السنة النبوية وحيٌ من الله
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله .. وبعد.
تحتل السنة النبوية المطهرة المكانة المرموقة في الدين الإسلامي بوصفها المصدر الثاني للتشريع الإسلامي بعد القرآن الكريم.. ثم لكونها الجزء الثاني من أجزاء الوحي .. بعد القرآن الكريم.
ونظرا لأن السنة وردت على لسان النبي صلى الله عليه وسلم فقد ظن بعض الناس أنها ليست وحيًا.. بل وظن أعداء الإسلام أنهم سيجدون فيها بغيتهم حينما يتوجهون إليها بالطعن.. وأنهم سيحصلون على مرادهم.
ولذلك بدأوا الطعن فيها من أوجه كثيرة .. والذي يهمنا الآن أن نبين أنها جزء لا يتجزأ من الوحي الإلهي للنبي صلى الله عليه وسلم.
وقد رأيتُ أن أضع هذا الأمر على عدة فصول بإذن الله عز وجل.. حسبما يتيسر لي كتابته... وربما أخرتُ بعض ما حقه التقديم نظرًا لتيسر الكتابة لا أكثر.
وسأركز كلامي كله هنا على مسألة (السنة النبوية وحي من الله) ومرادي بيان الأدلة الشرعية من القرآن والسنة ودلالة العقول على كونها وحي من الله عز وجل.. أوحاها الله إلى رسوله كما أوحى إليه القرآن الكريم.. وأسأل الله عز وجل التوفيق.
وأبدأ الآن في بيان المقصود بعون الله المعبود
03-17-2006الفرصة الأخيرة
إيجاب طاعته صلى الله عليه وسلم ودلالة ذلك على أن السنة وحيٌ من الله
وقد أوجب الله طاعته صلى الله عليه وسلم في أماكن عديدة.. وجعل طاعته من طاعة الله عز وجل.. فقال سبحانه وتعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الكَافِرِينَ} [آل عمران: 32].
وقال: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران :132].
وقال: {مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} [النساء :80]..
إلى آخر الآيات الدالة على ذلك.
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري برقم (7137) ومسلم برقم (1835) من حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أطاعني فقد أطاع الله. ومن عصاني فقد عصى الله»...
إلى آخر الأحاديث الدالة على ذلك.
وقد عُلِم أن من طبيعة الإنسان الخطأ والنسيان.. وفي الآية الكريمة يقول الله عز وجل: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب :72]...
وفي الحديث الذي صححه الإمام الترمذي ورواه في (سننه) برقم 3076 من قول النبي صلى الله عليه وسلم: «وَنُسِّيَ آدَمُ فَنُسِّيَتْ ذُرِّيَّتُه».
فإذا كان الأصل في الإنسان الخطأ والنسيان.. فهو بحاجةٍ لمن يُقَوِّمه ويُذكِّره دائمًا.. ومثله لا يصلح لأن يكون معصومًا دائمًا وأبدًا بحيث يطلق الله عز وجل الأمر بطاعته على الدوام.. ويجعل طاعته من طاعة الله .. كما فعل مع النبي صلى الله عليه وسلم .. فاستلزم العقل أن يكون الله عز وجل قد تكفَّل بعصمة النبي صلى الله عليه وسلم في أمور الدين والشريعة كلها.. ولا يكون ذلك إلا بوحيٍ من الله عز وجل يوحيه لنبيه صلى الله عليه وسلم..
ولذا قال الإمام ابن كثير رحمة الله عليه: «يخبر تعالى عن عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم بأنه من أطاعه فقد أطاع الله ومن عصاه فقد عصى الله وما ذاك إلا لأنه ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى». «تفسير ابن كثير 2: 363 طبعة دار طيبة للنشر والتوزيع بالرياض».
وقال الإمام ابن كثير أيضًا في موضع آخر من كتابه 6: 199: «وقد عُلِم أنه لا أحد أعلم بالله ولا أخبر به من عبده ورسوله محمد صلوات الله وسلامه على سيد ولد آدم على الإطلاق. في الدنيا والآخرة. الذي لا ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحي يوحى. فما قاله فهو حق. وما أخبر به فهو صدق. وهو الإمام المحكم الذي إذا تنازع الناس في شيء. وجب ردّ نزاعهم إليه. فما يوافق أقواله. وأفعاله فهو الحق. وما يخالفها فهو مردود على قائله وفاعله. كائنا من كان. قال الله تعالى: { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } [ النساء : 59]».
وفي هذا نكتة لطيفة ترد على الذين يقولون إن طاعة الرسول تعني الشرك بالله.. لأن الله عز وجل هنا قد رد عليهم ردًا بليغًا فجعل طاعة الرسول من طاعته.. فالطاعة هنا لله.. وليست للرسول صلى الله عليه وسلم.. لأن الرسول لم يكن ينطق إلا بوحي من الله عز وجل كما في قوله عز وجل: {وما ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحي يُوحَى}.. فمن أراد طاعة الله عز وجل فليطع الرسول صلى الله عليه وسلم كما مضى صريحًا في قوله سبحانه وتعالى: {من يُطِعِ الرسولَ فقد أطاعَ الله}.
قال الإمام الشافعي رحمه في كتابه «الرسالة: 21»: «ما سَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مما ليس لله فيه نصُّ حُكْمٍ وقد فرض الله في كتابه طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم والانتهاء إلى حكمه فمَن قبل عن رسول الله فبِفَرْضِ الله قَبِل».
فُعِلَم من هذا أن الطاعة في الحقيقة لله عز وجل لا للرسول صلى الله عليه وسلم.. لأن الله سبحانه هو الذي أمرنا بطاعة نبيه صلى الله عليه وسلم.. فلا يصح بعد ذلك أن يقال إن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم تعني الشرك بالله.. لأن الذي أمر بهذه الطاعة هو الله عز وجل نفسه.. والله لا يأمر أبدًا بالإشراك به .. كما قال سبحانه وتعالى: {وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الكُفْرَ} [الزمر: 7].. وقال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48].
فهو سبحانه وتعالى لا يرضى الكفر لعباده.. ولا يغفر لمن أشرك به.. فكيف يقال بإن طاعة الرسول شركٌ بالله وقد أمر الله بها؟! هذا لا يقوله عاقلٌ أبدًا.. سبحانك هذا بهتانٌ عظيم.
بل أمر الله عز وجل بطاعة نبيه صلى الله عليه وسلم .. وأوجب على المسلمين طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم.. وجعل طاعة الرسول من طاعته سبحانه.. فمن أطاع الرسول فقد أطاع الله .. لأن الرسول لا ينطق بشيءٍ من رأيه.. وإنما ينطق بوحي.. قرآنًا وسنة.
03-18-2006ابو مارية القرشي
تسجيل حضور وإعجاب أخي الحبيب الفرصة الأخيرة .
هل من الممكن عدم التعجل في تنزيل الحلقات حتى تعطي لزوار المنتدى الفرصة للاطلاع على حلقاتكم بتأن.
03-18-2006الفرصة الأخيرة
شرفني مروركم أخي الحبيب .. وسعدت به .. ولكم ما شئتم إن شاء الله :emrose:
03-18-2006مهموم
اخي الفرصة الاخيرة ماذا لو افترضنا ان هناك حديث نعتبره صحيحا ثم ثبت خطئه ؟ اليس هذا ادعاء انه وحي ثم غير ذلك ...... هذا خطير جدا
03-19-2006ناصر التوحيد
http://70.84.212.52/vb/showthread.php?p=35918#post35918
دلالة قوله تعالى: {إن هو إلا وحيٌ يوحى}
يقول الله عز وجل في بداية سورة {النجم}: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم: 1- 4].
وقوله: (إن هو) يعود على (وما ينطق) .. فهذا الذي ينطق به النبي صلى الله عليه وسلم (إن هو إلا وحي يوحى) .. قرآنًا وسنةً .. قولا وعملا.. فالكل وحيٌ من الله عز وجل يوحيه الله عز وجل إليه.
يقول الإمام ابن كثير رحمه الله: «والغاوي: هو العالم بالحق العادل عنه قصدًا إلى غيره ، فنزه الله سبحانه وتعالى رسوله وشَرْعَه عن مشابهة أهل الضلال كالنصارى وطرائق اليهود ، وعن علم الشيء وكتمانه والعمل بخلافه ، بل هو صلوات الله وسلامه عليه ، وما بعثه الله به من الشرع العظيم في غاية الاستقامة والاعتدال والسداد؛ ولهذا قال: { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى } أي: ما يقول قولا عن هوى وغرض ، { إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى } أي: إنما يقول ما أمر به ، يبلغه إلى الناس كاملا موفَّرًا من غير زيادة ولا نقصان»«تفسير ابن كثير 7: 443 طبعة دار طيبة للنشر والتوزيع بالرياض».
ثم أوردَ الإمامُ ابن كثير رحمه الله الحديث الذي رواه الإمام أحمد في «المسند» (5 : 257) وقال الإمام الهيثمي في «مَجْمَع الزوائد» (10: 381): «رجال أحمد رجال الصحيح غير عبد الرحمن بن ميسرة وهو ثقة» .. وهو حديث أبي أمامة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ليدخلنّ الجنة بشفاعة رجل ليس بنبي مثلُ الحيين -أو: مثل أحد الحيين-: رَبِيعة ومُضَر». فقال رجل: يا رسول الله. أو ما ربيعة من مضر؟ قال: «إنما أقول ما أقول».
وحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه. فنهتني قريش فقالوا: إنك تكتب كل شيء تسمعه من رسول الله ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الغضب. فأمسكتُ عن الكتاب. فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: «اكتب ، فوالذي نفسي بيده ، ما خرج مني إلا حق». وهو في «المسند» (2: 162) و«سنن أبي داود» (برقم: 3646).
وعن أبي هُرَيرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما أخبرتكم أنه الذي من عند الله ، فهو الذي لا شَكّ فيه». رواه البزار (برقم: 203 - كشف الأستار) وقال الهيثمي في «الْمَجْمع» (1/179): «فيه أحمد بن منصور الرمادي وهو ثقة ، وفيه كلام لا يضر وبقية رجاله رجال الصحيح ، وعبد الله بن صالح مختلف فيه».
وعن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا أقول إلا حقا». قال بعض أصحابه: فإنك تداعبنا يا رسول الله؟ قال: «إني لا أقول إلا حقا» رواه أحمد في «المسند» (2: 340) ورواه الترمذي (1990) وقال: «هذا حديث حسن صحيح».
والمقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن ينطق إلا بوحي في كل ما ينطق به.. قرآنًا وسنةً.. قولاً وعملاً.. ولذا نرى في «تفسير القرطبي 17: 85» : «ما يخرج نطقه عن رأيه. إنما هو بوحي من الله عز وجل. لأن بعده: (إن هو إلا وحي يوحى)».
بل قال القرطبي: «قد يحتج بهذه الآية مَن لا يُجَوِّز لرسول الله صلى الله عليه وسلم الاجتهاد في الحوادث.
وفيها أيضا دلالة على أن السنة كالوحي المنزل في العمل».
وستأتي إن شاء الله مناقشة مسألة الاجتهاد في الحوادث المذكورة في كلام القرطبي رحمه الله.
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة الفرصة الأخيرة
والمقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن ينطق إلا بوحي في كل ما ينطق به.. قرآنًا وسنةً.. قولاً وعملاً.. ولذا نرى في «تفسير القرطبي 17: 85» : «ما يخرج نطقه عن رأيه. إنما هو بوحي من الله عز وجل. لأن بعده: (إن هو إلا وحي يوحى)».
بل قال القرطبي: «قد يحتج بهذه الآية مَن لا يُجَوِّز لرسول الله صلى الله عليه وسلم الاجتهاد في الحوادث.
وفيها أيضا دلالة على أن السنة كالوحي المنزل في العمل».
وستأتي إن شاء الله مناقشة مسألة الاجتهاد في الحوادث المذكورة في كلام القرطبي رحمه الله.
يتبع...وهذا الأمر مبنيٌّ على مسألة: اجتهادات النبي صلى الله عليه وسلم هل هي وحي كلها أم لا؟
وتفصيل ذلك:
أن الاجتهادات التي في مجال الشريعة والدين:
فهذه كلها وحي من الله عز وجل.. وهي على أقسام..
ـ فمنها ما نزل به القرآن الكريم.
ـ ومنها ما سُئِل عنه صلى الله عليه وسلم فنزل الوحي بالجواب مباشرة:
ومن ذلك حديث: صَفْوَانِ بْنِ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ أَنَّ يَعْلَى كَانَ يَقُولُ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَيْتَنِي أَرَى نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ يُنْزَلُ عَلَيْهِ فَلَمَّا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجِعْرَانَةِ وَعَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَوْبٌ قَدْ أُظِلَّ بِهِ عَلَيْهِ مَعَهُ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فِيهِمْ عُمَرُ إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ عَلَيْهِ جُبَّةُ صُوفٍ مُتَضَمِّخٌ بِطِيبٍ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تَرَى فِي رَجُلٍ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ فِي جُبَّةٍ بَعْدَ مَا تَضَمَّخَ بِطِيبٍ فَنَظَرَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاعَةً ثُمَّ سَكَتَ فَجَاءَهُ الْوَحْيُ فَأَشَارَ عُمَرُ بِيَدِهِ إِلَى يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ تَعَالَ فَجَاءَ يَعْلَى فَأَدْخَلَ رَأْسَهُ فَإِذَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحْمَرُّ الْوَجْهِ يَغِطُّ سَاعَةً ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ فَقَالَ أَيْنَ الَّذِي سَأَلَنِي عَنْ الْعُمْرَةِ آنِفًا فَالْتُمِسَ الرَّجُلُ فَجِيءَ بِهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّا الطِّيبُ الَّذِي بِكَ فَاغْسِلْهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَأَمَّا الْجُبَّةُ فَانْزِعْهَا ثُمَّ اصْنَعْ فِي عُمْرَتِكَ مَا تَصْنَعُ فِي حَجِّكَ
رواه البخاري ومسلم
ـ ومنها ما أجاب فيه النبي صلى الله عليه وسلم قبل نزول الوحي عليه.. فأقرَّه الوحي... أو نزل بتغيير حكمه.. كما في قصة أسرى بدر وغيرها.
فالحكم الأخير هنا بعد الإقرار أو التصحيح إنما هو للوحي.. فهذا أيضًا من الوحي.
ومن هنا لا إشكال أبدًا في فهم تحريم النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه شيئًا ثم نزول الوحي بالتصحيح كما في قصته مع أزواجه.. وكذلك لا إشكال في حكمه في أسارى بدر ثم تصحيح الوحي له.. لأن حكمه الأول لم يكن وحيًا.. حتى يقال: أخطأ الوحي كما قاله بعضهم.. بل الوحي هو آخر الأمرين.
فالحكم الأول كان اجتهادًا من النبي صلى الله عليه وسلم .. في واقعةٍ لم يسبق فيها الوحي.. ثم نزل الوحي بالتصحيح.. فالحكم الأول لم يكن وحيًا.. كما أن الحكم الأخير هو حكم الوحي .. لأنه هو الذي نزل به.. وهو الذي صحَّحَهُ.
فدلَّ هذا كله على أن الأفعال والاجتهادات التي صدرت من النبي صلى الله عليه وسلم في مجال الشريعة وحيٌ من الله عز وجل.
ـ بخلاف أفعاله وأقواله في مجال الدنيا فهو فيها كغيره من البشر.. وهذه لم يُنْقَل لنا منها إلا أقل من النادر جدًا.. ولا أعرف مما نُقِل من أفعاله وأقواله صلى الله عليه وسلم في مجال الدنيا سوى واقعة تأبير النخل.. حيثُ أرشدهم إلى ترك تأبيره فلم يُنْتِج فقال لهم: أنتم أعلم بأمور دنياكم.
والحديث واضح في هذا الأمر ونصه:
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِقَوْمٍ يُلَقِّحُونَ فَقَالَ لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا لَصَلُحَ قَالَ فَخَرَجَ شِيصًا فَمَرَّ بِهِمْ فَقَالَ مَا لِنَخْلِكُمْ قَالُوا قُلْتَ كَذَا وَكَذَا قَالَ أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ
رواه مسلم.
وفي رواية ابن ماجة لهذا الحديث قال لهم صلى الله عليه وسلم في هذه القصة: (إِنْ كَانَ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ دُنْيَاكُمْ فَشَأْنُكُمْ بِهِ وَإِنْ كَانَ مِنْ أُمُورِ دِينِكُمْ فَإِلَيَّ).
وهذا لفظ واضح وصريح جدًا في التفريق بين أمور الشريعة وأمور الدنيا.. وأنه في أمور الدنيا كغيره صلى الله عليه وسلم.. بخلاف أمور الشريعة فلا ينطق فيها إلا بوحي.. إن هو إلا وحي يوحى.. سواء نزل الوحي أول الأمر فعمل به.. أو قال برأيه ثم أقَرَّهُ الوحي أو نزل بتغيير حكمه.. فهذا كله وحي.
يتبع....
04-13-2006ابو مارية القرشي
سددك الله وفقك يا حبيب، ولعل ما سلف بيننا من إخاءٍ ومحبة يسمح لي بهذا التعليق المقتضب إثراءً للموضوع وتوسيعاً لآفاقه إن شاء الله.
اقتباس:
خلاف أفعاله وأقواله في مجال الدنيا فهو فيها كغيره من البشر.. وهذه لم يُنْقَل لنا منها إلا أقل من النادر جدًا.. ولا أعرف مما نُقِل من أفعاله وأقواله صلى الله عليه وسلم في مجال الدنيا سوى واقعة تأبير النخل.. حيثُ أرشدهم إلى ترك تأبيره فلم يُنْتِج فقال لهم: أنتم أعلم بأمور دنياكم.من الأمثلة الأخرى يا أخي الحبيب ما ورد في السيرة من شأن القتال وتنظيم صفوف الجيش وغيرها من مكائد الحرب ، والكل يذكر قصة الحباب بن المنذر رضي الله عنه يوم بدر لما سأل عن المنزل الذي نزلوه هنالك:
(( يا رسول الله أرأيت هذا المنزل أمنزلا أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال بل هو الرأي والحرب والمكيدة قال يا رسول الله فان هذا ليس بمنزل فأمض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله ثم نغور ما وراءه من القلب ثم نبني عليه حوضا فنملؤه ماء ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد اشرت بالرأي ))(البداية والنهاية: 267\3)
==========
دلالة قوله تعالى:
{وَأَنزلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}
[سورة النحل: 44]
و((الذِّكْر)) المقصود في الآية الكريمة هو القرآن الكريم.. أنزله الله عز وجل على نبيِّه (ص) وطلبَ منه تبليغه للناس وتبيينه لهم عند إبلاغهم إيَّاه.. ولو كان المراد مجرد التبليغ لم يكن ليأمره ببيانه.. لأن التبليغ غير البيان.. فالتبليغ كالبريد تماما.. رجل ينقل رسالة من مكان إلى مكان.. ولا شأن له بما في داخل الخطاب.. ولا يجلس للمرسل إليه يُفسر ويبين له ما بداخل الرسالة.. وإنما يبلغه إياها .. ثم ينصرف... ويقوم المرسل إليه بعد ذلك بفتح الخطاب الذي أعطاه إياه ساعي البريد.. والاطلاع على ما فيه.. وفهمه.. فإن عجز عن فهم بعض ما فيه استدعى من يقدر على ذلك.. أو اتصل بالراسل ليستفهم منه.
وهذا شبيهٌ بمن تسلم خطابا من ساعي البريد وهو لا يجيد القراءة.. فربما طلب من الساعي قراءة الخطاب له.. وربما أخذ الخطاب وذهب لبعض الجيران المجيدين للقراءة ليفسروا له المكتوب... فقراءة الجيران له تقوم مقام البيان.. وهي كما نرى في هذا المثال العامي البسيط جدا غير التبليغ.
الآية التي معنا في هذه المرة تتحدث عن بيان قام به النبي (ص) يأمره الله عز وجل أن يبين القرآن للناس.. والمقصود أن يبين لهم معاني القرآن.. وأحكامه وحدوده.. وحلاله وحرامه.. وغير ذلك من التشريعات والأحكام الموجودة بالقرآن الكريم.. لأنه أعلم الخلق به.. فعليه نزل.. وهو وحده الذي التقى بأمين الوحي جبريل عليه السلام.. وفهم منه المعنى المراد من آيات الله عز وجل.. فهو وحده القادر على فهم القرآن الكريم.. وبيانه وحده أتم البيان وأكمله.
وبيان النبي (ص) هو سُنَّتُه.. فهي التي بيَّن فيها النبي (ص) القرآن .. وفسَّرَه لهم.. بأحسن تفسير .. وأكمل بيان.
قال الطبري في (تفسير) 1: 73 – 75:
((قال الله جل ذكره وتقدست أسماؤه، لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: { وَأَنزلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نزلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } [سورة النحل: 44]، وقال أيضًا جل ذكره: { وَمَا أَنزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [سورة النحل: 64]، وقال: {هُوَ الَّذِي أَنزلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الألْبَابِ } [سورة آل عمران: 7].
فقد تبين ببيان الله جلّ ذكره:
أنّ مما أنزل الله من القرآن على نبيه صلى الله عليه وسلم، ما لا يُوصل إلى علم تأويله إلا ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم. وذلك تأويل جميع ما فيه: من وجوه أمره -واجبه ونَدْبِه وإرْشاده-، وصنوفِ نَهيه، ووظائف حقوقه وحدوده، ومبالغ فرائضه، ومقادير اللازم بعضَ خَلْقه لبعض، وما أشبه ذلك من أحكام آية، التي لم يُدرَك علمُها إلا ببيان رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمَّته. وهذا وجهٌ لا يجوز لأحد القول فيه، إلا ببيان رسول الله صلى الله عليه وسلم له تأويلَه بنصٍّ منه عليه، أو بدلالة قد نصَبها، دالَّةٍ أمَّتَه على تأويله.
وأنّ منه ما لا يعلم تأويله إلا الله الواحد القهار. وذلك ما فيه من الخبر عن آجال حادثة، وأوقات آتية، كوقت قيام الساعة، والنفخ في الصور، ونزول عيسى بن مريم، وما أشبه ذلك: فإن تلك أوقاتٌ لا يعلم أحدٌ حدودَها، ولا يعرف أحدٌ من تأويلها إلا الخبرَ بأشراطها، لاستئثار الله بعلم ذلك على خلقه. وبذلك أنزل ربُّنا محكم كتابه فقال: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } [سورة الأعراف: 187]. وكان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إذا ذكر شيئًا من ذلك، لم يدلّ عليه إلا بأشراطه دون تحديده بوقته كالذي روى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لأصحابه، إذ ذكر الدجّال: إنْْ يخرجْ وأنا فيكُم، فأنا حَجِيجُه، وإن يخرجْ بعدي، فالله خليفتي عليكم" وما أشبه ذلك من الأخبار -التي يطُول باستيعابها الكتاب- الدالّةِ على أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن عنده علمُ أوقاتِ شيء منه بمقادير السِّنين والأيام، وأن الله جل ثناؤه إنما كان عرَّفه مجيئه بأشراطه، ووقَّته بأدلته.
وأن منه ما يعلم تأويلَه كلُّ ذي علم باللسان الذي نزل به القرآن. وذلك: إقامةُ إعرابه، ومعرفةُ المسمَّيات بأسمائها اللازمة غيرِ المشترَك فيها، والموصوفات بصفاتها الخاصة دون ما سواها، فإنّ ذلك لاَ يجهله أحدٌ منهم. وذلك كسامعٍ منهم لو سمع تاليًا يتلو: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لاَ يَشْعُرُونَ } [سورة البقرة: 11، 12]، لم يجهلْ أنّ معنى الإفساد هو ما ينبغي تركهُ مما هو مضرَّة، وأن الإصلاحَ هو ما ينبغي فِعله مما فعلهُ منفعةٌ، وإنْ جَهِل المعانيَ التي جعلها الله إفسادًا، والمعانيَ التي جَعلها الله إصْلاحًا. فالذي يعلمه ذو اللسان -الذي بلسانه نزل القرآنُ- من تأويل القرآن، هو ما وصفتُ: مِنْ معرفة أعيان المسمَّيات بأسمائها اللازمة غيرِ المشترَك فيها، والموصوفات بصفاتها الخاصة، دون الواجب من أحكامها وصفاتها وهيآتها التي خص الله بعلمها نبيَّه صلى الله عليه وسلم، فلا يُدرَك علمُهُ إلا ببيانِه، دون ما استأثر الله بعلمه دون خلقه)).
وقال الطبري 1: 89:
((إنّ من تأويل القرآن ما لا يُدرك علمُه إلا ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم. وذلك تفصيل جُمَلِ ما في آيه من أمر الله ونَهْيه وحلاله وحرامه، وحدوده وفرائضه، وسائر معاني شرائع دينه، الذي هو مجمَلٌ في ظاهر التنزيل، وبالعباد إلى تفسيره الحاجة - لا يدرَك علمُ تأويله إلا ببيان من عند الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وما أشبه ذلك مما تحويه آيُ القرآن، من سائر حُكْمه الذي جعلَ الله بيانه لخلقه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلا يعلم أحدٌ من خلق الله تأويل ذلك إلا ببيان الرّسول صلى الله عليه وسلم، ولا يعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بتعليم الله إيَّاه ذلك بوحْيه إليه، إما مع جبريل، أو مع من شاء من رُسله إليه...
ومن آي القرآن ما قد ذكرنا أن الله جل ثناؤه استأثرَ بعلم تأويله، فلم يُطلعْ على علمه مَلَكًا مقربًا ولا نبيًا مرسلا ولكنهم يؤمنون بأنه من عنده، وأنه لا يعلم تأويله إلا الله.
فأما ما لا بُدَّ للعباد من علم تأويله، فقد بيّن لهم نبيهم صلى الله عليه وسلم ببيان الله ذلك له بوحيه مع جبريل. وذلك هو المعنى الذي أمره الله ببيانه لهم فقال له جل ذكره: { وَأَنزلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } [سورة النحل: 44].
ولو كان تأويل الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم -أنه كان لا يفسر من القرآن شيئًا إلا آيًا بعَددٍ- هو ما يسبقُ إليه أوهامُ أهل الغياء، من أنه لم يكن يفسّر من القرآن إلا القليل مِن آيِهِ واليسير مِن حروفه، كان إنما أُنزلَ إليه صلى الله عليه وسلم الذكرُ ليَترك للناس بيانَ ما أنزل إليهم، لا ليبين لهم ما أُنزل إليهم)).
وقال الإمام ابن كثير في (تفسيره) 1: 4
((فإن قال قائل: فما أحسن طرق التفسير؟ فالجواب أن أصح الطرق في ذلك أن يفسر القرآن بالقرآن فما أجمل في مكان فإنه قد بسط في موضع آخر فإن أعياك ذلك فعليك بالسنة فإنها شارحة للقرآن وموضحة له بل قد قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله تعالى كل ما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مما فهمه من القرآن قال الله تعالى: {إِنَّا أنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيماً} [النساء :105].
وقال تعالى: { وَأَنزلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نزلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } [سورة النحل: 44].
وقال تعالى: { وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النحل :64].
ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه) يعني: السنة. والسنة أيضا تنزل عليه بالوحي كما ينزل القرآن إلا أنها لا تتلى كما يُتْلَى القرآن.
وقد استدل الإمام الشافعي رحمه الله تعالى [الرسالة 85] وغيره من الأئمة على ذلك بأدلة كثيرة ليس هذا موضع ذلك)).
وقول الشافعي السابق: ((كل ما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مما فهمه من القرآن)) يعني به: ما لم يرد في القرآن الكريم ولم ينزل به الوحي قبل فِعْله.. فهذا أيضا في الحقيقة مأخوذٌ من القرآن بالدلالة والإشارة.. فهو بهذا مما فهمه النبي صلى الله عليه وسلم من القرآن.. وليس مخالفا لكتاب الله.. وهذا القسم وإن لم ينزل به الوحي قبل فِعْله إلا أنه صار في حكم الوحي بإقرار الوحي له.. ولو كان خطأ لنزل الوحي بتصحيحه.. كما حدث ذلك في واقعة أسارى بدر وغيرها.. بخلاف واقعة تأبير النخل التي أشرت إليها في مقال سابق فهي من أمور الدنيا.. ولذلك لم ينزل الوحي بتصحيح حكم النبي صلى الله عليه وسلم فيها.
وقال القرطبي في تفسيره 10: 98:
(({ وأنزلنا إليك الذكر } يعني القرآن { لتبين للناس ما نزل إليهم } في هذا الكتاب من الأحكام والوعد والوعيد بقولك وفعلك فالرسول صلى الله عليه وسلم مبين عن الله عز وجل مراده مما أجمله في كتابه من أحكام الصلاة والزكاة وغير ذلك مما لم يفصله وقد تقدم هذا المعنى مستوفى في مقدمة الكتاب والحمد لله)).
وقال الشوكاني في (فتح القدير) 2: 164:
((قوله : { ما فرطنا في الكتاب من شيء } أي ما أغفلنا عنه ولا ضيعنا فيه من شيء والمراد بالكتاب : اللوح المحفوظ فإن الله أثبت فيه جميع الحوادث وقيل إن المراد به القرآن : أي ما تركنا في القرآن من شيء من أمر الدين إما تفصيلا أو إجمالا ومثله قوله تعالى : { ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء } وقال : { وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم } ومن جملة ما أجمله في الكتاب العزيز قوله : { ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } فأمر في هذه الآية باتباع ما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فكل حكم سنه الرسول لأمته قد ذكره الله سبحانه في كتابه العزيز بهذه الآية وبنحو قوله تعالى : { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني } وبقوله : { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة } ومن في { من شيء } مزيدة للاستغراق قوله : { ثم إلى ربهم يحشرون })).
وقال الشوكاني أيضا 3: 234:
(({ وأنزلنا إليك الذكر } أي القرآن. ثم بَيَّنَ الغاية المطلوبة من الإنزال فقال : { لتبين للناس } جميعا { ما نزل إليهم } في هذا الذكر من الأحكام الشرعية والوعد والوعيد {ولعلهم يتفكرون } أي إرادة أن يتأملوا ويعملوا أفكارهم فيتعظوا)).
وقال البغوي في تفسيره 1: 21:
(({ وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم } أراد بالذكر الوحي وكان النبي صلى الله عليه مبينا للوحي وبيان الكتاب يطلب من السنة)).
وفي (الوجيز) للواحدي 607:
(({ وأنزلنا إليك الذكر } القرآن { لتبين للناس ما نزل إليهم } في هذا الكتاب من الحلال والحرام والوعد والوعيد)).
وقال ابن الجوزي في (زاد المسير) 4: 450:
((قوله تعالى وأنزلنا إليك الذكر وهو القرآن بإجماع المفسرين لتبين للناس ما نزل إليهم فيه من حلال وحرام ووعد ووعيد)).
ونجد معاني البيان في (مفردات القرآن للراغب الأصفهاني)170:
((بان - يقال : بان واستبان وتبين نحو عجل واستعجل وتعجل وقد بينته . قال الله سبحانه : { وقد تبين لكم من مساكنهم } [ العنكبوت / 38 ] { وتبين لكم كيف فعلنا بهم } [ إبراهيم / 45 ] و { لتستبين سبيل المجرمين } [ الأنعام / 55 ] { قد تبين الرشد من الغي } [ البقرة / 256 ] { قد بينا لكم الآيات } [ آل عمران / 118 ] و { لأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه } [ الزخرف / 63 ] { وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم } [ النحل / 44 ] { وليبين لهم الذي يختلفون فيه } [ النحل / 39 ] { فيه آيات بينات } [ آل عمران / 97 ] وقال : { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات } [ البقرة / 185 ] . ويقال : آية مبينة اعتبارا بمن بينها وآية مبينة اعتبارا بنفسها وآيات مبينات ومبينات.
والبينة : الدلالة الواضحة عقلية كانت أو محسوسة وسمي الشاهدان بينة لقوله عليه السلام : ( البينة على المدعي واليمين على من أنكر ) ( الحديث أخرجه البيهقي 8 / 279 والدارقطني 3 / 111 ولمسلم : ( البينة على المدعي ) وليس فيه : ( واليمين . . . ) ( انظر : صحيح مسلم رقم 1171 ) وقال النووي في أربعينه : حديث حسن رواه البيهقي وغيره هكذا وبعضه في الصحيحين وأخرجه الدارقطني بلفظ : ( البينة على المدعي واليمين على من أنكر إلا في القسامة ) وفيه ضعف وله عدة طرق متعددة لكنها ضعيفة انظر : كشف الخفاء 1 / 289 ) وقال سبحانه : { أفمن كان على بينة من ربه } [ هود / 17 ] وقال : {ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة } [الأنفال / 42 ] { جاءتهم رسلهم بالبينات} [الروم / 9 ]
والبيان : الكشف عن الشيء وهو أعلم من النطق لأن النطق مختص بالإنسان ويسمى ما بين به بيانا . قال بعضهم : البيان على ضربين :
أحدهما بالتسخير وهو الأشياء التي تدل على حال من الأحوال من آثار الصنعة
والثاني بالاختبار وذلك إما يكون نطقا أو كتابة أو إشارة
فمما هو بيان الحال قوله : { ولا يصدنكم الشيطان إنه لكم عدو مبين } [ الزخرف / 62 ] أي : كونه عدوا بين في الحال . { تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين } [ إبراهيم / 10 ] . وما هو بيان بالاختبار { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ... بالبينات والزبر وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم } [ النحل / 43 - 44 ] وسمي الكلام بيانا لكشفه عن المعنى المقصود إظهاله نحو : { هذا بيان للناس } [ آل عمران / 138 ]
وسمي ما يشرح به المجمل والمبهم من الكلام بيانا نحو قوله : { ثم إن علينا بيانه } [ القيامة / 19 ] ويقال : بينته وأبنته : إذا جعلت لهه بيانا تكشفه نحو : { لتبين للناس ما نزل إليهم } [ النحل / 44 ] وقال : { نذير مبين } [ ص / 70 ] و { إن هذا لهو البلاء المبين } [ الصافات / 106 ] { ولا يكاد يبين } [ الزخرف / 52 ] أي : يبين { وهو في الخصام غير مبين } [ الزخرف / 18 ])).
فإذا كان معنى البيان يستلزم الشرح والتفسير وتفصيل المجمل.. وغير ذلك من معانيه.. التي دَلَّ عليها القرآن الكريم .. كما مضى في كلام الراغب الأصفهاني في (مفردات القرآن).. فهذا كله يعني أن بيان النبي (ص) الذي قام به: هو شرح وتفسير آيات القرآن الكريم وتفصيل مجملها.. وبيان أحكامها.. والمراد منها.. والكشف عن معانيها... إلى آخر ما دلَّتْ عليه معاني البيان في القرآن الكريم.
وهذا كله يستلزم أن يكون هذا البيان للمعنى المراد.. وهذا التفصيل للمجمل.. وغير ذلك من أنواع البيان.. التي لابد وأن تكون معصومة... لأن الله عز وجل قد أمر نبيه (ص) بالبيان للناس.. كما أمر الناس جميعا بطاعته (ص) كما سبق الكلام عليه في فيما سبق في هذا الموضوع... وهذا كله يستلزم أن يكون بيانه r معصوما من الخطأ.. ولا معصوم من الخطأ إلا الوحي الإلهي الذي أنزله الله عز وجل من لدنه على من شاء من عباده... فدلَّ هذا أيضا على كون السنة النبوية جزء من الوحي الذي أوحاه الله عز وجل لنبيه r لكنه وحيٌ غير متلوٍّ.. بخلاف الوحي المتلوّ والمتعبد بتلاوته وهو القرآن الكريم.
07-04-2006الفرصة الأخيرة
فإن قيل: وكيف نُفَرِّق بين بيان النبي صلى الله عليه وسلم وأقواله وأفعاله الشرعية الخاصة بأمور التبيليغ .. وبين أقواله وأفعاله الجِبِلَّة التي فطره الله عز وجل عليها وخرجت منه على سبيل البشرية لا على سبيل التشريع؟
والجواب على ذلك: أن القرائن المحيطة بالنص المروي .. فعلا أو قولا .. تدلنا على التفريق بين الأمرين.
فمثلا في واقعة تأبير النخل الشهيرة والتي سبقت الإشارة إليها رأينا النبي صلى الله عليه وسلم في كلامه يقول لأصحابه:( أنتم أعلم بأمر دنياكم).
فدلَّ قوله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (أنتم أعلم بأمر دنياكم) على أنَّ الواقعة المذكورة مع كلامه فيها مِن أمر الدنيا والاجتهاد الشخصي لا من أمور الشريعة والتبليغ وبيان الدين للناس.
والقرينة المحيطة بالنص جزءٌ أصيلٌ من النص .. ولا يصح أبدًا أن نسلخ النص منها .. ولا أن نفهمه بعيدًا عنها.
والقرينة إما أن تكون من داخل النص نفسه كما في المثال المذكور هنا .. وإما أن تكون من خارج النص ..وتُسْتَفادُ هذه القرينة الخارجية بجمع نصوص المسألة كلها .. والتعرُّف عليها ودراستها .. ودراسة حالة النبي صلى الله عليه وسلم .. والتمرُّس في علوم الشريعة .. ومقاصدها .. وأمور كثيرة يمكن للباحث من خلالها أن يتعرف على الفرق بين هذا وذاك.
يتبع إن شاء الله
07-24-2006الفرصة الأخيرة
دلالة المغايرة بين طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم
قلت في كلامي عن (إيجاب طاعته صلى الله عليه وسلم ودلالة ذلك على أن السنة وحيٌ من الله):
وقد أوجب الله طاعته صلى الله عليه وسلم في أماكن عديدة.. وجعل طاعته من طاعة الله عز وجل.. فقال سبحانه وتعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الكَافِرِينَ} [آل عمران: 32].
وقال: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران :132].
وقال: {مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} [النساء :80]..
إلى آخر الآيات الدالة على ذلك.
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري برقم (7137) ومسلم برقم (1835) من حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أطاعني فقد أطاع الله. ومن عصاني فقد عصى الله»...
إلى آخر الأحاديث الدالة على ذلك.
وقال الإمام ابن كثير أيضًا في موضع آخر من كتابه 6: 199: «وقد عُلِم أنه لا أحد أعلم بالله ولا أخبر به من عبده ورسوله محمد صلوات الله وسلامه على سيد ولد آدم على الإطلاق. في الدنيا والآخرة. الذي لا ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحي يوحى. فما قاله فهو حق. وما أخبر به فهو صدق. وهو الإمام المحكم الذي إذا تنازع الناس في شيء. وجب ردّ نزاعهم إليه. فما يوافق أقواله. وأفعاله فهو الحق. وما يخالفها فهو مردود على قائله وفاعله. كائنا من كان. قال الله تعالى: { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } [ النساء : 59]».
وفي هذا نكتة لطيفة ترد على الذين يقولون إن طاعة الرسول تعني الشرك بالله.. لأن الله عز وجل هنا قد رد عليهم ردًا بليغًا فجعل طاعة الرسول من طاعته.. فالطاعة هنا لله.. وليست للرسول صلى الله عليه وسلم.. لأن الرسول لم يكن ينطق إلا بوحي من الله عز وجل كما في قوله عز وجل: {وما ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحي يُوحَى}.. فمن أراد طاعة الله عز وجل فليطع الرسول صلى الله عليه وسلم كما مضى صريحًا في قوله سبحانه وتعالى: {من يُطِعِ الرسولَ فقد أطاعَ الله}.
قال الإمام الشافعي رحمه في كتابه «الرسالة: 21»: «ما سَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مما ليس لله فيه نصُّ حُكْمٍ وقد فرض الله في كتابه طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم والانتهاء إلى حكمه فمَن قبل عن رسول الله فبِفَرْضِ الله قَبِل».
فُعِلَم من هذا أن الطاعة في الحقيقة لله عز وجل لا للرسول صلى الله عليه وسلم.. لأن الله سبحانه هو الذي أمرنا بطاعة نبيه صلى الله عليه وسلم.. فلا يصح بعد ذلك أن يقال إن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم تعني الشرك بالله.. لأن الذي أمر بهذه الطاعة هو الله عز وجل نفسه.. والله لا يأمر أبدًا بالإشراك به .. كما قال سبحانه وتعالى: {وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الكُفْرَ} [الزمر: 7].. وقال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48].
فهو سبحانه وتعالى لا يرضى الكفر لعباده.. ولا يغفر لمن أشرك به.. فكيف يقال بإن طاعة الرسول شركٌ بالله وقد أمر الله بها؟! هذا لا يقوله عاقلٌ أبدًا.. سبحانك هذا بهتانٌ عظيم.
بل أمر الله عز وجل بطاعة نبيه صلى الله عليه وسلم .. وأوجب على المسلمين طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم.. وجعل طاعة الرسول من طاعته سبحانه.. فمن أطاع الرسول فقد أطاع الله .. لأن الرسول لا ينطق بشيءٍ من رأيه.. وإنما ينطق بوحي.. قرآنًا وسنة.
وأزيد الآن: بأن الله عز وجل قد قرن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم بطاعته في آياتٍ كثيراتٍ .. والواو أو العطف أو الاقتران الحاصل بين الطاعتين يوحي بتفرد كلٍّ منهما بالأخرى .. لما عُلِمَ من لغة العرب التي أبدع فيها العرب قبل الإسلام.. ثم نزل الوحي بلغتهم .. لتقوم الحجة عليهم .. وتتم المعجزة لديهم .. لأنه لا يصح التحدي لهم بالمعجزة القرآنية وطلب الله عز وجل منهم أن يأتوا ولو بآية شبيهة لها إلا إذا كانت المعجزة قد نزلت من جنس لغتهم التي يعرفونها .. غير أنهم عاجزون عن مضاهاة هذه المعجزة الخالدة.. وهذا ما حصل بحمد الله عز وجل .. ولو نزل الوحي (قرآنا وسنة) باللاتينية أو غيرها من اللغات التي لا يتكلم بها العرب ولا يحسنونها آنذاك لما تمت عليهم إقامة الحجة ولما فهموا المعجزة ولا حصلت أصلا.
ومن هنا قرر الله عز وجل أنه لا يرسل الرسل إلا بلسان أقوامهم أي بلغاتهم كما قال سبحانه وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ الَعَزِيزُ الحَكِيمُ} [إبراهيم :4]
وهذه المغايرة بين الطاعتين التي أشرتُ إليها تقتضي كما سبق وذكرتُ تفرد كل طاعة عن الأخرى بأشياء .. واختلاف الأشياء لا يعني أبدا المساواة بينهما.
فاختلاف زيد عن عبيد في أمور معينة لا يعني أبدا أنهما قد صارا نِدَّيْن متساويين في كل شيء.
فالتغاير والاختلاف يُوجب وجود الفرق .. لكنه لا يوجب أبدا وجوب المساواة.
وهذا ما لم يفهمه بعض الجهال من سفهاء الأحلام فظنوا أن قولنا: طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم تبعًا لما ورد في الكتاب والسنة من الجمع بين الطاعتين .. ظن هؤلاء الجهال وسفهاء الأحلام أن قولنا هذا شركٌ بالله عز وجل .. لأننا أشركنا الرسول صلى الله عليه وسلم مع الله عز وجل.
وهذا جهل فاضح وسخف يدل على قلة فهم بل وقلة عقل لدى أصحاب هذا القول الشنيع المستبشع لدى عقلاء الناس.
لأن طاعة الرسول إنما وجبت تبعا لطاعة الله عز وجل في الحقيقة .. فطاعة الرسول هي في الحقيقة طاعةٌ لله عز وجل الذي أمرنا بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم.
ولهذا وردتْ طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم دائما بعد طاعة الله عز وجل في آياتٍ كثيراتٍ سبق بعضها هنا.
وفي هذا إشارة واضحة وصريحة بأن طاعة الله عز وجل هي المقدمة والأصل .. ثم تأتي الواو .. أو العطف ... أو الاقتران بين الطاعتين (أطيعوا الله ورسوله) ليدلنا على أن هناك تغايرا واختلافا بين الطاعتين .. هذا الاختلاف والتغاير يدل على وجود أمور شرعها النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي لم تنزل في القسم الأول من الوحي (القرآن الكريم).
مثل عدد ركعات الصلوات وغيرها من الأمور.
وفي الوقت نفسه فإن طاعة النبي صلى الله عليه وسلم ليست شركا بالله عز وجل .. لأن الله عز وجل هو الذي أوجب طاعة نبيه على العباد.
بل ما أرسل الله عز وجل من نبي ولا رسول إلا وألزم جميع المرسل إليهم بطاعته بإذن الله عز وجل كما قال سبحانه وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء: 64].
بل ويؤكد الله عز وجل هذا الأمر في الآية التالية على هذه الآية في سورة النساء فيقول: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاًّ مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء :65]
فينفي سبحانه وتعالى الإيمان على الذين لا يحكمون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما شجر بينهم من مسائل وأقضيات في حياته بشخصه وبعد مماته بسنته وأقواله وأفعاله التي تركها لنا النبي صلى الله عليه وسلم ضياءً ونورا.
فكأنه سبحانه وتعالى عَلِمَ أن هناك من حثالة البشر من سيأتي فيقول: أطيعوا الرسول فيما أنزل الله وفقط .. أو يقول هؤلاء الأغبياء الجهال: ما على الرسول إلا البلاغ.
فحذر الله عز وجل هؤلاء الحثالة وغيرهم من البشر بأنه لا إيمان حتى يُحَكموا النبي صلى الله عليه وسلم في كل الأمور في حياته بشخصه وبعد موته بالرجوع إلى سُنته وأقواله وأفعاله .. لأنه لا فرق بين قوله وحكمه صلى الله عليه وسلم حيًّا وميتًا.
فالمراد معرفة الحكم النبوي في الأمور .. ولو كان من الحتم اللازم أن يحكم النبي صلى الله عليه وسلم بشخصه في كل الأمور لتركه الله عز وجل خالدًا في هذه الدنيا يحكم بشخصه في كل زمان.. لكنه سبحانه قضى عليه الموت كباقي البشر .. ولم يكتب له الخلد في الدنيا .. وجعل أقواله وأفعاله وسنته صلى الله عليه وسلم تقوم مقام شخصه الكريم صلى الله عليه وسلم بعد موته ورحيله عن هذه الدنيا بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم.
ولهذا نرى نبي الله هارون عليه السلام يقول لقومه كما ذكر الله عز وجل في كتابه الكريم: {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي} [طه: 90].
فيطالبهم نبي الله هارون عليه السلام بأن يتبعوه ويطيعوا أمره .. ويضيف عليه السلام الأمر إلى نفسه .. فهل يفهم هؤلاء الحثالة من البشر أن هارون عليه السلام يدعو الناس للشرك بالله؟ كيف وهو يقول في بداية كلامه: (إن ربكم الرحمن) يدلهم على الله عز وجل أولا ويدعوهم إليه .. ويرشدهم إلى عبادة الله عز وجل .. ثم يعطف على ذلك طلبه منهم بأن يتبعوه ويطيعوه أمره الذي أمرهم به وهو عبادة الله عز وجل وطاعته سبحانه وتعالى.
وفي هذا لفتةٌ قرآنية بليغة في إضافة هارون عليه السلام الأمر لنفسه عليه السلام ليدل على أنه له أوامر منفصلة من حيثُ لفظها عن أوامر الله عز وجل غير أنها لا تخرج عن أوامر الله عز وجل بحال.
تماما كما نجد للنبي صلى الله عليه وسلم بيان أمره الله عز وجل أن يبينه للناس .. ولكن هذا البيان الذي هو بلفظ النبي صلى الله عليه وسلم وعبارته إنما هو في الحقيقة وحيٌ من الله عز وجل الذي أمر نبيه بتبيينه للناس.. لأنه من غير المعقول أن يأمره الله عز وجل بأن يبين للناس شيئًا ثم لا يوحي إليه بطبيعة هذا البيان وكيفيته.
فاستفدنا من الآيات السابقة الآتي:
أـ أن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم واجبة على جميع الخلق .. وأنها من طاعة الله عز وجل.
ب ـ أن طاعة الرسول إنما وجبت بإذن الله عز وجل وبأمره.
ج ـ نفى الله عز وجل الإيمان عمن لم يطع الرسول صلى الله عليه وسلم.
د ـ أن للرسول بيان أوحاه الله عز وجل وترك للرسول صلى الله عليه وسلم مهمة إبلاغه للناس بلفظه وعبارته (وهو السنة النبوية) وأن الله عز وجل أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بإبلاغ هذا البين وتبيينه للناس .. تماما كما أمره بإبلاغ القرآن الكريم.
هـ ـ دلالة الاقتران أو واو العطف بين طاعة الله عز وجل وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم تدل في لغة العرب على المغايرة لكنها لا تدل على المساواة ولهذا كانت طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم غير طاعة الله عز وجل .. فالرسول يطاع بإذن الله وبأمر الله بطاعته .. فطاعة الرسول في الحقيقة هي طاعةٌ لله عز وجل .. ويستفاد من عطفها وتكرارها التأكيد الدائم عليها.
كأن الله عز وجل يرد من مئات السنين على هؤلاء الكارهين للنبي صلى الله عليه وسلم الحاسدين له على فضل الله عليه والطاعنين في سنته .. نعوذ بالله من الخذلان.
07-24-2006الفرصة الأخيرة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق