مجموعة من الباحثين
خاص بالراصد
انتشرت مؤخراً عبر مواقع التواصل الاجتماعي صور إحراق الحشد الشعبي الشيعي بالعراق لشاب سني في منطقة الكرمة بمحافظة الأنبار، ورغم أن هذه الحادثة ليست الأولى من نوعها، فهذه الميلشيات الشيعية مارست كثيرا جرائم حرق لخصومها السنة منذ تواجدها بعد الاحتلال الأمريكي سنة 2003، فإحراق الشباب السني أحياء أمام منازلهم مارسته الميلشيات منذ عام 2006، وكان من أبشعها هو شواء طفل صغير سني في منطقة الأمين في الرصافة ببغداد في فرن وإرساله إلى أهله بصينية مع الخضروات، وكذا فعل بشاب اسمه عمر في شارع فلسطين ببغداد، شوي بفرن وأرسل، وحادثة حرق أبي عمر المشهداني في فرن مشهورة ومعروفة، ونقلت بعضا من هذه الحوادث القناة الرابعة البريطانية في برنامج (يسباتشيز)، في فيلم نشر سنة 2007، وما فعل بالمهندس وعد جاسم العاني عندما حرقت جثته ووجهه بالتيزاب (ماء النار) فتشوهت معالمه()، رحم الله جميع شهداء المسلمين ولعن قاتليهم ومحرّقيهم.
لكن هذا الفيلم الأخير أخذ منحى آخر لأسباب عدة، وخاصة بعد حادثة إحراق داعش للطيار الأردني معاذ الكساسبة رحمه الله، يومها رفع علماء الشيعة عقيرتهم وكتبوا عدة كتابات منددة بذلك منهم العراقي جلال الدين الصغير، وياسر الحبيب، وزعموا أن فعل داعش مستند لأقوال وأفعال أهل السنة، وأفعال الصحابة، وذكروا أن المذاهب الفقهية السنية تجيز تحريق البشر، وقد رد على هذه الفرية عدد من الباحثين السنة في عدد من المقالات، وأبطلوا نسبة جريمة داعش لفقه أهل السنة وأن داعش حرّفت كلام شيخ الإسلام ابن تيمية الذي نشرته داعش مع فيلم حرق الكساسبة، ومؤخراً صدر كتاب متخصص بنقد جريمة داعش عن مركز الـتأصيل الشرعي للبحوث والدراسات بعنوان (دلائل التحقيق والتوفيق في تحريم القتل بالتحريق) جاء على المسألة برمتها متناولا في هوامشه بعض المواقف الشيعية.
ومن هنا جاءت الحاجة لبيان الحقيقة وأن دين الشيعة هو الذي يشرعن حرق الخصوم ويتقرب بذلك لمعبوده وإلهه:
روايات التحريق في كتب الشيعة:
إن روايات التحريق عند الشيعة كثيرة، وقد رويت بأسانيد عديدة، وبألفاظ شتى، وفي مناسبات عدة، وقد صحَّت أسانيدها عند الشيعة، وتثبت أن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه فعل التحريق على وجوه عدة، وتلقى الشيعة على مدى العصور هذه الروايات بالقبول، ولا خلاف فيها بينهم؛ وهو أمر لا يمكن إنكاره مع تعدد تلك الروايات، لا سيما صدورها من مصادر مختلفة؛ فقد رواها عدة من محدثي الشيعة المعروفين في مؤلفات معتبرة عند الشيعة مثل: الكليني، والطوسي، والصدوق، والكشي، والحر العاملي، والنوري الطبرسي، والبروجردي، وآخرين لا يحصى عددهم.
ويمكن أن نقسم روايات الحرق بالنار عن عليٍّ رضي الله عنه في كتب الشيعة كما يلى:
أولاً: روايات تحريق علي رضي الله عنه للغُلاة:
وهي على أنواع:
الأول: وهي الروايات التي تحدّثت عن حرق علي رضي الله عنه لعبد الله بن سبأ وأتباعه الذين غلوا فيه، وألَّهوه وادّعوا الربوبية فيه.
منها: ما رواه الكشي() عن هشام بن سالم، قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول وهو يحدث أصحابه بحديث عبد الله بن سبأ وما ادّعى من الربوبية في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، فقال: إنه لما ادّعى ذلك فيه استتابه أمير المؤمنين عليه السلام فأبي أن يتوب فأحرقه بالنار.
ومنها: ما رواه الكشي أيضا() عن أبي جعفر عليه السلام أن عبد الله بن سبأ كان يدعي النبوة، ويزعم أن أمير المؤمنين عليه السلام هو الله، فبلغ ذلك أمير المؤمنين عليه السلام فدعاه وسأله؟ فأقر بذلك وقال: نعم أنت هو، وقد كان ألقي في روعي أنك أنت الله وأني نبي. فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: ويلك قد سخر منك الشيطان فارجع عن هذا ثكلتك أمك وتب، فأبى فحبسه أيام فلم يتب، فأحرقه بالنار وقال: إن الشيطان استهواه، فكان يأتيه ويلقي في روعه ذلك().
وفي كتاب "بحار الأنوار" نقلاً عن "مناقب آل أبي طالب": فَخَدَّ عليه السلام لهم أخاديد وأوقد ناراً فكان قنبر يحمل الرجل بعد الرجل على منكبه فيقذفه في النار ثم قال:
إني إذا أبصرت أمراً منكراً أوقدت ناراً ودعوت قنبراً
ثم احتفرت حفراً فحفراً وقنبر يحطم حطماً منكراً
وعقّب على هذا الخبر ابن شهر آشوب بقوله: (ثم أحيا ذلك (الحرق) رجل اسمه محمد بن نصير النميري البصري؛ زعم أن الله تعالى لم يظهره إلا في هذا العصر، وإنه عليّ وحده، فالشرذمة النصيرية (العلوية) ينتمون إليه: وهم قوم إباحية؛ تركوا العبادات والشرعيات، واستحلت المنهيّات والمحرّمات، ومن مقالهم: أن اليهود على الحقِّ ولسنا منهم، وإن النصارى على الحق ولسنا منهم)([5]).
وكذا ما ذكره المؤرخ الشيعي محمد حسين الزين()، حيث قال: إن بدعة السبئية في الغلو ظهرت على عهد أمير المؤمنين علي بن أبي طاب (ع)، عندما مرّ بقوم يأكلون في شهر رمضان نهارًا، فقال لهم: أسفر، أنتم أم مرضى؟ قالوا: لا ولا واحدة منهما، قال: فمن أهل الكتاب أنتم فتعصمكم الذمة والجزية؟ قالوا: لا. قال: فما بال الأكل نهارًا في رمضان؟ فقالوا له: أنت أنت، يومون إلى ربوبيته. فاستتابهم واستأنى ووعّدهم فأقاموا على قولهم. فحفر لهم حفرًا دخن عليهم فيها طمعًا في رجوعهم، فأبوا فحرقهم وقال: ألا تروني قد حفرت لهم حفرًا:
إني إذا رأيت شيئًا منكرًا ... أوقدت ناري ودعوت قنبرا
فلم يبرح عليه السلام من مكانه حتى صاروا حممًا. ثم استترت عنهم المقالة سنة أو نحوها، ثم ظهر عبد الله بن سبأ وكان يهوديًّا يتستر بالإسلام بعد وفاة أمير المؤمنين رضي الله عنه فأظهرها واتبعه قوم فسموا السبئية، وقالوا: إن عليًّا لم يمت.
الثاني: الروايات التي تحدثت عن الُزط([7]) الذين ألّهوا علياً رضي الله عنه وعبدوه من دون الله تعالى أيضاً، وزعموا أنه إلههم وربهم، وأنه خالقهم ورازقهم كما صنع ابنُ سبأ وأتباعه.
من هذه الروايات ما رواه الكشي() عن أبي جعفر أنه قال: إن عليا عليه السلام لما فرغ من قتال أهل البصرة أتاه سبعون رجلا من الزط فسلموا عليه وكلموه بلسانهم، فرد عليهم بلسانهم، وقال لهم: إني لست كما قلتم أنا عبد الله مخلوق، قال: فأبوا عليه وقالوا له: أنت أنت هو، فقال لهم: لئن لم ترجعوا عمّا قلتم فيّ وتتوبوا إلى الله تعالى لأقتلنكم، قال: فأبوا أن يرجعوا أو يتوبوا، فأمر أن يحفر لهم آبار فحفرت ثم خرق بعضها إلى بعض ثم قذفهم فيها ثم طمّ رؤوسها، ثم ألهب النار في بئر منها ليس فيها أحد فدخل الدخان عليهم فماتوا.
الثالث: روايات مطلقة لم تحدد المحرّقين، وهي روايات في الغالب تابعة إلى النوعين الأول أو الثاني من غير تحديد:
منها: ما رواه الكليني() بسنده من طريقين عن أبي عبد الله أنه قال: أتى قوم أمير المؤمنين عليه السلام فقالوا: السلام عليك يا ربنا، فاستتابهم فلم يتوبوا فحفر لهم حفيرة وأوقد فيها نارا وحفر حفيرة أخرى إلى جانبها، وأفضى ما بينهما فلما لم يتوبوا ألقاهم في الحفيرة وأوقد في الحفيرة الأخرى نارا حتى ماتوا.
ومنها: ما رواه الكشي() عن عبد الله بن شريك، عن أبيه، قال: بينما علي عليه السلام عند امرأة له من عنزة وهي أم عمر إذ أتاه قنبر فقال له: إن عشرة نفر بالباب يزعمون أنك ربهم، قال: أدخلهم، قال: فدخلوا عليه، فقال لهم: ما تقولون؟ فقالوا: نقول: إنك ربنا وأنت الذي خلقتنا، وأنت الذي ترزقنا، فقال لهم: ويلكم لا تفعلوا، إنما أنا مخلوق مثلكم، فأبوا وأعادوا عليه، ثم ساق الحديث إلى أن قذفهم في النار ثم قال علي عليه السلام:
إني إذا أبصرت أمراً منكراً أوقدت ناري ودعوت قنبرا()
ومنها: ما ذكر المجلسي() عن أبي الأحوص، عن أبيه، عن عمار الساباطي قال: قدم أمير المؤمنين عليه السلام المدائن فنزل بإيوان كسرى، وكان معه دلف بن مجير، فلما صلى قام وقال لدلف: قم معي، وكان معه جماعة من أهل ساباط، فما زال يطوف منازل كسرى ويقول لدلف: كان لكسرى في هذا المكان كذا وكذا، ويقول دلف: هو والله كذلك، فما زال كذلك حتى طاف المواضع بجميع من كان عنده ودلف يقول: يا سيدي ومولاي كأنك وضعت هذه الأشياء في هذه المساكن.
ثم نظر عليه السلام إلى جمجمة نخرة، فقال لبعض أصحابه: خذ هذه الجمجمة، ثم جاء عليه السلام إلى الإيوان وجلس وفيه، ودعا بطشت فيه ماء، فقال للرجل: دع هذه الجمجمة في الطشت، ثم قال: أقسمت عليك يا جمجمة لتخبريني من أنا ومن أنت؟ فقالت الجمجمة بلسان فصيح: أما أنت فأمير المؤمنين وسيد الوصيين وإمام المتقين، وأما أنا فعبد الله وابن أمة الله كسرى أنو شيروان، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: كيف حالك؟ قال: يا أمير المؤمنين إني كنت ملكا عادلا شفيقا على الرعايا رحيما، لا أرضى بظلم، ولكن كنت على دين المجوس، وقد ولد محمد صلى الله عليه وآله في زمان ملكي، فسقط من شرفات قصري ثلاثة وعشرون شرفة ليلة ولد، فهممت أن أؤمن به من كثرة ما سمعت من الزيادة من أنواع شرفه وفضله ومرتبته وعزه في السماوات والأرض ومن شرف أهل بيته، ولكني تغافلت عن ذلك وتشاغلت عنه في الملك، فيا لها من نعمة ومنزلة ذهبت مني حيث لم أؤمن، فأنا محروم من الجنة بعدم إيماني به، ولكني مع هذا الكفر خلصني الله تعالى من عذاب النار ببركة عدلي وإنصافي بين الرعية، وأنا في النار والنار محرمة علي، فوا حسرتاه لو آمنت لكنت معك يا سيد أهل بيت محمد صلى الله عليه وآله ويا أمير أمته، قال: فبكى الناس، وانصرف القوم الذين كانوا من أهل ساباط إلى أهلهم وأخبروهم بما كان وبما جرى.
فاضطربوا واختلفوا في معنى أمير المؤمنين، فقال المخلصون منهم: إن أمير المؤمنين عليه السلام عبد الله ووليه ووصي رسول الله صلى الله عليه وآله، وقال بعضهم: بل هو النبي صلى الله عليه وآله، وقال بعضهم: بل هو الرب وهو عبد الله بن سبا وأصحابه، وقالوا: لولا أنه الرب كيف يحيي الموتى؟ قال: فسمع بذلك أمير المؤمنين وضاق صدره، وأحضرهم وقال: يا قوم غلب عليكم الشيطان، إن أنا إلا عبد الله أنعم علي بإمامته وولايته ووصية رسوله صلى الله عليه وآله، فارجعوا عن الكفر، فأنا عبد الله وابن عبده، ومحمد صلى الله عليه وآله خير مني، وهو أيضا عبد الله وإن نحن إلا بشر مثلكم، فخرج بعضهم من الكفر وبقي قوم على الكفر ما رجعوا فألحّ عليهم أمير المؤمنين عليه السلام بالرجوع فما رجعوا، فأحرقهم بالنار، وتفرق منهم قوم في البلاد وقالوا: لولا أن فيه الربوبية ما كان أحرقنا في النار، فنعوذ بالله من الخذلان.
هذه الرواية ذكرها المجلسي، ورويت في عيون المعجزات من كتاب "الأنوار" تأليف أبي علي الحسن بن همام، عن العباس بن الفضل، عن موسى بن عطية الأنصاري، عن حسان بن أحمد الأزرق، عن أبي الأحوص، عن عمار مثله وزاد في آخره: إن الذين أحرقوا وسحقوا وذروا في الريح أحياهم الله بعد ثلاثة أيام فرجعوا إلى منازلهم.
ومنها: ما ذكره ابن أبي الحديد(): "أن علياً (عليه السلام) مَرَّ بقوم وهم يأكلون في شهر رمضان نهاراً، فقال: أسفر أم مرضى؟ قالوا: لا، ولا واحدة منها، قال: فمِن أهل الكتاب أنتم فتعصمكم الذمة والجزية؟ قالوا: لا، أنت أنت، يومِئُون إلى ربوبيته، فنزل عليه السلام عن فرسه، فألصق خَدَّهُ بالأرض، وقال: ويلكم إنما أنا عبد من عبيد الله، فاتقوا الله وارجعوا إلى الإسلام، فأبوا، فدعاهم مراراً فأقاموا على كفرهم، فنهض إليهم، وقال: شدوهم وثاقاً، وعليّ بالفعلة والنار والحطب، ثم أمر بحفر بئرين فحفرتا؛ فجعل إحداهما سرباً، والأخرى مكشوفة، وألقى الحطب في المكشوفة وفتح بينهما فتحاً، وألقى النار في الحطب فدخن عليهم، وجعل يهتف بهم، ويناشدهم ليرجعوا إلى الإسلام، فأبوا؛ فأمرهم بالحطب والنار فألقى عليهم فأحرقوا، فقال الشاعر:
لترم في المنية حيث شاءت إذا لم ترمني في الحفرتين
إذا ما حشنا حطباً بنار فذاك الموت نقداً غير دين
فلم يبرح عليه السلام حتى صاروا حمماً).
والشاهد قوله: (فأمرهم بالحطب والنار فألقى عليهم فأحرقوا) وهذا كان بعد أن أدخل عليهم الدخان، ثم أمرهم بالتوبة قبل أن يموتوا كما في ظاهر الرواية، فلما أبوا ألقى عليهم الحطب والنار فأُحرِقُوا!
ثانيا: تحريق الذي ارتد بعبادته صنما
روى ابن بابويه القمي() بإسناده: (أنّ رجلاً أتى أمير المؤمنين عليه السلام فشهد أنه رأى رجلين بالكوفة من المسلمين يصليان لصنم، فقال علي عليه السلام: ويحك لعله بعض مَن يشتبه عليك أمره، فأرسل رجلاً فنظر إليهما وهما يصليان لصنم، فأتي بهما، قال: فقال لهما أمير المؤمنين عليه السلام: ارجعا، فأبيا، فخدّ لهما في الأرض أخدوداً، وأجج فيه ناراً، فطرحهما فيه).
ثالثا: فيمن ارتد وتنصّر:
ونص الرواية(): أنّ علياً عليه السلام رُفع إليه نصراني أسلم ثمّ تنصّر، فقال علي عليه السلام: أعرضوا عليه الهوان ثلاثة أيام، وكلّ ذلك يطعمه من طعامه، ويسقيه من شرابه، فأخرجه يوم الرابع، فأبى أن يسلم، فأخرجه إلى رحبة المسجد فقتله، وطلب النصارى جيفته (جثته) بمائة ألف فيه، فأبى عليه السلام فأمر به فأحرق بالنار، وقال: لا أكون عوناً للشيطان عليهم.
رابعا: من ارتد لأنه شهد بالوحداينة ولم يشهد لرسول صلى الله عليه وسلم بالرسالة:
روى الكليني() عن الصادق عليه السلام قال: أتي أمير المؤمنين «صلوات الله عليه» وهو جالس في المسجد بالكوفة بقوم وجدوهم يأكلون بالنهار في شهر رمضان، فقال لهم أمير المؤمنين عليه السلام: أكلتم وأنتم مفطرون؟! قالوا: نعم. قال: يهود أنتم؟ قالوا: لا. قال: فنصارى؟! قالوا: لا. قال: فعلى أي شيء من هذه الأديان مخالفين للإسلام؟ قالوا: بل مسلمون. قال: فسفر أنتم؟! قالوا: لا. قال: فيكم علة استوجبتم الإفطار لا نشعر بها، فإنكم أبصر بأنفسكم، لأن الله عز وجل يقول: ﴿بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ﴾ قالوا: بل أصبحنا ما بنا علة. قال: فضحك أمير المؤمنين صلوات الله عليه ثم قال: تشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله؟! قالوا: نشهد أن لا إله إلا الله، ولا نعرف محمداً. قال: فإنه رسول الله. قالوا: لا نعرفه بذلك، إنما هو أعرابي دعا إلى نفسه. فقال: إن أقررتم، وإلا لأقتلنكم. قالوا: وإن فعلت.
فوكل بهم شرطة الخميس، وخرج بهم إلى الظهر ظهر الكوفة، وأمر أن يحفر حفرتين، وحفر إحداهما إلى جنب الأخرى، ثم خرق فيما بينهما كوة ضخمة شبه الخوخة، فقال لهم: إني واضعكم في إحدى هذين القليبين، وأوقد في الأخرى النار فأقتلكم بالدخان. قالوا: وإن فعلت، فإنما تقضي هذه الحياة الدنيا.
فوضعهم في إحدى الجُبَّين وضعاً رفيقاً، ثم أمر بالنار فأوقدت في الجب الآخر، ثم جعل يناديهم مرة بعد مرة: ما تقولون؟ فيجيبونه: اقضِ ما أنت قاض، حتى ماتوا.
قال: ثم انصرف، فسار بفعله الركبان، وتحدث به الناس، فبينما هو ذات يوم في المسجد إذ قدم عليه يهودي من أهل يثرب قد أقر له مَن في يثرب من اليهود: أنه أعلمهم، وكذلك كانت آباؤه من قبل. قال: وقدم على أمير المؤمنين صلوات الله عليه في عدة من أهل بيته، فلما انتهوا إلى المسجد الأعظم بالكوفة أناخوا رواحلهم ثم وقفوا على باب المسجد وأرسلوا إلى أمير المؤمنين «صلوات الله عليه» إنا قوم من اليهود قدمنا من الحجاز، ولنا إليك حاجة، فهل تخرج إلينا أم ندخل إليك؟ قال: فخرج إليهم وهو يقول: سيدخلون، ويستأنفون باليمين فما حاجتكم؟ فقال عظيمهم: يا ابن أبي طالب، ما هذه البدعة التي أحدثت في دين محمد صلى الله عليه وآله؟ فقال له: وأية بدعة؟ فقال له اليهودي: زعم قوم من أهل الحجاز أنك عمدت إلى قوم شهدوا أن لا إله إلا الله، ولم يقروا أن محمداً رسوله، فقتلتهم بالدخان. فقال له أمير المؤمنين «صلوات الله عليه»: فنشدتك بالتسع الآيات التي أنزلت على موسى عليه السلام بطور سيناء، وبحق الكنايس الخمس القدس، وبحق السمت الديان، هل تعلم أن يوشع بن نون أتي بقوم بعد وفاة موسى شهدوا أن لا إله إلا الله ولم يقروا: أن موسى رسول الله فقتلهم بمثل هذه القتلة؟ فقال له اليهودي: نعم. أشهد أنك ناموس موسى. قال: ثم أخرج من قبائه كتاباً، فدفعه إلى أمير المؤمنين عليه السلام، ففضه ونظر فيه وبكى. فقال له اليهودي: ما يبكيك يا ابن أبي طالب؟! إنما نظرت في هذا الكتاب وهو كتاب سرياني، وأنت رجل عربي، فهل تدري ما هو؟! فقال له أمير المؤمنين صلوات الله عليه: نعم، هذا اسمي مثبت. فقال له اليهودي: فأرني اسمك في هذا الكتاب وأخبرني ما اسمك بالسريانية؟
قال: فأراه أمير المؤمنين سلام الله عليه اسمه في الصحيفة، فقال: اسمي إليا. فقال اليهودي: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وآله، وأشهد أنك وصي محمد، وأشهد أنك أولى الناس بالناس من بعد محمد. وبايعوا أمير المؤمنين عليه السلام، ودخل المسجد. فقال أمير المؤمنين عليه السلام: الحمد لله الذي لم أكن عنده منسياً، الحمد لله الذي أثبتني عنده في صحيفة الأبرار).
رابعا: إحراق اللوطي
فقد روى الكليني() عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام قَالَ: بَيْنمَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام فِي مَلَإٍ مِنْ أَصْحَابِهِ إِذْ أَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنِّي قَدْ أَوْقَبْتُ عَلَى غُلَامٍ فَطَهِّرْنِي، فَقَالَ لَهُ: يَا هَذَا امْضِ إِلَى مَنْزِلِكَ لَعَلَّ مِرَاراً هَاجَ بِكَ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ غَدٍ عَادَ إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنِّي أَوْقَبْتُ عَلَى غُلَامٍ فَطَهِّرْنِي، فَقَالَ لَهُ: يَا هَذَا امْضِ إِلَى مَنْزِلِكَ لَعَلَّ مِرَاراً هَاجَ بِكَ، حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثاً بَعْدَ مَرَّتِهِ الْأُولَى، فَلَمَّا كَانَ فِي الرَّابِعَةِ قَالَ لَهُ، يَا هَذَا إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله حَكَمَ فِي مِثْلِكَ بِثَلَاثَةِ أَحْكَامٍ فَاخْتَرْ أَيَّهُنَّ شِئْتَ؟ قَالَ: وَمَا هُنَّ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: ضَرْبَةٌ بِالسَّيْفِ فِي عُنُقِكَ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ، أَوْ إِهْدَاءٌ مِنْ جَبَلٍ مَشْدُودَ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ، أَوْ إِحْرَاقٌ بِالنَّارِ. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَيُّهُنَّ أَشَدُّ عَلَيَّ؟ قَالَ: الْإِحْرَاقُ بِالنَّارِ، قَالَ: فَإِنِّي قَدِ اخْتَرْتُهَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: خُذْ لِذَلِكَ أُهْبَتَكَ، فَقَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ: فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ جَلَسَ فِي تَشَهُّدِهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي قَدْ أَتَيْتُ مِنَ الذَّنْبِ مَا قَدْ عَلِمْتَهُ، وَإِنِّي تَخَوَّفْتُ مِنْ ذَلِكَ فَجِئْتُ إِلَى وَصِيِّ رَسُولِكَ وَابْنِ عَمِّ نَبِيِّكَ فَسَأَلْتُهُ أَنْ يُطَهِّرَنِي فَخَيَّرَنِي بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ مِنَ الْعَذَابِ؛ اللَّهُمَّ فَإِنِّي قَدِ اخْتَرْتُ أَشَدَّهَا، اللَّهُمَّ فَإِنِّي أَسْأَلُكَ أَنْ تَجْعَلَ ذَلِكَ كَفَّارَةً لِذُنُوبِي، وَأَنْ لَا تُحْرِقَنِي بِنَارِكَ فِي آخِرَتِي، ثُمَّ قَامَ وَهُوَ بَاكٍ حَتَّى جَلَسَ فِي الْحُفْرَةِ الَّتِي حَفَرَهَا لَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام، وَهُوَ يَرَى النَّارَ تَتَأَجَّجُ حَوْلَهُ، قَالَ: فَبَكَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام ، وَبَكَى أَصْحَابُهُ جَمِيعاً، فَقَالَ لَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام: قُمْ يَا هَذَا، فَقَدْ أَبْكَيْتَ مَلَائِكَةَ السَّمَاءِ، وَمَلَائِكَةَ الْأَرْضِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ تَابَ عَلَيْكَ فَقُمْ، وَلَا تُعَاوِدَنَّ شَيْئاً مِمَّا قَدْ فَعَلْتَ)، وقد صحَّحوها أو حسَّنوها، واصطلحوا عليها بـ (صحيحة أو حسنة مالك بن عطية)().
ومنها: ما روى المرتضى(): أن عليا أحرق رجلا أتى غلاما في دبره.
هذه بعض روايات الشيعة عنهم، ولم نر من أنكرها قديما إلا ما كان من أحد المعاصرين وهو مرتضى العسكري() فقال: (لم يكن يوم ذاك غلاة، ولا عباد صنم في الجزيرة العربية، ولم يحرق الإمام أحداً. ويجوز وجود زنادقة، أو من ارتد إلى النصرانية، قتلهم الإمام، ثم أحرق جثثهم، خشية أن يتخذ قبورهم وثناً)، وقد رد عليه عدد من الشيعة منم:
1- محمد علي المعلم في كتابه "عبد الله بن سبأ والحقيقة المجهولة"، أثبت روايات التحريق وعبد الله بن سبأ.
2- ورد عليه جعفر مرتضى العاملي في كتابه "الصحيح من سيرة الإمام علي" ونحن نقلنا من موقعه الميزان()، وقد رد بحجج كثيرة على مرتضى العسكري، مثبتا روايات الحرق. بل أثبت وقائع متعددة لذلك وقال: (إن الروايات التي يتحدث عنها لا تأبى عن أن تكون قد تحدثت عن وقائع متعددة، فإن حديث السبعين من الزط، غير حديث العشرة، وحديث العشرة غير حديث الرجلين اللذين كانا يصليان إلى الصنم.. وحديث ابن سبأ ومن معه يمكن أن يكون واقعة أخرى أيضاً.
وما وجه الهجنة والغرابة في ذلك؟! فإنها ليست كواقعة الإفك التي تناقضت رواياتها، مع أن ما حدث واحدة منها.. ويؤكد ذلك: اختلاف كيفيات القتل فيها، في بعضها، عنها في البعض الآخر..
ففي بعضها: قتلهم بالدخان. وفي أخرى: أحرقهم بالنار. وفي ثالثة: قطع رؤوسهم، ثم أحرق أجسادهم..
كما أن بعض الوقائع لعله كان في البصرة، وبعضها حدث بالكوفة..
ويبدو: أن المقصود: هو أن إحراق الغلاة كان بعد الفراغ من حرب الجمل، مع عدم بيان مكان وقوع هذا الحرق، فربما كان بالبصرة وربما كان في الكوفة..
ثانياً: إن حديث إحراق الرجلين إنما هو لأنهما ارتدا إلى عبادة الأصنام، لا لأجل غلوهما في أمير المؤمنين عليه السلام.
ثالثاً: إنه لا منافاة بين تصريحه عليه السلام بأن حكم المرتد القتل، وبين إحراقه المرتدين، فإنه إنما أحرق خصوص الغلاة منهم، ومن عبد الصنم، وقد قلنا: إنه يمكن أن يكون حكم هذا النوع من الارتداد هو القتل بهذه الطريقة، كما أن حكم اللائط هو القتل بطريقة معينة أيضاً، ومنها الحرق بالنار..) ا.هـ
بعد هذه الروايات يتضح أن الإحراق معروف متداول عند الشيعة من ناحية الرواية، ولنتعرف الآن على فقهه عند الشيعة.
فقه التحريق العلمي والعملي عند الشيعة
إنّ تحريق علي للغلاة الذين ألَّهوه وعبدوه من دون الله تعالى - سواء كان عبدالله بن سبأ، أو أتباعه، أو الزُط أو تحريق المرتد، أو اللوطي ثابتة عنه في كتب الشيعة، وقد رويت بأسانيد مختلفة؛ منها الصحيح ومنها الضعيف، حتى بلغت حد التواتر المعنوي، وقد أكَّد علماء الشيعة حادثة تحريق علي للغلاة في غير مصنّف من مصنفاتهم، وذكرها غير عالم منهم، من ذلك ما قال الشيخ المفيد(): (الغلو هو التجاوز عن الحد والخروج عن القصد، قال الله تعالى: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ ﴾ [النساء: 27]، فنهى عن تجاوز الحد في المسيح، وحذّر من الخروج عن القصد في القول، وجعل ما ادعته النصارى فيه غلوا؛ لتعديه الحد على ما بيناه.
والغلاة من المتظاهرين بالإسلام هم الذين نسبوا أمير المؤمنين والأئمة من ذريته عليهم السلام إلى الألوهية والنبوة، ووصفوهم من الفضل في الدين والدنيا إلى ما تجاوزوا فيه الحد، وخرجوا عن القصد؛ وهم ضلال كفار، حكم فيهم أمير المؤمنين عليه السلام بالقتل والتحريق بالنار، وقضت الأئمة عليهم السلام عليهم بالكفر والخروج عن الإسلام).
أمّا الشيخ يوسف البحراني فقد أقَرَّ أن علياً رضي الله عنه قد حَرَّقَ عبدالله بن سبأ، وقال في ذلك: (وابن سبأ هذا هو الذي كان يزعم أن أمير المؤمنين عليه السلام إله فاستتابه أمير المؤمنين عليه السلام ثلاثة أيام فلم يتب فأحرقه)().
وجاء في أجوبة (مركز الأبحاث العقائدية) التابع للمرجع الشيعي الأعلى علي السيستاني تجاوز القول بثبوت ذلك عن علي رضي الله عنه، لتقرِّر بأن ذلك كان بأمر الله تعالى()، جاء ذلك في الوجه الثاني من أجوبتهم على من سألهم (هل أحرق الإمام علي عليه السلام قوما من الغلاة؟)
فأجاب المركز بما نصه: (وأما حرق الإمام علي عليه السلام) لأولئك الغلاة فكان بأمر الله سبحانه وتعالى؛ لأنّ الشريعة الإسلامية جعلت حدوداً وتعزيرات للحد من المفاسد الفردية والاجتماعية وعالجتها من جذورها لكي لا يتوجه إليها الإنسان ولا يرغب فيها، فإذا ارتكب هذه المفاسد شخص ما فعليه الحد، وهذا الحد يقيمه العارف به وبشروطه وهو الذي يقدّر الحكم الأمثل للحد من هذه المفاسد، ومن منا يستطيع أن يقول إن الإمام علياً عليه السلام لا يقدّر مثل هذا الأمر أو كيف يحكم بمثل هذا الحكم وهو أقضى المسلمين باتفاق الفريقين؟!)().
وإذن فقد تقرّر – هنا – بأن فعل عليٍّ رضي الله عنه بالتحريق بالنار كان بأمر الله تعالى، وهذا يعني بوضوح أن حكم التحريق لدى الشيعة الإمامية حكم شرعي مقرّرٌ عندهم؛ لأن الشيعة تتلقى أحكام دينها عن الأئمة المعصومين – على زعمهم – وهؤلاء لهم حق التشريع كما للنبي عليه الصلاة والسلام، والسُنّة في نظر الشيعة ليست هي قول النبي وحسب، بل هي: قول المعصوم وفعله وتقريره، ويدخل في هذا النبي صلى الله عليه وسلم وإثنا عشر إماماً من أئمتهم الذين يزعمون عصمتهم()؛ وعلى هذا ففعل علي رضي الله عنه سُنّة متبعة، وشرعٌ متعبد به؛ لأنه إنما يفعل بأمر الله تعالى.
أما الكلام عن روايات المرتد: فقد خَرَّجَ بعض فقهائهم على أن من ارتد عن الاسلام، وسجد للأصنام ولم يتب؛ فإنه إمّا يقتل بالسيف أو يحرَّق بالنار، قالوا في ذلك: (ومن شهد عليه شاهدان أنه صلى لصنم ولم يتب قتل بالسيف، أو خدَّ له أخدود، وأضرم فيه نار، وطرح فيها)(). (وكذلك يظهر هذا التنوع في عقوبة المرتد مما نقله الشيخ الصدوق لثلاث روايات في كتابه "من لا يحضره الفقيه"() تفيد بأن أمير المؤمنين عليه السلام قد عاقب بعض الغلاة فيه بالخنق بالدخان، وبعض المصلين للصنم بالإحراق، وبعض من تنصّر من المسلمين بالوطء بالأقدام، أنه يرى أنها جميعاً عقوبة شرعية للمرتد، حيث قد التزم الشيخ الصدوق في بداية كتابه أنه لا يورد فيه إلا ما يفتي به ويحكم بصحته)().
وقال المجلسي الأول( " :وغرضنا من الإطالة في ذكر الأخبار أن يعلم أنه لا يجوز شرعاً إسكات المرتد بالدليل، بل يجب مقابلتهم ومعارضتهم بالسيف، ألا ترى أنه عليه السلام هل عارضهم بالأدلة أنني لست بإله، بل استتابهم، فلما لم يتوبوا أحرقهم بالدخان.
ويمكن أن يكون الوجه في عدم إحراقهم بالنار مع جوازه أن لا يتشبث الغلاة بذلك، على أنه عليه السلام أحرق كثيراً بالنار، وسيجيء في الحدود)().
والمجلسي الأول هنا يقرِّر وقوع الحرق بالنار من عليٍّ رضي الله عنه للكثيرين؛ وهو يستند في ذلك إلى كثرة الروايات، وكثرة وقائعها، التي تؤشر على كون الذين حرقهم ليسوا قليلين.
وقال المجلسي الثاني (صاحب كتاب بحار الأنوار) تعليقاً على الرواية الدالة على قتل المصلي للصنم بالحرق بالنار؛ وأنه يجوز للمصلحة: (ويدل على جواز القتل بالنار إن رأى الإمام فيه المصلحة)().
وعبارة العلامة الحلي على عدم وجوب الإحراق بالنار، تدلَّ على أنه لاينفي أصلها، ولكنه نفى وجوبها، قال في ذلك: (السابع عشر: يقتل المرتد بالسيف، ولا يجب إحراقه بالنار)().
أما عن الكلام عن حكم اللوطي: فقد تسالم علماء الشيعة في أحكامهم الفقهية على أن هذه هي عقوبة اللوطي: إمّا قتلاً بالسيف، أو إلقاءً من شاهق، أو تحريقاً بالنار، وجاءت مقرراتهم الفقهية وفقاً لذلك، وهذه بعضها:
قال الصدوق في المقنع: "واعلم أن عقوبة من لاط بغلام أن يحرق بالنار، أو يهدم عليه حائط، أو يضرب ضربة بالسيف، وإذا أحب التوبة تاب من غير أن يرفع خبره إلى إمام المسلمين، فإن رفع خبره إلى الإمام هلك، فإنه يقيم عليه إحدى هذه الحدود التي ذكرناها"(). وقد ذكر ذلك في كتاب الهداية أيضاً().
أمّا ابن أدريس الحلي فلم يكتف بذكر عقوبة التحريق بالنار كإحدى العقوبات التي يعاقب بها اللائط، حتى أضاف إلى ذلك، أن الإمام إذا اختار عقوبة غير الإحراق من قتل ونحوه، فلا بد من إحراقه بعد قتله()، وهذا ممّا يزيد الأمر وضوحاً في أن عقوبة الإحراق تلزم فاعل هذا الفعل حيّاً وميتَّاً، قال الحلي: "فإذا ثبت على اللايط حكم اللواط بالإيقاب، كان حده القتل، إلا أن الإمام بالخيار في كيفية قتل اللايط؛ إما أن يرمى من حايط عال، أو يرمى عليه جدار، أو يدهدهه من جبل - ومعنى يدهدهه أي يدحرجه -، أو يضرب عنقه بالسيف، أو يرجمه الإمام والناس، أو يحرق بالنار، والإمام مخير في ذلك، أي شيء أراد فعله منه كان له ذلك، بحسب ما يراه صلاحاً، فإن أقام عليه حداً بغير النار، كان له إحراقه بعد ذلك"().
وفي فقه الرضا: "من لاط بغلام فعقوبته أن يحرق بالنار، أو يهدم عليه حائط، أو يضرب ضربة بالسيف"().
قال البروجردي في ذلك: "واعلم أن عقوبة من لاط بغلام أن يحرّق بالنار، أو يهدم عليه حائط أو يضرب ضربة بالسيف، وإذا أحب التوبة تاب من غير أن يرفع خبره إلى إمام المسلمين، فان رفع إلى الإمام هلك فإنه يقيم عليه إحدى هذه الحدود التي ذكرناها"().
ولو ذهبنا نستقصي أقوالهم في هذا المضمار لطال بنا المقام، فإن هذا الأمر قد استفاض عندهم والذي دلَّ على ذلك، وأنه لا خلاف فيه بينهم ما أجاب به (مركز الأبحاث العقائدية) التابع للمرجع الشيعي علي السيستاني للسؤال الذي وردهم عن حقيقة إحراق علي للغلاة؛ فجاء في بعض الجواب في الوجه الأول منه ما يلي:
"... خصوصاً وأن حكم الحرق ثابت لا خلاف فيه بين الإمامية، كما في حدّ اللواط"()، وأحال في ذلك إلى النظر في جامع أحاديث الشيعة() لما ورد عندهم من الروايات والتقريرات ما يؤكد ذلك ممّا لا يطول الكلام فيه بعد أن كفانا الشيعة مؤونة ذلك.
لكن – كما ترى – فقد جاء الجواب على عمومه أولاً، ثم جاء التمثيل بحكم اللواط ليدلل على أن حكم التحريق بالنار ليس خاصاً باللوطي فحسب، وإنما هو أعم من ذلك، وإنما اللوطي داخل في هذا العموم، فتأمل! والعجيب أن هذه الأجوبة الصادرة من موقع السيستاني، في الوقت الذي تنفي فيه الخلاف بينهم في عقوبة التحريق بالنار، فإنها تؤكد في الوقت ذاته على أنّه محل خلاف عند أهل السنة!().
وعليه فقد اتفق الشيعة على شرعية العقوبة في التحريق بالنار، واللوطي منهم خاصة، في الوقت الذي هو موضع خلاف بين أهل السنة، وهذا ممّا يبين لك أهمّ فارق بين الشيعة والسنة في قضية عقوبة التحريق بالنار، فاحفظ هذا فإنه مهم جدا.
الخلاصة:
بعد هذا الاستعراض لمرويات الشيعة في مسألة التحريق بالنار، ومقررات علمائهم في جوازها ومشروعيتها؛ يظهر للمتأمل في مجموع هذه الروايات وتعدد مواردها وألفاظها، وتنوع وقائعها، واختلاف طرق الإحراق من طريقة إلى أخرى، بحسب اختلاف الروايات؛ فمرة بالحرق بالنار، ومرة بالدخان، ومرة بالحرق والدخان معاً، فالمتأمل في مجموع ذلك لا يشك بأنها موارد متعددة، ووقائع مختلفة، وهو مقتضى قول بعضهم - صراحة - بأن علياً رضي الله عنه قد حَرَّقَ كثيراً بالنار().
وإذا كان هذا ثابتاً عن علي رضي الله عنه عند الشيعة، فهو كذلك ثابت عند أهل السنة في تحريقه للغلاة الذين ألَّهوه فقط دون غيرها من الوقائع()، ومع هذا روى أهل السنة أيضاً اعتراض ابن عباس رضي الله عنهما على علي رضي الله عنه بما هو مذهب أهل السنة في ذلك من أن "النار لا يعذب بها إلا ربُّ النار" فيما لم يروِ الشيعة اعتراض ابن عباس في ذلك، بل ردّوه ونقضوه بدعاوى سمجة لا لشيء إلا لأنها لا تتوافق مع قولهم بعصمة الإمام علي رضي الله عنه، فأنّى لابن عباس أن يعترض على المعصوم، وهو الذي أخذ علمه عنه؟
وكذلك لم تروِ الشيعة قول النبي صلى الله عليه وسلم "لا يعذب بالنار إلا ربُّ النار" في مصنفاتهم، بل لقد جاء في أجوبة (مركز الأبحاث العقائدية) إنكاره وردّه؛ لأنه مرويٌ من طريق أهل السنة، ولا حجة فيه على الشيعة كما قالوا().
فقه الشيعة على أرض الواقع:
ربما يقول قائل إن هذا الفعل على أرض الواقع فعل غير مستند إلى المذهب الشيعي، وإنما سلوكيات أفراد حملهم الحقد والثأر على ارتكاب هذه الأفعال الشنيعة؟
والجواب: إن الشيعة يرون الناصبي مرتدا كافرا يستحق عقوبات شتى وعليه اتفاق الإمامية وعقد بعضهم الإجماع عليه()، يستحق القتل بشتى الطرق ودون إذن الحاكم؛ فقد روى الصدوق عن أبيه، عن سعد، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن سيف بن عميرة، عن داود بن فرقد، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ما تقول في قتل الناصب؟
فقال: (حلال الدم، ولكني أتقي عليك، فإن قدرت أن تقلب عليه حائطاً أو تغرقه في ماء لكيلا يشهد به عليك فافعل)()، بل بوّب البروجردي في كتابه "جامع أحاديث الشيعة" (25/492) (باب: وجوب قتل الناصب)، أما ماله فهو أمر واسع وروايتهم في ذلك كثيرة، ومال الناصبي حلال، إفتاء جمع من أئمة الشيعة منهم: جعفر الصادق، والرضا().
ومصطلح الناصب واسع عند الشيعة فكثير منهم حكم على الصحابة بالنصب()، وعلى أبي حنيفة بالنصب، وبعضهم قال إن الناصب شر من اليهودي والنصراني، وبعضهم صرح أن حب علي وحده لا يكفي للتخلّص من النصب، وصرح بعضهم أن السنة ( العامة) هم نواصب.
أما اليوم فقد تطور المصطلح وأصبح العداء ليس للسنة بالظاهر وليس للنواصب، بل للوهابية، وهذا ما صرح به جهارا نهارا حازم الأعرجي()، وغيره أضمر، واشتهر الأعرجي بتعصبه ضد السنة وتحريضه على قتل أهل السنة (ويسميهم الوهابية على زعمه) ويعتبرهم بأنهم أنجس من الكلاب، وهذا هو توصيف الناصبي في الرواية الشيعية، ويدعو الشيعة: ألَّا ينتظروا في ذلك فتوى من أحد، وهو معنى ما قاله باحث شيعي نقلاً عن فقهاء الشيعة: (إن قتله – الناصب - لا يحتاج إلى إذن الإمام عليه السلام أو نائبه) ولأجله قال الأعرجي: (خذ سلاحك واقتل كل وهابي نجس) هكذا بلا فتوى ولا إذن من أحد، لا من إمام ولا من نائبه.
وقد نفذ المخطط بقتل أهل السنة منذ أيام الاحتلال الأولى؛ يصفى البعثي بدعوى الوهابية والناصبية، ويصفى الشيعي الذي تسنن لأنه وهابي، ويقتل السني لأن اسمه (عمر، أبو بكر، عثمان) لأنهم نواصب. حتى وإن كان لا يصلي ويشرب الخمر، يكفيه الانتماء للسنة لتبرير قتله.
ولا بد من التنبيه أن المذهب الشيعي أطلق العنان لشيعته لاختيار طريقة قتل الناصبي، والحرق أحد أنواع القتل، وتفننوا بذلك، فاستخدمت الميلشيات أبشع أنواع التعذيب بحق المعتقلين السُنّة كالصعق بالكهرباء والحرق بالحامض الكبريتي (ماء النار) والخرق بالمثقاب الكهربائي وإطفاء أعقاب السجائر على أجساد المعتقلين، والحرق بالنار، والضرب بالقابلوات والمقابض الحديدية، وتقليع الأظافر، وتكسير عظام الأصابع والأيدي والأرجل، والتعليق بالسقف بشكل مقلوب، ووضع الملح في الجروح الغائرة في أجساد المعتقلين، وأساليب أخرى كثيرة. وما تنّور الزهراء الذي ظهر سنة 2008 عنا ببعيد فهو تنور يحرق الرأس المعلق به السني مقلوبا ثم يحرق الجسد تدريجيا().
هذا التعذيب الوحشي يمارسه الشيعي المنتمي فكريا للمذهب الشيعي والذي يتلقى التعليمات الفكرية من العمائم والساسة قادة الشيعة وأحزابهم وميلشياتهم، حيث يغسل ذهنه أولا بأن السنة نواصب وهابية كفار، أتباع يزيد وبني أمية، وأن السنة أعداء أهل البيت، وأن قتلهم قربة إلى الله، ونصرة للحسين، وهذا واضح من التثوير المستمر في المناسبات الشيعية وشعاراتها (يا لثارات الحسين، ويا لثارات الزهراء، لبيك يا حسين، وهكذا) يجيش الشيعي ويستنفر نفسيا، ولذلك فهو عندما يقتل السني يقتله بضمير مستريح؛ لأنه يحسب أن هذا جهادا؛ لذا يهب الشباب الشيعة للتطوع باللآلاف استجابة لأي فتوى من مرجع شيعي ضد السنة، تحت شتى المسميات: نصرة المذهب، وصد الوهابية، وصد النواصب، نصرة للحسين وفاطمة البتول، نصرة للكاظم، ونصرة للمهدي، ثم تأتي بعد ذلك الروايات التي تعبىء الجميع ضد الكل وهي روايات المهدي، ففلسفة التعليم الشيعي المعاصر أن الشيعة بأفعالهم يمهدون لظهور المهدي الذي سيكونون نواة جيشه الباطش بالعرب والنواصب والسنة.
وازداد الشيعة توحشاً عندما امتلكوا مالا ودعما أمريكيا بتصفية السنة في العراق، وسكوتا عربيا وإسلاميا عن جرائمهم، والتركيز على جرائم داعش دون غيرها بغباء الدول العربية والإسلامية المعهود، وهم لا يعون أن الدولة الصفوية عادت من جديد، بكل جرائمها وكشفت التقية عن وجوه التشيع، فالتشيع العربي والفارسي والأذري والأفغاني واحد.
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق