومسلم – قد تثبتا في أحاديثهم ووجدوها على الجادة ، أو أنها جاءت من طرق أخرى غير طرقهم ، ولكنهم أوردوها لغرض أو فائدة ما ، وهذا عين الجواب الذي قال في إيراد الشيخين أحاديث المدلسين على صيغة العنعنة ، فالأصل اطراح روايتهم لكن العلماء أحسنوا الظن وحملوا ذلك على أن الشيخين قد اطلعا على طرق صرح فيها أولئك بالتحديث ولا بد .
ويظهر لي – والله أعلم – أن البخاري ومسلما قد تعمدا إيراد أحاديث المبتدعة الدعاة وغير الدعاة لتكون الحجة فيها أوثق على سائر الطوائف والمذاهب جريا على مقولة : والفضل ما شهدت به الأعداء .
ولهذا أيضا – والله أعلم – كتب لهذين الشيخين من الإجماع والتواطؤ على الإذعان ما لم يكتب لغيرهما .
فرد أحاديث المبتدعة الدعاة على بابه من الاطراد عند المحدثين خلا ما احتاج الرواة لنقله عن أولئك المبتدعة بعد التوثق من عين تلك الرواية بورودها من طريق آخر أو استيقان عدم كذب راويها المبتدع الداعي .
رواية من أخذ على الحديث أجرا
مضت سنة الصحابة والتابعين أن يرووا الحديث للناس احتسابا يبتغون الأجر عند الله ، حتى شاع قولهم : " علم مجانا كما علمت مجانا " ثم جاء بعض الرواة وخالفوا هذا العرف وصاروا يتقاضون من طلابهم أجرا لإسماعهم الحديـث .
وقد أثار هذا التصرف علماء الحديث ونقاده ، واستنكروه ، وحذروا من السماع من هؤلاء المتجرين بالرواية لما في صنيعهم هذا من خرم المروءة ، ولما يخشى أن يجر أحدهم الحرص على الأجرة إلى الوقوع في شبهة الكذب أو صريح الكذب لكي يرغب فيه .
لكن بعض حفاظ الحديث الثقات ألجأتهم الخصاصة لأخذ الأجرة حيث كانوا محط رحال الطلاب مع التفرغ لهذا الشأن وكثرة العيال ، فاغتفر لهم النقاد ذلك ، مثل أبي نعيم الفضل بن دكين وعبد العزيز المكي وهما من شيوخ البخاري ، قال أبو نعيم : " يلومونني على الأجر وفي بيتي ثلاثة عشر وما في بيتي رغيف " .
وفيما عدا تلك القلة التي تقاضت الأجر على الحديث جرى سائر المحدثين على الأصل في رفض الأجرة وضربوا لذلك أعلى الأمثلة .
قال جعفر يحيى البرمكي : " ما رأينا في القراء مثل عيسى ين يونس ، عرضت عليه مائة ألف فقال : لا والله ن لا يتحدث أهل العلم أني أكلت للسنة ثمنا " .
وأهدى أصحاب الحديث للأوزاعي شيئا فلما اجتمعوا قال لهم : " أنتم بالخيار إن شئتم قبلته ولم أحدثكم ، أو رددته وحدثتكم " فاختاروا الرد وحدثهم .
من جهلت عدالته وضبطه
ينقسم الرواة من حيث معرفة صفتهم على قسمين :
القسم الأول : معروف الوصف ، وهؤلاء على قسمين : معدَّل أو مجروح ، فيعمل بما علم فيهم من الجرح أو التعديل حسب المراتب التي سنشرحها .
القسم الثاني : من لم يعرف وصفه ، وهو المجهول ، وهو على قسمين :
القسم الأول : مجهول العين
قال الخطيب البغدادي في تعريفه : " المجهول عند أصحاب الحديث هو كل من لم يشتهر بطلب العلم في نفسه ولا عرفه العلماء به ، ومن لم يعرف حديثه إلا من جهة راو واحد " .
وحاصل ذلك أن مجهول العين هو من لم يرو عنه إلا راو واحد ، ومن أمثلته : جبار الطائي ، لم يرو عنهما غير أبي إسحاق السَّبِيعي .
وحكم هذا الراوي – على الصحيح الذي عليه أكثر نقاد الحديث – أنه لا يقبل حديثه ، ورجح بعض المتأخرين قبوله بشرطين :
الأول : أن يوثقه غير من ينفرد عنه على الأصح . الثاني : إذا وثقه من يروي عنه إذا كان أهلا لذلك أي كان من أئمة الجرح والتعديل .
القسم الثاني : مجهول الحال وهو المستور .
قال الحافظ ابن حجر في شأنه : " قد قبل روايته جماعة بغير قيد " ، ثم اختار أن التحقيق أنه لا يطلق القول بردها ولا بقبولها ، بل هي موقوفة إلى استبانة حاله ، والقول بالتوقف قريب من القول بعدم القبول .
منهج المحدثين في معرفة عدالة الراوي
قد أشرنا من قبل إلى أن منهج النقد عند المحدثين يقوم على أساس معلومات موثقة ومعطيات معروفة بالمشاهدة والملاحظة بخلاف منهج النقد الأوروبي الذي يجنح إلى الرومانسية حينا ، وإلى الخرص والتخمين في أغلب الأحايين .
فالنقد الباطني الذي يعادل في معناه الجرح والتعديل يقوم أساسا على مبدأ التفسير التاريخي الذي يعتبر كل الاحتمالات والفروض واردة ، ومن ثم فأصحاب المنهج الأوروبي حينما ينقدون رواية مؤلف نقدا باطنيا قد لا تكون عندهم أية معلومات عن هذا المؤلف فيبدءون في طرح الأسئلة حوله :
1- هل كان أمينا فيما اعتقده ؟
2- هل أخطأ فيما عرفه ؟
3- هل حاول جلب منفعة عملية وخداع قرائه ؟
4- هل كذب المؤلف أو أرغم على الكذب ؟
5- هل مال إلى مذهبه على حساب تشويه الوقائع ؟
6- هل انساق وراء غرور فردي أو جماعي ؟
7- هل تملق الجمهور ؟
8- هل استعمل الأسلوب الأدبي في تشويه الوقائع ؟
وكما نلاحظ : أن هذه الأسئلة تدور حول شخصية المؤلف ( الراوي ) من حيث أخلاقياته (عدالته ) ، وليست تذكر مؤلفات المنهج الأوروبي شيئا عن كيفية الإجابة على الأسئلة ، بل إنهما رسمت المنهج التخميني خطاً لكل ناقد يريد أن يستخلص نتيجةً من وثيقة حتى لو كانت مجهولة الصاحب .
وتأتي سلسلة أخرى من الأسئلة تدور حول ضبط المؤلف ( الراوي ) من قبيل :
1- هل كان في موضع يسمح له بملاحظة الواقعة أم أنه تخيلها ؟
2- هل كان في موضع يستطيع فيه أن يلاحظ الوقائع ولكنه لم يكلف نفسه عناء مشاهدتها ؟
3- هل كانت الواقعة المروية من طبعها ألا يمكن أن تعرف بالملاحظة وحدها مثل أسرار الحياة الزوجية مثلا ؟
4- ومع أن كل هذه الأسئلة تدور حول الشاهد الأصلي أو ما يسمونه ( وثيقة من الدرجة الأولى ) إلا أنهم لا يبينون أية مراجع تفيد في بيان حالة هذا الشاهد .
وفي حالة لو كانت الوثيقة من الدرجة الثانية أو الثالثة ( رواة رووا عن الشاهد الأصلي ) فإن الأمر يزداد تعقيدا في ا نعدام المعلومات عن أولئك الرواة .
ولقد ظن أصحاب المنهج الأوروبي أن المسلمين على شاكلتهم في الافتقار إلى المعلومات عن رواة الأخبار والوقائع . يقول سينوبوس :"وهذا البحث عن المشاهد الأصلي ليس غير معقول من الناحية المنطقية ، فمجامعي الروايات العربية القديمة تعطي أسانيد الرواية لكننا في الواقع العملي نفتقر دائما تقريبا إلى معلومات عن السند تصعد بنا إلى المشاهد الأصلي " .
لذلك اضطر أصحاب هذا المنهج إلى تجشم الإجابة على تلك الأسئلة التخمينية لاستلهام أية قرائن تفيد أمانة الراوي ودقته في ضبط الواقعة .
والواقع أن منهج المحدثين في النقد أكثر وضوحا وصرامة . فالراوي الذي يروي الواقعة تكون مؤلفات الجرح والتعديل في الغالب قد استوفت ذكر عدالته وضبطه ( أي أمانته ودقته كما يقول سينوبوس ) بل إنها تتعرض لتفاصيل أكثر دقة مما يتخيل المنهج الأوروبي ، مثل كيفية روايته للواقعة، ومستوى ضبطه لمجموع ما يروي ، إلى أمور أخرى تند عن الحصر .
فإذا انعدمت المعلومات عنه ، فإن صرامة المنهج تعتبره مجهولا لا يقبل خبره ولا يوثق بروايته ، حتى لو كان معروفا باسمه وشخصيته ، لكنه مجهول الحال (أي العدالة والضبط) فإنهم يترددوا في قبول روايته كما أسلفنا .
وطريقتهم في معرفة عدالة الراوي أي أمانته لا تركن إلى الخرص والبحث على عماية في ثنايا جمل الراوي وعباراته ، بل تعتمد على تنصيص الأئمة على عدالته بما عرف عنه من الديانة والخلق، يقول الأستاذ الأعظمي : " أما طريقة معرفة عدالة الرواة – ما عدا الصحابة – فتتوقف في الأعم الأغلب على تزكية المعاصرين من العلماء الأبرار ، ولا يمكن إخضاعها لمنهج النقد " .
ومعنى ذلك أنه لا بد من أن يكون التعديل مشتهرا عن الراوي ، وعلى أقل تقدير أن يشهد بعدالته عالم معتبر ، أما التعديل على الإبهام كأن يقول حدثني الثقة أو كل ما أرويه عن ثقات ولا يذكر أعيانهم فهذا رفضه النقاد المحدثون واعتبروه توثيقا غير مجد .
وقد يلجأ المحدثون إلى طرق فنية أخرى في معرفة عدالة الراوي مثل اختبار أقواله وقياسها على التاريخ ، كما قال سفيان الثوري : " لما استعمل الرواة الكذب استعملنا لهم التاريخ " .
قال أبو الوليد الطيالسي : " كتبت عن عامر بن أبي عامر الخزاز ، فقال يوما : حدثنا عطاء بن أبي رباح ، فقلت له : في سنة كم سمعت من عطاء ؟ قال : في سنة أربع وعشرين ومائة ، قلت: فإن عطاء توفي سنة بضع عشرة . قال الذهبي: " إن كان تعمد فهو كذاب ، وإن كان شبه له بعطاء بن السائب فهو متروك لا يعي " .
وقد اعترف أحد المستشرقين ( وهو مرغليوث ) بعبقرية المحدثين في التأريخ الدقيق للحوادث ، يقول : " نلاحظ مناهج معينة ابتكرها المؤرخون العرب لضمان الصحة في تسجيل الأحداث ، أحدها : تأريخها بالسنة والشهر بل باليوم ن ويصرح – بكل Buckle – مؤرخ الحضارة أن ذلك العمل لم يحدث في أوروبا قبل 1597م ونجده متطورا عند الطبري من بين مؤرخي العرب " أي قبل أوروبا بسبعمائة عام تقريبا .
وقد يفحصون الورق والحبر وموضع الكتابة ، قال زكريا بن يحيى الحلواني : "رأيت أبا داود السجستاني قد جعل حديث ابن كاسب وقايات على ظهور كتبه (أي جلد بها كتبه) فسألته عنه فقال : رأينا في مسنده أحاديث أنكرناها فطالبناه بالأصول فدافعنا ثم أخرجها بعد فوجدنا الأحاديث في الأصول مغيرة بخط طري، كان مراسيل فأسندها وزاد فيها " .
وفي ترجمة أحد الرواة يقول الذهبي : " زور سماعات الخطيب الموصلي ثم انكشف أمره وسقط نقله " .
لكن الأعم الأغلب في عدالة الراوي وديانته وتنزهه عن السفه والكذب وغير ذلك من مسقطات العدالة ، أنها تعرف بالتنصيص والاعتماد على أقاويل العلماء لتقويم المستوى الخلقي .
وليس معنى التنصيص على ذلك أن يوجد نص من الناقد بأن فلانا عدل ، بل المقصود اشتهار هذا الأمر عنه ، أما من لم يشتهر هذا عنه فهو المجهول الذي مضى معنا موقف منهج النقد المحدثين منه .
ثانيا : الضبط
هذه الصفة تؤهل الراوي لأن يروي الحديث كما سمعه ، ومارد المحدثين بالضبط أن يكون الراوي متيقظا غير مغفل ،حافظا إن حدث ن حفظه ، ضابطا لكتابه إن حدث من كتابه ، وإن كان يحدث بالمعنى اشترط فيه مع ذلك أن يكون عالما بما يحيل المعاني .وتأسيسا على هذه الصفات فإنه :
1- لا يقبل حديث من عرف بقبول التلقين في الحديث ، ومعنى التلقين أن يعرض عليه الحديث الذي ليس من مروياته ، ويقال له : إنه من روايتك ، فيقبله ولا يميزه ، وذلك لأنه مغفل فاقد لشرط التيقظ ، فلا يقبل حديثه .
2- لا تقبل رواية من كثرت الشواذ ( أي المخالفات ) والمناكير ( أي التفرد الذي لا يحتمل منه ) في مروياته ، قال شعبة : " لا يجيئك الحديث الشاذ إلا من الرجل الشاذ " وعلة هذا أنه يدل على عدم حفظه .
3- لا تقبل رواية من عرف بكثرة السهو في رواياته إذا لم يحدث من أصل مكتوب صحيح ، لأن كثرة السهو تدل على سوء الحفظ أو التغفيل فلا يكون الراوي ضابطا .
4- من أصر على غلطه بعد تبيينه له وعاند فإنه تسقط روايته .
5- لا تقبل رواية من يتساهل في نسخته التي يروي منها إن كان يروي الحديث من تاب ، كمن يحدث من أصل غير صحيح أي من كتاب أو مكتوب غير مقابل على الأصول المسموعة المتلقاة عن المصنفين بالسند الصحيح .
منهج المحدثين في معرفة ضبط الراوي
يقول ابن الصلاح : " يعرف كون الراوي ضابطا بأن نعتبر رواياته بروايات الثقات المعروفين بالضبط والإتقان فإن وجدنا رواياته موافقة ولو من حيث المعنى لرواياتهم أو موافقة لها في الأغلب، والمخالفة نادرة عرفنا حينئذ كونه ضابطا ثبتا ، وإن ودناه كثير المخالفة لهم عرفنا اختلال ضبطه ولم نحتج بحديثه" .
واعتبار الروايات والموازنة بينها هو روح منهج النقد عند المحدثين والمرتكز الأساس فيه ، وسنعرض له بالتفصيل إن شاء الله عند الكلام عن مرتكزات المنهج عند المحدثين .
والمقصود أن الأئمة لا يوثقون أحدا حتى يطلعوا على عدة أحاديث للراوي تكون مستقيمة وتكثر حتى يغلب على الظن أن الاستقامة كانت ملكة لذلك الراوي ، وهذا كله يدل على أن جل اعتمادهم في التوثيق والجرح إنما هو على سبر حديث الراوي .
وتفصيل ذلك أن الناقد إذا أراد معرفة حال راو فإنه يعمد إلى جمع مروياته ويتتبع كل الطرق إليها ولا يكتفي بمجرد ورود مروياته من طرق معينة حتى يعرف أن تلك المرويات رويت عنه على الوجه ، ولم يحدث خطأ ممن تحته فيها، فإذا تجمعت لديه مرويات الراوي خالية من أخطاء غيره وازن بينها وبين مرويات الثقات الذين شاركوه في الرواية عن شيوخه مع اعتبار مرويات أولئك الثقات أيضا حتى لا يوازن بين مرويات الراوي الذي يبحث عن حاله مع أخطاء الثقات ، فإذا ما وجد أن مرويات ذلك الراوي تشابه روايات الثقات ولا تخالفها اعتبر ضابطا لما يرويه ، فإذا وجد بعض الخطأ النادر اغتفر له ذلك مع تنبيهه على ما أخطأ فيه ، فإذا كثر خطؤه وفحش غلطه ضعف أو ترك .
فاستبان بهذا أن طريق معرفة حال الراوي تحتاج إلى اطلاع واسع على مرويات الرواة وأسانيدهم ، وسنتعرض لشرح ذلك عند الكلام عن مرتكزات منهج النقد عند المحدثين .
وقد تشتبه هذه الطريقة في سبر حال الراوي بطريقة المحدثين في معرفة علة الحديث ، حيث تعتمد طريقة معرفة العلة على سبر روايات هذا الحديث بعينه عند كل الرواة الثقات وغيرهم ، والموازنة بينها ، وقد يوازن بين روايات الضعفاء مع الثقات أو روايات الثقات مع بعضهم ، بغية التوصل إلى الرواية التي اجتمع عليها الأكثر من الثقات الضابطين .
وبهذا يستبين أن طريق معرفة حال الراوي تكون بسبر كل مروياته وموازنتها بمرويات الثقات من طبقته .
أما طريقة معرفة العلة فتكون بسبر روايات الحديث الواحد عند كل الرواة الذين رووا هذا الحديث لمعرفة مصدر الخطأ لو وجد ومعرفة الرواية المنضبطة المحفوظة .
ويأتي لذلك مزيد بيان إن شاء الله عند الكلام عن نظرية العلة .
عدالة الصحابة وضبطهم
انتقد طه حسين وأحمد أمين وأبو رية منهج النقد عند المحدثين بأنهم لم يتعاملوا بموضوعية مع كل رجال السند ، باعتبار أن تعديل الصحابة مساحة غير مسموح لأحد أن يتجاوزها مقررين أن بساط الصحابة قد طوي ومكانتهم جازت القنطرة ، في حين انهم بشر كغيرهم وثبت فيهم النفاق والخطأ وغير ذلك ، فما الذي يجعلهم منزهين عن النقد والجرح والتعديل .
وتحريرا لمحل النزاع فإن منهج النقد عند المحدثين لا ينزه الصحابة عن أي خطأ بل الاعتقاد بعصمتهم ليس في معتقد أهل السنة أصلا ، والنقاد يستجيزون نسبة الخطأ إلى الصحابة متى قام الدليل القوي على ذلك ، وقد ثبت أن الصحابة خطأ بعضهم بعضا ، وهذه النقطة متعلقة بجواز ورود الخطأ على الصحابي ، وهذا لا ينازع فيه المحدثون .
أما ما ينازع فيه المحدثون ( ولا يقوله المستشرقون ومن تبعهم ) أن تعرض مرويات الصحابة لمعرفة الحافظ منهم والساهي وكثير الخطأ ، فالمحدثون يفترضون مسبقا ضبط الصحابة وعدالتهم (أي ديانتهم ) .ولنتحدث عن القضيتين كلا على حدة .
عدالة الصحابة
إن قضية عدالة الصحابة أمر مجمع عليه بين أهل السنة ومنهم أئمة المذاهب الأربعة وغيرها من المذاهب المتبوعة كالظاهرية وأتباع الأوزاعي وغيرهم ممن انقرضوا الآن ، والمخالف لهذه القضية محجوج بالآيات المستفيضة والسنة الصحيحة في تعديل كل صحابة النبي صلى الله عليه وسلم .
والاستطراد في ذكر ذلك يخرج بالبحث عن موضوعه ، ويهمنا أن نقرر أن عدالة الصحابة قضية متناسقة مع المنهج العلمي .
يقول الخطيب البغدادي : " والأخبار في هذا المعنى تتسع ، ولكنها مطابقة لما ورد في نص القرآن وجميع ذلك يقضي طهارة الصحابة والقطع على تعديلهم ونزاهتهم ، فلا يحتاج أحد منهم مع تعديل الله تعالى لهم المطلع على بواطنهم إلى تعديل أحد من الخلق لهم ، فهم على هذه الصفة إلا أن يثبت على أحد ارتكاب ما لا يحتمل إلا قصد المعصية والخروج من باب التأويل ، فيحكم بسقوط العدالة ، وقد برأهم الله من ذلك ، ورفع أقدارهم عنه ، على أنه لو لم يرد من الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم فيهم شيء مما ذكرناه لأوجبت الحال التي كانوا عليها من الهجرة والجهاد والنصرة وبذل المهج والأموال وقتل الآباء والأولاد والمناصحة في الدين وقوة الإيمان واليقين والقطع على عدالتهم والاعتقاد بنزاهتهم وأنهم أفضل من جميع المعدلين والمزكين الذي يجيئون من بعدهم أبد الآبدين " . وهذا تأصيل متين لقضية تعديل الصحابة .
ويزيد هذا التأصيل قوة أمر بالغ الأهمية ، وهو كاف في إثبات منهجية المحدثين في تعديل الصحابة .
ذلك أن المنطق العقلي يفترض التسليم ببعض الحتميات التاريخية ، وبمبدأ العلة والسبب المؤثر ، والذي لا يستطيع طه حسين وأحمد أمين وأبو رية أن ينكروه .
وتأسيسا على ذلك نقول : إن التاريخ الذي كتبه أهل السنة وغيرهم لا يوجد فيه نص واحد يفيد أن الصحابة كانوا يكذبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويستحيل في المنطق العقلي أن يجتمع كل المؤرخين على اختلاف مشاربهم ( بما فيهمه الشيعة الذي حنقوا على الصحابة أيما حنق ) على نفي الكذب أو عدم رواية شيء يفيد ذلك عن الصحابة ثم يأتي باحث في القرن الخامس عشر الهجري ويقول : يجوز أن يكذبوا .
ثم إن الخلافات التي جرت بين الصحابة والحروب التي قامت بينهم سبب قوي وعلة دافعة أن يستغل كل طرف عيوب الآخر في التنقيص والذم ، ولم يثبت عن أحد منهم أن اتهم أحدا ( مع حصول العداوة من بعضهم لبعض ) بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أفلا يكون هذا السكوت دليلا على العدم مع قيام الداعي القوي ؟!!
أما القول بوجود النفاق فيهم فهذا ما لا يقوله المحدثون ، لأنهم عرفوا الصحابي بأنه من رأى الرسول صلى الله عليه وسلم مؤمنا به ومات على ذلك ، أي في واقع الأمر .
وقد تأدب الصحابة بأدب القرآن فلم يذكروا أسماء من عرف بالنفاق لا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا بعد وفاته ، ولو كان ثمة مصلحة في تعيينهم لعينهم القرآن وأشاع الفضيحة بين الناس بأسمائهم واحدا إثر آخر .
وتجويز النفاق على أي صحابي لا يتفق مع المنهج العلمي في شيء ، لأن مجرد الاحتمال الذي لا يقوم على أساس يسوغ استخدامه في إصدار الأحكام ، وإلا جاز اتهام جبريل نفسه ( عليه السلام ) بالنفاق ، ولا يخفى ما في هذا المسلك من الوهاء والبطلان .
وهؤلاء المتهوكون في صحابة النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذكر لهم منهج النقد التاريخي الأوروبي خروا له ركعا وسجدا ، وفي هذا المنهج يقرر لانجلوا وسينوبوس أن انتحال الكتب في العصور الوسطى كان عادة جارية مقبولة في أوروبا لا يعاقب صاحبها ، ومع ذلك فالمنهج العلمي لديهم يسوغ الاعتماد على نسخ لا يعرف من كتبها ولا من نسخها ولا من رواها معتمدين على عمايات وظلمات بعضها فوق بعض للوصول إلى أية حقيقة من وراء تلك الوثيقة اللقيطـــة .
لماذا لا يعتبر هذا المنهج غير موضوعي بل غير علمي أصلا ، إذ يسوغ الاعتماد على المجهول الذي لا يعرف ، بينما صحابة النبي صلى الله عليه وسلم قد عرفت أسماؤهم وكناهم وفضائلهم ومواليدهم ووفياتهم وكل صغيرة وكبيرة في حياتهم ، فأي الفريقين أولى بقبول الرواية منه والأخذ عنه ؟
ويستدل القادحون في عدالة الصحابة بحديث أنس بن مالك وأبي هريرة وغيرهما أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر عن أناس سيطردون عن حوضه يوم القيامة وأنهم هم الذين بدلوا وأحدثوا بعده ، وهو حديث متواتر ، ووجوده دليل على عدالة الصحابة وليس قادحا فيها ، فالمتهم لا يقدم دليل اتهامه ، والسارق لا يصطحب في السوق مسروقاته معه ، كما لا يروي الكاذب دليل كذبه .
ضبط الصحابة
يمكننا حصر الكلام في أبي هريرة رضي الله عنه باعتباره الصحابي الذي نال من الهجوم أكثر من غيره (أعني من المستشرقين ومن تبعهم ) .
فإذا أثبتنا ضبط أبي هريرة وحفظه – وهو الذي روى خمسة آلاف حديث كما يقدر بعض المحدثين – فإن حفظ الصحابة الآخرين وضبطهم يكون أمرا مفروغا منه .
وبدءا ينبغي أن نقدر الأمور قدرها ، فالأحاديث التي رواها أبو هريرة رضي الله عنه ليست كلها أقوالا ، بل جزء منها أفعال وتقريرات وهذه يسوغ روايتها بالمعنى ولا تشقى الذاكرة بحفظها لأن حفظ الحدث وحكايته بأي لفظ ليس أمرا خارقا للعادة حتى نتهم به أبا هريرة رضي الله عنه.
وثرثار سفيه في أي مقهى يستطيع أن يحكي عن مواقفه ومواقف أصدقائه الآلاف ويكون صادقا في جميعها ، فكيف لو كان الحاكي أبو هريرة ، والمحكي عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟!
ثم إن حفظ أبي هريرة لهذه الآلاف من الأحاديث ليس بمستغرب أمام حفظ الصحابة لآلاف الأبيات الشعرية وروايتها ، فحفظ أبي هريرة في سياقه طبيعي وعادي بالموازنة مع قدرات أهل جيله وليس أمرا خارقا للعادة كما بينا .
وأهم نقطة في هذه القضية أن الصحابة ثبت عنه اتخاذ موقفين من أبي هريرة :
الأول : تخطئته في بعض الأحاديث ،كما ثبت عن عائشة رضي الله عنها أنها خطأت أبا هريرة في روايته لحديث : " إنما الطيرة في المرأة والدابة والدار " وأن أبا هريرة سمع الحديث مبتورا فرواه على غير وجهه ، ولم تكذبه رضي الله عنها وعنه .
الثاني : أن الصحابة اتهموا أبا هريرة بالإكثار من الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذان الموقفان دليلا واضحان على أمور :
الأول : عدالة أبي هريرة رضي الله عنه وصدقه ، إذ لو كان كاذبا لكذبوه بل لمنعوه من الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
الثاني : أن ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عرفه الصحابة وأقروه عليه ، إذ لو كان يروي حديثا ما سمعه أحد منهم لكان أسهل شيء عليهم أن يقولوا له : كذبت، كلنا لم يسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الحديث .
الثالث : على أقل تقدير يقال : إن الصحابة إذا شكوا في حديث رواه أبو هريرة لم يجرءوا على تكذيبه لتسليمهم بأنه كان منقطعا لسماع الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
الرابع : أنا أبا هريرة استمر يروي الحديث حتى مات رضي الله عنه ، وهذه السنون الطوال كافية في أن يختبر الصحابة حديثه ويعرضوه على ما يعرفون ، فلما لم يفعلوا دل على تسليمهم بذلك.
والمنهج العلمي يقتضي منا القول أن أحاديث أبي هريرة على وجه الخصوص تكتسب مصداقية أكثر من أحاديث بقية الصحابة لأنها كانت محل انتقاد الصحابة في كثرتها ولكنهم عجزوا عن إقامة الدليل على كذبه – مع ثبوت تخطئته في البعض – فيكون مثل ذلك دليلا على حصول إجماع سكوتي على الأحاديث التي رواها أبو هريرة رضي الله عنه .
وبهذا العرض يتبين أن ضبط الصحابة متوافق مع المنهج العلمي ، متناسق مع أصول النقد ، ومع ذلك فالمحدثون قد يشيرون إلى خطأ الصحابي إذا ثبت ذلك بالبينة والبرهان .
وقد وَهَّم الدارقطني رافع بن عمرو المزني رضي الله عنه في قوله : " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب على بغلة بمنى" ، وروى الناس كلهم خطبة النبي صلى الله عليه وسلم على ناقة أو جمل ، ثم قال الدارقطني: "أفيضعف الصحابي بذلك ؟! " كالمستنكر .
ووهمت عائشة رضي الله عنها ابن عمر في تواريخ اعتمار النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال النووي : " سكوت ابن عمر على إنكار عائشة يدل على أنه كان قد اشتبه عليه أو نسي أو شك " وقال ابن حجر : " وفيه دليل على أنه قد يدخل الصحابي الوهم والنسيان لكونه غير معصوم" . ووهم سعيد بن المسيب عبد الله بن عباس في قوله : " تزوج النبي صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو محرم " . وهذا التوهيم مع قبول المرويات الأخرى دليل على الضبط والحفظ .
وبهذا يستبين أن ضبط الصحابة مثل ضبط غيرهم ، لكن قبول الناس عنهم دليل على أنهم لم يستنكروا مما رووه ، وما ذلك إلا لأنه متفق على ما عرفوه وسمعوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا وحده كاف في ثبوت الإتقان وقبول الرواية عنهم .
الخلاصة
1- حصر المحدثون صفات القبول في الراوي على أمرين : العدالة والضبط .
2- اشترط المحدثون في الضبط والعدالة شروطا على ضوئها ردوا من فقد شرطا منها .
3- عدالة الصحابة جميعا أمر يستدعيه الدور التاريخي الذي قاموا به في تبليغ الدين ، ويقتضيه المنهج العلمي في النقد بدون تأثير عقدي ، خلافا للأصوات غير الموضوعية والآراء التي ثبت تأثرها بمؤثرات عقدية في قدحها في عدالة الصحابة .
4- وجد للمحدثين منهج واضح في معرفة عدالة وضبط الرواة .
قواعد في الجرح والتعديل
تواطأ المحدثون على العناية بسبر أحوال الرواة والمرويات وتصدى لهذا الشأن جهابذتهم الذين عرفوا بسعة الاطلاع والتيقظ وحدة الذكاء والموسوعية ، ونشأ عن ذلك رصيد هائل من أحكام الجرح والتعديل عن الأئمة على تعاقب العصور ، فعمد نقاد الحديث إلى وضع ضوابط للتعامل مع هذا الرصيد الضخم من معلومات الجرح والتعديل فاستقرءوا أحكام الجرح والتعديل ثم استنبطوا قواعد عامة حتى يتم تناول هذا الرصيد من معلومات الجرح والتعديل على أساس علمـي .
ونتعرض هنا إلى أكبر وأشهر القواعد الكلية التي يستخدمها النقاد عند تناول معلومات الجرح والتعديل .
القاعدة الأولى : لا يقبل الجرح إلا مفسرا ، أي مبين السبب ، أما التعديل فلا يشترط تفسيره .
قال ابن الصلاح :" التعديل مقبول من غير ذكر سببه على المذهب الصحيح المشهور لأن أسبابه كثيرة يصعب ذكرها – حصرها – فإن ذلك يحوج المعدل إلى أن يقول : لم يفعل كذا .. لم يرتكب كذا ، فعل كذا .. وكذا .. فيعدد جميع ما يفسق بفعله أو بتركه وذلك شاق جدا .
وأما الجرح فلا يقبل إلا مفسرا مبين السبب لأن الناس يختلفون فيما يجرح وما لا يجرح ، فيطلق أحدهم الجرح بناء على أمر اعتقده جرحا وليس بجرح في نفس الأمر ، فلا بد من بيان سببه ، لينظر فيه أهو جرح أو لا ، وهذا ظاهر مقرر في الفقه وأصوله " .
وهذا المذهب هو المشهور كما قال ابن الصلاح وعليه المحققون من نقاد الحديث مثل البخاري ومسلم .
وسبب اشتراط التفسير في الجرح أن بعض أحكام الجرح في نظر النقاد قد لا تكون قادحا ترد به رواية الراوي في الحقيقة ، فمن ذلك أنه قيل لشعبة : لم تركت حديث فلان ؟ فقال : " رأيته يركض على بِرْذَون – حصان هجين غير عربي – فتركت حديثه "! .
ومن ذلك ما ذكروه عن مسلم بن إبراهيم أنه قال في راو : " ما تصنعون به ؟ ذكروه يوما عند حماد فامتخط حماد " .
ولاشك أن الجري وراء حصان أو امتخاط الناقد عند ذكر الراوي ليس شيء من ذلك قادحا مؤثرا في عدالة الراوي وضبطه .
لكنه يرد إشكال في أن معظم أحكام الجرح الواردة في مصنفات الجرح والتعديل تكون خالية من التفسير وبيان سبب الجرح ، بل يقتصر على مثل : فلان ضعيف وفلان ليس بشيء ، فاشتراط بيان السبب يفضي على تعطيل ذلك وسد باب الجرح في الأغلب الأكثر .
وقد أجاب عن ذلك ابن الصلاح فقال : " وجوابه أن ذلك وإن لم نعتمده في إثبات الجرح والحكم به فقد اعتمدناه في أن توقفنا عن قبول حديث من قالوا فيه مثل ذلك بناء على أن ذلك أوقع عندنا فيهم ريبة قوية يوجب مثلها التوقف " .
ويسري التوقف في شأن الراوي المجرح جرحا غير مفسر في حالة ما لو ورد في حقه تعديل نصا أو حكما كما قال المعلمي .
لكنني أرى – والله أعلم – أن التوقف ما هو إلا مخلص حسن – كما قال ابن الصلاح عن جوابه – يشابه ا لقول بعدم القبول ، وأن الأولى أن يقال : إن قول الناقد ضعيف ليس بشيء يتضمن تفسير الجرح فيه ، حيث مقصوده بيان أنه سبر حديثه فاستبان له ضعف حفظه وعدم صلاحية الاعتداد بروايته .
القاعدة الثانية : أن يسلم الجرح من الموانع التي تمنع قبوله
فمن ذلك :
1- ألا يكون الجارح نفسه مجروحا ، فحينئذ لا يبادر إلى قبول جرحه ، وكذا تعديله ما لم يوافقه فيه غيره . قال ابن حجر في ترجمة أحمد بن شبيب بعد ما نقل عن الأزدي قوله فيه " غير مرضي " ، قلت – أي ابن حجر - : " لم يلتفت أحد إلى هذا القول ، بل الأزدي غير مرضي " .
2- ألا يكون الجارح من المتعنتين المتشددين ، وقد ذكروا ابن حبان والنسائي ويحيى بن معين في المتشددين . وأرى أن إطلاق التشدد والتساهل أو التوسط على ناقد ما غير سديد، فكل ناقد له تشددات وتساهلات ، والأوفق اعتبار نقده بغيره من النقاد والحكم عليه على ضوء تفرده وشذوذه في النقد كما يعلم ذلك من تصرفات أئمة النقد أمثال الذهبي ، فهو من المعروفين بالاستقراء الواسع في نقد الرجال .
القاعدة الثالثة : إذا تعارض الجرح والتعديل
إذا تعارض الجرح والتعديل في راو واحد بأن ورد فيه الجرح والتعديل ففيه أقوال ذكرها العلماء :
الصحيح الذي نقله الخطيب البغدادي عن جهور العلماء وصححه ابن الصلاح وغيرهما من المحدثين وجماعة من الأصوليين أن الجرح مقدم على التعديل ولو كان المعدلون أكثر ، لأن المعدل يخبر عما يظهر من حال الراوي والجارح يخبر عن باطن خفي على المعدل .
ولكن ينبغي أن يقيد تقديم الجرح على التعديل بشروط هي :
1- أن يكون الجرح مفسرا .
2- ألا يكون الجارح متعصبا على المجروح أو متعنتا في جرحه .
3- ألا يكون التعديل متضمنا الرد على الجرح .
والاختلاف بين النقاد في الجرح والتعديل ليسب الدرجة التي يظنها البعض ، بل هو أمر قليل بالمقارنة مع اتفاقاتهم حتى إن الذهبي قال : " لم يجتمع اثنان من علماء هذا الشأن قط على توثيق ضعيف ولا على تضعيف ثقة " أي في نفس الأمر ، والذهبي من أهل الاستقراء التام في نقد الرجال .
ألفاظ الجرح والتعديل ومراتبها
اصطلح علماء هذا الفن على استعمال ألفاظ يعبرون بها عن وصف حال الراوي من حيث القبول أو الرد ، ويدلون بها على المرتبة التي ينبغي أن يوضع فيها من مراتب الجرح والتعديل ، ولا ريب أن معرفة هذه الألفاظ في غاية الأهمية لأنها الأداة التي يعبر بها النقاد عن حكمهم في الراوي .
وقد كتب المحدثون كثيرا عن هذه المراتب ، واجتهدوا في تقسيمها وبيان منازلها ، وكان أول من وصلنا من ذلك تصنيف الإمام عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي المتوفى 327هـ في كتابه العظيم "الجرح والتعديل " فقد صنف مراتب التعديل أربع مراتب وكذلك مراتب الجرح .
مراتب التعديل عند الرازي
قال ابن أبي حاتم : " وجدت الألفاظ في الجرح والتعديل على مراتب شتى :
1- فإذا قيل للواحد إنه ثقة أو متقن أو ثبت فهو ممن يحتج بحديثه .
2- وإذا قيل له : صدوق أو محله الصدق أو لا باس به ، فهو ممن يكتب حديثه وينظر فيه ، وهي المنزلة الثانية .
3- وإذا قل : شيخ ، فهو بالمنزلة الثالثة يكتب حديثه وينظر فيه إلا أنه دون الثانيـة .
4- وإذا قالوا : صالح الحديث ، فإنه يكتب حديثه للاعتبار .
مراتب الجرح عند الرازي
1- وإذا أجابوا في الرجل بـ"لين الحديث " فهو ممن يكتب حديثه وينظر فيه اعتبارا .
2- وإذا قالوا : ليس بقوي ، فهو بمنزلة الأولى في كتبة حديثه إلا أنه دونه .
3- وإذا قالوا : ضعيف الحديث فهو دون الثاني لا يطرح حديثه بل يعتبر .
4- وإذا قالوا : متروك الحديث ، أو ذاهب الحديث أو كذاب فهو ساقط الحديث لا يكتب حديثه ، وهي المنزلة الرابعة .
وقد تابع الرازي على هذا التقسيم ابن الصلاح والنووي وغيرهما ، فوافقوه موافقة تامة ، وجاء غيرهما فوافقوا على التقسيم وأحكامه من حيث الإجمال وزادوا عليه بعض التفاصيل أشهرهم الذهبي والعراقي وابن حجر والسخاوي .
وأرى هؤلاء كان لكل واحد منهم اصطلاحه ، وهي متقاربة ، ولا يمكننا أن نضع فواصل واضحة وجامدة بين هذه المراتب في الجرح والتعديل ، وقد يستعان بالقرائن اللفظية والحالية على تعيين مرتبة التعديل والجرح لراو من الرواة .
وقد وجدت ألفاظ اختلف النقاد في تفسيرها فبعضهم ذهب إلى أنها من ألفاظ التوثيق وآخرون إلى أنها من ألفاظ التضعيف ، ومن ذلك :
1- مقارب الحديث ، بفتح الراء وكسرها ، وهذا من صيغ التعديل على الصحيح ، والمعنى على الفتح : أن حديث غيره يقارب حديثه ، والمعنى على كسر الراء أن حديثه يقارب حديث غيره ، أي أن حديثه ليس بشاذ ولا منكر .
2- هو على يَدَيْ عَدْلٍ ، كان الحافظ العراقي يقول : إنه من ألفاظ التوثيق وينطق بها : على يَدِيْ عَدْلٌ ، برفع عدل وكسر الدال في يدي ، لكن حقق الحافظ ابن حجر أنها من ألفاظ التجريح الشديد كناية عن الهالك ، لأنه مأخوذ من المثل السائر : وضع على يدي عدل ، وعدل هو رجل من شرط تبع ، فكان إذا أراد قتل رجل دفعه إليه .
إرشادات عند النظر في كتب الجرح والتعديل
هذا وقد أرشد النقاد إلى ضرورة مراعاة أمور فنية عند النظر في كتب الجرح والتعديل ، ذكروها ليحتاط الناظر من أن يشرع في تلقف الأحكام دون ترو وبصيرة فيؤدي به الحال إلى الخطأ أو الحكم الجزاف .
ومن تلك الإرشادات :
1- إذا بحث الباحث في ترجمة راو ، فليتحقق أن تلك الترجمة هي لذاك الرجل ، فإن الأسماء كثيرا ما تشتبه ويقع الغلط والمغالطة .
2- أن يستوثق الباحث من النسخة التي ينظر فيها وليراجع غيرها إن تيسر له ليتحقق أن ما فيها ثابت عن مؤلف الكتاب .
3- إذا وجد الباحث في الترجمة كلمة جرح أو تعديل منسوبة إلى بعض الأئمة فلينظر أثابتة هي عن ذاك الإمام أم لا ؟
4- ليستثبت أن تلك الكلمة قيلت في صاحب الترجمة فإن الأسماء تتشابه .
5- وإذا رأى في الترجمة " وثقه فلان " أو " ضعفه فلان " أو " كذبه فلان " فليبحث عن عبارة فلان ، فقد يكون قال " هو ثقة " أو " هو ضعيف " .
6- أصحاب اكتب كثيرا ما يتصرفون في عبارات الأئمة بقصد الاختصار أو غيره وربما يخل بذلك بالمعنى ، فينبغي أن يراجع عدة كتب ، فإذا وجد اختلافا بحث عن العبارة الأصلية ليبني عليها .
7- ليبحث عن رأي كل إمام من أئمة الجرح والتعديل واصطلاحه مستعينا على ذلك بتتبع كلامه في الرواة واختلاف الرواية عنه في بعضهم مع مقارنة كلامه بكلام غيره .
الخلاصة
1- عني المحدثون بوضع قواعد عامة في ا لجرح والتعديل تضبط هذا الميدان وتجعل له بعدا منظما واضحا وتنأى به عن الأحكام الشخصية القائمة على الذوق أو الهوى ، بحث يدل دلالة واضحة على علمية منهج النقد عند المحدثين .
2- اختلفت بعض عبارات التعديل والتجريح عند النقاد ، فعني المحدثون بضبط تلك العبارات وبيان مراتبها وتحرير مراد النقاد منها بحيث بدت ألفاظ الجرح والتعديل كأنها اصطلاح عند كل النقاد وهو ما يؤكد تماسك وتناسق منهج النقد عند المحدثين .
3- نظرية الجرح والتعديل نظرية متكاملة ، تمثل ركنا مهما في منهج النقد عند المحدثين ، وقد عني النقاد والمحدثين بإقامة هذه النظرية على أسس علمية رصينة تشمل التأصيل والتقعيد والتطبيق .
........
لم نستطع إرفاق حاشية الكتاب فرجاء أخذها من الملف الأصلي للكتاب في مكتبة (صيد الفوائد)
ولتحميل الكتاب من موقع صيد الفوائد
الاسناد ونشأته
http://www.eltwhed.com/vb/showthread.php?t=12198
مَنَاهِجُ أهل الحديثِ في مجالِ النَّقْدِ (1): تَضْعِيفُ الرَّاوِي في شَيْخٍ دونَ آخر
http://www.eltwhed.com/vb/showthread.php?t=3678
مَنَاهِجُ أهلِ الحديث في النَّقْدِ (2): متى لا يصلُح اعتراف الرُّوَاةِ على أنفسِهم؟!
http://www.eltwhed.com/vb/showthread.php?t=3604
عصمة النبي صلى الله عليه وسلم وأثرها على السنة النبوية
http://www.eltwhed.com/vb/showthread.php?t=5842
السُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ ضَرورَةٌ حَتْمِيَّةٌ (1): الْمُذَكِّرات التَّفْسِيرِيَّة
http://www.eltwhed.com/vb/showthread.php?t=4205
السُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ ضَرورَةٌ حَتْمِيَّةٌ (2): اللُّغَةُ الْعَرَبِيَّةُ
http://www.eltwhed.com/vb/showthread.php?t=4207
07-27-2009سالم
جهود العلماء في مقاومة الوضع في الحديث
http://www.eltwhed.com/vb/showthread.php?t=18683
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق