لا ريب أن التفاضل كما أنه واقع بين الصحابة واقع بين الصحابيات أيضاً، ولقد ثبت في الكتاب والسنة تفضيل نساء النبي صلى الله عليه وسلم عامة, وخديجة وعائشة خاصة وابنته فاطمة رضي الله عنهن على جميع الصحابيات.
قال تعالى: يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ [ الأحزاب: 32]. فهذا في تفضيل نساء النبي صلى الله عليه وسلم عامة, وأنه لا يلحقهن في فضلهن إن اتقين الله أحد من النساء فهن أكرم على الله من غيرهن.
وقال صلى الله عليه وسلم: ((خير نسائها مريم ابنة عمران، وخير نسائها خديجة)) (1) . فهذا في تفضيل خديجة رضي الله عنها.
وقال صلى الله عليه وسلم: ((فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على الطعام)) (2) .
وقال صلى الله عليه وسلم: ((يا فاطمة ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين، أو سيدة نساء هذه الأمة)) (3) .
وفي لفظ: ((أما ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة)) (4) .
وقد اشتهر الخلاف في خديجة وعائشة وفاطمة أيهن أفضل (5) رضي الله عنهن، قال ابن تيمية: (أفضل نساء هذه الأمة خديجة وعائشة وفاطمة، و في تفضيل بعضهن على بعض نزاع وتفصيل) (6) .
وإذا نظرنا في النصوص الواردة في تفضيل كل واحدة منهم – رضي الله عنهن – وجدنا أن اللفظ الوارد في تفضيل خديجة وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ((خير نسائها خديجة)) إنما يتضح تمام معناه بمعرفة الضمير على أي شيء يعود، وقد ورد ما يفسر ذلك صريحاً فقد قال صلى الله عليه وسلم: ((لقد فضلت خديجة على نساء أمتي)) (7) . وقال صلى الله عليه وسلم: ((أفضل نساء أهل الجنة خديجة, وفاطمة, ومريم, وآسية)) (8) . قال ابن حجر: (وهذا نص صريح لا يحتمل التأويل) (9) . وقال صلى الله عليه وسلم: ((حسبك من نساء العالمين: مريم ابنة عمران, وخديجة بنت خويلد, وفاطمة بنت محمد, وآسية امرأة فرعون)) (10) .
فهذا النص في خديجة رضي الله عنها أنها أفضل نساء الأمة.
ثم إن اللفظ الوارد في تفضيل فاطمة رضي الله عنها وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ((يا فاطمة ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين، أو سيدة نساء هذه الأمة)) وفي لفظ: ((سيدة نساء أهل الجنة)) فهو صريح لا لبس فيه ولا يحتمل التأويل، وهو نص في أنها أفضل نساء الأمة, وسيدة نساء أهل الجنة، وقد شاركت أمها في هذا التفضيل, فهي وأمها أفضل نساء أهل الجنة، وهي وأمها أفضل نساء الأمة، بهذا وردت النصوص.
وأما اللفظ الوارد في تفضيل عائشة رضي الله عنها وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ((فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على الطعام)) فهو لفظ لا يستلزم الأفضلية المطلقة كما يقول ابن حجر (11) وقال رحمه الله: (وليس فيه تصريح بأفضلية عائشة رضي الله عنها على غيرها، لأن فضل الثريد على غيره من الطعام إنما هو لما فيه من تيسير المؤنة وسهولة الإساغة، وكان أجل أطعمتهم يومئذ، وكل هذه الخصال لا تستلزم ثبوت الأفضلية له من كل جهة فقد يكون مفضولاً بالنسبة لغيره من جهات أخرى) (12) ومحصل القول في الحديث أنه دال على أفضلية عائشة إلا أنه لا يستلزم الأفضلية المطلقة, إذ هو مقيد بما ورد في خديجة وفاطمة رضي الله عنهما, فهو دال على تفضيل عائشة على النساء إلا خديجة وفاطمة.
وأما حديث عمرو بن العاص لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الناس أحب إليك؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ((عائشة)) (13) فإن ابن حبان رحمه الله دلل على تقييده في نسائه صلى الله عليه وسلم فقد عقد عنواناً في (صحيحه) فقال: (ذكر خبر وهم في تأويله من لم يحكم صناعة الحديث) وأخرج تحته حديث عمرو بلفظ: ((قلت: يا رسول الله أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة، فقلت: إني لست أعني النساء إنما أعني الرجال، فقال: أبو بكر أو قال أبوها)) ثم قال ابن حبان: (ذكر الخبر الدال على أن مخرج هذا السؤال معا كان عن أهله دون سائر النساء في فاطمة وغيرها) وأخرج بسنده عن أنس قال: ((سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أحب الناس إليك؟ قال: عائشة, قيل له: ليس عن أهلك نسأل، قال: فأبوها)) (14) . ثم هو محمول على إرادة الأحياء من زوجاته الموجودات حين السؤال، ثم هو وإن دل على عموم تفضيلها رضي الله عنها إلا أنه مقيد بالنص في خديجة وفاطمة والله أعلم.
فالنصوص دالة دلالة بينة لا تحتاج إلى تأويل على أن عائشة تلي خديجة وفاطمة في الفضل رضي الله عنهن، وعلى المخالف أن يأتي بالدليل على استثناء عائشة رضي الله عنها، من قوله صلى الله عليه وسلم في كل من خديجة وفاطمة أنها أفضل أهل الجنة وأنها سيدة نساء هذه الأمة.
على أن لعائشة رضي الله عنها من الفضائل كالعلم مثلاً ما تختص به خديجة وفاطمة رضي الله عنهن، وفضائلها رضي الله عنها لا تحصر، إلا أن هذا على نحو ما تقرر من أنه لا يلزم من ثبوت خصوصية شيء من الفضائل ثبوت الفضل المطلق.
هذا، والنص لم يرد بتفضيل خديجة أو فاطمة على عائشة لفظاً كما ورد بتفضيل أبي بكر على عمر مثلاً, ولولا ما حدث من الكلام في هذا الأمر واشتهار الخلاف فيه حتى أنه قد أُلف (15) فيه لكان الواجب الأخذ بالأصل وهو أن يسعنا ما ورد في الشرع من إقرار ما جاء من الفضل لخديجة، وما جاء منه لفاطمة، وما جاء منه لعائشة على نحو ما ورد في النصوص من غير تعرض للمفاضلة بينهن، فإن دعت حاجة شرعية لذكر المفاضلة بينهن ذكرت، والله أعلم.
وقد قامت بعض الأدلة غير التي ذكرت على تفضيل خديجة على عائشة منها حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، هذه خديجة قد أتت، معها إناء فيه إدام وطعام أو شراب، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني, وبشرها ببيت في الجنة من قصب, لا صخب فيه ولا نصب)) (16)
وفي حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً: ((يا عائشة هذا جبريل يقرئك السلام، فقلت: وعليه السلام ورحمة الله وبركاته, ترى ما لا أرى، تريد رسول الله صلى الله عليه وسلم)) (17) . فالسلام لخديجة رضي الله عنها كان من الرب سبحانه ومن جبريل، ولعائشة رضي الله عنها من جبريل فقط (18) . وفي المتفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت في خديجة للنبي صلى الله عليه وسلم: ((ما تذكر من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين, هلكت في الدهر, فقد أبدلك الله خيراً منها)) (19) . وورد في هذه القصة في غير الصحيحين بأسانيد حسان زيادة أن النبي صلى الله عليه وسلم غضب حتى أقسمت عائشة ألا تذكر خديجة بعد ذلك إلا بخير (20) , وفي رواية زيادة قوله صلى الله عليه وسلم: ((ما أبدلني الله خيراً منها)) وذكره صلى الله عليه وسلم جملة من فضائلها (21) . ولقد قالت عائشة رضي الله عنه: ((ما غرت على أحد من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة, وما رأيتها ولكن كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاء ثم يبعثها في صداق خديجة، فربما قلت له: كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة؟ فيقول: إنها كانت وكانت, وكان لي منها ولد)) (22) .
وقد قال ابن العربي في خديجة رضي الله عنها: (وهي أفضل نساء الأمة من غير خلاف) (23) . قال ابن حجر: (رد بأن الخلاف ثابت قديماً وإن كان الراجح أفضلية خديجة) (24) . وعائشة رضي الله عنها أفضل زوجات النبي صلى الله عليه وسلم بعد خديجة، لأنه لم يقيد من عموم تفضيلها على النساء إلا خديجة وفاطمة بالنص, ولقد ورد فيما لا يحصى من النصوص ما يدل على تفضيلها رضي الله عنها على بقية زوجاته صلى الله عليه وسلم، منها حديث: ((كان الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة، قالت عائشة: فاجتمع صواحبي إلى أم سلمة، فقلن: يا أم سلمة، والله إن الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة، وإنا نريد الخير كما تريده عائشة، فمري رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأمر الناس: أن يهدوا إليه حيث كان، أو حيث دار، قالت: فذكرت ذلك أم سلمة للنبي صلى الله عليه وسلم، قالت: فأعرض عني، فلما عاد إلي ذكرت له ذلك فأعرض عني، فلما كان في الثالثة ذكرت له فقال: يا أم سلمة لا تؤذيني في عائشة، فإنه والله ما نزل علي الوحي وأنا في لحاف امرأة منكن غيرها)) (25) وفي رواية: ((أن الناس كانوا يتحرون بهداياهم يوم عائشة يبتغون بذلك مرضاة رسول الله)) (26) . وحديث: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان في مرضه جعل يدور في نسائه ويقول: أين أنا غداً؟ حرصاً على بيت عائشة، قالت عائشة: فلما كان يومي سكن)) (27) .
وروى أن زياداً بعث إلى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بمال وفضل عائشة فجعل مبعوثه يعتذر إلى أم سلمة فقالت: ((يعتذر إلينا زياد فقد كان يفضلها من كان أعظم علينا تفضيلاً من زياد رسول الله صلى الله عليه وسلم)) (28) .
ثم زوجات النبي صلى الله عليه وسلم أفضل نساء الأمة لقوله تعالى: يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ وإنما خصت فاطمة رضي الله عنها من عموم الآية بقوله صلى الله عليه وسلم فيها أنها سيدة نساء الأمة (29) . وقد قيل إن الإجماع انعقد على أفضلية فاطمة (30) .
والحاصل أن فاطمة سيدة نساء هذه الأمة، ونساء النبي صلى الله عليه وسلم أفضل المؤمنات على الإطلاق وأفضلهن خديجة وقد شاركتها ابنتها فاطمة في كونهما أفضل نساء الأمة، ثم بعد خديجة عائشة ثم بقية أزواجه صلى الله عليه وسلم بعد عائشة، هذا وفي حديث عائشة رضي الله عنها الطويل الذي فيه ما وقع لزينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم من الإيذاء والمتاعب لما خرجت من مكة بعد قدوم أبيها صلى الله عليه وسلم المدينة قال صلى الله عليه وسلم في زينب: ((هي أفضل بناتي، أصيبت في)) (31) .
وهذا يشكل ما ورد في فاطمة رضي الله عنها من التفضيل لأنه يدل على أن زينب أفضل من فاطمة رضي الله عنهما.
وقد أجاب الطحاوي عن هذا الإشكال بأن ذلك كان متقدماً ثم وهب الله فاطمة من الفضائل والأحوال الشريفة ما لم يشاركها فيه أحد من نساء الأمة، قال: (وكانت – (يعني فاطمة) – قبل ذلك الوقت الذي استحقت زينب ما استحقت من الفضيلة صغيرة غير بالغة مما لا يجري لها ثواب بطاعتها, ولا عقاب بخلافها) (32) .
وذكر ابن حجر وجها آخر من الجواب وهو احتمال تقدير (من) فيكون المراد من أفضل بناتي (33) .. (34)
http://www.dorar.net/enc/aqadia/3719
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق