مقالات منقولة من موقع شيعي
-----------------
بــاعـــتـــراف كـبــــــار مشـــــايــــخ الشــــيعــة :أســــاطير كربــــلاء! !!! فمتـى يســـتـيـقـظــون ؟ قــــاطــــعـــــوا صــــنّــــــــــاع الأســــاطــيــــــر... بقلم : نايف كريِّم (إعلامي لبناني مدير تلفزيون المنار سابقاً)
http://aljazeeraalarabiamodwana.blogspot.com/2016/10/blog-post_47.html
=======
الشيخ مطهري: محاولة لتشذيب عاشوراء
http://aljazeeraalarabiamodwana.blogspot.com/2016/10/blog-post_70.html
=======
الغلو والبدع
البكاء على الحسين (عليه السلام) بسبب الأكاذيب
ثمّ يذكر الشهيد مطهّري ما قاله الشيخ النوري في كتاب (اللؤلؤ والمرجان) عن هذه التحريفات فيقول: "من الواجب أن نقيم المآتم على الحسين (عليه السلام)، أمّا المآتم التي تقام عليه اليوم فهي جديدة، ولم تكن هكذا فيما مضى؛ وذلك بسبب كلّ تلك الأكاذيب التي أُلصقت بحادثة كربلاء دون أن يفضحها أحدٌ. إنَّنا يجب أن نبكيَ الحسين (عليه السلام)، ولكن ليس بسبب السيوف والرماح التي استهدفت جسدَه الطاهر الشريف في ذلك اليوم التاريخي؛ بل بسبب الأكاذيب التي أُلصقت بالواقعة".
كما ورد في مقدّمة الكتاب (اللؤلؤ والمرجان) إشارة إلى منبع الأكاذيب، حيث نقرأ قول الشيخ النوري: "كتب لي أحد العلماء من الهند يشكو كثرة الأكاذيب التي يروِّج لها قرّاء التعزية الحسينيّة في تلك البلاد، وقد رجاني أن أعمل شيئاً بهذا الخصوص، كأنْ أكتب كتاباً يساهم في منع استمرار الخطباء من الكذب على المنابر الحسينية".
ثم يكتب الحاج النوري (رضوان الله عليه) مضيفاً: "إنَّ هذا العالِم الهندي يتصوَّر أنَّ قرّاء التعزية الحسينية يبدأون بنشر الأكاذيب بعد أن يصلوا إلى الهند؛ ولا يدري أنَّ المياه ملوّثة من رأس النبع، وأَنَّ مصدر المآتم الكاذبة هي (مدن) كربلاء والنّجف وإيران؛ أي مراكز التشيُّع الأساسيّة نفسها".
ثمّ يقول الشهيد مطهّري: وفي هذا المجال يذكر أنَّ أحد العلماء الكبار المتواجدين في إحدى المحافظات الإيرانية، وهو من العلماء الذين يحملون بعض المعاناة والألم والحسّ الديني، وكان على الدوام يعترض على مثل هذه الأكاذيب التي تقال على المنابر ويقول: ما هذه السموم التي تُنفث فوق المنابر؟!.
وقد جاءه مرّة أحد الوعّاظ يقول: أتعلم أنَّنا لو تخلّينا عن مثل هذه الخطابات لتوجّب علينا إغلاق هذه الدكّان. فردّ عليه هذا العالِم: إنّها أكاذيب يجب علينا عدم ذكرها على المنابر مهما حصل.
الإمام عليّ (عليه السلام) يطلب الماء للإمام الحسين (عليه السلام) وهو على المنبر
ومن التحريفات، كما يقول المطهّري: ذكر الحاج نوري في مقدّمة كتابه، قصّة تقول: إنَّ أمير المؤمنين عليّاً (عليه السلام) صعد يوماً إلى المنبر ليخطب في الناس، وحصل أن عطش الإمام الحسين (عليه السلام) وطلب ماء، فقطع أمير المؤمنين (عليه السلام) خطبته، وطلب من الناس أن يأتوا بالماء لابنه الحسين؛ فكان أبو الفضل العبّاس وهو طفل صغير أوَّل مَنْ نهض ليأتيَ بالماء، حيث ذهب إلى أُمِّه وأحضر الماء وعاد إلى المجلس، والماء فوق رأسه، وقد تبلّلت ثيابه، إلى آخر القصة بتفاصيلها المعروفة... ولمّا رأى أمير المؤمنين (عليه السلام) هذا المنظر انسابت الدموع على خدّيه، ولما سُئِل عن سبب البكاء؟ أجاب (عليه السلام): تذكرت كذا وكذا "أي عطش الحسين (عليه السلام) في كربلاء"... إلى آخر الخيال والتحليق المعروفة نهايته.
فالحاج نوري هنا يناقش هذه القصّة الخياليّة بشكلٍ جميل، فيقول: إذا ما سلّمنا بصحّة هذه القصّة جدلاً، فهذا يعني أنَّ أمير المؤمنين (عليه السلام) كان يلقي تلك الخطبة في الكوفة، إذ إنَّه (عليه السلام) لم يصعد إلى المنبر ويخطب إلاَّ في زمان خلافته، ممَّا يعني أنَّ ابنه الحسين (عليه السلام) كان رجلاً يناهز الثالثة والثلاثين من العمر في ذلك الوقت، فهل من المعقول والمنطقي، أن يقوم رجل بذلك العمر مثل الإمام الحسين (عليه السلام) ليطلب الماء من أبيه وهو يخطب بالناس ويعظ؟ وماذا لو كان هذا السلوك قد صدر من شخصٍ عاديٍّ؟ أمَا كنَّا وجّهنا له تهمة الوقاحة وسوء الأخلاق لمثل هذا التصرّف؟ وبعد فإنَّ أبا الفضل العبّاس كان قد بلغ سنّ الخامسة عشْرة على الأقلّ في ذلك الزمان، فأين طفولته حسب القصّة؟
ونموذج آخرُ في الكذب والتزوير والاختلاق، قصّة الرسول والرسالة معه حيث يقال: إنَّ رسولاً قدم إلى الإمام الحسين (عليه السلام) حاملاً معه رسالة يريد الجواب عليها، فيقول له الإمام، أن اذهب وعد إلينا بعد ثلاثة أيام، وأنَّه لمّا عاد إليه بعد الأيام الثلاثة، وسأل عنه، قيل له بأنَّه عازم على المغادرة (إلى الكوفة) وقد بدأ تحرّكه، فقال في نفسه: طالما الأمر كذلك، فلأذهب لأرى كيف يكون جلال شاه الحجاز (يقصد بالإمام الحسين) وعظمة موكبه، وانطلق (الموكب) فإذا به يرى الحسين (عليه السلام) نفسه، وقد جلس على كرسي فخم، وبنو هاشم على كراسيَّ، ثمَّ إذا بهم يُحضرون الهوادج المزخرفة بالحرير والديباج، ثمّ أحضروا المخدَّرات (النساء) وأركبوهن بكلّ احترام وتعظيم ومثل هذه الأقوال... ثمّ يقفزون (قرَّاء العزاء) فجأة إلى اليوم الحادي عشر من المحرَّم، ليقولوا للناس: انظروا ماذا حلَّ بِحُرَم أبي عبد الله (عليه السلام) في هذا اليوم بعد تلك العظمة والجلالة والفخامة؟ ومَن قال إنَّ عظمة أبي عبد الله (عليه السلام) تُقاس بالكرسيّ المذهّب الذي يجلس عليه، أو بالذهب المرصَّع أو الديباج والحرير الذي يغطّي الهوادج لأهل بيته أو بالخيول والخَدَم والحَشَم المرافقين له ولقافلته.
ليلى... أُمّ عليّ الأكبر، وشبهة وجودها في كربلاء
ونموذج آخر للتحريف في وقائع عاشوراء، وهو القصّة التي أصبحت معروفة في المجالس والقراءات الحسينية؛ وهي قصة ليلى أُمّ عليّ الأكبر؛ وفي الحقيقة لا يوجد دليل تاريخي واحد يؤكّد وقوعها، ولكن ليس هناك مؤرِّخ واحد يؤكّد وجودها أو حضورها في معركة كربلاء، وبالرغم من هذا التأكيد (بعدم حضورها في كربلاء) نسمع في المجالس التي تُقرأ قصّة احتضان ليلى لابنها عليّ الأكبر، في ساحة المعركة والمشهد العاطفي الخيالي المحض، حتّى أنِّي حضرت شخصيّاً في قم مجلساً حسينياً أُقيم باسم آية الله البروجردي، دون أن يكون هو حاضراً بالطبع، وقد سمعت في هذا المجلس، أنَّ عليّاً الأكبر نزل إلى ساحة المعركة، وإذا بالحسين يتوجّه إلى أُمّه ليلى ويطلب منها الدخول إلى إحدى الخيم، لتنشر شعرها، وتتوجّه إلى ربّها بالدعاء ليرجع ابنها سالماً إليها، ويقول: لقد سمعت جدّي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول، بأنَّ دعاء الأُمّ بحقّ ابنها مستجاب. فهل هناك تحريف أكثر من ذلك؟
أوّلاً: ليس هناك ليلى في كربلاء حتّى يحدِّثها الإمام (عليه السلام).
ثانياً: هل هذا منطق الحسين (عليه السلام) في المعركة؟ قطعاً لا، لأنَّ منطق الحسين (عليه السلام) يوم عاشوراء كان منطق التضحية والجهاد.
ونموذج آخرُ سمعته في طهران.. كنتُ في أحد المجالس الحسينية في بيت أحد كبار علماء هذه المدينة قبل سنوات عدّة، وكان القارئ يتحدّث عن ليلى وابنها عليّ الأكبر؛ ولما وصل بحديثه إلى حيث توجّهت (ليلى) إلى الخيمة، ونشرت شعرها بناءً على طلب الإمام الحسين (عليه السلام)، فإنَّها نذرت أيضاً زرع الطريق من كربلاء إلى المدينة بالرَّيْحَان، إذا ما استجاب الله تعالى دعاءها وأرجعه لها سالماً من المعركة؛ وطول هذا الطريق ثلاثمائة فرسخ. قال القارئ ذلك ثم أنشد شِعراً:
نذرٌ عليّ لئن عادوا وإنْ رجعوا لأَزْرَعَنَّ طريق التَّفتِ (الطَّفِّ) رَيْحَانا
سمعته وذُهلت وزاد تعجُّبي ورحت أبحث في بطون الكتب؛ وإذ بي أجد بأنَّ كلمة "التفت" هي منطقة غير منطقة كربلاء أولاً؛ ثم إنَّ بيت الشعر كلّه لا علاقة له بحادثة عاشوراء، لا من قريب ولا من بعيد، بل إنَّه نُظِم على لسان مجنون ليلى العامريّة، الذي كان ينتظر ليلاه المقيمة في هذه المنطقة المذكورة. وإذ بقرّاء المجالس حوَّلوه إلى لسان ليلى أُمّ عليّ الأكبر، وكلمة (الطفّ) كربلاء أصبحت "التّفت". فتصوّروا معي بالله عليكم لو أنَّ مسيحيّاً أو يهوديّاً أو ملحداً كان حاضراً، ألاَ تنتظرون منه أن يقول ما هذه السخافات والترّهات التي تشوب تاريخ هؤلاء الناس؟
الشهيد مطهري، الملحمة الحسينية
============================
مفهوم اللعن في القرآن وموقف الإمام علي من السب واللعن
حسين الراضي
الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَسْتَهْدِيهِ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِي اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ. وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ انْتَجَبَهُ لِوَلَايَتِهِ وَاخْتَصَّهُ بِرِسَالَتِهِ وَأَكْرَمَهُ بِالنُّبُوَّةِ أَمِيناً عَلَى غَيْبِهِ وَرَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ. وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَعَلَيْهِمُ السَّلَامُ[1].
لا تزال المشكلة القديمة الجديدة التي تتفاعل على الساحة وهي الفتنة المذهبية القائمة على السبّ والشتم واللعن، وقد طُرحت قديماً في صدر الإسلام كمشكلة تحتاج إلى حلّ، وممّن تصدّى لحلّها أئمتنا (عليهم السلام) وعلى رأسهم أمير المؤمنين (عليه السلام).
فلم يزل الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) يربّي أولاده وأهل بيته وأصحابه وشيعته على أعلى مكارم الأخلاق وحميد الصفات ويحذّرهم من مساوئ الأخلاق وأن يتعالوا عن هذه السقطات التي لا تتناسب مع المؤمنين وتثير الأحقاد في المجتمع وتفكّك عرى الوحدة فيه.
وقبل الدخول في موقف أمير المؤمنين (ع) نشير إلى معنى اللعن في اللغة ومعناه في القرآن الكريم:
1- المعنى اللُّغوي للّعن
الحاصل من كلام أهل اللغة أنّ اللّعن على قسمين:
1- اللّعن من الله فهو الطّرد عن رحمته. وهذا مختصٌّ به سبحانه.
2- اللعن من الناس: فهو السبُّ، والشتم، والدعاء على الشخص.
فالنسبة بين السبّ واللعن العموم والخصوص من وجه.
2- مفهوم اللعن في القرآن الكريم
اللعن في القرآن يمكن أن يُنظَر إليه من أكثر من زاوية وحالة:
- الحالة الأولى: أن يكون بملاحظة اللاعن مَنْ هو، فهل هو الله أو الناس؟
فإن كان اللعن من الله فهو الطرد من رحمته وهو في حدِّ ذاته عذاب.
وإذا كان من الناس فيكون من باب الدّعاء على الغير ممّن يستحقّ العذاب وطلب الطرد من رحمة الله بأن يُبعده الله من الرحمة ويُنزل عليه عقابه.
- الحالة الثانية: أن ينظر إلى الآيات القرآنية الواردة في اللعن ويحاول أن يرى لها وجهاً جامعاً مشتركاً سواء كان من جهة اللاعن أو الملعون أو اللعن نفسه.
3- أوجه اللعن في القرآن الكريم
هنا ذكر المفسّرون أنّ اللعن في القرآن له أربعة أوجه حيث وردت آيات عديدة، قال الحيري النيسابوري المتوفّى 431 هـ في كتابه «أوجه القرآن»:
اللعن على أربعة أوجه- ثم ذكر الأوجه الأربعة واستشهد ببعض الآيات على كلّ وجه، ونحن ذاكرون تلك الأوجه مع زيادة بعض الآيات التي تتناسب مع كلِّ وجه-:
- الوجه الأول: العذاب
وفي هذا المعنى يوجد عدة آيات يظهر منها أنّه قد أُطلق اللعن وأُريد منه العذاب، منها:
1- قوله تعالى حكاية عن الكافرين: ﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ﴾[البقرة:88].
2- قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾[البقرة:159].
فَلَعْنُ الله لهم هو عذابه إليهم.
ولعن الناس الدعاء عليهم، كما سوف يأتي، فاللعن من الله يختلف عن اللعن من الناس.
3- قوله تعالى: ﴿مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً﴾[النساء:46].
4- قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً﴾[النساء:52].
5- قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً﴾[الأحزاب:57].
6- قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ﴾ [محمد:23].
7- قوله تعالى: ﴿وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾[النور:7]
8- قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً﴾[الأحزاب:64].
فاللعن في هذه الآيات بمعنى العذاب من الله لمن يستحقه من الكافرين أو الظالمين أو الكاذبين وليس للإنسان في هذا العذاب أيُّ شأن أو ممارسة، بل هو فعل الله. ما عدا الآية المتقدّمة تحت رقم 2 فإنّها اشتملت على لعنين: من الله ومن اللاعنين وسوف يأتي[2].
- الوجه الثاني للعن: الدعاء من الإنسان على غيره:
1- كقوله: ﴿وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾ فإنّ المتلاعنين، كلُّ واحد يلعن الآخر، فاللعنة تنزل على مَنْ يستحقّ منهما.
2- قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً﴾[الأحزاب:68].
3- قوله تعالى: ﴿أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾[هود:18].
4- قوله تعالى: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾[المائدة:78].
5- قوله تعالى: ﴿وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾[الأعراف:44] فهذه الآيات كلّها في إطار الدعاء على مَن يستحقّ الطرد من رحمة الله سبحانه. هذا في اللعن بمعنى الدعاء.
أما اللعن بمعنى السبّ والشتم- كما ذُكر في المعنى اللغوي- الذي يتعارف عليه أكثر الناس ويستعملونه في محاوراتهم ومجادلاتهم وفي الفتن الدائرة بينهم، فمثل هذا اللعن لا وجود له في القرآن الكريم.
- والوجه الثالث للّعن: المسخ:
وهو يدخل بحال من الأحوال في العذاب فإنَّ المسخ في حدِّ ذاته عذاب وغضب من الله على بعض خلقه، كقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً﴾[النساء:47] أي نمسخهم كما مسخنا أصحاب السبت وطردناهم بالمسخ [3]
- والوجه الرابع للّعن: الطرد من رحمة الله
وقد يكون هذا الوجه أوسع وأعم الوجوه حيث إنّ العذاب والمسخ يدخلان في هذا الوجه أيضاً وهنا آيات منها:
1- قوله: ﴿مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا﴾[الأحزاب:61].
2- قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾[البقرة:161].
3- قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾[آل عمران:87].
فلعنة الله عليهم، هي طَرْدهم من رحمة الله، أمّا لعنة الناس والملائكة فهي الدعاء عليهم بأن يبعدهم الله عن رحمته..
4- قوله تعالى: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾[المائدة:13] أيّ طردهم من رحمته بالمسخ[4].
وكيفما كان فما كان من فعل الله، فإليه الأمر والنهي، ولا يجوز لأحد أن يتدخّل فيه، وما كان من فعل العبد الذي هو الدعاء على الغير فهذا الدعاء مرهون على حسب أسبابه، إمّا بكون المدعوّ عليه كافراً، كما في كثير من الآيات المتقدّمة، أو يدخل في عنوان الظالمين والمنافقين وغيرهم ممّن يستحقّ الدعاء عليه.
فاللعن المستعمَل في القرآن من جهة الناس، هو ما يصدق عليه دعاء على الطرف الآخر واستعمله بعضهم ضدّ بعض.
أمّا أنّ الدعاء على الآخرين هل يدخل تحت مطلق استحباب الدعاء أم له حالة خاصة فهذا ما يحتاج إلى بحثٍ وتدقيق.
والذي يظهر من جملة من الأخبار أنّ الدعاء على الآخرين، وإن كان جائزاً في نفسه مع وجود مبرّراته وأسبابه ولكنّه من ناحية أخلاقية يكون مرجوحاً، ويدخل عدمه في باب مكارم الأخلاق والعفو عن الآخرين، هذا إذا لم يتجاوز الداعي الحدَّ الشرعيّ، وإلا أصبح محرّماً ويكون الظالم مظلوماً والمظلوم ظالماً.
- الأسلوب القرآني الحكيم
لم يكن من أسلوب القرآن الحكيم أن يذكر أسماء مَنْ كان يتحدّث عنهم، أو نزلت الآية بسببهم، لا في جانب المدح والثناء، ولا في جانب الذمّ والتقريع، فكان القرآن الكريم حكيماً إلى أبعد حدّ، حيث لم يذكر أسماء الكافرين أو المشركين أو المنافقين أو الظالمين أو الأولياء إلاّ نادراً حتى في الأمم الماضية.
أمّا في هذه الأمة، ففي حالة المدح والثناء لم يُذكر بالاسم إلا رسول الله صلى الله عليه وآله [5]، وفي جانب الذمّ ذُكر أبا لهب بكنيته وامرأته حمّالة الحطب.
وهذا الأسلوب الحكيم قد استعمله الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله طيلة حياته إلى حدٍّ كبير، ولم يصرّح بالأسماء إلا نادراً خصوصاً في جانب الذم، وتبقى جملة كبيرة من الروايات التي نقلت لنا بعض الأسماء في مجالها الروائي الذي يخضع للتقييم والنفي والإثبات.
ومن بعده سار على هذا المنهج أئمّتنا، أئمّة أهل البيت (ع) طيلة حياتهم، وسيرتهم حافلة بكثير من الأمثلة والشواهد، وهذا السلوك هو من أفضل الأساليب العقلانيّة الحكيمة خصوصاً في طرح الأسماء التي تكون مورد النزاع في المدح أو الذم لدى الأمة. هذا كلّه إذا كان اللعن بعنوان الدعاء.
- المشكلة
وأما إذا كان اللعن بعنوان السبّ والشتم والتشفّي من الآخرين، كما هو المتعارف عليه عند الأطراف المتنازعة والمختلفة فكرياً وعقائدياً وطائفيّاً ومذهبيّاً وسياسيّاً وكلّ طرف يريد أن يتغلّب على الطرف الآخر وإسقاطه، ويستعمل اللعن كوسيلة من وسائل التغلّب، بل يستعمله كدليل من الأدلّة القمعية الاستفزازية الجارحة المؤذية للطرف المخالف له، فهذا ليس من القرآن في شيء.
وهذا ما تشهده الساحة الآن من التشنّج الطائفيّ والمذهبيّ وكلّ طرف يكيل للطرف الآخر الصاع صاعين؛ فبعض المتشدّدين المتعصّبين الجهلة من الشيعة يقابل أهل السنّة عموماً أو بعض رموزهم خصوصاً بمختلف الشتائم والسبّ والألفاظ القبيحة باسم اللعن الوارد في القرآن الكريم والسنّة النبوية وروايات أهل البيت (ع)، وقد تصل الحالة إلى حدّ التكفير، ولأنَّ بعض التكفيريّين من المحسوبين على السُّنة يقومون بالقتل الجماعي على الهوية، فهذا ما لا يرتضيه القرآن الكريم والسُّنة النبوية وسيرة أهل البيت (ع) بل هم بُراءٌ من ذلك جملةً وتفصيلاً.
كما أنّ بعض المتعصّبين والمتشدّدين الحاقدين ممّن ينتسب إلى أهل السُّنة يستعمل نفس الأسلوب المتقدّم وزيادة ويحكم بكفر الشيعة واستباحة دمائهم وأموالهم.
4- ما هو الحل؟
إنّي أتصوّر وبكلِّ تواضع أمام العلماء والمفكّرين، ومَنْ يهمّهم مصلحة الإسلام والمسلمين أنّ الحلّ:
1- أن يقوم العقلاء والعلماء والمفكّرون من كلِّ فريق فيما يخصّ مذهبهم وطائفتهم وينقدون ويكشفون ما فيه من سلبيّات وعيوب وتجاوزات على الأطراف الأخرى، ويضعون حدّاً لتلك السلبيّات التي تصدر من الأفراد أو الجماعات من تلك الطائفة، ويقدّمون ذلك خدمة للأمّة الإسلامية بدل التشهير والاتّهام للأطراف الأخرى التي تخالفهم.
2- أن يقوم كلّ فريق بتنقية تراثه من الشوائب التي أُدخلت عليه سواء ما كان فيه تحامل على المخالفين أم ما لم يكن.
وحسب خبرتي المتواضعة، فإنّه توجد مساحات واسعة لأهل السُّنة فيما لديهم من تراث فيه الكثير من التحامل على الشيعة وتكفيرهم والتحريض عليهم سبّبت في خلق أزمات وحروب لمئات السنين بينهم، وكذلك الحال لدى الشيعة، فتوجد مساحات واسعة في تراثهم لا تقلّ عن تلك المساحة عند أهل السُّنة في التحامل على أهل السُّنة والتحريض عليهم، وقد خلقت أزمات كبيرة وحروباً راح ضحيّتها الكثير من الطرفين.
3- تحديد المجرم من كلِّ فئة ومحاسبته خاصة دون تجريم وتحميل التبعات لكل الطائفة فلا يؤخذ البريء بذنب المجرم، كما قال عزّ وجلّ: ﴿وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾[الأنعام:164] وقال تعالى: ﴿وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾[الزمر:7] فلا بدّ من محاصرة الفئات التكفيرية من أيِّ فئة كانت وتمييزها عن غيرها ولا يعمّم فعلها على بقية أفراد الطائفة، فأهل السُّنة فئات متعدّدة، وكذلك الشيعة فئات متعدّدة، فلا يجوز تعميم فعل يصدر من فئة من السُّنة على جميع أهل السُّنة، أو فعل يصدر من فئة من الفئات من الشيعة على جميع الشيعة.
4- إنّ القيام بهذا العمل ووضع حدٍّ لمثل هذه التجاوزات- التي لا يرضى بها دين سماويّ ولا قانون وضعيّ ولا ضميرٌ إنسانيّ- وفضح الدسائس التي أُدخلت على تراثنا وعلى تاريخنا، لَهُو من أفضل القربات عند الله، فهم بذلك يقدّمون أعظم خدمة للإسلام والمسلمين وعزّهم وكرامتهم.
5- إنّي ومنذ سنوات عديدة عملت على هذا النهج وحاولت:
1- أن أدرس منهج أئمّة أهل البيت (ع) وأن أستضيء بنور هداهم بما قالوه أو فعلوه أو حثّوا عليه ودعوا أتباعهم إلى التمسّك به.
2- وأن أكشف بعض ما أُلصق بمدرستهم زوراً وبهتاناً والذي يتنافى مع القرآن الكريم ومعالي الأخلاق التي جُبِلوا عليها.
3- وأن أُبرز نقاط القوّة في سيرتهم وحرصهم على هذا الدين القويم والمحافظة عليه، وعلى وحدة المسلمين، وأن أقدّم في ذلك ما أتمكّن عليه خدمة للإسلام والمسلمين.
4- تتبّعت كثيراً من القضايا التي قد كانت متداولة لمئات من السنين وقد تكون مسلّمة لدى البعض وأبرزت ما فيها من خللٍ وعيب.
5- حاولت أن أُفَعّل بعض الروايات التي كانت مقصيّة، ومهمّشة ومُغيّبة لفترة طويلة من الزمن لأسباب سياسيّة أو مذهبيّة دينيّة معيّنة وقد تكون صحيحة السّند في نفسها وقد تكون هي الحلّ لمشاكل المجتمع في مثل هذه الروايات.
6- موقف الإمام علي (ع) من السبّ واللعن
إنّ من أهمّ الأسباب للفتن المذهبيّة والطائفيّة استعمال السبّ والشتم واللعن للطرف الآخر الذي تختلف معه عقائديّاً أو مذهبيّاً أو سياسيّاً كوسيلة من الوسائل تريد أن تحقّق أهدافك منه.
حاول البعض أن يشرعن السبّ والشتم واللعن الذي هو أحد مصاديق السبّ في الشريعة الإسلامية، وأن يلصق ذلك بقادته الميامين (ع) وأنّهم استعملوه ضدّ مَنْ خالفهم، وهذا ما لا يتناسب مع مقام بعض العلماء حتى يتناسب مع مَنْ مَدَحَهم الله في الذكر الحكيم وقال في سيِّدهم ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾[القلم:4].
وقد تحدّثت عن ذلك لأكثر من مرة، وحاولت أن أعرض موقف أئمة أهل البيت (ع) وسيرتهم في ذلك كي تنجلي بعض الغشاوات.
وهنا أعود مرة أخرى لأعرض موقف أمير المؤمنين وسيّد الوصيّين علي بن أبي طالب (ع) في بعض جوانبه وفي بعض كلامه دون جميعه.
حادثة وقعت في وقت الإعداد واستنهاض الناس للقتال في حرب صفين– كما يقول به البعض– وبعضٌ يقول إنّ هذه الحادثة وقعت أثناء الحرب والقتال وقد سمعها علي (ع) مباشرة، الحادثة رُويت بعدّة روايات وحاصلها أنّ بعض أصحاب علي (ع) تعرّض لمعاوية وأصحابه بالسبّ واللعن ولكن الإمام علي (ع) استنكر ذلك وقال إنّ هذا العمل غير ناجح ولم يكن أمراً صحيحاً بل النهج القويم أن تشرح أفعال مخالفيك ليتعرف الآخرون عليها مع الخلق الإسلامي.
حاولت أن أنقل هذه الحادثة برواياتها المتعدّدة لأهمّيتها ثم أعرض ما فهمه العلماء منها:
- الرواية الأولى:
فقد رَوَى نَصْرُ بن مزاحم: عن عمر بن سعد «الأسدي»، عن عبد الرحمن، عن الحارث بن حصيرة، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَرِيكٍ قَالَ:
خَرَجَ حُجْرُ بْنُ عَدِيٍّ وَعَمْرُو بْنُ الْحَمِقِ يُظْهِرَانِ الْبَرَاءَةَ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمَا عَلِيٌّ أَنْ كُفَّا عَمَّا يَبْلُغُنِي عَنْكُمَا.. فَأَتَيَاهُ فَقَالَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَلَسْنَا مُحِقِّينَ؟!
قَالَ: بَلَى.
قالا: أو ليسوا مبطلين؟. قال: بلى. قَالَا: فَلِمَ مَنَعْتَنَا مِنْ شَتْمِهِمْ؟!.
قَالَ: كَرِهْتُ لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا: لَعَّانِينَ، شَتَّامِينَ تَشْتِمُونَ، وَتَتَبْرَأونَ، وَلَكِنْ لَوْ وَصَفْتُمْ مَسَاوِئَ أَعْمَالِهِمْ فَقُلْتُمْ مِنْ سِيرَتِهِمْ كَذَا وَكَذَا، وَمِنْ أَعْمَالِهِمْ كَذَا وَكَذَا، كَانَ أَصْوَبَ فِي الْقَوْلِ وَأَبْلَغَ فِي الْعُذْرِ، وَ«لَوْ» قُلْتُمْ مَكَانَ لَعْنِكُمْ إِيَّاهُمْ، وَبَرَاءَتِكُمْ مِنْهُمْ: اللَّهُمَّ احْقُنْ دِمَاءَهُمْ، وَدِمَاءَنَا، وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِهِمْ وَبَيْنِنَا، وَاهْدِهِمْ مِنْ ضَلَالَتِهِمْ، حَتَّى يَعْرِفَ الْحَقَّ مِنْهُمْ مَنْ جَهِلَهُ، وَيَرْعَوِيَ عَنِ الْغَيِّ وَالْعُدْوَانِ مِنْهُمْ مَنْ لَهج بِهِ، لَكَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ، وَخَيْراً لَكُمْ.
فَقَالَا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ نَقْبَلُ عِظَتَكَ وَنَتَأَدَّبُ بِأَدَبِك[6].
- الرواية الثانية:
التي رواها ابن أعثم الكوفي في كتابه «الفتوح» بعد كلام طويل لأصحاب أمير المؤمنين (ع):
قال: فعندها خرج حجر بن عدي وعمرو بن الحمق الخزاعي، فجعلا يظهران البراءة من أهل الشام واللعنة لهم، فأرسل إليهما علي أن «كُفّا عمّا يبلغني عنكما».
فأقبلا إلى عليّ وقالا: يا أمير المؤمنين! ألسنا على الحق؟.
قال: بلى!.
قالا: فَلِمَ تمنعنا عن شتمهم ولعنهم؟.
فقال: لأنّي أكره لكم أن تكونوا لعَّانين شتَّامين، ولكن لو وصفتم مساوئ أعمالهم كذا لكان ذلك أصوب في القول وأبلغ في الرأي، ولو قلتم: اللهم ! احقن دماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، وأهدهم من ضلالتهم[7] ، لكان ذلك أحب إليَّ[8] لكم.
فقالا: يا أمير المؤمنين! فإننا نقبل عظتك ونتأدب بأدبك[9].
- الرواية الثالثة:
التي رواها الدينوري في كتابه «الأخبار الطوال» فقال: قالوا: وبلغ عليّاً أنَّ حجر بن عدي وعمرو بن الحمق يُظهران شتم معاوية، ولعن أهل الشام، فأرسل إليهما أنْ كُفّا عمّا يبلغني عنكما.
فأتياه، فقالا: «يا أمير المؤمنين، ألسنا على الحقّ، وهم على الباطل؟».
قال: «بلى، ورب الكعبة المسدنة».
قالوا: «فلم تمنعنا من شتمهم ولعنهم؟».
قال: «كرهت لكم أن تكونوا شتَّامين لعَّانين، ولكن قولوا: اللّهم احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، وأهدهم من ضلالتهم، حتى يعرف الحق من جهله، ويرعوي عن الغي من لهج به»[10].
- نستخلص من هذه الروايات الثلاث:
1- اتّفاق هذه الروايات على أنَّ أمير المؤمنين (ع) كان يكره لأصحابه أن يكونوا شتّامين لعّانين وهذه الكراهة بمعنى عدم الرضا والمنع من هذا الفعل فإذا صحّت سنداً فإنّ مفادها حرمة السبّ واللعن كما فهمها بعض العلماء الذين سوف يأتي الحديث عنهم، لا الكراهة التي هي أحد الأقسام الخمسة «الحرمة، والوجوب، والاستحباب والكراهة، والجواز».
2- مفاد هذه الروايات مع روايات أخرى صحيحة السند وقوله تعالى ﴿وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾[الأنعام: 108] وأنَّ اللعن من سائر الناس أحد مصاديق السبّ؛ مُفاد كلّ ذلك:
أنَّ السبّ واللعن من الأمور المحرّمة: وذلك أنَّ الإمام أمير المؤمنين (ع) منع أصحابه بشدّة من الشتم واللعن كما جاء في الرواية الأولى والرابعة «قَالَا: فَلِمَ مَنَعْتَنَا مِنْ شَتْمِهِمْ؟!» وفي الثانية والثالثة «قالا: فلم تمنعنا عن شتمهم ولعنهم؟» ومنع الإمام المعصوم دالٌ على الحرمة. فالسبّ واللعن لم يكونا من الأمور العبادية كما يصوّره البعض، بل من الأمور المبغوضة التي تجلب مختلف الفتن والمصائب.
3- أنّ حرمة السب واللعن لا تُنَزِّه الطرف الآخر ولا تبرّؤه من كفره إن كان كافراً، أو من فسقه إن كان فاسقاً، أو من ضلاله إن كان ضالاً «وَاهْدِهِمْ مِنْ ضَلَالَتِهِمْ، حَتَّى يَعْرِفَ الْحَقَّ مِنْهُمْ مَنْ جَهِلَهُ» فقد يستحقُّ الطرف الآخر اللعن والعذاب الأليم في واقع الأمر لأفعاله الشنيعة فهذا شيء، وشتمه ولعنه شيء آخر.
4- أنّ الإمام (ع)عندما منع من الشتم واللعن واللذين هما من مساوئ الأخلاق طرح عملاً آخر أكثر مفعوليّة منهما، ألا وهو شرح أفعال الطرف الآخر لجماهير الأمّة بعدلٍ وإنصاف دون الكذب والبهتان.
5- الدعاء للمخالف بالهداية عن الضلال «.... وَاهْدِهِمْ مِنْ ضَلَالَتِهِمْ، حَتَّى يَعْرِفَ الْحَقَّ مِنْهُمْ مَنْ جَهِلَهُ، وَيَرْعَوِيَ عَنِ الْغَيِّ وَالْعُدْوَانِ مِنْهُمْ مَنْ لَجَّ بِهِ» إنَّ صاحب القلب الكبير الرحيم حتى لأعدائه لم يقتصر على عدم سبّهم والدعاء عليهم بالعذاب واللعن لهم– حتى وإن فُسّر بالدعاء على الغير- بل ثقّف شيعته أن يدعوا لأعدائهم ومخالفيهم بالهداية، فأين هذه الروحيّة والثقافة التي يريدها علي بن أبي طالب (ع) حتى لمن سلَّ سيفه عليه يقاتله، وبين ثقافة السب والشتم واللعن؟؟؟ !!!
6- الدعاء لهم بحقن دمائهم «اللَّهُمَّ احْقُنْ دِمَاءَهُمْ، وَدِمَاءَنَا....» وفي الرواية الثانية «ولو قلتم: اللهم! احقن دماءهم....» ولم يذكر «دماءنا» أي لم يذكر دمه ودم أصحابه بل كان نظره على حفظ دم عدوّه ومَنْ يقاتله.
إنّني لا أفهم لغة السبّ والشتم واللعن في قاموس هذا الرجل الذي خلقه الله مع ابن عمه وأولاده الهداة رحمة وذخراً وشرفاً ليس للمسلمين فحسب، بل للبشرية عامة.
إنَّ المحافظة على حقن الدماء مهمٌّ إلى أبعد حدّ، وبأيِّ ثمن كان، وبأيِّ وسيلة، والسبُّ والشتم واللعن من أهمِّ أسباب سفك الدماء في الأمة فَيَحْرُمان ولو بالعنوان الثانوي، إذا لم يَحْرُما بالعنوان الأوّلي.
7- النتيجة الحَسَنة: بالالتزام بعدم السبّ والشتم واللعن فهو الخير للأمة لمحافظتها على كرامتها، بل ووحدتها، وقد يحصل الوئام بين المتنازعين كما قال (ع): «لَكَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ، وَخَيْراً لَكُمْ».
8- إنّ مفردات السبّ والشتم واللعن لم تكن ثقافة أمير المؤمنين (ع)، بل ثقافة العاجز المهزوم الذي لم يكن لديه أيّ رصيد علميّ أو عمليّ أو أخلاقيّ، والإمام أمير المؤمنين (ع) بعيدٌ عن هذا بُعْدَ ما بين السماء والأرض سواءً كان في حال الحرب أو السلم، وشيعته المخلصون على هداه سائرون، لهذا قال حجر وعمرو بن الحمق «يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ نَقْبَلُ عِظَتَكَ وَنَتَأَدَّبُ بِأَدَبِك» فمن يستعمل السبّ والشتم واللعن- حتى لمن يستحقّ- لم يتأدّب بأدب أمير المؤمنين (ع) وإنّما تأدّب بأدب أعدائه الذين اتّخذوا السبّ واللعن ثقافة استمرّوا عليها لعشرات السنين.
الهوامش
[1] الكافي ج : 3 ص : 422 في الصحيح عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام فِي خُطْبَةِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ .
[2] انظر وجوه القرآن للحيري .
[3] غريب القرآن للطريحي ص 555 .
[4] غريب القرآن للطريحي ص 555
[5] وذكر زيد بن حارثة في قضية الزواج .
[6] وقعة صفين لنصر بن مزاحم ص 103 وعنه في بحارا لأنوار ج : 32 ص : 399
شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج3 ص171
أعيان الشيعة ج 4 ص 569 وج 8 ص 376
الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة للسيد علي خان ص 423
وعند مستدرك الوسائل ج12 ص 305 ح14159
جامع أحاديث الشيعة ج15 ص 518 ح1667
نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة ج2 ص104 وج6 ص 318
مستدركات علم الرجال للنمازي ج2 ص 253
[7] زيد في وقعة صفين ص 103 حتى يعرف الحق منهم من جهله ، ويرعوي عن الغي والعدوان من لهج به .
[8] الظاهر سقطت كلمة [ وخيراً ] كما تقدت في رواية نصر بن مزاحم .
[9] كتاب الفتوح - لأحمد بن أعثم الكوفي - ج 2 - ص 543
[10] الأخبار الطوال - الدينوري - ص 165
=================================
ذرية الرسول(ص) بين المحبة والطبقية
غير خافٍ أنّ من أهم المبادئ التي أرساها الإسلام وحرص الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) على التبشير بها مبدأ التساوي بين الناس، سواءً في أصل الخِلْقة الإنسانيّة، أو في الوظيفة والدور، أو في الحقوق والواجبات، محارباً (صلى الله عليه وآله وسلم) كلّ أشكال التمييز العنصري والتفاوت الاجتماعي، رافضاً الارستقراطيّة القرشيّة ومعاييرها الظالمة في تفضيل الناس بعضهم على بعضهم، مقدّماً معايير جديدة للتفاضل بين الناس لا تقوم على أساس النسب ولا العشيرة ولا اللون ولا الجنس ولا غيرها من المعايير الجاهلية، فـ "لا فضل لعربيّ على أعجميّ ولا لعجميّ على عربيّ، ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر إلاّ بالتقوى" ، وإنما يقوم التفاضل على أساس الدين والتقوى وما يقدّمه الإنسان لنفسه أو لأمّته من أعمال الخير والخدمات وما يكتسبه من مواصفات حَسَنة ويتحلّى به من خصال طيّبة، قال تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم}، [الحجرات: 13] وقال سبحانه: {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون}، [الزمر: 9] ويقول تعالى: {أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون}، [السجدة: 18].
باختصار: إنّ معيار التفاضل يرتكز على عنصرين أساسيين:
أحدهما: أن تكون الفضائل مكتسبة بالإرادة، وليست موروثة بالولادة، بحيث تبقى في إطار الشكل دون المضمون.
الثاني: أن تندرج الصفاتُ المكتسبة، في عداد الفضائل لا الرذائل، فتكون صفات حسنة في نظر العقل والشرع.
وقد حرص النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في تطبيقه لهذه المبادىء على البدء بالأقربين من بني هاشم، وهم أهله وعشيرته، ليسجّل رفضاً قاطعاً لكل الامتيازات التي أرستها العقليّة الجاهلية، فلم يقبلْ أن يحابي أهل بيته أو يعطيهم أية خصوصية تميِّزهم عمّن سواهم، أو ترفعهم عن مستوى سائر الناس، ولهذا وجدناه (صلى الله عليه وآله وسلم) وبعد أن نزل قوله تعالى: {وأنذر عشيرتك الأقربين}، [الشعراء: 213] يوجّه خطابه لذوي رحمه وقرابته قائلاً: "يا معشر قريش اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئا ، يا بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئا، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئاً، ويا صفية بنت عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئاً، ويا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئاً" ، ورفض (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يستثنيهم من القوانين، فليس هناك أحد من أقربائه أو ذريته فوق القانون، قال (صلى الله عليه وآله وسلم): "إنّما أهلك من كان قبلكم أنّهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيمُ الله لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعتُ يدها".
ولكنّ المفارقة أنّ هذا المبدأ الإسلامي الأصيل الذي جاء به الإسلام وعمل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بموجبه قد تمّ انتهاكه وتجاوزه فيما بعد وفي خصوص ذريّة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، كما تمّ تجاوز غيره من المبادئ الاسلامية، لا من موقع العصيان والتمرد، بل من موقع العاطفة والتساهل؛ وخطورة هذا التجاوز أو التساهل أنّه قد تمّ إلباسه لبوساً إسلامياً، وإنّ المتأمّل في بعض النصوص الروائيّة، كما في بعض الفتاوى الفقهية، سوف يحمل انطباعاً مغايراً لما تقدّم من مبادىء، بل ربّما سوف يجد واقعاً مختلفاً كرّسته بعض النصوص والفتاوى، والتي مفادها أنّ الإسلام أعطى امتيازات خاصة لعشيرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وذرّيته، الأمر الذي خلق إشكالية فعليّة طرحها بعضهم إزاء هذا التضاد بين الواقع وبين المبادئ.
الشيخ حسين الخشن
==========
حديث الكساء: صحيح أم مخترع؟!
يقول السائل: ﻫﻞ ﺻﺤﻴﺢ أﻥ ﺳﻤﺎﺣﺔ ﺍﻟﺴيد محمد حسين فضل الله ﻳﻘوﻝ إﻥ: حديث ﺍﻟكساء ﻏﻴﺮ ﺻﺤﻴﺢ؟ والجواب هو: ﺳﻤﺎﺣﺘﻪ (قده) ﻳُﺸكل ﻓﻲ خصوص ﺍلحديث ﺍﻟﻤﺮﻭﻱ ﻓﻲ ﻛﺘﺎﺏ ﻣﻔﺎﺗﻴﺢ الجنان ﺑﺎﻟﺸكل ﺍﻟمذكوﺭ ﻓﻴﻪ، ﺃﻣﺎ ﺣﺎﺩﺛﺔ ﺍلكساء ﻭﻧﺰﻭﻝ ﺁﻳﺔ ﺍﻟتطهير ﺑﺤﻖ ﺃﻫﻞ ﺍﻟبيت (عليهم ﺍﻟﺴﻼﻡ) ﻓﻬﻲ ﺛﺎﺑﺘﺔ ﻻ ﺇﺷكاﻝ ﻓﻴﻬﺎ ﻭتدﻝ ﻋﻠﻰ عصمتهم ﻭﻣﻨﺰلتهم ﻭعظيم فضلهم عليهم ﺍﻟﺴﻼﻡ. [1]
ﻟﻸﺳﻒ ﺍلشديد ﻓﺈﻥَّ كلّ حديث ﺍلكساء ﺑﺎﻟﺼﻴﻐﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺃﻭﺭﺩﻫﺎ ﺍﻟﺸﻴﺦ ﻋﺒﺎﺱ ﺍﻟﻘﻤﻲ ﻓﻲ ﻣﻔﺎﺗﻴﺢ ﺍﻟﺠﻨﺎﻥ ليس ﻟﻪ سند متّصل ﺑﺎﻟﻤﻌﺼﻮﻡ (ﻉ). فهم ﻳﺮﻭُﻭﻧﻪ ﻋﻦ ﺟﺎﺑﺮ ﺑﻦ عبد ﺍﻟﻠﻪ ﺍﻷﻧﺼﺎﺭﻱّ، ﻋﻦ ﻣﻮﻻﺗﻨﺎ فاطمة الزهراء (ﻉ)، ﻭلكن ﻣﺎﺫﺍ ﻋﻦ ﺍلواسطة بينهم ﻭﺑﻴﻦ ﺟﺎﺑﺮ ﺍﻷﻧﺼﺎﺭﻱّ، ﻭﺍﻟﻤﻔﺮﻭﺽ ﺃنّ عدداً ﻛﺒﻴﺮاً ﻣﻦ ﺍﻟﺮﻭﺍﺓ ﻳﻤﻸ ﺍﻟﻤﺴﺎﻓﺔ ﺍﻟﺰﻣﺎﻧﻴّﺔ ﺍﻟﻔﺎﺻﻠﺔ، ﻭﺍﻟﺘﻲ قد ﺗﺘﺠﺎﻭﺯ ﺍﻷلف ﻋﺎﻡ؟! لم ﺃعثر ﻋﻠﻰ هذه القطعة ﻣﻦ ﺍﻟﺴند، ﻭﺑﺎﻟﺘﺎﻟﻲ ﻓﺈﻥّ هذا ﺍﻟحديث ﺑﺎﻟﻤصطلح ﺍﻟحديثي ﻫﻮ حديث ﻣﻌﻠَّﻖ، ﻭﺍﻟحديث ﺍﻟﻤﻌﻠَّﻖ ﻣﻦ ﺃﻗﺴﺎﻡ ﺍﻟحديث ﺍﻟﻀﻌيف. نعم، ﻭﺭﺩﺕ ﻋﺒﺎﺭﺍﺕٌ ﻣﺸﺎﺑﻬﺔٌ ﻟﻤﺎ ﺫُﻛﺮ ﻓﻲ ﺁﺧﺮ حديث الكساء ﻓﻲ بعض ﺍﻟﺮﻭﺍﻳﺎﺕ ﻋﻦ ﺍﻟﻨﺒﻲّ (ﺹ)، ﻭلكنها ﺭﻭﺍﻳﺎﺕٌ ﺿﻌﻴﻔﺔٌ ﺳنداً، ﺃﻱ ﻓﻲ بعض ﺭﻭﺍﺗﻬﺎ خدﺷﺔٌ ﻓﻲ ﺍﻟﻮﺛﺎﻗﺔ ﺃﻭ ﺍلعدﺍﻟﺔ، ﻭﺑﺎﻟﺘﺎﻟﻲ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﺃﻥ ﺗﺼﻨّف هذﻩ ﺍﻟﺮﻭﺍﻳﺎﺕ ﻓﻲ ﺍﻟﺮﻭﺍﻳﺎﺕ ﺍﻟﺼﺤﻴﺤﺔ ﺃﻭ ﺍﻟﻤﻘبوﻟﺔ، ﺍﻟﺘﻲ يمكن ﺃﻥ ﻧﺴﺘﻔيد ﻣﻨﻬﺎ ﻋﻘيدﺓً ﺃﻭ حكماً ﺷﺮﻋﻴّﺎً. [2]
عن ابن عساكر في تاريخه قال بسنده إلى ﻋﺎﺋﺸﺔ ﺃﻡ ﺍﻟﻤﺆﻣﻨﻴﻦ ﻗﺎلت: ﺧﺮﺝ ﺭﺳﻮﻝ ﺍﻟﻠﻪ ﺫﺍﺕ غداة ﻭﻋﻠﻴﻪ ﻣﺮﻁ وﻣﺮجل ﻣﻦ ﺷﻌﺮ ﺃسوﺩ، فجلس فأتت ﻓﺎطمة ﻓﺄﺩﺧﻠﻬﺎ ﻓﻴﻪ، ﺛﻢ ﺟاء ﻋﻠﻲ ﻓﺄﺩﺧﻠﻪ ﻓﻴﻪ، ثم ﺟﺎء ﺣﺴﻦ ﻓﺄﺩﺧﻠﻪ ﻓﻴﻪ، ﺛﻢ ﺟﺎء ﺣﺴﻴﻦ ﻓﺄﺩﺧﻠﻪ ﻓﻴﻪ، ثم ﻗﺎﻝ: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً } (الأحزاب:33). ومثله رواه في سنن البيهقي والحاكم في المستدرك وابن جرير الطبري وغيرهم كثير. وروى ابن عساكر في تاريخه بسنده عن عمير بن مجمع قال: ﺩخلت ﻣﻊ ﺃﻣﻲ ﻋﻠﻰ ﻋﺎﺋﺸﺔ ﻗﺎلت ﺃﻣﻲ: ﺃﺧﺒﺮﻳﻨﻲ كيف ﻛﺎﻥ حب رسول الله (ص) ﺑﻌﻠﻲ (ع)؟ ﻓﻘﺎلت ﻋﺎﺋﺸﺔ: ﻛﺎﻥ ﺃحب ﺍلرﺟﺎﻝ ﺇﻟﻰ ﺭﺳﻮﻝ ﺍﻟﻠﻪ (ص)، لقد ﺭﺃﻳﺘﻪ يوﻣﺎً ﺃﺩﺧﻠﻪ تحت ثوبه ﻭﻓﺎطمة ﻭﺣﺴﻨﺎً ﻭﺣﺴﻴﻨﺎً، ثم ﻗﺎﻝ: اللهم هؤلاء ﺃﻫﻞ ﺑﻴﺘﻲ، اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً. قالت: فذهبت ﻷﺩﺧﻞ ﺭﺃﺳﻲ ﻓرفعه، قلت: ﻳﺎ ﺭسوﻝ ﺍﻟﻠﻪ! ﺃﻭلست ﻣﻦ ﺃهلك؟ ﻗﺎﻝ: إنك ﻋﻠﻰ ﺧﻴﺮ، إنك ﻋﻠﻰ ﺧﻴﺮ... ﻭﺃﺧﺮﺟﻪ ﺍﻟﺸﻴﺦ ﺍلصدوق ﻓﻲ "ﺍﻷﻣﺎﻟﻲ" ﺹ / 382 ﺡ / 5 ﻣﻦ ﺍلمجلس 72 ﻣﻦ ﻃﺮﻳﻘﻪ ﻋﻦ ﺍﻟﻌﻮﺍﻡ ﺑﻦ حوشب ﻣﻦ حديث ﻋﺎﺋﺸﺔ ﻣﺨﺘﺼﺮﺍً. روى ﺍﺑﻦ ﺟﺮﻳﺮ ﺍلطبرﻱ ﻓﻲ ﺗﻔﺴﻴﺮﻩ (22-71)ﺡ بسنده إلى ﺃﻡ ﺳﻠﻤﺔ زوجة رسول الله (ص) ﻗالت: ﻟﻤﺎ ﻧﺰلت هذه ﺍﻵﻳﺔ:{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} ﺩﻋﺎ ﺭﺳﻮﻝ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﺎً ﻭﻓﺎﻃﻤﺔ ﺍﻟﺰﻫﺮﺍء ﻭﺣﺴﻨﺎً ﻭﺣﺴﻴﻨﺎً عليهم ﺍﻟﺴﻼﻡ ﻓﺠﻠﻞ عليهم ﻛﺴﺎء ﺧﻴﺒﺮﻳﺎً ﻓﻘﺎﻝ: : اللهم هؤلاء ﺃﻫﻞ ﺑﻴﺘﻲ، اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً ، قالت ﺃﻡ ﺳﻠﻤﺔ: ألست منهم؟ ﻗﺎﻝ: أنت ﺇﻟﻰ ﺧﻴﺮ. ورواية الطحاوي في مشكل الآثار اللفظ نفسه وغيره كثر من طرق السنة والشيعة بألفاظ مختلفة والمعنى واحد. وهذا هو الحديث الصحيح، أما الزيادة عليه فمخترعة، قال الشيخ القمي في كتابه منتهى الآمال عند ذكر حديث الكساء، وهذه الزيادة أي من عند نزول جبرائيل (ع) إلى آخر الحديث هو من مفردات كتاب الطريحي إلى بعد الألف هجري، وكذلك رفضه العلامة الريشهري، وكذا الإمام الخالصي وغيرهم ممن حقق ودقق في هذا الحديث الجديد المخترع الذي يخالف في فقراته الكتاب والسنة. [3]
ﻭﺍﻷﺩﻟﺔ ﻋﻠﻰ ﺿﻌﻒ ﻫﺬﺍ ﺍلحديث ﻛﺜﻴﺮﺓ، ﻧﺸﻴﺮ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺄﺗﻲ ﺇﻟﻰ ﺑﻌﻀﻬﺎ:
1 - لم ﻳﺮﺩ ﻫﺬﺍ ﺍلحديث ﻓﻲ ﺃﻱ ﻛﺘﺎﺏ ﻣﻦ الكتب ﺍﻟﻤﻌﺘﺒﺮﺓ ﻟﻠﻔﺮﻳﻘﻴﻦ، ﺑﻤﺎ ﻓﻴﻬﺎ ﺍلكتب ﺍﻟﺘﻲ تعمد ﺇﻟﻰ ﺟﻤﻊ ﺍﻷﺣﺎﺩيث ﺍﻟﻤنسوﺑﺔ ﺇﻟﻰ ﺃﻫﻞ ﺍﻟبيت (ﻋﻠﻴﻬﻢ ﺍﻟﺴﻼﻡ) كبحار الأنوار. ﻗﺎﻝ ﺍﻟﻤﺮحوم المحدِّث ﺍﻟﻘﻤﻲ ﻓﻲ ﻛﺘﺎﺏ (ﻣﻨﺘﻬﻰ ﺍﻵﻣﺎﻝ) ﺣﻮﻝ ﺍﻟحديث ﺍﻟﺸﺎﺋﻊ، بعد ﺃﻥ أثبت تواتر حديث الكساء: ﺃﻣﺎ ﺍلحديث ﺍﻟﻤﻌﺮﻭﻑ بحديث ﺍﻟﻜﺴﺎء ﺍﻟﺸﺎﺋﻊ ﻓﻲ ﻋﺼﺮﻧﺎ ﺑﻬﺬﺍ ﺍﻟشكل فلم يلحظ ﻓﻲ ﺍﻟكتب ﺍﻟﻤﻌﺘﺒﺮﺓ ﺍﻟﻤﻌﺮﻭﻓﺔ ﻭﺃﺻﻮﻝ ﺍلحديث ﻭﺍﻟﻤﺠﺎﻣﻊ ﺍﻟﻤﺘﻘﻨﺔ ﻟﻠمحدثين. ﻭﺟﺎﺯ ﻟﻨﺎ ﺃﻥ ﻧﻘﻮﻝ: ﺇﻧﻪ ﻣﻦ ﺧﺼﺎئص ﻛﺘﺎﺏ (ﺍلمنتخب).
2 - ﺇﻥ ﺃﻭﻝ ﻛﺘﺎﺏ - ﻓﻴﻤﺎ نعلم - ﻧﻘﻞ هذا الحديث بلا سند - ﻛﻤﺎ ﺃﺷﺎﺭ ﺇﻟﻴﻪ المحدث ﺍﻟﻘﻤﻲ - ﻫﻮ ﻛﺘﺎﺏ "ﺍلمنتخب". [4]
ﻭﺧﻼﺻﺔ ﺍﻟﻘﻮﻝ: ﺇﻥَّ حديث ﺍﻟﻜﺴﺎء ﺑﺼﻴﻐﺔ ﻣﻔﺎﺗﻴﺢ ﺍﻟﺠﻨﺎﻥ ﻫﻮ حديث ﻣﻌﻠَّﻖ ضعيف، ﻭﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﺍﻻﻋﺘﻘﺎﺩ ﺑﻤﺎ ﺟﺎء ﻓﻴﻪ. ﻭكذلك ﻫﻲ ﺍﻟﺮﻭﺍﻳﺎﺕ ﺍﻷﺧﺮﻯ ﺍﻟﺘﻲ تذكر بعض ﺍﻟﻌﺒﺎﺭﺍﺕ ﺍﻟﻮﺍﺭﺩﺓ ﻓﻲ ﺁﺧﺮ حديث ﺍﻟﻜﺴﺎء، ﻓﻬﻲ ﺿﻌﻴﻔﺔٌ سنداً، ﻭﺑﺎﻟﺘﺎﻟﻲ ﻻ ﺗشكّل ﺣﺠّﺔً ﻓﻲ ﺍﻟﻌﻘﺎئد، ﻭﻻ ﻓﻲ ﺍﻷﺣﻜﺎﻡ. ﻭﺃﻣّﺎ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﺇﻟﻰ ﺁﻳﺔ ﺍلتطهير ﻓﻼ ﺧﻼﻑ ﺑﻴﻦ ﺍﻟعلماء ﻓﻲ ﺃﻥّ ﻣﺼﺎﺩﻳﻘﻬﺎ هم ﻋﻠﻲّ ﻭﻓﺎطمة ﻭﺍﻟﺤﺴﻦ ﻭﺍﻟﺤﺴﻴﻦ (ع)، ﻓﻬﻢ ﺃﻫﻞ بيت ﺍﻟﻨﺒﻲّ (ﺹ).[5]
ﺍللهم ﺛﺒِّﺘْﻨﺎ ﻋﻠﻰ ﺩﻳنك ﻣﺎ ﺃﺣﻴﻴﺘﻨﺎ، ﻭﻻ ﺗُﺰﻍْ ﻗﻠﻮﺑﻨﺎ بعد ﺇﺫْ هديتنا، ﻭﻻ ﺗﺨﺮﺟﻨﺎ ﻣﻦ هذه الدنيا ﺣﺘّﻰ ﺗﺮﺿﻰ ﻋﻨّﺎ، إنّك ﺳﻤﻴﻊٌ مجيب.
[1] مكتب الاستفتاءات ﺍﻟﺘﺎﺑﻊ ﻟﺴﻤﺎﺣﺔ ﺍﻟﻤﺮﺟﻊ ﺍلسيد ﻣحمد ﺣﺴﻴﻦ ﻓﻀﻞ ﺍﻟﻠﻪ. (موقع بينات) http://arabic.bayynat.org.lb/ListingFAQ2.aspx?cid=30&Language=
[2] حديث الكساء في الميزان. الموقع الرسمي لسماحة الشيخ محمد عباس دهيني. http://dohaini.com/?p=1066
[3 صحيح الدعوات: ص: 308 - 309. الشيخ ياسر يوسف عودي.
[4] ﺃﻫﻞ ﺍﻟبيت ﻓﻲ ﺍﻟكتاب ﻭﺍﻟﺴﻨﺔ - محمد ﺍﻟﺮﻳﺸﻬﺮﻱ - ﺹ: 39 - 40.
[5]: حديث الكساء في الميزان. الموقع الرسمي لسماحة الشيخ محمد عباس دهيني. http://dohaini.com/?p=1066
تنسيق علي الرضى عيسى
===========
العثمانيون بعيون منصفة
إنّ إصدارنا للأحكام يتّصف دائماً وللأسف بأنّه ينطلق من نظرة أحادية للأمور، إنّنا دائماً ننظر للمسائل بعين واحدة، والباعث على الأسف والدهشة أكثر أنّنا نعاني جميعاً من هذه المشكلة سواء كنّا متحجّرين ومتطرّفين أو مستنيرين ومنفتحين! ويمكن القول إنّ أحكامنا الصادرة بحقّ الدولة العثمانية مثال بارز لظاهرة التشابه في أنماط التفكير لدى هذين الفريقين المتضادّين.
المتطرّف عندنا ينظر إلى الكيان العثماني من موقف شيعي متعصّب فيعتبره بالتالي سُنيّاً عُمَريّاً مُنكِراً للإمامة ومخالفاً لوصيّة النبي وغير معتقد بصاحب الزمان.. وفي ضوء ذلك هو مدان! (حتى في مقابل المسيحية)!
أمّا الشخصية ذات التوجّه المنفتح، فإنّه ينظر إلى النظام العثماني على أنّه نظام إقطاعي منحطّ وطائفي لا يؤمن بالديمقراطية، فهو أيضاً مدان (حتى في مقابل الغرب)! بوسعنا أن نقول إنّ كلا الفريقين صائب في نظرته ومحقّ في توجيه الانتقاد، لكنّ الخطأ يكمن في أن كلا الطرفين ينظر إلى القضية من زاوية ثابتة ومطلقة، في حال أنّ من شروط النظرة العلميّة الصحيحة أن تكون شاملة ومتعدّدة الزوايا والأبعاد وذات طابع نسبي، خلافاً للعوام الذين يميلون عادةً إلى تعميم الأحكام وإضفاء صفة الجزم عليها.
نعم! إنّ النظام العثماني نظام سنّي وغير ديمقراطي وهو فاسد من الناحية الأخلاقية. ولكن إذا تجاوزنا قضية كوننا شيعة أو مؤمنين بالاشتراكية، فاعتبره الشيعي (المنفتح) نظاماً إسلاميّاً يقف بوجه المدّ المسيحي (الاستعماري) واعتبره المستنير سدّاً منيعاً بوجه الغزو الاستعماري الغربي الذي يهدّد وجودنا كشرقيّين، فإنّ الحكم عليه ربما سيختلف آنذاك! من تلك الزاوية سوف يتمنّى الشيعي أن يظهر صلاح الدين الأيوبي– المناوئ للشيعة– مرة أخرى في فلسطين، ويجرّد خالد بن الوليد سيفه للهجوم على عساكر الروم، وسيتمنّى أن يُبعث السلاجقة من جديد ليلقوا بجحافل الصليبية في عرض البحر المتوسط، وأن ينهض العثمانيون ليطردوا الأجانب الغربيّين من أراضي المسلمين في آسيا وأفريقيا.
إنّ هذه الحملات الإعلامية المسعورة ضدّ العثمانيين إنّما تعكس وجود عقد قديمة في نفوس المسيحيّين والغربيّين من الدولة العثمانية، وهي ردّ فعل مُتوقَّع حيال الجروح العميقة التي خلّفها العثمانيون في الجسد الأوروبي إبان الحروب الطاحنة التي خاضوها معهم...
إنّنا حين نعتبر الحاكم العثماني في ذلك العهد حاكماً جائراً وفاسداً وغير مؤهّل، فإنّما يصحّ ذلك في حال النظر إليه من منظار إسلامي ومقارنة خصائصه بالخصائص التي يفترض أن يتوفّر عليها الحاكم الإسلامي الحقيقي، وكذلك إذا نظرنا إليه ممثّلاً للطبقة الحاكمة في مقابل المحكومة المحرومة أعني جمهور العمال والفلاحين وغيرهم من الشرائح المسحوقة.
أما إذا نظرنا إلى الحاكم من زاوية كونه يقف حائلاً بوجه الاستعمار الغربي والتبشير الصليبي، فإنّ الحكم يجب أن يتّخذ منحىً آخر. عندما يهاجم الغرب الحاكم العثماني فإنّه لا يهاجمه لكونه حاكماً فاسداً أو مستبدّاً أو سنّياً، بل يهاجمه لأنّه الممثل الرسمي لقدرة الإسلام في منطقة البحر المتوسط، وهو سدّ منيع بوجه أطماعهم التوسعية المتّجهة نحو آسيا شرقاً وأفريقياً جنوباً.
إنّ النزاع العثماني- الغربي هو في أفقه الأوسع يعكس واقع النزاع بين قوّتي الإسلام والمسيحية (الأوروبية) في عالم القرون (15 و16 و17 و18 إلى 19).
من كتاب التشيّع العلوي والتشيّع الصفوي للدكتور علي شريعتي
ص68-71
==============
أين ذهبت أمة العقل
محمد طراف *
يقول الله تعالى في محكم كتابه: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران : 110]، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ} [البقرة : 143]... والآيات التي تميّز هذه الأمة عن غيرها عديدة، وكذلك الأحاديث النبوية، وأحاديث أئمّة أهل البيت(ع)، وما فيها من تبجيل للعقل ولإعمال الفكر في كلّ حياتنا دون استثناء، فقد جاء في الحديث عن أبي جعفر الصادق عليه السلام أنّه قال:" لما خلق الله العقل استنطقه ثم قال له: أقبِل فأقبَل ثم قال له: أدبِر فأدبر، ثم قال: وعزّتي وجلالي ما خلقت خلقاً هو أحبّ إليّ منك ولا أكملتك إلا فيمن أحب، أما إنّي إيّاك آمر، وإيّاك أنهى وإيّاك أعاقب، وإيّاك أثيب.".. وما يميّز المسلمين الذين يتّبعون مذهب أهل البيت(ع) عن باقي المذاهب الإسلامية، هو بقاء باب الاجتهاد في الدين مفتوحاً، وما هذا الاجتهاد سوى إبقاء لدور العقل في الحكم على كّل شيء... وحتى في الحكم بصحة أو بطلان الأحاديث الواردة إلينا عن النبي(ص) وأهل بيته(ع)... فقد ورد عن النبي(ص): "ما جاءكم عني فاعرضوه على كتاب الله، فما وافقه فأنا قلته، وما خالفه فلم أقله"، وعن أئمّتنا (ع):"ما أتاكم عنّا فاعرضوه على كتاب الله، فما وافق كتاب الله فخذوا به، وما خالفه فاطرحوه.".. إذاً، فالمعيار في كلّ ما لدينا وما نعايشه هو كتاب الله وإعمال العقل في الحكم على ما يأتينا ويردنا، أو ما يبتدعه الكثيرون اليوم من أمور لا عهد لنا بها، وهي ما تخالف كتاب الله وتعيدنا إلى أمور رفضها الإسلام وحاربها، وهذا ما سنعرض له في نقاطٍ أربع...
1- أول هذه البدع مرتبط بالمعصية الأولى التي قام بها إبليس لربّه حين رفض الانصياع لأمره بالسجود لآدم (ع)، وما كان تبريره لهذا الرفض والعصيان إلا فخره بأصله على أصل آدم(ع)، {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ}[الأعراف : 12]... وهذا الأمر أدى إلى طرد إبليس من الجنة نهائياً، {قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ} [الأعراف : 13] و هنا حقد على آدم وذريّته وتوعد بالعمل على الانتقام ودفع هذه الذرية للوقوع في المعاصي وإبعادهم عن خط الله، {قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَـذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً} [الإسراء : 62]، ومنذ ذلك اليوم بدأ الصراع بين الإيمان والكفر وسيستمر إلى قيام الساعة... أما الغريب اليوم وما هو مستنكر هو بروز عقائد جديدة لدى بعض مدّعي الالتزام بخط أهل البيت (ع) وهو الادّعاء بأن الله خلق شيعة أهل البيت(ع) من طينة، وباقي البشر من طينة أخرى، وما هذا المنطق إلا منطق إبليس اللّعين في استعلائه على آدم وعصيانه لخالقه... أيعقل أن يصدر عن أمّة تدّعي العمل بالعقل أن تقول بمثل هذا؟! والخطاب القرآني واضح في نفي هذه البدعة، {إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لَّازِبٍ} [الصافات : 11]، {خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الزمر : 6].. {وَهُوَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} [الأنعام : 98]... والآيات عديدة في هذا المجال، والمؤسف أن لا صوت يأتي لينفي هذه البدع والقول ببطلانها، فأين نحن من أحاديث أهل البيت التي تحثنا على محاربة الغلو والإتيان بالبدع... ألا يُعدّ هذا اتباعاً لأبليس ومنطقه؟! أليس هذا من الشرك والكفر؟! فكيف نجمع بين خط أهل البيت(ع) وبين خط إبليس ومنطقه؟!!
2- من الأمور التي شدّد عليها القرآن هي مبدأ الثواب والعقاب، ومبدأ أنّ كلّ إنسان مسؤول عن عمله، وليس هناك من أحد يحمل أوزار أيّ أحد آخر مهما علا شأنه وعظُم...{ قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [الأنعام : 164]، {مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء : 15]، {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى}[فاطر : 18]... وكذلك الأحاديث الشريفة العديدة، وبالأخص حديث النبي(ص): "يا عبّاس بن عبد المطلب، يا عم رسول الله، اِعمل لما عند الله فإنّي لا أغني عنك من الله شيئاً، يا صفيّة بنت عبد المطلب، يا عمّة رسول الله، اِعملي لما عند الله فإنّي لا أغني عنك من الله شيئاً، يا فاطمة بنت محمد، يا بنت رسول الله، اِعملي لما عند الله فإنّي لا أغني عنك من الله شيئاً..."، ثم قال: "ألا إنّه لا ينجي إلا عمل مع رحمة".... فكان موقف الإسلام والقرآن واضحاً من بعض المعتقدات التي يؤمن بها أتباع الأديان الأخرى كالإيمان بالفداء عند المسيحيّة، بحيث يعتقدون أنّ المسيح قد صُلب من أجل أن يكفّر عن خطايا المسيحيين، ويتحمّل كلّ تبعاتهم ويتكفل بإدخالهم الجنة دون حساب.. وهذا ما يتعارض مع ما ذكرنا في بداية هذه النقطة... ولكن المفجع أن من يقوم ببناء ثقافة هذه الأمّة اليوم، وهم أصحاب المنابر الحسينيّة - للأسف - باتوا يروّجون لهذا التوجّه، من أنّ الإمام الحسين(ع) استُشهد فداءً لشيعته ومن أجل أن يحمل أوزارهم ويكفر خطاياهم، فهذا الاستشهاد ما هو إلا كصلب المسيح باعتقادهم، وقد طهّرت دماء الإمام (ع) كل ذنوب الشيعة، وباتت الطريق إلى الجنة معبّدة لهم، يدخلونها دون حساب، ولكن هيهات هيهات... وما إنكار الإمام الصادق لمقولة من كان يحمل هذا المنطق إلا خير دليل على بطلانه ورفض الإسلام والدين له، فقال: "ما أنصفتمونا أن كُلّفنا بالعمل ووُضع عنكم"...
3- جاءت الرسالات السماوية لتخاطب العقول والنفوس بالحجج والبراهين الدامغة، لا بالمعجزات والخوارق، وكان الأنبياء هم أبناء بيئتهم ومجتمعاتهم، ولم يرسل الله نبيّاً إلا إلى قومه، وبلسانهم وليخاطبهم على قدر عقولهم لا غرائزهم... {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [إبراهيم : 4]... وهكذا كانت تسير الرسالات، وكانت هناك بعض التدخلات الإلهية المسدّدة لمسيرة الأنبياء والرسل، وذلك بحسب الأجواء التي كان يعيشها ذلك المجتمع، أو أن يقوم النبي بدحض بعض الأعمال كالسِّحر أو أن يأتي ببعض الأمور التي تعيد ما تفرق وابتعد عن الدين، كمسالة إحياء الموتى وإبراء الأكمه وما شابه... وهذه مكرمات مَنّ الله عليها على بعض الأنبياء في حالات محدّدة لأجل أمور تعود لحكمة الله... ثم جاء الإسلام بمعجزته الخالدة وهي القرآن، وكذلك مسيرة النبي (ص) وسيرته، وحياة أهل البيت(ع) العظيمة والمفعمة بالعقل والمنطق والحجة والدليل... فحسبنا سرد سيرتهم لنشر الدين على أوسع نطاق دون مغالاة وخرافات... وبالتوازي مع انتشار المغالاة، بدأت تسود ذهنية في أوساطنا من قبل الكثيرين من رجال الدين، ألا وهي أن لكل إمام معجزاته كما الأنبياء، فكما يزعمون، هل يُعقل أن يتكلم النبيّ عيسى (ع) في مهده ولا يتكلم هذا الإمام في مهده؟! وهل يُعقل أن يحيي الموتى ولا يستطيع أئمتنا إحياء الموتى؟! وهل يكلم سليمان الحيوانات ويفهم لغتهم ويعجز أئمتنا(ع) عن ذلك؟!! ويأتون بالروايات الكاذبة المدسوسة لدعم هذه الذهنية المتخلفة التي تجنح بالتشيّع عن خطّ العقل إلى سكة الخرافة.
4- وأخيراً وليس آخراً، تأتي مسألة الظواهر غير المعهودة لدينا قديماً ولا حديثاً، وإنما متأخراً جداً وفي عصرنا هذا... فكم كنا نسخر ولا نقيم اهتماماً للكثير من المظاهر التي كانت تحدث (بهتاناً) لدى الأديان الأخرى، كمسألة رشح الزيت أو الدم من بعض تصاوير وتماثيل الشخصيات الدينية، وحتى أنّنا لم ندخل في بحث صحّة هذه الأحداث لأنّنا نعلم علم اليقين زيفها وأنها مكذوبة، لأنها تخالف كلّ مبادئ وتعاليم ديننا ومذهبنا وما جاءنا عن النبي(ص) والأئمّة(ع)... وها نحن نستمدّ هذه الأباطيل من غيرنا لنلصقها زوراً بأهل البيت(ع)، وكأنّهم يحتاجون إلى ما يقوّي سيرتهم أو يعظمهم عند الناس، أوَ لا تكفي سيرتهم العطرة لتملأ هذا الكون فكراً وإسلاماً!! وها هم يريدون العودة إلى الوثنية من جديد ومن خلال منطق الصنميين {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر : 3]، فما حاربه الإسلام يأتي هؤلاء ليعيدوه باسمه وتحت رايته، لا بل باتت هذه الأباطيل هي الدين وكل إنكار لها هو الكفر... نحن ندّعي أننا الأمة المنتظرة لخروج الإمام المهدي(عج)، والمنتظرة الخلاص والعاملة له، والأمّة التي تدّعي تهيئة البيئة والظروف لخروجه، والأمّة التي تعوّل على أن تكون من جنوده وأنصاره والمستشهدين بين يديه...
أفبمثل هذه الذهنية نريد أن نستقبله، وبمثل هذه الأباطيل سننصره وندعو إليه؟! أهذا انتظار العاملين المجاهدين والداعين؟! أين أنتم وأين أهل البيت(ع) وفكرهم، أهكذا نكون زيناً لهم؟! وآخر كلامنا هو ترداد كلام سيّدنا وإمامنا علي بن أبي طالب (ع) لأصحابه: " أفبمثل هذه الأعمال تريدون أن تجاوروا الله في دار قدسه، هيهات لا يُخدع الله عن جنته"...
*كاتب إسلامي
==========
الشعائر الحسينية بين النمذجة والإصلاح
حيدر حب الله الشعائر الدينية والمظاهر الإيمانية أقوى رسوخاً في حياة الإنسان حتى من الاعتقادات الدينية نفسها، ومن ثم فإجراء تعديلات أو إصلاحات فيها يبدو أصعب من إجراء إصلاحات في مجالات دينية أخرى. ولعل بعض أسباب ذلك دخول الشعائر والمظاهر الدينية في مكوّنات الشخصية الإنسانية، كونها المظهر الحسي للدين الذي يتعامل الإنسان معه تعاملاً مباشراً. 1 ـ والشعائر الحسينية في المذهب الإمامي لها خصوصياتها ووضعها في نفوس المؤمنين، وقد تحوّلت عبر الزمن إلى مضخّة تضخّ بالحراك والهيجان الذي ساعد ويساعد على خلق روح ثورية دفاعية في النفوس، تقف مانعاً دون نفوذ كل جسم غريب أو تسلّط كل جائر، ولسنا نبعد عن مظاهر ساهمت مقولات الثورة الحسينية في خلقها كالثورة الإسلامية في إيران والمقاومة الإسلامية في لبنان و ... إن الحفاظ على هذه الروح الأبية التي تضخّ بها مقولات الثورة الحسينية في عصرٍ ما زال قانون المواجهة حاكماً فيه، تشهد بذلك السياسات الإسرائيلية والأميركية، لهو فريضة من فرائض الدين لاستثارة الهمم للدفاع عن الذات والأهل والوطن والدين والإنسان، ولا يصحّ ـ بأيّ حالٍ من الأحوال ـ أن نقتل هذه الروح التي حققت لنا نتائج باهرة عبر الزمن، بل وفي العصر القريب أيضاً. 2 ـ لكن ذلك لا يمنع من أن تتنوّع المواقف أحياناً، حسب طبيعة الظروف، فتغدو حسنيةً بعد أن كانت حسينية، أو تتحوّل إلى حسينية بعد أن كانت حسنية، والقصد من ذلك أن لا يتحوّل المذهب الإمامي إلى مذهب زيدي لا يرى شرعيةً إلاّ للخروج بالسيف، ولا يرى إماماً إلاّ فاطمياً نهض بسيفه لمواجهة الظلم. ربما لا يكون الأمر كذلك في العقيدة أو الفكر، لكنه قد يغدو كذلك في العقل الجمعي والذهن الجماعي، فتنعدم في ذاكرة الجماعة تنوّعات الأداء، ويغدو أداء واحد حصراً يمثل شريعة الله ورسوله، بل يتفاقم الأمر إلى حدّ اتهام الناس بتهم قاسية والتجريح بهم، وهم أصحاب رؤى مختلفة. ليس من الضروري تفسير انطلاق كلّ من يقدم أو يكون حسينيّاً على أنه حماس شبابي أو تهوّر غير عقلاني، ولا واقعي، كما أنه ليس من السليم تفسير رؤية كلّ من يتّخذ موقفاً حسنياً على أنه عميل أو متخاذل أو جبان أو .. بل يفترض أن تدرس الأمور بنمط عقلاني وعلمي وهادئ، بعيداً عن الاتهامات المتبادلة للوصول إلى أكبر قدرٍ ممكن من التفاهم والتفهّم. 3 ـ وقد سعى فريق من كبار العلماء المصلحين، كان من أوّلهم السيد محسن الأمين، ومن آخرهم السيد علي الخامنئي، وبينهم الكثير من العلماء كالشهيد المطهري والعلامة فضل الله و.. سعوا إلى إصلاح الشعائر الحسينية، وقد شكّلت رسالة "التنـزيه" للسيد الأمين عام 1346هـ منعطفاً في التاريخ الحديث للطائفة الشيعية، رغم ما لاقاه صاحبها من حملات طالت المرجع الديني السيد أبا الحسن الاصفهاني آنذاك لدفاعه عن آراء الأمين الإصلاحية. ولعلّ من المؤسف ـ وربما من المتوقع ـ أن تتضاعف مظاهر عاشوراء التي تعرّضت لنقد المصلحين، بوصف ذلك ردّة الفعل الانتقامية على حركات الإصلاح، وهذا ما شاهدناه لدى البعض بعد الدعوة التي أطلقها المرشد الخامنئي عام 1994م في خطابه التاريخي في مدينة ياسوج الإيرانية. 4 ـ وقد شعر التيار الرافض لحركة إصلاح الشعائر أن المذهب الإمامي والعقائد الشيعية تتعرّض لغزو وإبادة، فرأى أن تتوقف حركة النقد الداخلي في هذه الفترة على الأقل، ورجّح سياسة الدفاع على سياسة الإصلاح، دون أن يدرك بجدية ـ على ما يبدو ـ المخاطر القادمة نتيجة هذه السياسة التي تراكم المشاكل الداخلية حتى تتعاظم تحت شعار مواجهة الآخر الخارجي، وربما زاد فريق ليحاول إقناع نفسه بشرعية ما يقوم به مما كانت دعوات إلى إصلاحه، فيتمسّك له بدليل هنا أو بشاهدٍ هناك، لسنا في معرض بحثه أو مناقشته فعلاً. وقد تعزّزت لدى فريقٍ من الفرقاء القناعة بأنّ تصفية الحساب مع بعض المظاهر أو الوقائع غير الثابتة دينياً، ربما يواصل سيره لتتعرّض الأمور الثابتة بعد ذلك لهزّة أو ارتجاج، فقرّر إبقاء المعركة في دائرة الموضوعات البسيطة، بل وتضخيمها، فيما يشبه خطّاً دفاعياً وهمياً، يصون الثوابت من أن تغدو عرضةً لهجمات. 5 ـ وتتنوّع جهات الإصلاح اللازمة في الشعائر الحسينية وأمثالها، ويقف على رأسها ضرورة تصفية نصوص السيرة الحسينية التاريخية من الأكاذيب والأساطير التي اختلقت عبر الزمن، ولم يكن لها من وجود في مصادر الحديث ولا التاريخ ولا التراث، وإنما صنعتها العقلية الشعبية أو ما بحكمها، إنّ هذه الضرورة ضرورةٌ علمية ومعرفية، كما أنّها ضرورة توعوية وتربوية في الوقت عينه. ولا يعني ذلك أبداً تنحية كل نصّ تاريخي لا تستسيغه عقولنا العادية أو تجده خلاف المألوف، وإنما تنحية ما تقوم الشواهد التاريخية أو العقلية أو الشرعية أو .. على نفيه، وفق منهج ينبغي تحديده على أسس علمية وضوابط منطقية، تخضع لنظريات مدروسة ومبرهن عليها في قراءة التاريخ، لا لأيديولوجيات مسقطة تهدف التزييف أو.. وليس فقط ينبغي تنحية الأكاذيب والمعلوم عدم صدوره ولا وقوعه ولو بالعلم العادي الاطمئناني، بل من الضروري تشييد السيرة الحسينية وفق أسس النقد التاريخي والحديثي أيضاً، فالذي لم يثبت ـ ولو لم يكن عدمُه ثابتاً ـ ينبغي تخفيف حضوره على الأقل، كما أنّ الذي يقع مرجوحاً من الناحية التاريخية ينبغي تقديم الطرف الراجح المقابل له عليه، وبعبارة جامعة، ينبغي التعامل مع وقائع الثورة الحسينية والنصوص التاريخية الواصلة إلينا عنها، تبعاً لدرجة صحتها، فالمؤكد صحته ينبغي الترويج له والإصرار عليه وإشاعته، وأما غيره فينبغي أن يكون حضوره على تبع قيمته العلمية والتاريخية، ولا ينظر فقط إلى رغبة الرأي العام الذي نطالب نحن ــ من ننعت أنفسنا بالعلماء ــ أن نوجّهه ونصوّبه لا أن يكون هو المسيّر دائماً لحركتنا وأدائنا. إن الشعوب في حال إنتاج دائم للمعتقدات الشعبية الممزوجة بالخرافة، كما تؤكّد ذلك أيضاً تواريخ الأديان كافّة، وعلماء الدين ومفكرو المسلمين والمصلحون الاجتماعيّون يمثلون بالدرجة الأولى مصفاةً تنقّي هذه المنتجات الملوّثة بالخرافة أو الوهم، فإذا تعطّلت هذه المصفاة تلوّث المناخ كلّه، وصار من العسير ديمومة الحياة في ظلّه. 6 ـ ومن عناصر الإصلاح الضرورية الأخرى، إصلاح المظاهر العامّة، وإعادة النظر فيها وفق الموازين الشرعية والعقلية والإنسانية، ثمة مظاهر يجب نقدها لتقديم صورةٍ أكثر جماليةً وتأثيراً في القلوب عن الثورة الحسينية، فمظاهر مثل التطبير (ضرب القامات)، ووضع الأقفال على الأبدان، وضرب السلاسل، واللطم العنيف المدمي، وشبه التعرّي الموجود أحياناً، والمشي على النيران، والزحف والمشي مشية الكلاب على أبواب المراقد المطهرة للمعصومين(ع)، ونعت الذات بأنّها كلب الأئمة(ع) أو التسمّي بأسماء تحمل هذا المضمون أو..، وغير ذلك من المظاهر، لم يقم عليها ـ من وجهة نظرنا ـ دليل شرعي، بل باتت اليوم سلاحاً بيد الآخر لتشويه المذهب الإمامي في أرجاء المعمورة. ولا نريد بذلك التنازل عن عقائدنا وشعائرنا لأجل الآخر أو خوفاً من تشويهه وتشهيره، فهذا ما لا يرضاه الله لنا، وإنما نقصد ملاحظة قانون التـزاحم بين المصالح والمفاسد، سيما وأنّ هذه المظاهر على أقصى تقدير مستحبّة بعنوانها الأوّلي لا واجبة، فلا ينبغي التورّط في الحرام لأجل تحقيق مستحب. 7 ـ ولسنا نطالب بقمع هذه المظاهر بالقوّة أو مواجهتها بالعنف والقسوة، فهذا ما لا نجد عظيم جدوى من ورائه، إنما المطلوب نشر الوعي، ورفع مستواه بين العامة من الناس، بل بين بعض رجال الدين أيضاً، بطريقٍ مباشرٍ أو غير مباشر، لا بإثارة العامة أو تهييجهم. إنّ المعتقدات والمشاعر الدينية ربما يضيق نطاقها على صعيد الكم من حيث عدد المقتنعين بها عندما نمارس ضغطاً وقسوةً، لكن العدد القليل المتبقّي ترسخ عنده المفاهيم المحمولة، وتزداد رسوخاً وتعمّقاً، ليتحوّل تياراً صلداً على قلّة مناصريه. إنّ الطرف الرافض لهذه الأنشطة الإصلاحية يحقّ له أن يبدي رأيه، ويمارس نشاطه بحريّة، وأن لا يُقمع أو يرهب أو يستخفّ به، دون أن يكون له قمع غيره أو تفسيقه أو تضليله أو تكفيره.. بسبب أمور لا تسمّى سوى الاختلاف في وجهات النظر ليس إلاّ. 8 ـ ومن أبرز مظاهر الإصلاح تطوير آليّات عرض الثورة الحسينية، فليست المجالس العزائية المتداولة هي السبيل الوحيد لنشر ثقافة الثورة، بل قد استجدّت طرق يمكن إضافتها إلى ما كان، فإدخال الثورة الحسينية إلى دور السينما، وإلى التلفزيون والفضائيات والكمبيوتر، وللأطفال والشبان، قصّةً وروايةً وحكاية و.. كلّها وسائل جديدة يمكن توفيرها لخدمة الأهداف الحسينية الكبرى. كما أنّ تنظيم المسيرات والمجالس العزائية، واتسامها بالترتيب والتنظيم والأناقة والتناسق والجمال و.. وإخضاعها لتجويد وتحسين مستمرّين، كلّها عناصر مساعدة على رفع مستوى إحياء الشعائر، لتكون منبراً إعلامياً للإسلام يعرض الفكر والمفهوم كما يُبدي العاطفة والإحساس، بدل أن تستغلّ للتشويه والتـزييف. إنّ صور الإحياء وأشكاله أمرٌ بشريّ لا يخضع لنصٍّ إلهي أو حكم ديني، وإنّما يتبع الأوضاع الاجتماعية والثقافية في المجتمعات المختلفة، شريطة أن يبقى محافظاً على القواعد والأخلاقيات والأسس الدينية العامة، وهذا ما يسمح لأشكال إحياء الشعائر بفرص كبيرة من التطوير والتجويد، تبعاً لحاجات العصر وضرورات المرحلة، دون أن يكون هذا التطوير ـ بالضرورة ـ خوفاً من طرفٍ أو حياءً من آخر، وإنّما رغبة عقلانية صادقة في إرفاد نظم مشاركاتنا الشعبية بالمزيد من التناسق المنسجم مع التطوّرات التي تلفّ المجتمع برمّته.
===============
فليكفّوا عن هذا العمل
يؤسفني أن أقول إن أموراً جرت خلال الأعوام الماضية وأعتقد أن أيادي تقف وراءها، أموراً جرت، أثارت الشبهات لدى كلّ مَنْ رآها.. منذ القدم كان متعارفاً أن يضرب الناس أيام العزاء أجسادهم بالأقفال ثم تحدث العلماء عن ذلك، فزالت تلك العادة، واليوم ظهرت هذه العادة مجدّداً، ما هذا العمل الخاطئ الذي يقوم به البعض و(التطبير) أيضاً من جملة هذه الأمور، ويعتبر عملاً غير مشروع. أعلم أنّ البعض سيقول لم يكن من المناسب أن يتحدّث فلان عن التطبير، وما دخله في الأمر، كان حَرِيّاً بهم أن يَدَعَهُم يضربون الرؤوس بالقامات (السيوف)، كلا لا يصح ذلك، لو كانت مسألة (التطبير) التي بدأوا يروّجون لها في السنوات الماضية سائدة أيام حياة إمامنا (السيد الخميني) الراحل (رضوان الله عليه) لوقف الإمام بوجهها، إنّه عمل خاطئ، البعض يمسكون بالقامات ويضربون بها رؤوسهم ليغرقوا بدمائهم، عَلَامَ ذلك؟ وهل يعتبر ذلك عزاء؟ اللطم على الرؤوس هو العزاء، وعفوياً يلطم الذي نزلت به مصيبة، رأسه وصدره، هذا هو العزاء، العزاء الطبيعي، ولكن هل سمعتم أنَّ أحداً راح يضرب رأسه بالسيف لفقد عزيزٍ من أعِزَّتِه؟ هل يُعتبر ذلك عزاء؟ كلا، إنّه وَهْمٌ، ولا يمتُّ ذلك إلى الدين بصلة، وما من شك بأن الله لا يرضى ذلك. ربما من سلف من علمائنا لم يكن يستطيع أن يصرّح بذلك، ولكنّنا اليوم نعيش حاكميّة الإسلام وظهوره، فينبغي أن لا نقوم بعمل يجعل من المجتمع الإسلامي المحبِّ لأهل البيت (عليهم السلام) والذي يفتخر باسم ولي العصر- أرواحنا فداه- وباسم الحسين بن علي (عليه السلام) وباسم أمير المؤمنين (عليه السلام) لا ينبغي أن نجعله في نظر باقي مسلمي العالم وغير المسلمين، يبدو وكأنّه مجتمع خرافيّ وغير منطقيّ. كلّما فكرت في الأمر رأيت أنّني لا يمكنني السكوت عن هذا العمل الذي هو بالتأكيد عمل غير مشروع وبدعة، فليكفّوا عن هذا العمل، فإنّني غير راضٍ عنه، إنّني غير راضٍ من كلِّ قلبي عن كلّ شخص يريد التظاهر بالتطبير... من كتاب (خطاب القائد) ص18-19، الصادر عن الوحدة الإعلامية المركزية.
==============
الاختلاف في الاجتهاد ليس مبرّراً للإرهاب الفكري
الشيخ حسن الصفار في مواجهة التحدّيات المعرفية الخطيرة أمام الفكر الديني، وفي مقابل الطوفان الثقافي العالمي الجارف الذي يقتحم كلّ زوايا مجتمعنا وغرف بيوتنا، ويستقطب بوسائله الإعلامية والمعلوماتية المتطوّرة اهتمامات أبنائنا وبناتنا، هناك حاجة ماسّة لتكثيف العطاء الفكري والثقافي من قبل المرجعيّات والجهات الدينية. كما أنّ تطوّر الحياة وتقدُّم مستوى العلم والمعرفة يستوجب تطوير استراتيجيات الطرح الديني، وتجديد خطط التثقيف والتوجيه. إنّ على الساحة الدينية أن تثبت قدرتها على مواكبة التغيّرات والاستجابة للتحدّيات. وذلك لا يتحقّق إلا بتوجيه الاهتمام نحو التحدّيات الكبيرة، وبتضافر الجهود نحو الأهداف المشتركة، أما الانشغال بالخلافات الجانبية والقضايا الجزئية، فإنّه يشكّل هروباً من المعركة الأساس، ويُضعف كلّ القوى الدينية. لقد أصبحت حرية الرأي شعاراً ومطلباً لكلِّ المجتمعات والشعوب، وأصبح الانفتاح والحوار بين الحضارات والثقافات نهجاً يتطلّع إليه عقلاء البشر على مستوى العالم، فكيف سيقدّم المتديّنون أنفسهم أمام الآخرين، وهم لا يتحمّلون بعضهم بعضاً، ولا يحتكمون للحوار في خلافاتهم، ولا يستطيعون التعايش فيما بينهم واحترام بعضهم بعضاً؟ إنّ السمة الغالبة على مَن يمارسون الوصاية الفكرية استثارتهم لانفعالات المتدينين وتجييشيهم لعواطفهم، بعنوان حماية العقيدة والدفاع عن الثوابت والمقدّسات، لكنّهم لا يبذلون جهداً يناسب التحدّيات المعاصرة في إيضاح أصول العقيدة، وكأنَّ العقيدة تتلخّص عندهم في القضايا الجزئية التي يختلفون فيها مع الآخرين، كما أنَّ بعضهم يخلط الأوراق في تحديد الثوابت والمقدَّسات، وكأنّها قضايا اعتبارية، فالثابت والمقدّس ما يعدُّونه هم كذلك دون مقاييس واضحة متَّفق عليها. إنّنا بحاجة إلى تنوير العقول بالبحث العلمي والطرح المنطقي، وليس مجرد تجييش العواطف وإثارة الأحاسيس. طريق الأنبياء إن الطريق المشروع والنهج الصحيح لنشر أي فكرة ومبدأ، هو عرضها بأحسن بيان، والدعوة إليها بالمنطق والبرهان، والجدال عنها بأفضل أساليب التخاطب مع العقول والنفوس، وذلك هو النهج الإلهي الذي قرَّره القرآن الكريم، يقول تعالى: ﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾[النحل: 125]. كذلك فإنّ مواجهة الأفكار الباطلة، والآراء الخاطئة، يكون بنقدها ومناقشتها، وتسليط الأضواء على مكامن انحرافها، ونقاط ضعفها. إنَّ الرسالات الإلهية تتعامل مع الإنسان باعتباره كائناً عاقلاً مريداً، ولذلك تحترم عقله وتتخاطب معه، وتراهن على الثقة به وحسن اختياره. كما ترفض أساليب الهيمنة وممارسة الوصاية الفكرية، بما تعني من تجاهل لدور العقل، ومصادرة لحرية الإنسان. فالتخاطب مع العقل لا يكون بلغة العنف والقمع، وإنما بمنطق الحجة والبرهان: ﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ﴾[النمل: 64]. ﴿قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا﴾[الأنعام: 148]. ﴿لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَة﴾[الأنفال: 42]. ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾[البقرة: 256]. تلك هي المبادئ الناظمة للمواجهة الفكرية، لإثبات حقانية الدين وبطلان ما عداه. ولا يقبل الإسلام الإساءة إلى المخالف في الدين والرأي لمجرد مخالفته، ما لم يمارس عدواناً يستلزم الردّ والردع. كما لا ينصح الإسلام بالقطيعة مع المخالفين، بفصل وشائج العلاقات الإنسانية والاجتماعية معهم. بل على العكس من ذلك يوصي بالبرّ بهم والإحسان إليهم ما داموا مسالمين غير معتدين. يقول تعالى: ﴿لا يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾[الممتحنة: 8]. وقد ورد في أسباب نزول هذه الآية أن أسماء بنت أبي بكر، قَدِمت عليها أمها وكان أبو بكر طلَّقها في الجاهلية، فَقَدِمت على ابنتها أسماء بهدايا: زبيب وسمن وقرظ، فأبت أسماء أن تقبل هديتها أو تدخلها بيتها، وأرسلت إلى عائشة: سلي رسول الله، فقال: «لتدخلها». وفي صحيح البخاري (حديث رقم2620) عن أسماء بنت أبي بكر قالت: قدمت عليّ أمي وهي مشركة في عهد رسول الله فاستفتيت رسول الله قلت: إن أمي قدمت وهي راغبة، أفأصل أمي؟ قال: «نعم صلي أمك». وفي وصية القرآن الكريم بالبر بالوالدين، يشير إلى أنّ واجب البر بهما، وحسن العلاقة معهما، لا يتأثّر بالاختلاف الديني معهما، حتى وإن كانا يأمران الولد بالشرك بالله، يقول تعالى: ﴿وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾[لقمان: 15]. وكذلك الحال ينسحب على الأرحام والأقرباء، فإن الاختلاف الديني والفكري لا ينبغي أن يؤثّر على مستوى التواصل معهم كأرحام، جاء عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) أنه سأله الجهم بن حميد قائلاً: يكون لي القرابة على غير أمري ألهم عليّ حق؟ قال: «نعم حقُّ الرحم لا يقطعه شيء». إنّ على المسلم أن يلتزم حُسْنَ الخُلُق مع كلّ مَن يتعامل ويتعاطى معه، حيث ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «أحسن صحبة من صاحبك تكن مسلماً»، وجاء عن حفيده الإمام جعفر الصادق (عليه السلام): «ليس منّا مَن لم يحسن صحبة من صحبه، ومرافقة من رافقه». مرض الساحة الدينية من أسوأ أمراض الساحة الدينية في مجتمعاتنا، ما يسود معظم أجوائها من حالات الصراع والخصام الداخلي، وسعي بعض الجهات لممارسة دور الوصاية على أفكار الآخرين. فما تراه هي هو الحقُّ المطلق الذي لا يجوز لأحد الخروج عليه، وإلا استحقّ النَّبذ والطرد، والمحاصرة والإلغاء، وأصبح مستهدَفاً في وجوده المادي والمعنوي. نجد ذلك واضحاً في الخلافات المذهبية، حيث تتبادل الأطراف مع بعضها تُهَم التكفير والتبديع والمروق من الدين، ويجري التحريض على الكراهية في أوساط الأتباع، وقد يصل الأمر إلى إباحة هدر الدماء وانتهاك الحقوق والأعراض. كما نجد ذلك على مستوى الخلافات داخل المذهب الواحد، حين تتعدَّد المدارس، وتختلف الآراء في بعض التفاصيل العقدية والفقهية في إطار المذهب نفسه. إنّ اعتقاد كلّ طرف صواب رأيه وخطأ الرأي الآخر أمر مقبول، بناءً على مشروعية حقّ الاجتهاد، لكن إنكار حقّ الطرف الآخر في الاجتهاد وإبداء الرأي، والتعبئة ضدّه بالتشكيك في دينه والحكم بفساد نيّته، هو مَزلق خطير يؤدّي إلى تمزيق الساحة الدينية، وتشويه سمعتها، ودفع أبنائها إلى الصراع والاحتراب، كما حصل بالفعل. إنَّ التعبير عن الرأي الاجتهادي عقديّاً وفقهيّاً ضمن الضوابط المقرّرة أمر مشروع، وحقّ مكفول للجميع، ولا يصحّ أن تحتكره جهة وتصادره من الآخرين، فإنَّ ذلك إرهاب فكريّ، وإغلاق فِعليٌّ لباب الاجتهاد، وحرمان للساحة العلمية من الثراء المعرفي. أمّا الحذر من وجود آراء خاطئة، وطروحات منحرفة، تخالف المعتقدات السائدة، والاتجاهات الفقهية المشهورة، فهذا لا يقف أمامه القمع والتهريج، وإنّما المواجهة العلمية الفكرية، التي تثبت ضعف الرأي الآخر وخطأه، ومكامن الانحراف والثغرات فيه، وتظهر صحة الرأي المتين وأصالته، وتعالج الإشكالات المثارة حوله. إنّ أساليب القمع والإرهاب الفكري لا تستطيع أن توقف زحف الرأي الآخر، بل قد تخدمه بإثارة الاهتمام به، وتكتّل أتباعه للدفاع عنه، ولتعاطف الكثيرين مع ظلامتهم بسبب ما يستهدفهم من قمعٍ وتشويه، وبخاصة في هذا العصر الذي سادت فيه شعارات الحرية والانفتاح، وتطلّعات التغيير والتجديد. إنّ تمزيق صفوف المؤمنين وتحويل ساحتهم إلى خنادق للصراع والاحتراب، ودفعهم إلى انتهاك حرمات بعضهم بعضاً، وإسقاط كل طرف وتشويهه لرموز وشخصيات الطرف الآخر، جريمة أكبر وخطر أعظم من وجود رأي في قضية جزئية نعدّه خاطئاً باطلاً. ثم إنّ تعاليم الإسلام وأخلاقياته، وسيرة النبي والأئمة والصحابة الأخيار لا تقبل مثل هذه الأساليب ولا تتطابق معها. وهناك روايات وردت عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) يحذِّرون فيها أتباعهم من نهج الإقصاء والإلغاء لبعضهم بعضاً على أساس الاختلاف في بعض الجزيئات العقدية. فعن عبدالعزيز القراطيسي قال: قال لي أبو عبدالله الإمام جعفر الصادق (عليهم السلام): "يا عبدالعزيز إنّ الإيمان عشر درجات بمنزلة السلّم، يصعد منه مرقاة بعد مرقاة، فلا يقولنّ صاحب الاثنين لصاحب الواحد لست على شيء، حتّى ينتهي إلى العاشر، فلا تسقط من هو دونك فيسقطك مَن هو فوقك، وإذا رأيت من هو أسفل منك بدرجة فارفعه إليك برفق، ولا تحملنّ عليه ما لا يطيق فتكسره، فإنّ مَن كسر مؤمناً فعليه جبره". وعن الصباح بن سيابة، عن أبي عبدالله (عليه السلام): قال: "ما أنتم والبراءة، يبرأ بعضكم من بعض، إن المؤمنين بعضهم أفضل من بعض، وبعضهم أكثر صلاة من بعض، وبعضهم أنفذ بصراً من بعض، وهي الدّرجات".
========
التطبير: رؤية إسلامية فقهية
الشيخ حسين الخشن لعل من أغرب الوسائل المتبعة في إحياء الذكريات الدينية تلك الوسيلة أو الطريقة التي يعتمدها البعض في إحياء ذكرى شهادة الإمام الحسين (ع) والمتمثلة بضرب الرؤوس بالسيوف، وهو العمل الذي اصطلح عليه في بعض الأوساط بــ "التطبير"1، فماذا عن شرعيّة هذه الوسيلة؟ ومتى جاءتنا ومن أين؟ وما هي مبرّرات المدافعين عنها؟ وهل هي مبرّرات مقبولة؟ في المقابل، ما هو مستند المعارضين لها وحجتهم في رفضها؟ هذا ما نحاول تسليط الضوء عليه فيما يأتي: عادة حادثة ودخيلة إنْ لم يكن من الواضح عندنا بشكلٍ تفصيلي متى وكيف نشأت هذه العادة؟ ومَن هو أوّل مَن قام بهذا العمل أو سنّ هذه السنة؟ إلّا أنّه من المؤكّد أنّها عادة مستحدثة ولم تكن في عصر النبي(ص) ولا الأئمّة من أهل البيت (ع)، ولم ترد أيّة إشارة في شأنها، لا في كتب الحديث والروايات، ولا في كتب التاريخ ولا في غيرها من المصادر، وذلك بالرغم من توفّر الدواعي لنقل مثل هذا التصرّف، ليس بسبب غرابته فحسب، بل وبسبب منافاته للتعاليم الإسلامية الآمرة بالصبر على المصائب والناهية عن الجزع وخمش الوجوه وشق الجيوب عند المصيبة. وهكذا لم يُعهد ولم ينقل حدوث مثل هذا التصرّف فيما تلا عصر الأئمّة (ع) من قرون؛ لأنّ ما نقله بعض المؤرّخين – كالمقريزي في خططه، وأبي الفداء في تاريخه – عن مظاهر الاحتفال بعاشوراء في العصر الفاطمي والبويهي، ليس فيه إشارة إلى هذه العادة .2 يقول السيد محسن الأمين: "ولم ينقل ناقل أنّ أحداً فعلها من عوامّ الشيعة، ولا أنّ أحداً أجازها من علمائهم في الأعصار التي كانت ملوك البلاد الإسلامية فيها كلّها شيعةً"، ويذكر السيد مثالاً على تلك الدول : دولة الفاطميين والحمدانيين والبويهيين، ثم يضيف: "مع ما كان عليه بنو بويه من التشدُّد في نشر إقامة العزاء، حتى كانت في زمانهم تعطّل الأسواق في بغداد يوم عاشوراء، وتُقام مراسم العزاء في الطرقات".3 ويرجّح الكثير من العلماء والباحثين أن تكون هذه العادة قد تسربت إلى الفضاء الإسلامي الشيعي من خارجه، وتبرز أمامنا عدة آراء في تحديد المنشأ أوالمصدر القادمة منه، فبينما يرجِّح السيد هاشم معروف الحسني أن تكون هذه العادة التي وصفها بالدخيلة والتي لا يقرّها الشرع قد تسرّبت إلى بعض الأقطار بعد أنْ حكمها الشيعة من الهنود القدامى 4، فإنّ الشهيد مطهّري يذهب إلى "أنَّ الطبل والتطبير عادات ومراسم جاءتنا من أرثودكس القفقاز وسَرَتْ في مجتمعنا كالنّار في الهشيم".5 أمّا عن ظهورها في جبل عامل، فيقول السيّد محسن الأمين: "ولم تكن هذه الأعمال معروفة في جبل عامل، ولا نقل أنّ أحداً فعلها فيه، وإنّما أحدثها فيه في هذا العصر بعض عوامّ الغرباء، وساعد على ترويجها بعض من يرتزق بها، ولم ينقل عن أحد من علماء جبل عامل أنّه أذن فيها أو أمر بها في عصر من الأعصار...".6 أجل، ثمّة إشارة بالغة الدلالة أشار إليها محمد بن طولون الصالحي الدمشقي في كتابه "إعلام الورى"، في أحداث سنة 907هـــ، حيث قال ما نصّه: "في يوم عاشوراء، اجتمع جماعة من الأوباش والأعجام والقلندرية بدمشق، وأظهروا قاعدة الروافض من إدماء الوجوه وغير ذلك، وقام عليهم بعض الناس، وترافعوا إلى نائب الغيبة (وكيل الوالي أثناء غيابه) المذكور، فنصر أهل البدعة وشوّش على القائم عليهم".7 صحيح أنَّ هذا النص يتحدَّث عن إدماء الوجوه لا الرؤوس، إلّا أنّ ذلك لا يقلِّل من دلالته على أنّ قضية الإدماء كانت منتشرةً في بعض الأوساط في بداية القرن العاشر وربّما فيما سبقه، ولاسيما بملاحظه قوله: وأظهروا "قاعدة الروافض" التي تشير إلى أنَّ قضيّة إدماء الوجه كانت معروفةً عند مَن أسماهم ابن طولون بــ "الروافض" وهو مصطلح يُنبَز به الشيعة كما هو معروف. ولكن هذا النصّ لا يثبت امتداد هذه العادة إلى ما قبل القرن التاسع فضلا عن اتصالها بزمن الأئمّة (ع) كما لا يخفى، كما أنّه لا يدلّ على شرعيّة هذا التصرُّف كما هو واضح. التطبير وخدمة القضيّة! في ضوء ما تقدم من كون هذه العادة طارئة وغير متصلة بزمن المعصومين، يكون من الضروري أن نطلّ على الوجوه والمستندات التي تمسّك بها المدافعون عنها، لنلاحظ مدى تماميّتها وهل هي كفيلة بإثبات شرعيتها. ولكن قبل ذلك يجدر بنا هنا أن ننبه إلى قضيةٍ في غاية الأهمية،وهي أنّه عندما نريد أن نحوِّل عملا ما إلى سُنّة نواظب عليها ونهتم بها ونعتمدها في إحياء الذكرى الحسينية أو غيرها من المناسبات، ونخرج بها إلى الرأي العام ، فإنّا علينا أن لا نقتصر في تقييمها على السؤال عن مدى إباحتها بالمعنى الفقهي، بل يجدر بنا أن نسأل عن مدى مساهمة هذه الوسيلة في خدمة القضية التي نتبناها ونؤمن بها والخط الذي ننتمي إليه، وهذا ما علينا أن نعرفه فيما يرتبط بعادة التطبير، إن لجهة مساهمتها في التعريف بأئمة أهل البيت(ع) وإيصال فكرهم إلى الآخرين وفتح قلوب الناس عليهم، أو – على الأقلّ - لجهة تأثيرها في تهذيب نفوس الذين يقومون بهذا العمل وهو ضرب رؤوسهم بالسيف ويحيون عاشوراء بهذه الطريقة الدموية، فهل يستطيع المدافعون عن هذه العادة أن يذكروا لنا مدى مساهمتها في تحقيق هذه الأهداف؟ أَوَليس جرح الرؤوس بالسيوف، ثم ضربها بالأكُفّ حتى ينزف الدم ويملأ الوجه والرأس واليدين ويلطخ الثياب كلّها يعدّ مشهداً منفِّراً للآخرين، ومثيراً لدهشتهم وتعجبهم، كما أنّه مفزع للأطفال ومرعب للنساء، وبالتالي يكون الإستمرار في هذا العمل مساهما في إغلاق قلوب الناس عن التعرف على مدرسة أهل البيت (ع) تحت عنوان إحياء ذكرهم؟! وبعبارة أخرى : نكون بهذا العمل قد ساهمنا من حيث لا نشعر في إماتة ذكرهم (ع) بدل أن نحييه وننشره!. دعوة إلى المدافعين عن التطبير ودعونا نتحدث بلغة الأرقام والإحصاءات، نتجنب لغة التهويل أو التخوين و اتهام المتمسكين بالتطبير والمدافعين عنه في نواياهم، كما قد يفعل بعضهم عندما يتهمون المعارضين لهم بالتقصير بحق أهل البيت (ع)، ونحن عندما لا نتهمهم فلأنه لا يحق لنا ذلك، كما لا يحق لهم ذلك أيضا، بل دعوني أقول: إننا لا نشك بإنتفاء نية الإساءة أو قصد التشويه عند معظم هؤلاء، بل وحرص الكثيرين منهم على نشر فكر أهل البيت(ع)، لكن من جهتنا، فإننا نختلف معهم، ليس فقط في شرعية هذا العمل، بل في تقييم الفائدة المرجوة منه، إذ نحن على قناعة تامة بأنه عمل يسيء إلى مدرسة أهل البيت (ع) وأتباعهم . وفي ضوء ذلك، فإننا سوف نتحدث معهم بلغة الأرقام والإحصاءات،ونوجهها دعوة جديّة للمدافعين عن هذا العمل والمروجين له، ومفاد هذه الدعوة: أن تعالوا واختاروا أية جهة موثوقة من الجهات المختصة بالعمل الإحصائي وكلّفوها بالقيام بإجراء عملية استطلاع رأي واسعة تشمل شريحة كبيرة وواسعة من الناس ويكون المستهدف بهذا الإستطلاع ليس خصوص المسلمين الشيعة أو السنة ، بل وغير المسلمين أيضاً، على أن يكون السؤال الموّجه إليهم واضحاً ومحدداً وبعيداً عن الاعتبار الديني أو المذهبي حتى لا تأتي الإجابة مبنية على موقف مذهبي مسبق سلبياً كان أو إيجابياً تجاه هذه الظاهرة، لنسأل - مثلاً - السؤال التالي: لو رأيت أشخاصاً يدمون أنفسهم بالسيوف أو السلاسل الحديدية تعبيراً عن حزنهم على موت فقيد أو قائد لهم، فما هو انطباعكم الأولي إزاء ذلك، هل تستسيغ هذا العمل؟ أو أنك تستغربه وتستهجنه وتستنكره؟ ويمكننا أن نقدّم للمستطلعَين صورةً عن أحد مواكب التطبير والإدماء ونسأل كل واحد منهم: ما هو رأيك بهذا العمل الذي يقوم به أصحاب هذه الصورة ؟ وعلى ضوء هذه الإجابات يمكننا أن نعرف إلى أي حد تخدم ظاهرة التطبير فكرنا وقضيتنا. المؤيِّدون ومبرِّراتهم وهنا نصل إلى المقاربة الفقهية لهذه المسألة الحساسة، وسوف نبدأ أولا بملاحظة أدلة المدافعين عن هذه العادة، ثم ننتقل إلى ملاحظة أدلة المعارضين والرافضين لها. أما المدافعون عن التطبير فقد تشبَّثوا بعدّة وجوه وشواهد وهي ما يلي: الأول: إنّه لا دليل على حرمة هذا العمل رغم أنَّ فيه إضراراً بالنفس، ولكن هذا المقدار من الإضرار لم تثبت حرمته، وإنّما ثبتت لدينا حرمة قتل النفس أو قطع الأعضاء أو نحو ذلك، أمّا ما دون ذلك من إلحاق الأذى بالنفس، فهو محكوم بالحليّة، بمقتضى أصالة البراءة والحلية الثابتة بحكم العقل القاضي بقبح العقاب بلا بيان، وبحكم الشرع، من خلال قوله تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً}. (الإسراء:15). ولكن نقطة الضعف في هذا الاستدلال هي نهوض الدليل على الحرمة، كما سيأتي، ومعه، فلا مجال للتمسك بالأصل المذكور، كما هو معلوم ومحقق لدى الفقهاء والأصوليين. الثاني: إنّه لا ريب في أنَّ البكاء والإبكاء على الإمام الحسين(ع) مطلوب ومستحبّ، كما نصت عليه الروايات العديدة والمتظافرة الواردة عن الأئمة (ع)، والبكاء أو الإبكاء فعلٌ يحتاج إلى محفّز، والمحفّز إمّا قوليٌّ كذكر المصائب وإنشاد المراثي، أو عمليٌّ كضرب الرأس بالسيف. والجواب: إنّ ما دلّ على محبوبيّة البكاء والإبكاء ناظر إلى الطرق الإنسانيّة المألوفة لذلك، ولا يشمل الوسائل غير المتعارفة في التعبير عن الحزن، كما هو الحال في عادة ضرب الرأس بالسيف. هذا إنْ لم يثبت لنا حرمة هذه العادة، وإلّا سيكون خروجها عمّا دلّ على مطلوبيّة البكاء والإبكاء واضحاً وجليّاً؛ لأنّ ما يدلّ على مطلوبيّة شيء لا يستفاد منه مطلوبيّته ولو بالوسائل المحرَّمة، ألَا ترى أنّ ما دلّ على استحباب إدخال السرور على قلب المؤمن – مثلاً – لا إطلاق له، لصورة إدخال السرور على قلبه بالطرق المحرَّمة كالغيبة أو الزنا أو نحو ذلك؟.8 الثالث: إنّ في هذا العمل (إدماء الرأس) اقتداءً بالحسين(ع) وصحبه، ومواساةً وتعزيةً "لآل البيت (ع)"، ولا ريب في أنّ الاقتداء بالحسين(ع) مطلوب ومحبوب، ومواساة أهل البيت (ع) هي من أعظم القربات. والجواب على هذا الاستدلال الذي هو من غرائب الكلام أولا : إنّ الاقتداء بالإمام الحسين (ع) يكون بأن نُقتَل حيث قُتِل، ونجرح رؤوسنا حيث جَرَح رأسه، وهو لم يجرح نفسه بعقل بارد وهو يسير في الطرقات، وإنّما جرح نفسه وضحَّى بنفسه وهو في ساحة المعركة، يقاتل في سبيل الله، فلنجرح رؤوسنا ونبذل دماءنا في مواجهة العدو، فبذلك يكون الاقتداء .9 ثانيا: أمّا مسألة المواساة، فإنّها مطلوبة ومستحبَّة بالتأكيد، ولكن السؤال : كيف تكون المواساة، ثم لمن تكون ؟ أمّا السؤال الأول عن كيفية المواساة، فجوابه : أنها تكون بالطرق المألوفة والمتعارفة، دون الطرق المستهجنة أو المحرّمة، ومسألة أن يجرح الإنسان نفسه لأنَّ حبيبه جُرِح، أو يجلد ظهره لأنّ حبيبه جُلِد، ليست من أساليب المواساة لدى العقلاء، ليشملها ما دلّ على مطلوبيّة المواساة. وأما السؤال الثاني، وهو : مَنْ نُواسي بهذه التصرُّفات؟ فالذي يتردَّد على الألسن أنّنا نواسي سيدتنا الزهراء (ع) أو رسول الله (ص) أو أمير المؤمنين (ع) ، نواسيهم بدمعتنا ولطمنا على الصدور وجرح رؤوسنا. إلّا أنّ ملاحظتنا الأساسية على هذا الكلام هي: إنّ استخدام مفهوم المواساة في المقام وعلى الرغم من شيوعه على الألسنة لا يخلو من لبس أو مصادرة أو اشتباه، وذلك لأنّ المواساة إنّما تكون للإحياء بسبب تأثّرهم وحزنهم وانفعالهم البشري على فقد حبيب أو عزيز أو صديق، أمّا الموتى الذين توفاهم الله فلا معنى لمواساتهم! صحيح أنّ رسول الله (ص) وابنته فاطمة الزهراء (ع) ووصيّه أمير المؤمنين (ع) وغيرهم من آل البيت(ع) هم أحياء عند ربّهم يُرزقون إلّا أنّه وفق مقاييس ذلك العالم، فليس واضحا أنّهم يعيشون الحزن والغمّ والألم، لنواسيهم أو نخفف عنهم، بل هم في شوقٍ وفرح للقاء أحبابهم ومصيرهم إليهم { فرحين بما أتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنزن } ( آل عمران 170) ، وفرح اللقاء هذا يغمرهم حيث إنهم سوف يعيشون معا في كنف رضوان الله وجنته البرزخية التي أعدّها للصالحين من عباده وأولياءه . ولو سلّم أنّ الموتى يتأثرون ويتألمون في عالمهم البرزخي لما يجري على أقربائهم وأحبابهم في عالم الدنيا، فلا يبعد انصراف أدلة المواساة إلى مواساة الأحياء في عالمنا هذا، دون الأحياء في عالم البرزخ. ومن اللطيف ما ذكره الشهيد مطهَّري تعليقاً على قضيّة مواساة الزهراء، قال (رحمه الله): "إنّ هذا أمر مثير للسخرية، فهل تحتاج الزهراء بعد مرور 1400 عام على المأساة إلى المواساة، في الوقت الذي نعلم أنّها الآن مجتمعة مع الحسين (ع)... وهل إنَّ فاطمة عندكم طفلة صغيرة حتى تظلّ تلطم وتبكي بعد 1400 عاماً حتى نأتي لنعزّيها ونأخذ بخاطرها هذا هو الكلام الذي يخرّب الدين" .10 الرابع: إنّ العقيلة زينب الكبرى (ع) عندما رأت رأس أخيها الحسين(ع) مرفوعاً فوق الرمح أمام محملها نطحت جبيبنها بمقدَّم المحمل حتى سالَ الدم وتقاطر من تحت قناعها11، وقد حصل هذا العمل بمرأى الإمام زين العابدين (ع) وقد أقرّه وأمضاه ولم ينهها عنه. ولكن هذا الدليل مردود لعدة وجوه أهمها: أولا : إنّ الرواية التي نقلت ذلك ضعيفة السند؛ لأنّها مرسلة، كما صرّح بذلك العلامة المجلسي 12، قال: "رأيت في بعض الكتب المعتبرة رُوي مرسلاً عن مسلم الجصاص"، ثم ذكر الرواية، ومع ضعف الرواية سنداً فلا تصلح لإثبات حكم شرعي، وهو إباحة ضرب الرؤوس بالسيوف، والظاهر أنَّ الكتاب الذي نقل عنه المجلسي هذه الرواية هو "المنتخب" للطريحي، كما ذكر العلامة النقدي 13، وكون الكتاب معتبراً عند المجلسي كما ذكر في كلامه، لا يعني أنّ رواياته كلّها معتبرة عنده، فضلاً عن غيره، كما هو واضح. ثانيا: إنّ من المستبعد صدور هذا الفعل من العقيلة زينب(ع)؛ لأنّه مخالف لوصيّة أخيها الإمام الحسين (ع)، فإنّه أوصاها قائلاً: "أُخيّة، إنّي أقسمت فأبري قسمي، لا تشُقِّي عليَّ جيباً، ولا تخمشي عليّ وجهاً، ولا تدعي عليّ بالويل والثبور إذا أنا هَلَكْت" 14. وهذه الوصيّة فضلاً عن كونها واردة في مصادر أكثر اعتباراً من تلك الرواية، فإنّها منسجمة مع العمومات أوالمطلقات الكثيرة الناهية عن خمش الوجه، وفي بعضها النهي عن لطمه15 ، واستناداً إلى هذه الروايات أفتى فقهاؤنا بحرمة خمش الوجه ولطمه، بل ادعي عليه الإجماع .16 فإذا كان الحسين (ع) ينهى زينب(ع) عن مجرّد خمش وجهها، فكيف تنطح جبينها حتى يسيل الدم؟! وقد تطرح محاولتان لرفع المنافاة المذكورة بين ما تضمنته تلك الرواية وما اشتملت عليه الوصية: المحاولة الأولى: أن يقال: إنّ الإدماء لم يكن مقصوداً لزينب(ع) ولا كانت تتوقّعه عندما لطمت رأسها، فلا يتنافى فعلها هذا مع وصية الإمام (ع) لها. ولكنّ هذا التوجيه لئنْ رفع المنافاة، فإنّه سيقضي على إمكانية الإستدلال بالرواية لإثبات جواز الإدماء؛ لأنّ إدمائها (ع) لرأسها غير مقصود لها بحسب الفرض. المحاولة الثانية: أن يقال: إنّ وصية الحسين (ع) نهتها عن خمش الوجه، وكلامنا في إدماء الرأس. بيد أنّ هذه المحاولة أضعف من سابقتها، وذلك لأننا في هذه المرحلة من البحث لا نبغي الاستدلال بما جاء في الوصية على حرمة التطبير ليورد علينا بما ذكر، وإنّما نريد القول بأنّ الوصية معارضة للرواية المذكورة، والمعارضة محققة، لأنّ تلك الرواية لم ترد في إدماء الرأس ليقال بعدم المنافاة بينها وبين الوصية، وإنما نصّت على أن زينب نطحت جبينها حتى سال الدم، والجبين جزء من الوجه، فالتعارض بينها وبين الوصية الناهية عن خمش الوجه محكم، هذا على أن لقائل أن يقول: إنّ ما ورد في الروايات من النهي عن خمش الوجه يستفاد منه حرمة إدماء الرأس أيضا ولو في غير الوجه أيضا، لأنّ خمش الوجه هو بنظر العرف مثال للإدماء، أو أنه تعبير عن الجزع. الخامس: إنّه ورد في الخبر عن الإمام الرضا (ع): "... إنّ يوم الحسين أقرح جفوننا وأسبل دموعنا..." 17، بتقريب أنّ تقريح الجفون معناه جرحها . ولكنّ هذه الرواية، فضلاً عن كونها غير نقيّة السند18، ، فإنّها لا تدلّ على المدعى وهو جواز التطبير، إذ يمكن الاعتراض على دلالاتها: أولا: إنَّ تقريح الجفون هو عبارة عن ظهور أثر البكاء على جفون العين، فترى محمرة لذلك، وهذا التقريح لا يصل إلى حد الجرح كما لا يصل ضرره إلى حدّ ضرب الرأس بالسيف وما يستتبعه من نزف كثير للدم وربّما إغماء، ولذا فإنّ الكثير ممن يضربون قاماتهم يضطرون إلى مراجعة المستشفيات والأطباء، كما نرى ذلك رأي العين، وعليه، فلا يقاس الأعلى بالأدنى. ثانيا: إنَّ تقريح الجفون – كما يرى السيّد الأمين في رسالة التنزيه – يحصل بصورة قهرية، نتيجةً لكثرة البكاء وليس عن اختيار وتعمُّد – كما في ضرب الرأس – وإنْ لم يمكن الجزم بذلك، فلا أقل من احتماله احتمالاً قوياً يمنع من الاستدلال. وعِلْمُ الإمام (ع) بترتّب القرح على بكائه غير معلوم إلّا من باب عِلْم الغيب الذي لو سلم لا يكون مناطاً للتكليف. السادس: إنّ الإدماء هو من مصاديق الجزع، والجزع وإن كان مبغوضاً في المصائب لكنه جائز في خصوص مصيبة أبي عبد الله الحسين(ع)، بل ومحبوب، طبقاً لما جاء في الأخبار الواردة عن الأئمة الأطهار (ع) والتي تتقدم على العمومات والمطلقات الناهية عن الجزع تقدم الخاص على العام والمطلق على المقيد. ويلاحظ على ذلك: أولاً: إنّ الرواية الأساس والتي عليها الاعتماد من روايات الجزع هي رواية معاوية بن وهب عن الصادق (ع) والتي جاء فيها: "كل الجزع والبكاء مكروه ما خلا الجزع والبكاء لقتل الحسين (ع)" 19 ، وبصرف النظر عن سند ها وما فيه من إشكال 20، وبصرف النظر أيضاً عما قيل بشأنها أو يقال من منافاتها لحكم العقل باعتبار أنّ الجزع في بعض تعبيراتها العنيفة كالتطبير أو نحوه مما قد يدخل تحت ظلم النفس هو أمر قبيح في ذاته 21، أو هو في الأقل صفة غير حسنة في الإنسان بل مستقبحة عقلائياً، وبصرف النظر عما قد يُطرح كمعارضٍ لرواية الجزع تلك، والمعارض هو ما تقدم من نهي الإمام (ع) لزينب عن خدش وجهها حزناعليه، باعتبار أنّ الخدش من مصاديق الجزع كما هو واضح، وبصرف النظر أيضاً عن منافاته - أي الجزع- لقيمة الصبر التي أكدّ عليها القرآن بتأكيدات لا تقبل التقييد، الأمر الذي يجعل من الصعب الركون إلى هذه الرواية أو غيرها في إثبات هذا الحكم المخالف للمطلقات والعمومات الناهية عن الجزع ولا سيما بناءً على مبنى حجية الخبر الموثوق، أقول: بصرف النظر عن ذلك كله، فإنّ هذا الخبر يتضمن ما لا يمكن الالتزام به وهو الحكم بكراهة البكاء إلاّ على الإمام الحسين (ع)، فإن هذا مما لا يمكن الإلتزام به، إذ كيف يُحكم بكراهة مطلق البكاء، والحال أنه أمر فطري، وقد بكى رسول الله(ص) على ولده إبراهيم (ص) وعلى جعفر بن أبي طالب، وبكت الزهراء (ع) على أبيها(ص) وعلى أختها رقية بنت رسول الله (ص)، وبكى الكثير من الأئمة (ع) في موارد مختلفة . 22 ولأجل ما ذكرناه من الإشكال فقد سعى غير واحد من الفقهاء لتوجيه الكراهية الواردة في هذا الخبر بتوجيه يرفعع الإشكال والإعتراض ، وقدّم في هذا المجال توجيهان: الأول: ما ذكره الشيخ يوسف البحراني حيث قال: إنّ "المراد بالكراهة هنا عدم ترتب الثواب والأجر عليه مجازاً لا الكراهة الموجبة للذم" .23 الثاني: ما ذكره السيد الخوئي رحمه الله من أنّ "المراد بالكراهية فيه الكراهية العرفية، لعدم مناسبته – أي البكاء- مع الوقار والعظمة والمنزلة" .24 إلا أنّ هذين التوجيهين مخالفان للظاهر، ولا سيما الثاني، فلا يصار إليهما، والسيد الخوئي رحمه الله معترف بأنّ ما ذكره هو تأويل للخبر، فلا ملزم للأخذ به، لأنّنا ملزمون باتباع الظواهر دون الإحتمالات والتأويلات، ومن الواضح أنّ حمل الكراهية في كلام المعصوم على الكراهة العرفية هو مجرد احتمال يحتاج إلى قرينة، لأن المعصوم هو في صدد بيان الأحكام الشرعية، لا الأحكام العرفية، على أن كراهية البكاء عرفا وعدم مناسبته للوقار أمرغير دقيق، إذ لنا أن نسأل أين هو العرف الذي يستنكر البكاء؟ وهل يستنكره بالنسبة للرجال أم للنساء ؟ لا يخفى أنّ النساء من دأبهن البكاء ولا يعيبهن ذلك، والرجال أيضا يبكون في المصائب ولا يعيبهم ذلك ولا ينافي وقارهم، أجل المكروه عرفا هو مرتبة من البكاء تبلغ حد الجزع، وفي ضوء ما تقدم من عدم وجود جواب مقنع للإشكال المتقدم، فسوف يضعف الوثوق بالخبر المذكور، ويزداد وهنا على وهن، ولا سيما على مبنى القائلين بحجية الخبر الموثوق. ثانياً: مع التسليم بصحة الرواية وقابليتها لتخصيص المطلقات وإمكان توجيه كراهة البكاء الواردة فيها بشكل أو بآخر، إلاّ أنّ كون التطبير من مصاديق الجزع غير واضح، لأن التعبير عن الجزع لدى الناس لم يعهد من خلال الإدماء ولم يُعرف عن أحداً أنه كان يعبر في حالات جزعه بجرح رأسه وإدماء نفسه بشكل متعمد واختياري، وإن كان قد يحصل الإدماء ويترتب على بعض تصرفات الإنسان الجزع بشكل غير مقصود له. ثالثاً: مع التسليم بمصداقية التطبير للجزع إلا أنّ ما دلّ على حرمة التطبير ولو بالعنوان الثانوي – كما سيأتي- يخرجه عن المصداقية المذكورة إخراجاً حكمياً، لأنّ الجزع - على فرض إباحته - لا يُؤدى بطريقة محرمة، أترى هل يتوهمنّ أحد أنّ دليل الجزع يشمل صورة خلع الإنسان ثيابه بالكلية والمشي عارياً أمام الناظر المحترم باعتبار أنّ ذلك من مصاديق الجزع؟! أو يشمل صورة خلع المرأة لحجابها وكشفها لأجزاء من جسدها بنفس الإعتبار؟ وهل يتحقق الجزع بقطع الإنسان لبعض أصابع يده؟! بالطبع لا، لأنّ دليل الجزع ليس مشرّعا أو مبيحا للمحرمات، وإنما يؤدى الجزع – على فرض شرعيته في نفسه - بالطرق المشروعة، وعليه، فلا بدّ من إثبات عدم حرمة التطبير في الدرجة الأولى ليتمسك بعد ذلك بدليل الجزع لإثبات إباحته. رابعاً: إنّ المستفاد من بعض الروايات أنها وضعت سقفاً أعلى للجزع فلا يُتجاوز، ففي خبر جابر عن أبي جعفر (ع)، قال: "قلت له: ما الجزع؟ قال: أشد الجزع الصراخ بالويل والعويل ولطم الوجه والصدر وجز الشعر من النواصي" 25. فهذا هو أقصى الجزع وأشده أما ما هو غير ذلك أو أعنف منه كالتطبير فلا يدخل في الجزع، وهذه الرواية وإن كانت ضعيفة السند، إلاّ أنّها تؤيد ما ذكرناه. وهناك حجج أخرى لمؤيّدي التطبير أضعف ممّا تقدّم فلا ضرورة لذكرها. المعارضون وحججهم تمسَّك معارضو التطبير بأحد وجهين: الأول: أنَّ هذا العمل فيه إضرار واضح بالنفس، وكلّ إضرار بالنفس حرام، ويدلّ على ذلك العقل الذي يحكم بقبح ظلم النفس، وسيرة العقلاء المستقرة على ذمّ من يجرح نفسه ويدميها بغير سبب مشروع، وهكذا النصوص الكثيرة، مثل ما ورد عن إمامنا الباقر (ع): "ولكنّه سبحانه خَلَقَ الخَلْق، فعلِم ما تقوم به أبدانهم فأحلّه لهم... وعَلِم ما يضرّهم فنهاهم عنه..." 26، إلى غير ذلك من الروايات المستفيضة والأدلّة التي يُستفاد منها حرمة الإضرار بالنفس ولو لم يصل إلى حدّ الهلاك المحتم. (راجع للتوسّع في شأن هذا الدليل وما أورد عليه ما ذكرناه في كتاب: "في فقه السلام الصحيّة التدخين نموذجاً"). وقد اتّفق الفقهاء، كما ينقل السيّد محسن الأمين: أنّه إذا خاف المكلّف حصول الخشونة في الجلد وتشقّقه من استعمال الماء في الوضوء، انتقل فرضه إلى التيمُّم ولم يجز له الوضوء، مع أنّه أقل ضرراً وإيذاءً من شقّ الرؤوس بالمدى والسيوف .27 وقد تمسّك بهذا الدليل في المقام كلٌّ من السيد الأمين والسيد فضل الله، وقد اعترف الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء رحمه الله في كتابه "الفردوس الأعلى" بأنّ مقتضى القواعد الفقهية من حرمة الإضرار وإيذاء النفس وإلقائها في التهلكة هو حرمة التطبير والإدماء، وإن حاول رحمه الله في استدراك له أن يثبت الحلية في صورة ما لو صدر هذا العمل بنحو العشق وقصد الحب لأبي عبد الله الحسين(ع)، ولكن محاولته هذه غير موفقة، لأن النوايا الحسنة لا توجب تغيير الحكم الشرعي كما لا توجب تغيير الموضوع في المقام وهو الإضرار بالنفس .28 الثاني: إنّ هذا العمل لو افترضنا أنّه مباح بالعنوان الأولي، ولكن بما أنّه صار موجباً لوهن المذهب وهتكه، ورمي أتباعه بالوحشية والتخلّف والسخرية منهم، فيحرم بالعنوان الثانوي، ولا سيما أنّ الأئمّة (ع) قد أمروا أتباعهم بأن لا يفعلو ما يُسيء إليهم: "كونوا زيناً ولا تكونوا شيناً، حبِّبونا إلى الناس، ولا تُبغِّضونا، جرّوا إلينا كلّ مودّة، وادفعوا عنّا كلّ قبيح..." 29. وقد تمسّك بهذا الدليل كثيرون من العلماء والفقهاء (كالسّادة: الأمين وفضل الله والخامنئي وهاشم معروف الحسيني، والشيخ مغنيّة..)، وأقرّ آخرون بأنّ هذا العمل لو كان موجباً للهتك والسخرية فهو محرَّم، كالسيد الحكيم الذي أفتى "بأنّه لا مانع منها إن لم يكن فيها خوف الضرر... ولم تكن موجبةً للسخرية وتهييج عداوة الغير" 30، ونظير هذا الكلام قاله السيد الخوئي في الإجابة على بعض الاستفتاءات .31 وطبيعي أنّ صدق عنوان الهتك والتوهين أو السخرية - كما عبَّر السيد الحكيم - لن يدركه أو يتوجه إليه إلّا مَنْ له اطّلاع على أصداء المسألة في الواقع العالمي، وما تعكسه وسائل الإعلام من ردود الفعل تجاهها، وما تتركه من انطباعات سيّئة في نفوس الآخرين إزاء أتباع مدرسة أهل البيت (ع). وقد يقول قائل: إذا كان استهزاء الآخر وسخريته موجباً لترك هذه العادة وتحريمها، فهذا يستلزم رفع اليد عن الحجّ والصلاة وغيرهما من العبادات؛ لأنَّ الغير قد يسخر من حجّنا وما فيه من أعمال قد تبدو غريبة، مثل رمي الجمرات أو الطواف بالبيت أو السعي بين جبلي الصفا والمروة.. وهكذا قد يَسخَرْ الآخرون من صلاتنا وما فيها من ركوع وسجود.. أفهل نترك الحج والصلاة أو غيرها من الشعائر حتى لا يسخر منا الآخرون؟! والجواب: إنّ الصلاة والصيام والحجّ هي من العبادات والفرائض التي قام عليها الدين، وما كان كذلك فلا مجال لرفع اليد عنه بسبب سخرية الآخرين واستهزائهم، وأمّا التطبير فليس واجباً، وإنّما هو – إن لم يكن محرماً- على أحسن التقادير عمل مباح، والمباح يتغيَّر حكمه بتغيّر العناوين، أو طروء عناوين ثانوية عليه كعنوان الهتك أو نحوه، ولا يقاس بالواجب إطلاقاً. هذا كلّه لو كان هذا العمل (التطبير) يؤتى ويؤدى لا بقصد القربة والعباديّة، وأمّا مع الإتيان به بعنوان التعبُّد والتقرُّب إلى الله سبحانه، كما هو الملحوظ خارجاً فسوف يبرز أمامنا وجه ثالث للتحريم، ألَا وهو عنوان البدعة، فإنَّ أي عمل عبادي أو شعائري يؤتى به بكيفيّة خاصةً، إن لم يقم عليه دليل خاص، كان ابتداعاً في الدين وتقوّلاً على الله بما لم يقله. ولكن يمكن التعليق على ذلك بأنه يكفي لخروج العمل عن الإبتداع وجود الأمر به ولو كان دليله عاما، ولا حاجة للدليل الخاص، فتأمل. موقف العلماء من ضرب الرأس قد يحلو للبعض أن يقول: إنَّ القول بتحريم التطبير شاذٌّ ولم يتبنَّاه من يُعتدُّ به من العلماء والفقهاء، ولكن هذا الكلام ناشئ من قلّة الاطّلاع على آراء العلماء، فإنّ الكثير من علمائنا وفقهائنا وقفوا بوجه هذه العادة وغيرها من العادات الدخيلة، يقول الإمام الخميني في إشارة نرجِّح أنّها ناظرة إلى مسألة التطبير: "فنحن لا نقول ولا يقول أحد من المؤمنين إن كلّ عمل يقام بهذا العنوان هو عمل مقبول، بل إنّ العلماء الكبار اعتبروا الكثير من هذه الأعمال غير جائزة وكانوا يمنعون منها" .32 ويُعتبر العلامة الكبير السيد محسن الأمين من أشجع العلماء في مواجهة هذه العادة وغيرها من "المنكرات والبِدَع" – على حدِّ تعبيره – التي أدخلت على الشعائر الحسينية، وقد قاد (رحمه الله) حركةً إصلاحيةً في مواجهتها، وناصره في حركته هذه السيد أبو الحسن الأصفهاني، - مفتياً بحرمة ضرب الرأس – والسيد هبة الدين الشهرستاني والشيخ عبد الكريم الجزائري المجتهد الكبير، وهكذا العلامة الشيخ محسن شرارة والسيد مهدي القزويني وغيرهم .33 وقد اعترف الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء 34 بأنَّ مقتضى القواعد حرمة إدماء الرأس كما أسلفنا، وإن دافع عنه في بعض كتبه الأخرى، ونُقل عن السيد الحكيم قوله: "إنَّ ضرب القامة غُصَّة في حلوقنا" .35 وهكذا هاجم هذه العادة علماء آخرون، فالسيد هاشم معروف الحسني اعتبرها ظاهرةً شاذّةً ودخيلةً، وأنّها من الزيادات التي أساءت إلى المآتم الحسينية وإلى التشيّع، وقد استغلّها أعداء الشيعة للتنديد والتشويه والسخرية، وصاروا يقصدون بلدة النبطية يوم العاشر من المحرّم ويسمُّونه يوم جنون الشيعة، ويضيف بأنَّ الأئمّة بلا شكّ لا يرضون بهذه المظاهر ويتبرَّأون منها .36 وهكذا وجدنا الشيخ عبد الله نعمة يراها من الشوائب الغريبة البعيدة عن روح الذكرى وجلالها وأهدافها، وأنّها لا تتّصل بالدين بسبب أو نسب، وإنّما هي عادة دخيلة على المجتمع الشيعي امتصّها من خارجه 37، وبالجرأة عينها تصدَّى العلامة المرجع السيد فضل الله لمواجهة هذه العادة وتحريمها. وأخيراً وليس آخراً، فقد دعا سماحة السيد الخامنئي إلى محاربة هذه الظاهرة والمنع منها؛ لأنّها تسيء إلى التشيُّع وتشوِّه صورته. وإثر موقف السيد الخامنئي هذا، فقد صدرت العديد من المواقف العلمائية المؤيّدة له والداعمة لرأيه. ونختم الحديث بكلمة للشيخ محمد جواد مغنية تصوّر موقف العلماء اتّجاه هذه العادة، يقول رحمه الله: "وعلماء الشيعة بكاملها دون استثناء ينكرونها أشدَّ الإنكار، وإذا سكت عنها مَن سكت وغضّ الطرف، فإنّما يسكت خوفاً من بعض العوام الذين اتخذوها سبيلاً للاتّجار والكسب" {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران:175] .38 * تعود كتابة هذا البحث حول التطبير إلى ما يقرب من عقد من الزمن، وقد نشر حينها في جريدة بينات الصادرة عن مكتب المرجع الراحل السيد محمد حسين فضل الله وقد أجرينا عليه بعض التعليقات الطفيفة وألحقنا به بعض الإضافات. 1- أصل الكلمة مأخوذ من اللغة الفارسية، فإنّ "الطّبر والطبرزين: الفأس من السلاح، والكلمتان فارسيّتان"، (المنجد في اللغة 459، ونحوه ما في المعجم الوسيط، ج2، ص555). 2- راجع كلماتهما في سيرة الأئمّة الاثني عشر، للسيد هاشم معروف الحسني، ج2، ص107. 3- التنزيه ص31. 4- من وحي الثورة، ص167. 5- راجع كتاب: الإمام عليّ (ع) في قوتيه الجاذبة والدافعة ص165. 6- التنزيه، ص30. 7- نقلاً عن دائرة المعارف الشيعيّة، ج7، ص432. 8- راجع المكاسب المحرَّمة للشيخ الأنصاري، ج1، ص308. 9- أنظر: حديث عاشوراء للسيد فضل الله ، ص134. 10- الملحمة الحسينيّة، ج1، ص35. 11- فتاوى العلماء في الشعائر الحسينيّة، ص100،141. 12- بحار الأنوار، ج45، ص114. 13- زينب الكبرى، ص112. 14- الإرشاد، ج2، ص94 ورواه الطبري. 15- راجع الوسائل، ج15، ص583، الباب 31 من أبواب الكفّارات الحديث، ومستدرك الوسائل، ج2، 449، الحديث 10،6،1 من أبواب الدفن. 16 أنظر: ذكرى الشيعة في أحكام الشريعة للشهيد الأول محمد بن مكي الجزيني ج2 ص56. 17- أمالي الصدوق، ص190. 18- فإن الصدوق رواها عن شيخه جعفر بن محمد بن مسرور، وهذا الشيخ وإن ترضى الصدوق وترحم عليه، لكنّ ذلك لا يدل على التوثيق، طبقاً للمبنى الرجالي المشهور أنظر: معجم رجال الحديث ج5 ص90. 19- وسائل الشيعة ج14 ص505 من أبواب المزار ح10. 20- وقع الخلاف بينهم في صحة هذه الرواية، فقد وصفها صاحب الجواهر بالحسنة (جواهر الكلام ج4 ص365)، وكذلك السيد الخوئي رحمه الله (أنظر: التنقيح في شرح العروة الوثقى ج9 ص365)، ووصفها صاحب الحدائق بـ "الرواية"، مع أنّ دأبه التصريح بصحة الروايات أو وثاقتها، لكن في صراط النجاة ج3 ص443 وصفت بالصحيحة، وظاهر الشيخ آصف محسني في كتابه "الأحاديث المعتبرة في جامع أحاديث الشيعة" ص82و291 تضعيفها. أقول: ربما كان مرد الخلاف بينهم في توثيق الرواية إلى الإشكال في وثاقة رجلين واقعين في سند الرواية، وهما : الأول: محمد بن جعفر بن موسى بن قولويه، والد جعفر بن محمد بن قولويه صاحب كامل الزيارات، فمحمد هذا لا تصريح بوثاقته إلاّ أن يكتفى برواية ابنه جعفر عنه في كامل الزيارات حيث إنّه قد التزم بأن لا يروي في كتابه إلاّ عن ثقة، وهو قد أكثر الرواية عن والده مباشرة وبدون واسطة، (أنظر: معجم رجال الحديث ج18 ص174-175) ويؤيد ذلك قول النجاشي فيه إنه من خيار أصحاب سعد بن عبد الله الأشعري القمي. الثاني: أبو محمد الأنصاري، وهذا لو كان متحداً مع أبي محمد الأنصاري الذي يروي عنه محمد بن عيسى العبيدي ومحمد بن عبد الجبار، والذي هو عبد الله بن إبراهيم الأنصاري كما حقق التستري وغيره (أنظر: قاموس الرجال ج6 ص210-211)، فيمكن توثيقه ، لشهادة محمد بن عبد الجبار بأنه "كان خيّراً" (الكافي ج3 ص127)، وأمّا قول نصر بن الصباح فيه "مجهول لا يعرف" فقد ردّه السيد الخوئي بأنه "لا يعتني به، لأنّ نصر بن الصباح ضعيف" (معجم رجال الحدث ج23 ص40-42) وقد مال صاحب قاموس الرجال أيضا إلى وثاقة أبي محمد الأنصاري، مقدماً تزكية محمد بن عبد الجبار له على غمز نصر بن الصباح فيه (قاموس الرجال ج11 ص1494 وج6 ص211)، هذا مع أنّ دلالة "كان خيّراً" على التوثيق لجهة عدم الكذب قريبة ولكن دلالتها على التوثيق لجهة العنصر الآخر المعتبرفي الوثاقة وهو الضبط لا تخلو من تأمل،ولا سيما أن هذا الكلام لم يرد في مقام الجرح والتعديل، ومما يبعث على الشك في وثاقته "أنّ ابن الغضائري" قال في ترجمته: "يلقى عليه الفاسد كثيراً... ويجوز أن يخرج شاهداً" (قاموس الرجال ج6 ص209)، وإن كان السيد الخوئي رحمه الله لا يعتد بتضعيفات ابن الغضائري، هذا كله لو ثبت أن أبا محمد الأنصاري في روايتنا متحد مع الأنصاري الذي يروي عنه العبيدي ومحمد بن عبد الجبار، لكنّ الاتحاد غير واضح، لأنه لم نجد رواية للحسن بن محبوب الزراد عن أبي محمد الأنصاري إلاّ في روايتنا هذه، وهكذا لم نجد رواية للأنصاري عن معاوية بن وهب إلاّ روايتنا هذه. 21- ذكر ذلك السيد فضل الله رحمه الله ، أنظر: التعليقات التي علّقها على أجوبة الشيخ التبريزي على بعض الإستفتاءات الموجهة إليه ص57،هذا ولكن يمكن التأمل في حكم العقل بقبح الجزع وكونه من مصاديق حكمه بقبح الظلم. 22- أنظر وسائل الشيعة ج3 ص282 الباب87 من أبواب الدفن.. 23- الحدائق الناضرة ج4 ص 164. 24- التنقيح في شرح العروة الوثقى ج9 ص342. 25- وسائل الشيعة ج3 ص272 ح1 ب83 من أبواب الدفن. 26- الوسائل الباب 1، من الأطعمة أبواب المحرمة، الحديث 1. 27- التنزيه، ص28. 28- راجع لمعرفة مزيد من التفاصيل حول رأيه هذا، والتعليق عليه : ما ذكرناه في كتاب: "عاشوراء ..قراءة في المفاهيم وأساليب الإحياء". 29- بحار الأنوار، ج75، ص 348. 30- فتاوى العلماء في الشعائر، ص88. 31- المسائل الشرعية، ج2، ص339. 32- كشف الأسرار، ص169. 33- أعيان الشيعة، ج10، ص178. 34- الفردوس الأعلى، ص21. 35- نقل عنه ذلك السيد مرتضى العسكري، راجع: حوارات في الحرمين، ص270. 36- من وحي الثورة الحسينيّة، ص167. 37- روح التشيُّع، ص499. 38- الإسلام مع الحياة، ص68.
=======
الفقهاء وذهنية الاحتياط
في كتابه (الشريعة تواكب الحياة) ص197، حول ذهنيّة الاحتياط عند بعض الفقهاء يقول سماحة الشيخ حسين الخشن: رغم أنّ المتأمّل في الإسلام بقواعده الفقهيّة العامة وقوانينه التشريعيّة التفصيليّة يدرك أنّ طابعه العام هو التيسير والتسهيل، إلاّ أنّ ذلك لم ينعكس بشكلٍ بيّنٍ في فتاوى الفقهاء ورسائلهم العمليّة، لأنّ هناك ظاهرة بارزة في الفقه الإمامي، وهي ظاهرة لجوء الفقيه إلى الاحتياط في الفتوى، بحيث إنّ المكلّف محكومٌ بالعمل بالاحتياط في نسبة كبيرة من الفروع، وهذه الظاهرة ملحوظة عند فقهاء الشيعة فقط، ولا تظهر عند المذاهب الأخرى إلاّ نادراً، كما وأنّها أكثر شيوعاً عند الفقهاء المتأخرين منها عند المتقدّمين (قضايا إسلامية معاصرة، العدد 9 و10، ص29). أسباب ظاهرة الاحتياط أمّا عن أسباب شيوع ظاهرة الاحتياطات الكثيرة في الفقه الشيعي، فيرى العلامة الفقيه السيّد محمّد حسين فضل الله أنّها قد تكون "ناشئة في العمق من عدم إحساس الفقيه بالمسؤوليّة عن المكلّفين في حركته الاجتهاديّة واستغراقه في مسؤوليّته عن نفسه، حتى في المورد الذي يملك فيه الحُجّة، فيتعامل مع الفتاوى التي يصدرها للمكلّفين كما يتعامل مع احتياطاته الذاتيّة.. وقد امتدّت هذه الظاهرة لدى الفقهاء بالمستوى الذي يسجّلون فيه الاحتياط لمجرّد مخالفة بعض العلماء للرأي، حتّى لو لم يكونوا من المشهور، أمّا الشهرة الفتوائيّة، فقد تمثّل الأساس للاحتياطات الفتوائيّة، وكذلك شبهة الإجماع، أو دعوى الإجماع أو الإجماع مع احتمال المدرك، مع قيام الحُجّة لهم على الفتوى الترخيصيّة" . (م.ن، عدد8، ص23). ويُرجع بعض العلماء أسباب شيوع الظاهرة إلى عدّة أمور: الأمر الأول: النظر إلى الشريعة على أنّها شريعة الأفراد، لأنّ الفقيه الذي يُفتي بالاحتياط ينظر إلى الفرد الذي يمكنه أن يحتاط، أما لو رأى أنّ هذا الحكم موضوع للأمة أو لمجتمع بكامله، فإنّ الاحتياط يصبح كارثة على المجتمع أو يصبح مستحيلاً.. الأمر الثاني: إنّ الفقيه يتعاطى الإفتاء بعقليّة حذرة، ويعتبر كما اعتبر السيد الخوئي (رض) أنّ الفقيه لا يجب عليه أو لا يتعيّن عليه أن يبيّن الرُّخص، بل عليه أن يُبيّن الأحكام الإلزاميّة فقط، فيُفتي في موارد الرُّخص بالاحتياط، كما أنّه يتورّع من الإفتاء في موارد عدم وضوح الدليل.. الأمر الثالث: في بعض الحالات تكون هذه الظاهرة ناشئة من النظر إلى نصوص السُّنّة، باعتبارها مُطْلَقات وعمومات ثابتة بصرف النظر عن خصوصيّات الزمان، وفي حالات أخرى من التأثّر بالإجماعات والشهرات التي لم يقم على حجّيّتها دليل (م.ن، عدد 9 و10، ص30). متى يكون الاحتياط مقبولاً ومتى يكون مرفوضاً؟ وإنّ كان الاحتياط عبارة عن اللاموقف في المسألة الشرعية، فقد يكون مقبولاً وتدعو الحاجة إليه "في موارد التباس الدليل وعدم الوصول إلى الحُجّة من دون أيّ أساس للوضوح الذي تنطلق الفتوى منه، ولكن لا بدّ من الاقتصار على ذلك، والانفتاح على الفتوى الحاسمة في الموارد الوَرَعيّة والفتوائية التي لا تستند إلى حُجّة" (م.ن، عدد8، ص23). كما أنّنا لا نمانع من الاتجاه إلى الاحتياط في الحوادث التي تقلّ البلوى بها وتقضي ظروف الجماعة أو الشخص الحذر من تعدّي حدود الله، ويكون الاحتياط فيها ممكناً من غير حرج ولا ضرر على المكلّف الشخص أو الجماعة، بحيث يكون الاحتياط وسيلة لحفظ حرمة الشريعة وسلامة سلوك الفرد وليس كتماناً للحقيقة الشرعية، وأمّا إذا كان على الحكم الشرعيّ دليلٌ بيّن، وكانت دائرة البلوى فيه عامة تشمل الأمّة كلّها أو تكاد، والاحتياط فيه يؤدّي إلى الحرج الشديد، فإنّ الاحتياط في هذه الحالة قد يكون على خلاف مقصد الشارع المقدّس، لأنّه يؤدّي إلى تفويت مصلحة الحكم الشرعي على الأمّة، بل ربّما أصبح كارثة على المجتمع، كالاحتياطات في قضايا علاقة المرأة بالمجتمع، أو علاقة المسلمين بغيرهم (الستر والنظر، للشيخ شمس الدين، ص235) فعندما يفتي الفقيه مقلّديه بالاحتياط في موضوع النظر إلى وجه المرأة ولو كان بدون تلذّذ أو ريبة، أو بلزوم تغطية الرجل الجميل وجهه إذا كان مظنّة لفتنة النساء به، فإنّ هذه الفتاوى ستغدو مصدراً للحرج والعُسر على الناس ولنتصوّر مدى العُسر الذي يعانيه إنسانٌ مسلم فرضت عليه الظروف العيش في بلدان الغرب عندما يفتيه الفقيه احتياطاً بنجاسة الكفّار، ونجاسة كلّ ما لاقوه إلى الملاقي الخامس والسادس، مع قيام الدليل على الطهارة في البحث العلمي، أَوَليس ترك الاحتياط في هذه الموارد وأمثالها هو المنسجم مع مبدأ الاحتياط؟ وقد أجاد المحقّق القمّي صاحب القوانين عندما قال: "وكلّ من يبتلى بالمسائل الطارئة بين الناس يعلم أنّ الاحتياط لا ينفع" وأضاف في جوابٍ له على رسالة من قبل الملا علي النوري الذي كان يرى تبعاً لبعض الفقهاء أنّه "لا مجال في أمثال هذا الزمان إلاّ للاحتياط" يقول: "لم أستطع إلى الآن أن أفهم إمكانية أن يأتيَ الإنسان بجميع أو أغلب التكاليف بالاحتياط من دون خوف" ثم قال القمّي: "الاحتياط في بعض الموارد مستحيل، ويتعيّن إمّا الاجتهاد أو التقليد، مثلاً في الجهر والإخفات في بسم الله الرحمن الرحيم في الصلاة الإخفاتية، فالبعض قال بوجوب الجهر وبعضٌ قال باستحبابه، ولست أدري هل الاحتياط في الجهر أم في الإخفات، في الفعل أو الترك خوف العذاب... وأنتم إذا لم تريدوا الاتكاء على نفي العُسر والحرج، وتريد أن تقضي صلاة عمرك، وفي كلّ يوم تصلّي أيضاً الصلوات الإخفاتية أداءً فكيف يمكنك ذلك؟" ثم يذكر له مجموعة من المحاذير المترتبة على سلوك طريق الاحتياط، ويضيف: ثمّ ما المراد من الاحتياط، فإن كان المراد منه تحصيل اليقين فهذا غير ممكن، ولو أمكن في مورد فليس مما يشفي العليل، لأنّ غالب العبادات مركبات مثل الوضوء والغسل والصلاة والصوم والحجّ والجهاد، بل كذلك قاطبة، فإذا كان أحد الأجزاء ظنّياً، فالمركب يكون ظنّياً لا يقينياً لأنّ الكل ينتفي بانتفاء الأجزاء.." إلى أن يقول: "ثم بناءً على الآية الشريفة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}[التحريم: 6]، فبماذا تأمرون عيالكم الذين يتبعونكم، فإنّهم سيتبعونك، إمّا بأن يقلّدوك أو يحتاطوا كما تحتاط.. والمرأة عليها مواكبة أمر البيت والأطفال والحفاظ على حقوق الزوجية ولوازمها، والبنت الصغيرة في أول التكليف كيف تحمّلونها هذه المشاقّ والحال أنّ الحقّ تعالى قال في القرآن المجيد {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}[الحج: 78] {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}[البقرة: 185] والنبي (ص) قال: الشريعة سمحة سهلة، فإذا قال الله: لماذا تحمّلون عبادي المشاق ولم أرِدْ منهم إلاّ اليسير، وإذا قال النبي(ص): إنّ ديني سهل فلماذا تعقّدون الأمر على أمّتي وخصوصاً الضعفاء منهم فبماذا تجيب؟ وإذا أتيت بأدلّة حسن الاحتياط ففيها ألف كلام، وغاية ما يسلم به الاستحباب لا غير، إلى غير ذلك من مساوئ الالتزام بالاحتياط. ويضيف: "هذا في العبادات، أمّا المعاملات والمرافعات فإنّ الألم أشدّ والمصيبة أعظم، إذ قد تحتاج إلى قطع النزاع بين شخصين لا مجال للصلح بينهما، وفي ترك الحكم مفاسد عظيمة من قتل النفوس وسفك الدماء وهتك الأعراض... "(قصص العلماء، ص172-175). تبرير ظاهرة الاحتياط وقد تبرّر ظاهرة الاحتياط ببعض التبريرات، منها: أنّ الفتوى بالترخيص قد تخلق جوّاً من التساهل والتسامح في السلوك، ما يدفع بالكثير إلى تجاوز حدود الرخصة الشرعية إلى المحرّمات تذرّعاً بفتاوى الحلّ، ولهذا فالأجدر الاحتياط بحرمة اللعب بآلات القمار- كالورق- بدون رهان حتّى لا يجرّ ذلك إلى اللعب بها على وجه قماريّ، كما أنّ الأَوْلى الحكم احتياطاً بنجاسة أهل الكتاب حتى لا يفضي القول بطهارتهم إلى استسهال تناول مآكلهم ومشاربهم التي قد لا تخلو من المحرّمات أو نحو ذلك. وهذا يقال في سائر الموارد. ولكنّ هذا المبرّر غير مُقنع، فإنّ غير الملتزمين بالشرع لا ينتظرون الأحكام الترخيصيّة ليبرّروا بها عدم التزامهم، كما أنّ تعدّي بعض الناس في استعمال الرخص لا يغيّر حكم الله ويصير الحلال حراماً، لا سيّما أنّ الله يحبّ للعبد أن يأخذ بِرُخَصِه كما يُكره له ارتكاب معاصيه، على ما جاء في الحديث النبوي، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}[المائدة: 87]. وقد يبرّر اتجاه الفقيه إلى الاحتياط أنّه بمقتضى أدلّة حجّية الفتوى، فإنّ ما يجب على الفقيه بيانه هو الأحكام الإلزامية فقط دون الأحكام الترخيصيّة، ولكنّه رأي لا يعرف له وجهٌ بعد ملاحظة ما دلَّ على وجوب بيان أحكام الله تعالى والأحكام الترخيصيّة كالإلزاميّة ممّا يتوقّف عليه انتظام حياة الناس واستقامتها على جادة الشرع (الستر والنظر، ص237). النتائج السلبية لظاهرة الاحتياط ولئن كان باعث الفقهاء على الإفتاء بالاحتياط هو ضمان الخلاص الأخروي لهم وربما لمقلّديهم أيضاً، فإنّ له في المقابل نتائج سلبية عديدة: 1- منها، أنّ الاحتياط في الموارد العامة البلوى يُوقع المكلّفين في العسر والحرج ويؤدّي بالتالي إلى تمرّد الكثيرين على الحكم الشرعي وعدم امتثاله، بل ربّما خلق لهم عقدة من الشرع ذاته، ولعلّ هذا الظاهرة هي إحدى أسباب شيوع مرض الوسوسة في قضايا الطهارة والصلاة وغيرها التي يُبتلى بها بعض المؤمنين، ما يؤدّي إلى تعقيد حياتهم الشخصية والاجتماعية، لأنّ هذا الظاهرة قد أدخلت الكثير من الأحكام الشرعيّة غير التحريميّة في ذهنيّة المكلّفين إلى أحكام تحريميّة لأنّها كذلك من حيث النتيجة. 2- إنَّ كتمان الأحكام الشرعيّة الترخيصيّة، والاحتياط في مواردها، يعطي صورة مغايرة عن واقع الإسلام وطبيعته التيسيرية، ما يُوجب ابتعاد الكثيرين عنه ونفورهم منه. ولهذا فإنّ إصدار الفتاوى الترخيصية في الموارد التي قامت الحجّة عليها: "يحقّق نتيجتين: إحداهما عملية: من حيث ارتباطها بعمل المكلّف وتسهيل أموره وإبعاده عن العسر والحرج، والثانية فكرية: وهي تقديم الصورة الصحيحة للإسلام من خلال أحكامه الأصيلة". (قضايا إسلامية معاصرة، عدد 8، ص23). 3-إنّ نزعة الاحتياط لا تتناسب مع حركيّة التشريع الإسلامي ومرونته التي تفرضها حركية الحياة وتطوّراتها البالغة التعقيد. 4-إنّها تؤدي إلى إلغاء أيّ رؤية لمقاصد الشريعة. 5-إنّها تخلق انكماشاً في ذهنيّة الفقهاء أنفسهم، ما ينعكس سلباً على حركة الفقه، لا سيّما أنّ هذه النزعة شكّلت ذهنية عامة لدى الفقهاء تعتبر أنّ الترخيص المخالف للمشهور شذوذٌ فقهي لا بدّ من تجنّبه، وهذا ما ساهم ويساهم في خنق روح الإبداع، حذراً وتخوّفاً من تبعات الجهر بالمخالفة التي أقلّها الرمي بالشذوذ وتأسيس فقه جديد والخروج على المألوف ونحو ذلك. شجاعة النطق بالحق "وفي ضوء ذلك، فإنّ على الفقيه أن يملك شجاعة النطق بالحقّ فيما ثبت له من الحقّ، لا سيّما إذا كانت المسألة تتعدّى حالته الذاتية إلى الحالة العامة في مسؤولية الآخرين ومسؤولية إعطاء النظرة الصحيحة عن الإسلام، وإذا كان يلاحظ الورع والتقوى في أموره، فعليه أن يواجه المسألة في دائرتين: الأولى: إنّ الورع والتقوى يمثّلان العنوانين الخاضعين لقيام الحُجّة لدى الإنسان في أيِّ أمر من الأمور، فيكون اتباعه للحُجّة مصداقاً لهذين العنوانين، لأنّه حينئذ يُحرز الجدال عن نفسه، في هذا المورد أمام الله، لأنّه ليس مكلّفاً بالواقع في بُعده العميق بعيداً عن مصادر الاجتهاد الموثوقة، كما أنّ قاعدة (مَن اجتهد فأصاب فله أجران، ومَن اجتهد فأخطأ فله أجرٌ واحد)، تُسبغ الشرعيّة على عمل المجتهد وتحرّره من عقدة الخطأ في إصابة الواقع. الثانية: إنّ على هذا الفقيه أن يبتعد عن موقع المرجعية في الفتوى، لتكون احتياطاته لنفسه، فلا يفرضها على الناس ليربك حياتهم ويعقّد أمورهم من دون قاعدة علمية(م.ن، عدد8، ص23 و62).
========
البدع منشأ الفتن
سماحة العلامة المحقق الشيخ حسين الراضي جاء في الحديث الصحيح عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ: عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام، قَالَ: "خَطَبَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام النَّاسَ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا بَدْءُ وُقُوعِ الْفِتَنِ أَهْوَاءٌ تُتَّبَعُ، وَأَحْكَامٌ تُبْتَدَعُ، يُخَالَفُ فِيهَا كِتَابُ اللَّهِ، يَتَوَلّى فِيهَا رِجَالٌ رِجَالًا، فَلَوْ أَنَّ الْبَاطِلَ خَلَصَ، لَمْ يَخْفَ عَلى ذِي حِجًى، وَلَوْ أَنَّ الْحَقَّ خَلَصَ، لَمْ يَكُنِ اخْتِلافٌ، وَلكِنْ يُؤْخَذُ مِنْ هذَا ضِغْثٌ، وَمِنْ هذَا ضِغْثٌ، فَيُمْزَجَانِ فَيَجِيئَانِ مَعاً، فَهُنَالِكَ اسْتَحْوَذَ الشَّيْطَانُ عَلى أَوْلِيَائِهِ، وَنَجَا الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ الْحُسْنى". الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) يحصر وقوع الفتن الكبرى التي تهدّ الأمة وتفتّت وحدتها في أمرين مهمّين: 1- الأهواء التي تُتَّبَع: وهذا يشمل مختلف الأفكار الهدّامة والثقافات المنحرفة، اجتماعية وسياسية وعقدية ومذهبية واقتصادية، وكلّ ما يجرُّ المجتمع إلى الفتنة والاقتتال. 2- الأحكام المبتدعة: التي لا أصل لها في الكتاب الكريم والسُّنّة النبوية وقد ركّز على: أ- مخالفة الكتاب الكريم، وهذه كارثة كبرى وانحراف صارخ. ب- التقليد الأعمى للرجال، فقياسهم على معرفة الحقّ عندهم هو معرفة رجال معينين فلا يعرفون الحقّ إلا من خلالهم فما يقوله فلان هو الحقّ، وما لم يقله فهو باطل، عكس ما يقوله أمير المؤمنين عليه السلام: "إعرف الحقَّ تعرف أهله" أي أنّ الحقَّ هو الذي يحدّد الرجال الصالحين لا أن نقيس الحقّ على الرجال. ويخرج الإمام بنتيجة وهي أنَّ الباطل لو كان خالصاً لعرفه أكثريّة الناس ولما اشتبه عليهم، ولو كان الحقّ خَلُصَ من الشوائب والشبهات لما حصل الاختلاف بين الناس، ولكن يؤخذ من الحقِّ جزءٌ ومن الباطل جزء فيُمزجان، فعندها يختلط الحابل بالنابل، والحقّ بالباطل، فيقع الناس في الفتن، فمَنْ كان من أولياء الشيطان وقع في تلك الفتنة، ومَنْ كان له من الله عناية ولطف تحت أيِّ عنوان فتسبق له من الله الحسنى، فينجو من تلك الفتن والشُّبهات.
==========
التراشق والمهاترة بين السُّنّة والشيعة
في مطلع العهد الصفوي كان (القزلباشية) الصفوية يجوبون شوارع وأزقة المدن وهم يصيحون بصوت واحد: اللعنة على أبي بكر، اللعنة على عمر، وكان يتعيّن على المارّة أن يردّدوا هذا الشعار معهم، وكلّ مَنْ يتردّد في ذلك سيغرز الحراس حرابهم في صدره لإخراجه من حالة الشك والتردّد. الآن، لا شك أننا نرفض هذا العمل ونعتبره وحشيّاً وإرهابياً، ولكنه من الناحية الإعلامية كان له أثر لا يقبل الإنكار في نفسية الشيعة المعبّأة بالعقد، وهو بالحقيقة يمثّل ردّ فعل طبيعيّاً على الطعنات والمظالم التي تعرّضوا لها طوال التاريخ، والآن تأتي السلالة الصفوية شاهرة سيفها وهي تنادي بالثأر من السنّة والانتقام لظلامة أهل البيت وشهداء الشيعة، فما ظنّك بعوام الناس من الشيعة والذين لا يمتلكون عادة القدرة على تحليل المسائل الفكرية والتاريخية والعقائدية بعمق ودراية، ولا يدركون أنَّ هذا البقال أو العطّار السنّي لم يتورّط في أحداث السقيفة ولم يشهد كربلاء، هذا الجهل والتعصّب الطائفي كانت القوى السياسية والدينية الرسمية تستثمره في تحقيق أهدافها وتمرير مخطّطاتها وذلك عن طريق سحب الاختلاف العقائدي من دائرة أهل الخبرة والتخصّص إلى دائرة العوام ليتحوّل من خلاف فكري إلى خصومة واختلاف بين الترك والفرس والعرب والعجم والمسلمين والهندوس وغير ذلك. ومع ظهور الحركة المنادية بإبادة السنة في إيران والمتستّرة بالتشيع وولاية علي (ع) كان الملالي في الدولة العثمانية يفعلون الشيء نفسه بذريعة الدفاع عن الإسلام وسُنّة النبي فيرتقي واحدهم المنبر ويشمّر عن ساعده إلى المرفق ويغمرها مملوءة بالشيرة (نوع من القطر) ثم يخرجها ليغمرها في قارورة أخرى مملوءة بالذرة ويخرجها مرة ثانية ويتوجّه إلى مخاطبيه بالقول كم من الذرة علقت بيدي هذه؟! وعندما يحار الحاضرون في الجواب نظراً لكثرة العدد يضرب صاحبنا ضربته بعد أن نجح في التأثير نفسياً عليهم، فيصدر فتواه بأنّ من يستطيع أن يحظى برافضيّ ويقتله، فإنّ نصيبه من الحسنات سيكون بقدر الذي علق بساعد الملّا!! ونستطيع أن نحدس حجم الحقد الذي سيعتمل في نفوس الحاضرين تجاه الشيعة بحيث يتمنى كلّ واحد منهم أن تتسنّى له فرصة الظفر بأحد الرافضة ليتقرّب به إلى الله سبحانه وتعالى ويحصل على رصيد هائل من الحسنات! إنَّ الخلاف بين الشيعة والسنّة هو في الأساس خلاف فكري وعلمي وتاريخي يرتبط بطريقة فهم حقيقة الإسلام، وكلّ ما يدّعيه الشيعة في هذا المجال– وهو ادّعاء وجيه– أنّه ينبغي لمعرفة حقيقة الإسلام الاقتداء بأهل بيت النبي وعلي (ع) لأجل أن تكون المعرفة مباشرة ومن دون واسطة، وهذا بحدّ ذاته كلام معقول، كما يدّعي الشيعة أنّ مواصلة طريق الرسالة وروحها بعد النبي مرهونة باتباع علي (ع) والاعتراف به خليفة بعد النبي دون غيره ممّن عجزوا عن مواصلة الرسالة بروحها حتى آل أمر المسلمين إلى ما آل إليه مما يعرفه الجميع. وهذا أيضاً كلام معقول، غير أنّ هذا المعقول أصبح في زماننا هذا لعبة بيد قوّتين سياسيتين متشابهتين ومتخالفتين في آن واحد وهما الدولة الصفوية والدولة العثمانية، وتحوّل بالتالي إلى أداة لزرع الأحقاد بين رعايا الدولتين، والى درجة تثير السخرية والتندّر أحياناً كونها تتنزّل إلى مستوى لعب الأطفال. إنّ هذا النمط من التراشق والمهاترة هو الذي خيّم على مناخ الخلاف الفكري والعقائدي بين السنة والشيعة، وانعكس بشكل بارز على شكل تهم وافتراءات وسباب وشتائم، يأنف عنها أي إنسان فضلاً عن الإنسان المعتقد بعلي وبإسلام علي الذي وضع ضوابط أخلاقية رفيعة لأساليب الاحتجاج والمناقشة، ومنع من اتباع هذه الأساليب المستهجنة في الدفاع عن المبدأ وإثبات حقانيّته، وبذلك أصبح سائغاً جداً لدى الشيعي الإيراني أن يدع التركيز على الفضائل الأخلاقية والإنسانية لعليّ ويغفل الإشارة إلى المزايا الاجتماعية الفريدة لمبدأ الإمامة كنظام إلهي لقيادة المجتمع، ويقتصر على اللجوء إلى التنفيس عن عقده وأحقاده بلغة سوقيّة وألفاظ مبتذلة وافتراءات وأقاويل مقزِّزة بحقّ الخلفاء، ويعمد إلى اختلاق فضائل وكرامات فارغة للأئمة توجب استغفال عقول الناس وتخديرهم، وتحول دون تمكينهم من معرفة عليّ حقّ معرفته، وتبقيهم أسرى لأغلال الجهل والمذلّة. من كتاب التشيّع العلوي والتشيّع الصفوي للدكتور علي شريعتي ص75- 79
======
عقيدة التقمص
الشيخ حسين الخشن 1- التقمص تاريخاً ومفهوماً إنّ الاعتقاد بالتقمص هو فكرة آمنت بها بعض الطوائف والفرق قديماً وحديثاً، وينسب الاعتقاد به إلى بعض الفلاسفة القدامى والمـتأخرين، ومن الفرق الدينية التي آمنت بفكرة التقمص وعرفت به طائفة الدروز، في المقابل فإنّ الديانات السماويّة التوحيدية كافة رفضت فكرة التقمص رفضاً قاطعاً. والتقمص يعني انتقال النفس أو الروح من جسم بشري إلى جسم آخر، فمع موت الإنسان المتحقق بخروج روحه من جسده فإن هذه الروح تحلّ في جسم طفل وليد، فالجسم هو بمثابة القميص للروح تلبسه لفترة معينة ثم عندما يبلى القميص (الجسد) تنتقل الروح إلى قميص آخر، والتقمص هو أحد أصناف تناسخ الأرواح المطروح عند علماء الكلام والفلاسفة، فإنّ التناسخ - عندهم - تارة يكون بانتقال نفس الإنسان إلى جسد إنسان آخر ويسمى ذلك بالنسخ، وأخرى يكون بانتقالها إلى جسم حيوان ويسمى ذلك بالمسخ، وثالثة يكون بانتقلها إلى نبات ويسمى بالفسخ، ورابعة يكون بانتقالها إلى جماد، ويسمى بالرسخ[1]. ونشير هنا إلى أنّ قلّة المصادر "الدرزية" المتبناة من قبل المؤسسة الدينية الرسمية تجعلنا أمام ضبابيّة في موقف الدروز إزاء بعض النقاط التفصيلية المتصلة بموضوع التقمص، من قبيل: - هل أنّ النفس تبقى خالدة ولا تموت وتنتقل على الدوام من خلال التقمص من جسد إلى آخر ويستمر الأمر على هذه الحالة إلى ما لا نهاية، أو أنّ التقمص والتناسخ ينقطع في مرحلة معينة، وهي مرحلة قيام الناس لرب العالمين؟ - متى تحل الروح المفارقة في الجسد الجديد، هل تحل فيه وهو في الرحم أو بعد الولادة مباشرة؟ وإذا كانت تحل فيه وهو في بطن أمه فهل تحل فيه عند انعقاد النطفة أو بعد اكتمال صورة الجسد الإنساني؟ 2-الموقف الإسلامي من التقمص ولأننا تعودنا الصراحة والوضوح في بيان مواقفنا وطرح أفكارنا، فإننا نرفض فكرة التقمص ولا نقبل بها، لأنّ الدليل لا يساعد عليها، بل إنّ علماء الكلام[2] قد ذكروا عدة وجوه في إثبات استحالة التناسخ بأنواعه المشار إليها، وإليك بعض الملاحظات النقدية التي بالإمكان أن تسجل على هذه الفكرة: أولاً: إنّ القائلين بالتقمص وتناسخ الأرواح هم بين رأيين: الرأي الأول: أن يكون اعتقادهم بتناسخ الأرواح مبنياً على إنكار مبدأ المعاد، أو متضمناً لذلك، كما ينسب ذلك إلى القائلين بالتناسخ، فإنّهم لا يعتقدون بالبعث والمعاد ولا يرون أنّ ثمّة يوماً خاصاً للحساب أو أنّ هناك جنة وناراً، أجل إنّ الثواب أو العقاب إنما يحصلان في الطور الجديد الذي ستنتقل إليه الروح بعد التقمص، ليُعاقب الكافر أو العاصي من خلال انتقال روحه إلى جسد آخر يعيش معه حياةً ملؤها الشقاء والمعاناة والألم، ويثاب المطيع من خلال انتقال روحه إلى جسد آخر يعيش معه في طور جديد حياةً روحية هانئة. وهذا القول مرفوض رفضاً قاطعاً، لأنّ معناه - كما هو واضح - إنكار المعاد، والحال أنّ الإيمان بالمعاد هو من أسس الاعتقاد الديني التي تلاقت عليها رسالات السماء كافة، وقد عدّ المسلمون الإعتقاد بالمعاد أصلاً من أصول الدين . الرأي الثاني: أن لا يكون اعتقادهم بالتقمّص مختزناً ولا متضمناً إنكار عقيدة المعاد، بل يكون المقصود بالتقمّص هو عملية تناسخ مؤقتة للأرواح بهدف إعطاء فرصة ثانية أو ثالثة .. للإنسان تأكيداً لاختباره واختياره قبل يوم المعاد. وهذا الرأي وإن كان أهون حالاً من الرأي الأوّل، لكنه رأي لا يعضده الدليل المقنع لا من العقل ولا من النقل، بل إنّ الدليل النقلي قائم على بطلانه، فالنصوص الإسلامية الموثوقة تدل على أنّ الروح تنتقل إلى باريها في عالم جديد وهو عالم البرزخ، وليس إلى جسد إنسان آخر، وتدلّ هذه النصوص على أنّ كل مولود يفتح عينيه على الدنيا، فإنّ روحاً جديدة تنفخ فيه وتحلّ في جسده، وليست روحاً قديمة تحل فيه عقيب مفارقتها لجسد إنسان آخر انتقل إلى دار الفناء. ثانياً: إذا كان القائلون بالتقمّص يعتقدون أنّ " البشر لا يتناقصون ولا يزيدون وأنّ الأرواح معدودة منذ بداية الخلق"[3] فكيف لهم أن يفسّروا لنا حقيقة لا غبار عليها، وهي حقيقة تكاثر الخلائق جيلاً بعد جيل، بحيث إنّ عدد الناس كما هو معلوم وتؤكده الإحصاءات هو في تزايد مستمر وقد شارف العدد في هذا الزمن على الستة مليارات نسمة؟ فكيف يحصل التكاثر مع أنّ تناسخ الأرواح لو كان صحيحاً لكان لازم ذلك أن لا يتكاثر الجنس البشري وأن تبقى أفراده محدودة وثابتة، لأنّ المولود الجديد – طبقاً لنظريّة التقمص - لا تحلّ فيه روح جديدة، بل روح سابقة كانت تسكن في جسد آخر؟ ثالثاً: هل أنّ القميص (وهو الجسد) ضروري للنفس أو الروح بحيث إنّها لا تستغني عنه في بقائها؟ أو أنه ليس ضرورياً لها ويمكنها الاستغناء عنه ولو لفترة معينة ؟ إذا قيل: إنّها لا تستغني عنه، فهذا يعني أنّه وعند موت إنسان فإنّ روحه - لا محالة - سوف تنتقل مباشرة ودون انتظار إلى جسد جديد؟ وهنا يواجه هذه النظرية اعتراض وهو أنه في بعض الأحيان يحصل لنا اليقين بعدم ولادة أشخاص بعدد الذين ماتوا، كما في الحالات التي تحصل فيها إبادة جماعية تطال عشرات أو مئات الآلاف من الناس في خلال دقائق معدودة، كما في صورة إلقاء القابل النووية على المدن الكبيرة والتي تبيد الآف الناس فوراً، فأين تذهب هذه الأرواح أو النفوس المفارقة يا ترى؟ وكيف تبقى بلا جسد مع أنّ الجسد ضروري بالنسبة إليها كما هو المفروض!؟ وأما إذا قيل: إنّ الروح بإمكانها أن تستغني عن الجسد (القميص) فإنّ السؤال الذي يطرح نفسه أنّه لو لم يولد إنسان جديد عند مفارقة الروح لجسد صاحبها، فأين تذهب الروح المفارقة يا ترى؟ هل تبقى منتظرة معلّقة إلى حين ولادة إنسان جديد فتحلّ فيه؟ وكيف لأصحاب هذه النظرية إثبات ذلك؟ وهذه قضايا لا يكفي في إثباتها الإفتراضات والادعاءات المحضة، وإنما تحتاج إلى أدلة عقلية أو نقلية أو علمية. رابعا: من المعلوم أنّ النفس البشرية - ومنذ مجيئها إلى عالم الدنيا - تسير في خط تصاعدي تنمو فيه معارف الإنسان وتتكامل ثقافته ويزداد وعيه، وعليه فإنّ السؤال الموجّه إلى التناسخيين أو التقمصيين هو أنّه بعد موت الإنسان وانتقال النفس إلى جسد جديد بالتقمص، فهل تعود النفس إلى حالتها الأولى ممحيّة الذاكرة ومجردة من كل ما وصلت إليه من كمالات أو اكتسبته من ملكات أو مهارات؟ أو أنّ هذه النفس تنتقل بكل كمالاتها وملكاتها وقواها الإدراكية والغضبية والشهويّة المكتسبة إلى الجسد الجديد؟ فعلى الأول: أي إذا كانت النفس - وبعد تقمصها - تعود إلى حالتها البسيطة الساذجة التي كانت عليها عندما حلّت في الجسد الأول فهذا يرد عليه: أولا: أنه - والحال هذه - كيف لها أن تستعيد صوراً قديمة أو تتذكر أموراً أو أحداثاً جرت معها في التجربة الأولى؟! وبالتالي فأنّى لنا أن نثق بما يتم تناقله من أخبار عن حالات استرجاع عفوي لتلك الصور والذكريات ؟! وما الذي يمنع أن تكون صوراً مستولدة ومخلوقة لهذه النفس؟ ثانياً: على أنّه إذا أعيدت النفس وقد محيت ذاكرتها من كل آثار التجربة السابقة، فهذا معناه أنها ستكون كمن يواجه تجربة أولى له في الحياة، وهذا لا ينسجم مع ما يقوله أصحاب التقمص بأن الغرض منه - التقمص - هو إعطاء فرصة جديدة للإنسان، ليصلح ما أفسده في التجربة السابقة، فالاحتجاج - في محمكة العدل الإلهي - على الإنسان بأننا أعطيناك فرصة ثانية وثالثة لتصلح حالك لكنك لم تستجب، إنّما يكون له - أي الاحتجاج - معنى إذا كان هذا الإنسان يشعر ويعي أنه أمام فرصة جديدة واختبار جديد . وأمّا على الثاني: أي إذا انتقلت النفس إلى الجسد الجديد بكل قواها وكمالاتها وملكاتها التي اكتسبتها في التجربة الأولى، فهذا يلاحظ عليه: أولاً: إنّه خلاف الواقع، لأننا نجد أنّ المواليد الجديدة ليس لديها من المواهب والملكات والقدرات العقليّة والعلميّة مما كان لدى الإنسان الأول، بل إنّ هذه المواليد تبدو خالية من أي ملكات ومهارات وإنما تنمو عقلياً كما تنمو جسدياً . ثانياً: إنّ هذا - على فرض وقوعه فعلاً - يعني أنّ النفس مع انتقالها إلى الجسد الجديد فإنّها سوف تنتقل إليه محملة بأعباء سابقة، والذاكرة إذا كانت مشبعة ومثقلة بصور التجربة الأولى ومسكونة بأحداثها ومعاناتها فهذا سيفرض على النفس في طورها الجديد اتجاهات واختيارات محددة لا دخل لإرادتها فيها، أي أنّ النفس وبسبب التجربة الأولى وما تحفره فيها من صور سوف تغدو أسيرة اتجاهات معينة بما يملي عليها تصرفات محددة قد لا تختارها لو خليت أو جردّت من التجربة الأولى، وهذا خلاف منطق العدل الذي هو - حسب زعم القائلين بالتقمص -الهدف الكامن وراء الإعادة الجديدة . القرآن الكريم والتقمص هذا كله بصرف النظر عن النصوص الدينية عموماً والنص القرآني خصوصاً، أمّا لو أخذنا هذه النصوص بعين الاعتبار، فسوف نجد أنّها تدلّ بشكل واضح على عدم صحة عقيدة التقمص، وإليك توضيح ذلك: أولاً: قال تعالى بشأن أهل الجنة: {لا يذوقون فيها الموت إلاّ الموتة الأولى ووقاهم عذاب الجحيم} [الدخان56]، حيث دلّت الآية بصراحة تامة على أنّه ليس هناك سوى موتة واحدة قد مرّت عليهم، ما ينفي فكرة التناسخ والتقمص، لأنّه بناءً على هذه النظرية فإنّ هناك العديد من الموتات والإحياءات . وغير بعيد عن جو تلك الآية ما جاء في قوله تعالى: {أفما نحن بميتين إلاّ موتتنا الأولى ومنا نحن بمعذبين} [الصافات 60]. ثانياً: قال تعالى :{ حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون} [المؤمنون 99 – 100]، فقد دلّت هذه الآية المباركة على أنّ الإنسان بموته يدخل في عالم البرزخ ويستمر كذلك إلى يوم البعث، ما يعني أنّ حديث الإعادة إلى الحياة عبر جسد جديد هو حديث غير مطروح.. وربما يُعترض على القائلين بالتقمص أيضاً بأنّ العديد من الآيات القرآنية تدل دلالة قاطعة على أنّ النفس البشرية تتوفى وتقبض من قبل الله، قال تعالى: {الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها} [الزمر: 42] وقال سبحانه: {كل نفس ذائقة الموت} [آل عمران: 185]، فالنفس - إذاً – تموت وتضمحل ولا تنتقل من جسد إلى آخر. ولكن يلاحظ على ذلك بأنّ موت النفس لا يعني فناؤها وانعدامها، بل إنّها باقية، وتوفيها هو أخذها من الجسد وافية أي تامة، وهذا المعنى للتوفي هو ما يستفاد من الاستعمالات المختلفة للكلمة ولا سيما الاستعمالات القرآنية ، وقد نصّ على ذلك اللغويون[4]. وقد تسأل: إذا كان التوفي يعني أخذ النفس أو الروح من الجسد، فأين تذهب هذه النفس بعد التوفي؟ والجواب: ينقسم العلماء في الإجابة على هذا السؤال: 1- فمنهم من يعتقد أنّه يصار بها إلى جنة البرزخ أو ناره، تبعاً لإيمان صاحب النفس أو كفره، وقد حدّثنا القرآن عن أنّ الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون، وحياتهم هي عبارة عن الحياة البرزخية، قال تعالى: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون} [ آل عمران 196، وراجع البقرة 154]. 2- ومنهم من يعتقد أنّ الروح تحل في جسد مثالي في فترة البرزخ الفاصلة بين الحياة الدنيا والحياة الآخرة، والعذاب أو الثواب إنما تناله الروح بواسطة الجسد المثالي. وأما احتمال قيام النفس وحلولها في جسد آخر فقد عرفت بطلانه، على أنّ الإجماع الإسلامي بل وإجماع أتباع الديانات التوحيدية الثلات قائم على رفض حلوها في جسد آخر . 3- مستندات القائلين بالتقمص يستند القائلون بالتقمص إلى بعض الوجوه نشير إلى وجهين منها: الوجه الأول: وهو محاولة تبرير التقمّص بطريقة عقلية، وخلاصة هذا الوجه الذي نقله بعض الكتّاب المدافعين عن فكرة التقمص عن بعض مشايخ العقل الدروز[5]: إنّ تناسخ الأرواح يمنح الإنسان فرصة جديدة في هذه الحياة، فإذا كان في التجربة الأولى قد أخفق ولم يوفّق لسلوك طريق الخير، فربما يتعظ في المرة الثانية أو الثالثة، ما يجعل التقمّص وفقاً لهذا التبرير أكثر انسجاماً مع عدل الله تعالى ورحمته ولطفه، وبتعبير بعضهم أنّه " بالتقمص يثبت عدل الله في مخلوقاته، وتتكافأ الفرص وتتاح لكل مخلوق"[6]. ولكننا نلاحظ على هذا الكلام: أولاً: إنّ العمر الذي يمنحه الله للإنسان في هذه الدنيا - ولا سيما عندما يمتد هذا العمر بالإنسان - يشكّل فرصة كافية ووافية ليعتبر ويؤوب إلى رشده ويعود إلى ربه، كيف وباب التوبة أمام العصاة يظل مفتوحاً إلى أن آخر العمر، طبقاً لما أكدت عليه النصوص الدينية وورد في العديد من الأحاديث الشريفة، كما أنّ العبر والدروس التي تواجه الإنسان كل يوم وتذكره بربه هي أكثر من أن تحصى أو تعدّ. ثانياً: هل التقمص وانتقال الروح من جسد إلى آخر عام لكل البشر منذ بدء الخليقة وإلى نهاية الدنيا وبعث الأجساد من القبور، أو أنّه خاص بطائفة معينة وجيل محدد؟ إن كان التقمص عاماً وشاملاً لكل البشر منذ بدء الخليقة وإلى نهاية العالم، فهذا يعني أن هذه الجنس البشري والذي مرّت عليه الآف السنين قد أعطي مئات الفرص، وهذا بكل تأكيد ما لا تحتاجه عملية اختبار الإنسان، لأن الفرصة تمنح للشخص مرة أو إثنتين أو ثلاث، أم أن تمنح له مئات الفرص، فهذا أمر غريب ولا يقتضيه منطق العدل ولا يحتّمه . وأمّا إذا كان - التقمص - خاصاً بفئة معينة وطائفة محدودة وجيل بشري خاص، فهذا هو الظلم بعينه، لأنّه ما المميز لهؤلاء أو لهذه الطائفة أو الجماعة حتى يعطوا هذه الفرصة دون سواهم! ومعلوم أنّ من بديهيات العقل أن الله تعالى هو العدل المطلق الذي لا يظلم عباده مثقال ذرة. ثالثاً: إذا كان المبرر لمبدأ التقمص هو ما ذُكر من إعطاء فرصة جديدة للناس ، فالفرصة إنما يحتاجها العصاة والفسقة والكفرة، أما المؤمنون العاملون العابدون الذين نجحوا في التجربة الأولى، فليس ثمة ما يبرر إعادة إحيائهم وتقمصهم، بل قد تكون الإعادة وبالاً عليهم، إذ قد لا ينجحون في التجربة الثانية كما نجحوا في التجربة الأولى، فتكون إعادتهم – والحال هذه - ظلماً لهم وسبباً لمعاناتهم وشقائهم . الوجه الثاني: وهو من أهمّ الوجوه التي يعتمد عليها القائلون بفكرة التقمّص، وهو الاستناد إلى عينات ونماذج مختلفة يتم تناقلها وفحواها أنّ ثمة أشخاصاً عديدين قد تقمصوا وعادوا إلى الحياة بصور وأجساد جديدة، ومما يؤكد – حسب ما يدعى – حصول التمّص أنّ الوليد الجديد يستحضر صوراً ذهنية وذكريات عاشها شخص آخر لا تربطه به أية رابطة ولم يجمعهما زمان ولا مكان بل ربما عاشا ظروفاً مختلفة، وهذا ما قد يعبر عنه بالاسترجاع العفوي للذكريات، وهو إن دلّ على شيء فإنّما يدل على أنّ الروح التي استوطنت هذين الجسدين هي روح واحدة، وأنها انتقلت من أحدهما إلى الآخر بالتقمص. وتعليقاً على هذا الكلام نقول: أولاً: إنّ هذه القصص التي تتناقل على الألسنة عن حصول التقمّص بحاجة ماسّة إلى التدقيق فيها، بغية التأكد من صدقيتها من جهة ، ومن انسجامها مع فكرة التقمص من جهة أخرى، ومن الطبيعي فإنّ هذا لن يتسنى حصوله بمجرد الدعاوى بل لا بدّ إجراء دراسات محايدة وجادة ومستوعبة، تعمل على دراسة الحكايات المتداولة بشكل تفصيلي وتتعرف على ملابسات كل قضية منها وتدرس ظروفها وتلاحظ مدى تقاطعها مع القضيّة الثانية والثالثة.. ثانياً: إنّ هذه الحالات نادرة نسّبياً بالقياس إلى عدد أفراد الإنسان، فلماذا لا يتذكر كل الناس حياتهم السابقة؟! وإذا كان المبرر الذي يُعطى للتقمّص هو منح الإنسان فرصة جديدة لاختباره وامتحانه علّه يعمل على تغيير واقعه المنحرف ويراجع حساباته ويعمل على إصلاح نفسه، فهذا المبرر هو مبرر عام ولا يختص بإنسان دون آخر، بل هو يفرض أن يشعر أو يستذكر كل فرد من أفراد الإنسان حياته السابقة أو يستعيد بعضاً من فصولها ومشاهدها ومحطاتها، ليعي أنّه أمام فرصة جديدة، ويحسن استغلالها والإفادة منها، وبذلك تقوم الحجّة عليه، وأما لو لم يتذكر شيئاً عن حياته السابقة فكيف ستقام عليه الحجة بذلك، وحيث إنّ الغالبية العظمى من بني الإنسان لا يذكرون شيئاً عن حياةٍ سابقة عاشوها فهذا يعني أنّ التقمص يفقد فلسفته ومبرره. ثالثاً: إنّ من الممكن – بعد التوثق من تلك القصص والحكايات - إيجاد تفسيرات دينية أو نفسية أو غيرها لظاهرة ما عرف بالاسترجاع العفوي للذكريات، وليس بالضرورة أن ينحصر تفسير تلك القصص بالتقمص وانتقال الروح من جسد إلى آخر، وإليك بعض هذه التفسيرات المتصورة والمعقولة لهذه "الظاهرة"والتي قد تكون أقرب إلى التصديق من تفسيرها بالتقمص: 1-التفسير الديني، وهو أنّه من الممكن (وهذا ما نطرحه احتمالاً أو رأياً قابلاً للتأمل والمدارسة) أن يكون انتقال هذه الأفكار من إنسان إلى آخر قد حصل بواسطة ما يعرف قرآنياً بـ"القرين"، وهو مخلوق من الجن يقوم بدور الوسوسة للإنسان بخفاء، فما الذي يمنع أن تكون هذه الذكريات هي من فعل القرين أو الشيطان، بحيث "أوحى" للإنسان بصورٍ معينة عن بعض الأعمال أو المواقف التي كان يقوم بها شخص آخر متوفى، وهيأ له وكأنّ هذه الأعمال هي أعماله وتصرفاته. 2- التفسير النفسي، ألا يمكن أن تكون هذه الصور التي تتراءى للإنسان عن حياة أخرى قد عاشها هي مجرد صور خيالية أو تهيؤات نفسية تعيش في كوامن النفس نتيجة بعض المؤثرات أو الظروف الخاصة التي يعيشها الإنسان، أو العقد النفسية التي تعتريه أو الهواجس أو الأماني أو أحلام اليقظة التي يستغرق في التفكير بها وتسيطر على عقله ومخيلته فيتراءى له أنها صور ومشاهد ومواقف قد عاشها في حياة سابقة؟ 3-التفسير الروحي، إنّ هذا العالم فيه الكثير من الأسرار الخافية، وعالم الروح عالم محاط بالكثير من الأسرار والغموض، قال تعالى: {يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً} [ الإسراء 85 ]،هل أخذنا المنام نموذجاً لما يحصل أو يجري مع الروح؟ فالإنسان منا قد يرى في منامه شيئاً معيناً أو إنساناً أو حدثاً ما وهو لا يعرف عنه شيئاً، ثم لا تمض سوى أيام أو أسابيع حتى يعاين ما رآه في المنام رأي العين وعلى أرض الواقع، أليس هذا بالأمر المستغرب حقاً؟! وباتضاح هذا، فلنا أن نسأل فيما نحن فيه: أليس من الممكن والوارد أنّ تكون الروح قد تلاقت في عالم المنام مع روح أخرى وتهامست الأرواح وتعارفت، وحصل نتيجة ذلك تبادل في الأفكار وتلاقح في المعلومات بطريقة غير مفهومة لنا بشكل تام ولا نعيها بوضوح؟ 4-التفسير التخاطري، وما المانع في أن تكون القضية من قبيل التخاطر وهو التقاط الإنسان لبعض الصور والأفكار بطريقة غامضة؟ إلى غير ذلك من الاحتمالات التي يمكن أن تفسر لنا هذه الظاهرة، وهو الأمر الذي يجعل احتمال التقمص ضعيفاً للغاية. الوجه الثالث: وربما حاول القائلون بالتقمص الاستدلال بالقرآن الكريم، من خلال التمسك ببعض الآيات، ومن أبرزها قوله تعالى: {ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل } [غافر 11] فقد دلّ على أنّ هناك إماتتين، وهذا لا يمكن تفسيره أو فهمه إلاّ وفقاً لمبدأ التقمص، لأنّه إذا أمكننا تفسير الإحياءتين: بالإحياءة التي يعيشها الإنسان في الدنيا، وهي الإحياءة الأولى، والإحياءة التي يعيشها بعد المعاد وهي الإحياءة الثانية، لكن كيف نفسّر الإماتتين؟ إنّ الإماتة الأولى معلومة وواضحة، وهي ما نراه رأي العين من موت كل واحد من بني الإنسان في منتهى عمره، أمّا الإماتة الثانية، فلا تفسير لها إلاّ بافتراض إعادة الميت إلى الحياة، ليموت مجدداً بعد دورة جديدة له في هذه الحياة، وهذا ما يعتقده القائلون بالتقمص . والجواب على ذلك: أولاً: إنّ الآية دلّت على وجود إماتتين وإحياءتين فقط، وهذا لا ينسجم مع عقيدة التقمص، وذلك لأنّ القائلين بالتقمص إن كانوا ينكرون المعاد فهذا يعني أنهم يقولون بإماتات وإحياءات لا حد لها ولا حصر، وإن كانوا يعتقدون – ولو في نهاية المطاف – بالمعاد، فهم أيضاً - لا محالة - قائلون بالعديد من الإماتات والإحياءات خصوصاً بالنسبة للأجيال الأولى من الجنس البشري، ولا ينحصر الأمر عندهم بإماتتين وإحياءتين، ولذا فالآية الشريفة مغايرة لمعتقدهم ولا تدل عليه بأية حال. ثانياً: بصرف النظر عن الإشكال السابق، فإنّ الآية لا ينحصر تفسيرها ولا يتوقف فهمها على الاعتقاد بفكرة التقمص، بل ثمة وجوه أخرى في تفسيرها هي أقرب إلى الاعتبار وإلى ظاهر الآية الكريمة من تفسيرها بالتقمص، وإليك بعض هذه الوجوه : أحدها: أن الإماتة الأولى هي في الدنيا بعد انتهاء الحياة، والإماتة الثانية هي بعد حساب القبر وقبل البعث، لأن الإنسان وبعد موته تتم إعادة الروح إليه في القبر ليحاسب حساب القبر، ومن ثم ترفع هذه الروح عن الجسد مجدداً إلى يوم البعث، حيث تعود إليه من جديد. ثانيها: أنّ المقصود بالميتة الأولى هي ما كان عليه الإنسان قبل خلقه وبعث الروح فيه، لأنّ الموت يطلق على ما ليس فيه حياة فعلية إذا كان له قابلية الحياة، ويشهد لذلك قوله تعالى: {كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون} [البقرة 28]، وكذلك قوله تعالى: {أومن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون} [الأنعام 122]، وقوله عزّ من قائل: {.. فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها..} [ فاطر 9]. ثالثها: أنّ المقصود بالموتة الثانية هي الموتة الواقعة بعد الرجعة، وهذا ما يراه جمع من مفسري الشيعة بناءً على العقيدة المعروفة التي آمن بها مشهور الشيعة، وهي الإعتقاد بالرجعة، وقد ورد ذلك في بعض الروايات[7]. وخلاصة القول: إنّ التقمّص هو فكرة لا تستند إلى برهان عقلي مقنع ولا إلى دليل نقلي صحيح، بل إنّ البراهين العقلية والنقلية تدحض هذه الفكرة وتثبت وهنها. [1] الحكمة المتعالية لصدر المتألهين ج5 ص 4، والمبدأ والمعاد له أيضاً ص 435. [2] انظر: مقاصد الفلسفة للغزالي ص 370، وكشف المراد للعلامة الحلي 286. [3] التقمص لـ أمين طليع ص14. [4] انظر: مفردات الفاظ القرآن الكريم للراغب الأصفهاني ص 878. [5] انظر: التقمص لأمين طليع ص16. [6] المصدر نفسه ص16. [7] انظر: تفسير الصافي ج6 ص295.
======
السلفية الشيعية... الوهابية معكوسة!
الشيخ حسن المصطفى لستّ سنوات خلت، حلّ المرجع الشيعي السيد محمد حسين فضل الله، ضيفاً على شاشة فضائية المستقبل، ضمن حلقة خاصة من برنامج «خليك بالبيت»، الذي كان يقدّمه الزميل زاهي وهبي. في تلك الحلقة، كانت ليّ مداخلة عبر الهاتف، أسميتُ فيها معارضي فضل الله، ممّن يُصدرون في حقّه فتاوى التضليل والتفسيق، بـ«السلفية الشيعية»، متحدّثاً عن وجود شيعة «وهّابيّين»، لا يختلفون في وثوقيّتهم، وتحجّر معتقدهم، ورفضهم للآخر، عن مماثليهم من وهّابية السُّنّة. فضل الله الذي كان يعرف لمن أشير بحديثي، حاول التقليل من وطأة المصطلح، وتخفيف حدّته، معلناً عدم موافقته عليه، وإن أكّد في ذات الوقت وجود تيار متشدّد يعمل على تعطيل أيّ تحديث للفكر والفقه الشيعيّين. يومها، كانت الحملة على أشدّها ضدّ فضل الله وأفكاره، وكان الراحل آية الله ميرزا جواد التبريزي، يحمل لواء الممانعة العقدية، ضدّ ما يطرحه فضل الله من أفكار، وضدّ ما يثيره من تساؤلات، وما يشكّك فيه من وقائع تاريخيةــ أفكار وطروحات رأى فيها التبريزي، ومعه نفر من علماء الحوزة الدينية في مدينة قم المقدّسة، هرطقة، وطروحات من شأنها أن تزعزع البناء الشيعي، وتُضعف من تماسكه. الحملة التي بدت عقدية في ظاهرها، كان محرّكها صراع سياسي ومرجعي خفيّ حول التفرّد بالمقلّدين والمؤمنين. صراع أداره أخصام المرجع "البيروتي"، ممّن وجدوا في زعامته إحياءً لفكر سياسي يعود بجذوره لمدرسة حزب الدعوة الإسلامي العراقي، وفي ذات الوقت، منافساً يشاركهم فيما يقتسمون من مصالح مادية ودنيوية، هم أولى بها من غيرهم. المعركة تواصلت بضراوة، وأخذت النواة الصلبة للفكر السلفي الشيعي تزداد قوة، مستمدّة من صراعها مع «الضال المضلّ» وقوداً لديمومتها، ومن حماسات المنافحين عن «آل البيت» شعارات عملت على صياغة عقلية ماضوية، تشتغل بأحداث تاريخية في عصر الرسول والصحابة، وما تلاها في زمن الأئمة المعصومين، في قراءة تشحذ أحداث الماضي، محوِّلةً إياها نصالاً ترمي بها معرضيها. الانشداد إلى كتب التاريخ والتراث لم يكن ممارسة ابتدعها هؤلاء النفر من المتشدّدين الشيعة، وإنّما جاءت في كثير منها محاكاة لممارسات السلفيّة السنّية، والخطابات الوهابيّة المتشدّدة لمشايخ الجزيرة العربية، وخصوصاً علماء المدرسة النجدية، تلاميذ فكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وشيخ الإسلام ابن تيمية، ممّن وجدوا في التاريخ مادة دسمة لهجاء الشيعة وتكفيرهم. الرجوع إلى السلف الصالح، من صحابة وتابعين وعلماء أوائل، والاحتجاج بمقولات دينية، ووقائع اجتماعية لتفنيد المعتقد الشيعي، أثار ردّة فعل معاكسة، بحيث انشغل عدد من علماء الشيعة بالعودة لذات الكتب، لإثبات صوابية معتقدهم، من عين المراجع التراثية التي يستند لها الآخر السلفي، في محاججة علمية الطابع، حملت الكثير من الظلال الاجتماعية والسياسية والفكرية، انعكست سلباً على علاقة المذهبَيْن الإسلاميَّيْن، وحكمت عقلية الأتباع بأحكام وأفكار مسبقة عن كلِّ طرف، مشيّدة جِداراً سميكاً من التشاحن والنفرة. العقل الشيعي طوال تاريخه، كان في غالبه عقلاً منفتحاً، ناقداً، أقرب للفكر المعتزلي، وللفكر الفلسفي، وأسّس لعلم كلام إسلامي متين يستند إلى العقل، ويتّخذ منه ركيزة أساس في استدلالاته. وهو في ممارسته هذه سبق الفكر السنّي، الذي أغلق باب الاجتهاد، وانكفأ على أربع مذاهب: الحنفية، الحنبلية، المالكية، الشافعية. الشيعة وفي ما يحدّثون عن أئمتهم وسيرتهم العلمية، وخصوصاً ما ينقلونه عن الإمام جعفر الصادق، كان مكمن فخرهم واعتزازهم، انفتاح الصادق، وسعة صدره، ومقدرته على النقاش العقدي والفلسفي مع المَلاحدة والزنادقة وأصحاب الملل الأخرى. وكيف أنّه شكّل مدرسة تخرّج على يديه منها العديد من العلماء في حقول مختلفة: الفقه، الحديث، الكيمياء.. وسواها. جعفرٌ الصادق الذي إليه ينتسب الشيعة الإمامية، ويُسَمّون باسمه «الجعفرية»، يحتاج الشيعة لبعث فكره من جديد، والعودة لما سنَّه من أسلوب معاملة مع الغرماء والمخالفين، وعلميّته وعمق حجّيته، والحكمة الثاقبة التي ميّزت تراثه العلمي. حكمة يجد المراقب أنَّ التيار السلفي الشيعي أكثر ما يكون بُعداً عنها. بطبيعة الحال، فإنّ مؤيّدي هذا التيار المتشدّد، لا يقبلون التسمية، ويعتبرون أنّها تنطبق على مخالفيهم من السلفيّين السنة، غير واعين إلى اشتراك الطرفين في جذر أساس وهو التحجّر، وممارسة إقصاء المُخالِف ونَبْذه، ورفض أيّ محاولة للتجديد وللقراءة المعاصرة للتراث الديني. فالسلفية وببساطة هي طريقة تفكير تأخذ من التراث التاريخي والديني مرجعاً لها، متمسِّكة بظاهر النص، واقفة بشدّة ضدّ أيّ محاولة للنقد والمساءلة. من هنا، يصحّ وصف أي مدرسة فكرية تمارس السلوك الموصوف سابقاً، بالسلفية. يمكن اعتبار الانفتاح الإعلامي، وحرية التعبير التي شاعت عبر الإنترنت والفضائيات، وسهولة الاتصالات الحديثة، وشيوع مفاهيم عن حقوق الإثنيات والأقلّيات والمذاهب، وبروز نجم الشيعة سياسيّاً وفكريّاً، من خلال الدور المحوري لإيران، وحزب الله لبنان، وتسنّم الشيعة سدّة الحكم في العراق، كلّها عوامل ساعدت بشكلٍ أو بآخر في ولادة سلفية شيعيّة. وهي ولادة لم يكن لها أن تتمّ منطقياً، وفق المقدّمات السابقة. إلا أنّ ما جعلها تتمّ، هو تجاور هذه التطوّرات الهامة مع اشتداد السجال المذهبي السنّي/الشيعي، وما يتعرّض له الشيعة في العراق من عمليات قتل وإبادة على أيدي جماعات مناصرة لتنظيم القاعدة، وشعور الشيعة بأنَّ الأنظمة السياسية تحاصرهم ولا تريد إعطاءهم حقوقا كاملة. هذه الظروف المعقّدة، ولّدت شيئاً فشيئاً نظرة متصلّبة، استندت إلى أنّ ما قام به الكثير من العلماء كمبادرات حُسن نيّة للتقريب بين المسلمين، لم تُثمر شيئاً، وكان نتيجتها مزيداً من فتاوى التكفير والقتل، وتآمراً على النظام السياسي الشيعي في العراق وإيران، وحصاراً عربياً لحزب الله في لبنان. من هنا، علت أصوات مؤيّدة للكفّ عن دعم الفلسطينيين، وضرورة الاشتغال على المجتمع الشيعي ومصالحه الخاصة، والتوقّف عن مجاملة علماء ومشايخ السُّنّة، وعدم الخوف من إشهار العقائد الشيعية والجهر بها، بل، حرمة التفريط بالصغير منها. الاحتقان الشعبي لدى جمهور هذا التيار، دفعه للضغط على مرجعيّاته الفكرية والفقهية لتبنّي مواقف متصلّبة. مواقف كان من نتائجها إصدار فتاوى تضليل وتفسيق بحقّ عدد من الشخصيات الفقهيّة والفكريّة التي تمتلك نظرة حديثة وتمارس نقداً بحقّ الخطاب الديني التقليدي. علي شريعتي، محمد حسين فضل الله، مجتهد شبستري، مصطفى ملكيان، عبد الكريم سروش... جميعهم مُورست تجاههم حملة إقصائية عنيفة، لم يكن رأس حربتها طلبة علوم دينية صغار، بل نفرٌ من مراجع الدين، وأساتذة الحوزة العلمية، في دلالة عميقة، تُظهر إلى أيّ مدى يملك هذا التيار من قوة وسلطة رمزيتين، رغم عدم ضخامته عدديّاً. الأمور كادت أن تذهب إلى الأسوأ. وسعى البعض للتنقيب في بطون كتب علماء إمامية كبار، للبحث عن ما يعتبرونه هنات وزلات وضعفاً في العقيدة. وفي إحدى المرات، اتهم الشيخ علي الكوراني، وهو رجل دين لبناني مقيم في إيران، ويُعتبر أحد أهم منظري هذا التيارــ اتهم آية الله السيد محمد باقر الصدر، بأنه يستقي أفكاره من مصادر سنّية، في محاولته منه لِلَمز الصدر، إلا أنّه جُوبه بردع وصدٍّ شديدين، أثنياه عن مواصلة تعرّضه للعلامة الصدر، لما يمتلكه الأخير من مكانة مرموقة في الفكر الشيعي والإسلامي. الكوراني، لم يكن يمارس نقداً علمياً بريئاً حيال أفكار الصدر الأول، وإنّما راح يفتّش بكيدية بين سطور مؤلفاته. تفتيش يحلو له وللكثيرين ممارسته، لولا الخوف مما قد يواجهونه من مشكلات. خصوصاً أنَّ كثيراً من الشخصيّات التي قد يتعرّضون لها بالنقد الجارح، تمتلك سلطة دينية وسياسية واجتماعية، مما سيقود التعرّض لها، لحدوث ارتدادات سلبيّة، ستحجّم التيار المتشدّد وتفضح كثيراً من خباياه. بعض المنتمين لا يخفون حسرتهم على عدم قدرتهم على محاكمة أفكار مرشد الثورة الإيرانية، آية الله علي خامنئي. خصوصاً أنّهم يرون فيه امتداداً لمدرسة العلامة الراحل مرتضى مطهري، والذي كان من أشدّ المهاجمين للتيارات الفقهية والفكرية المتحجّرة في الوسط الشيعي، ومن المنادين بضرورة تطوّر الفقه وتحديثه. السلفية الشيعية رغم حدّيتها، إلا أنّها تبقى ضمن إطار محدّد لا تخرج عنه. فهي لا تكفّر بقيّة المسلمين، ولا تحلّ دماءهم، وفي ذات الوقت تدعو للتعايش السلمي، على العكس من السلفية التكفيرية السنّية التي تكفّر مَن اختلف معها، وتبيح دمه. العديد من طلاب العلم الصغار، والمنتفعين، والجهلة، والمدسوسين، يشكّلون العمق الشعبي للتيّار المتشدّد، وهم في حال أُطلق لهم العنان، سيمارسون سطوتهم على المرجعيّات الدينية، ويُجبرون بعضها، ربما، على تبنّي مواقف لا يؤمنون بها في دواخلهم. إنّ سلطة العوام، والمريدين، تمثّل قوة ضاربة، يخشاها الكثيرون، لارتباطها بتعقيدات اجتماعية، وسياسية، ومالية، تجعلهم محلّ مدارات، ومحلّ مشاركة في اتخاذ القرار أحياناً. وإنّ سكوت عدد من المرجعيّات الدينية حيال الممارسات المتشدّدة، رغم رفضها لها، سيؤدّي لرواج هذه الأفكار، وتمكينها، بحيث تصبح بمثابة المسلّمات والعقائد، وهي في أصل كثير منها، خرافات لا حقيقة لها. المطلوب اليوم ليس الصدام مع أصحاب الفكر السلفي الشيعي، وإنّما الدخول معهم في حوار صريح وعلمي، وممارسة قراءة نقدية لأفكارهم، دون التردّد تحت ذريعة أعذار واهية، لأنّ المماطلة في النقد، قد تدفع لتفشّي هذا التيار المحدود والصغير ليجذب إليه قطاعات أوسع، ليختزل ويختطف الفكر الشيعي، ويقدّمه في صورة مشوهة. صورة تجعله حبيس تاريخ يشدّه لبطونه، فيما هو مطالب بتقديم أجوبة وحلول لكثير من القضايا المعاصرة، والتي يراها أتباعه أولى بالبحث والانشغال. فمصير الناس مرتبط بالحاضر، لا بما سلف من أيام قُبِرت، ونُثِر عليها التراب. الخُلاصة حقُّ جعفر الصادق على الشيعة أن يعملوا على بعث فكره، وعلى العودة إلى ما سنّه من أسلوب في معاملة الغرماء والمخالفين، وإلى علميّته التي يبدو جلياً أنّ التيار السلفي الشيعي أبعد ما يكون عنها.
=============
عصمة الدماء والنفوس والأعراض
الشيخ حسين الخشن ومن المبادئ الإسلامية الهامّة على المستوى الإنساني مبدأ عصمة الدماء والنفوس والأعراض، والحديث عن هذا المبدأ أمر يكتسب أهمّية خاصة في وقتنا الراهن، ذلك أنّ أعمال العنف والقتل والإجرام بأبشع صورها والتي تتّسم بالوحشية المفرطة أصبحت عملاً طبيعيّاً وخبراً عادياً، وغدا قتل المسلمين الذين يسقطون بسيف التكفير مجرّد أرقام تُتلى على شاشة التلفزة وتُقرأ في عناوين الصحف دون أن تحرّك ساكناً أو تهزّ ضميراً، وهذه الأعمال تقوم بها بعض الجماعات الإسلامية السلفية في بلدان شتّى مثل الجزائر والعراق والسعودية وصولاً إلى سوريا التي ارتُكبت– ولا تزال- فيها الفظاعات، إلى غيرها من البلدان، ولم تُنْكر هذه الجماعات كثيراً ممّا نُسِبَ إليها بل اعترفت به، وربّما تفاخرت ببعض الأعمال التي لم تخلُ من التنكيل والتمثيل والتعذيب وقطع الرؤوس وشقّ الصدور ونبش القبور وإحراق الأحياء .. الأمر الذي أساء قبل كلّ شيء إلى صورة الإسلام، وشوّه سمعة المسلمين في العالم، فصوّرهم الإعلام الغربي أمّة تسترخص الدماء وتستهين بإنسانيّة الإنسان. وهذا ما يستدعي تضافر الجهود الفكريّة والتربويّة والإعلاميّة في سبيل تخليص الأُمّة من هذا المرض العضال، ووضع حدٍّ لهذه الاستهانة بالإنسان، ويهمّني هنا الإشارة إلى بعض القواعد الإسلاميّة ذات الصلة بقضيّة الدّم. أولاً: محقونيّة الدماء إنّ القاعدة الأساسية في الإسلام هي محقونية الدماء وعصمتها مع غضّ النظر عن هوية أصحابها المذهبية والدينية، لأنّ القتل وسفك الدماء قبيح في شريعة العقل والعقلاء باعتباره مصداقاً واضحاً للظلم وهو ممّا استقل العقل بقبحه، وأمّا في الشريعة الإسلامية، فإنّ حفظ النفوس هو من أهم المقاصد التي هدفت الشريعة إليها، ولذا اعتبر الله سبحانه أنَّ قتل نفس واحدة تعادل قتل البشر جميعاً وأنّ إحياءها يعادل إحياءهم جميعاً، قال تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً}[المائدة: 32]. ويلاحظ أنّ الآية لم تُضِفْ أيَّ قيد على النفس التي يحرم قتلها، مثل قيد الإسلام أو الإيمان، في دلالة واضحة على أنّ عصمة الدماء تتجاوز كلَّ الأُطُر الدينية أو غيرها، وإذا كانت بعض الروايات أضافت قيد "المسلم" أو "المؤمن" على النفس التي يَحْرُمُ قتلها، كما في قوله (ص)- في رواية ابن عمر – "مَنْ أعان على دم امرئ مسلم بشطر كلمة كُتِب بين عينيه يوم القيامة: آيس من رحمة الله"[1] فإنّ ذلك خاضع لظروف الكلام ومناسبة الحديث، ولا دلالة فيه على نفي العصمة عن دم غير المسلم، ومن هنا ورد في الروايات الكثيرة الأخرى التأكيد على حرمة غير المسلم وعصمة دمه، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص عنه (ع): "مَنْ قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة وإنّ ريحها يوجد من مسيرة أربعين عاماً"[2]. وتبقى إباحة القتل في بعض الموارد استثناءً تجوّزه بعض الضرورات الإنسانيّة وتفرضه المصالح النوعية النظامية، من قبيل القتل قصاصاً أو دفاعاً عن النفس أو قتل المفسد في الأرض أو غير ذلك، وقد أشارت الآية أعلاه إلى موردين من هذه الموارد التي تبيح القتل وهما: القتل قصاصاً، وقتل المفسد في الأرض. ثانياً: أصالة الاحتياط في الدماء ولمزيد من الاهتمام بالنفوس نقرأ في النصوص الإسلامية تحذيرات شديدة اللهجة بشأن الإقدام على سفك الدماء والاستهانة بالأرواح والإعانة على الجريمة ولو بشطر كلمة، ففي الحديث عن ابن عمر قال: "إنّ من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها سفك الدم الحرام بغير حلّه"[3]. وعنه (ص): "لَزوالُ الدنيا أهون على الله من دم يُسفك بغير حق[4]. وفي الحديث عن الإمام علي بن الحسين (ع) قال: "قال رسول الله (ص) لا يغرّنكم رحب الذراعين بالدم فإنّ له عند الله قاتلاً لا يموت، قالوا: يا رسول الله وما قاتل لا يموت؟ فقال: الموت"[5]. وعن الإمام الباقر (ع) عنه (ص): "قال أول ما يحكم الله فيه يوم القيامة الدماء فيوقف ابنَي آدم، فيقضي بينهما ثم الذين يلونهما من أصحاب الدماء حتى لا يبقى منهم أحد ثم الناس بعد ذلك حتى يأتي المقتول بقاتله فيشخب دمه في وجهه فيقول: هذا قتلني فيقول أنتَ قتلته فلا يستطيع أن يكتم الله حديثاً[6]. وعن الباقر (ع) أيضاً قال: "إنّ الرجل ليأتي يوم القيامة ومعه قدر محجمة من دم فيقول: والله ما قتلت ولا شركت في دم فيقال له: بل ذكرت عبدي فلاناً فترقى ذلك حتى قتل فأصابك من دمه"[7]. وانطلاقاً من هذه النصوص وغيرها أسّس الفقهاء قاعدة خاصة في باب النفوس والدماء هي قاعدة الاحتياط، خلافاً للقاعدة العامة المحكمة في أكثر الأبواب الفقهية، عنيت بها قاعدة البراءة والإباحة، ومفاد الاحتياط هنا: أنَّ أدنى شبهة كفيلة بحقن دم الإنسان ولو كان قاتلاً أو متّهماً بالقتل. إنّ ذلك كلَّه لا بدّ أن يؤسِّس لذهنيّة إسلاميّة تتورّع عن سفك الدماء وتتجنّب الخوض في كلِّ ما يعين على سفكها بغير حقّ. ثالثاً: درء الحدود بالشبهات إلى ذلك ثمّة قاعدة شرعية أخرى تصبّ في الاتجاه نفسه، وهي قاعدة "درء الحدود بالشبهات"، وهي قاعدة متسالم عليها لدى فقهاء المسلمين[8]، والأصل فيها ما ورد عنه (ص): "ادرأوا الحدود بالشبهات"[9]، ومؤدّاها، أنّ إقامة الحدّ منوطة بعدم وجود شُبْهة في البَيْن، ومن الأمثلة الواضحة لذلك ما يرتبط بمقامنا، فلو أنّ لو شخصاً تلفَّظ بكلمة الكفر، وظُنَّ أنّه قالها مكرَهاً أو مشتبَهاً، فيسقط الحدّ عنه ولا يُكفَّر، لأنّ الحدود مبنيّة على التخفيف، وهكذا لو صدر القتل يقيناً من شخص، لكنَّ التحقيقات القضائية لم تُوصِل القاضي إلى قناعة بأنّه قام بالقتل العمد، بل احتمل قوياً أن يكون ذلك شُبهة أو دفاعاً عن النفس، فلا يُصار إلى القصاص منه. والقاعدة المذكورة- بناءً على التفسير الآنف- هي قاعدة عقلائية، وقد تلتقي مع ما هو معروف في الأدبيات القضائية من "أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته"، ولكنّها ببعض التفسيرات الفقهية أوسع من ذلك، فإنّ بعض الفقهاء يرى أنّه حتى مع ثبوت الإدانة ظاهراً، فإنّ المتهم محقون الدم ما دامت الشبهة الواقعية موجودة، وإن اعترض على ذلك آخرون بأنّ لازم رفع الحد لمجرد الشبهة الواقعية أن لا يبقى إلا موارد قليلة تقام فيها الحدود[10]. وقد يُقال لهؤلاء: إنّ ذلك ليس لازماً باطلاً، لأنّ الإسلام بنى الحدود على التخفيف، ومن هنا جاء التشدّد في وسائل إثبات الحدود، ممّا قد يصل إلى مستوى الصعوبة البالغة في إثبات موجباتها كما في الزنا وغيره. رابعاً: قتل المسلم وترويعه! والغريب في أمر الجماعات التي تحمل الفكر التكفيري وتستهين بالأرواح وتسترخص سفك الدماء أنّها لا تفرّق بين مسلم وغيره، بل تنتهك حرمات الجميع معتبرة أنّ عامة المسلمين ممّن لا يوافقونها الرأي والفكر هم بحكم الكفار الحربيين، وربّما كانوا شرّاً منهم، كما جاء في كلمات بعض رموزها، هذا على الرغم من أنّ الله سبحانه يقول في كتابه: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا}[النساء: 93]. وفي الحديث: "أُتي رسول الله (ص) فقيل له: يا رسول الله قتيل في جهينة! فقام رسول الله (ص) يمشي حتى انتهى إلى مسجدهم، قال: وتسامع الناس فأتوه فقال (ص): من قتل ذا؟ فقالوا يا رسول الله ما ندري، فقال: قتيل بين المسلمين لا يُدرى مَن قتله! والذي بعثني بالحقّ لو أنّ أهل السماء والأرض شركوا في دم امرئ مسلم ورضوا به لأكبّهم الله على مناخرهم في النار"[11]. وعنه (ص): "كلُّ المسلم على المسلم حرام ماله وعِرضه ودمه، حسب امرئ من الشرّ أن يحقّر أخاه المسلم"[12]. وقد نهى (ص) عن ترويع المؤمن وتخويفه، ففي الحديث عنه (ص): "مَنْ روّع مؤمناً لم يؤمن الله روعته يوم القيامة..."[13] واعتبر (ص) أنّ حرمة المؤمن هي قدس الأقداس وليس فوقها حرمة، ولذا تراه يقول مخاطباً الكعبة: "ما أطيبك وأطيب ريحك! ما أعظمك وأعظم حرمتك! والذي نفس محمد بيده لَحُرْمَةُ المؤمن أعظم عند الله حرمة منك، مالُه ودمُه وأن يُظنّ به إلاّ خيراً"[14]. خامساً: ضوابط الحرب وأخلاقيّاتها إنّ القواعد الآنفة حول عصمة الدماء والأعراض هي أُسُس قانونيّة لا بدّ من مراعاتها في حال السِّلم، أمّا في حالة الحرب التي تُفرض على المسلمين وتؤدّي إلى انتهاك حُرُماتهم واحتلال ديارهم وتهجيرهم واستلاب خيراتهم، فتختلف الصورة وتتبدّل الأحكام ويصبح من حقّ المسلم بل من واجبه أن يدافع عن نفسه، ويواجه الاحتلال ويقاوم العدوان مقاومة الشرفاء ويقاتله دون تهاون أو هوادة، لكن مع ذلك فإنّ للحرب في الإسلام ضوابطَ وأخلاقيّات كثيرة تقيّد حركة المجاهد المسلم ويُمنع من تجاوزها وإلاّ فقدَ أَجْره ولم يَعُد مجاهداً في سبيل الله، بل ربّما عُدّ باغياً في حال تجاوزه للحدود، ويهمّني هنا أن أُشير إلى بعض الضوابط الأخلاقية التي أَمَرَ الإسلام بها ودعا إلى احترامها ومراعاتها في حال الحرب، وإن كنّا نجد بعض المنتمين إلى الإسلام في هذه الأيام لا يعيرونها اهتماماً: 1- رعاية الأسير: يُحرِّم الإسلام قَتْل المحارب بعد أن يقع في أسر المسلمين ويأمنوا شرّه وغدره، بل يوصي بحمايته والإحسان إليه إلى أن يتمّ إطلاق سراحه مَنّاً أو فداءً، وقد أوصى الإمام علي (ع) بقاتله ابن ملجم فقال في وصيّته (ع): "أطعموه واسقوه وأحسنوا إساره، فإن أصحُّ فأنا وليُّ دمي، وإن شئتُ عفوتُ وإن شئت استفدت وإن هلكت فاقتلوه"[15]. 2- استثناء الأطفال والنساء والشيوخ: يحرم كذلك التعدّي على غير المقاتلين من النساء والأطفال والشيوخ، وأكتفي هنا بنقل وصية رسول الله (ص) إلى أُمراء السرايا ونضعها برسم المسلمين ورسم العالم برمته، فقد كان (ص)- كما جاء في الحديث المعتبر عن الإمام الصادق (ع)- "إذا أراد أن يبعث سرية دعاهم فأجلسهم بين يديه ثم يقول: سيروا بسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملّة رسول الله، لا تغلوا ولا تمثلوا ولا تغدروا ولا تقتلوا شيخاً فانياً ولا صبياً ولا امرأة ولا تقطعوا شجراً إلاّ أن تضطروا إليها.."[16]. 3- حرمة الغدر والفتك: إنّ المسلم لا يغدر ولا يفتك، وقد أكّدت الوصية النبويّة الآنفة على ذلك، ومن أبلغ كلماته (ص) في هذا الشأن "الإيمان قيد الفتك"[17]، والفتك: "أن يهاجم الرجل الآخرَ وهو غافل فيشدّ عليه فيقتله"، وقد أعطانا الإمام عليّ (ع) مثلاً أعلى في هذا المجال عندما قال- فيما رُوِي عنه-: "أيّها الناس لولا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس، ألا إنّ لكلّ غدرة فُجرة ولكلِّ فُجرة كفرة، ألا وإنّ الغدر والفجور والخيانة في النار"[18]. 4- حماية اللاجئ: كلُّ مَنْ يدخل بلاد المسلمين لاجئاً أو مستأمناً ويُعطى الأمان من السلطات المخوّلة بذلك يغدو في حماية المسلمين وحِفْظهم ولا يجوز التعدّي عليه، قال تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ}[التوبة: 6]. ويبلغ اهتمام الإسلام بمسألة اللاجئ حداً يسمح فيه بمنح الأمان لمن ظنّ أنّ المسلمين أمّنوه وإنْ هُمْ لم يفعلوا ذلك، ففي الخبر عن الإمام الصادق (ع): "لو أنّ قوماً حاصروا مدينة فسألوهم الأمان فقالوا: لا، فظنّوا أنّهم قالوا: نعم، فنزلوا إليهم كانوا آمنين"[19]. ومن المؤسف والمخجل في آن أنّ بعض المسلمين غدوا يطلبون اللجوء السياسيّ إلى البلدان الغربية التي تمنّ على بعضهم فتمنحه اللجوء والحماية والنصرة بما لا يجده في بلده الأُم، وهذا من هوان الزمان على هذه الأمة! والأبشع من ذلك كلّه ما يقوم به بعض المسلمين من الاعتداء على بعض الأجانب ولا سيّما الغربيين المتواجدين في بلاد المسلمين عمّالاً أو سيّاحاً ضيوفاً، أو لاجئين، ضاربين عرض الحائط كلّ الأخلاق والقيم الإسلامية التي تمنع الإساءة إلى كلّ هؤلاء وتمنحهم الأمن والأمان، وقد ورد عنه (ص): "من أمّن رجلاً على دمه فقتله، فأنا بريء من القاتل وإن كان المقتول كافراً"[20]. وهكذا فإنّ الرسول أو المبعوث أو الموفد الدبلوماسي آمن على نفسه كاللاجئ فلا يجوز التعرّض له بسوء، سواء كان ينقل الرسائل أو يسعى للصلح بين الطرفين أو لهدنة مؤقتة، وقد قال (ص) لرسولي مسيلمة الكذّاب: "لولا أنّ الرُّسل لا تُقتل لضربت أعناقكما"[21]، رغم اعترافهما أمامه بنبوة مسليمة. 5- الوفاء بالعهود: ومن تعاليم الإسلام التي تعد مقياساً للتديّن والإيمان قضية الوفاء بالعهود والعقود قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ}[المائدة: 2]، وقال تعالى في وصف المؤمنين: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ}[المؤمنون: 8] ، ويندرج في العقود الواجبة الوفاء: إعطاء الآخر تأشيرة دخول إلى البلاد الإسلامية، فإنّها تمثّل عهداً وإذناً له بدخول أرض المسلمين آمناً مطمئناً، فيجب على المسلمين الوفاء بهذا العقد أو العهد ما دام الآخر ملتزماً بمضمونه ولم يستغل وجوده في البلد الإسلامي للقيام بأعمال عدوانيّة أو تجسّسيّة ضدّ الإسلام والمسلمين، قال سبحانه: {فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}[التوبة: 7]. 6- حرمة التمثيل: وأمر آخر حرص عليه الإسلام حِرصاً بالغاً هو حرمة التنكيل والتمثيل بأجساد الموتى والقتلى، ولو كانوا محاربين أو مجرمين، ففي وصيّة عليّ (ع) لابنه الحسن (ع): "يا بني عبد المطّلب لا ألفينكم تخوضون في دماء المسلمين خوصاً تقولون قتل أمير المؤمنين ألا لا يقتلن بي إلا قاتلي، انظروا إذا أنا متُّ من ضربته هذه فاضربوه ضربة بضربة، ولا تمثِّلوا بالرجل فإنّي سمعت رسول الله (ص) يقول: إيّاكم والمُثلة ولو بالكلب العقور"[22]. 7- رعاية البيئة والحيوان: وتمتدّ التعاليم الإسلامية والوصايا النبوية التي تحدّ من سلطة الإنسان أثناء اندلاع الحرب لتشمل البيئة، حرصاً على حمايتها- قدر المستطاع- من الأضرار والحفاظ على عناصرها الرئيسية- كالماء والحيوان والأشجار- من التلوث والانقراض. وعلى ضوء ذلك ورد النهي عن الإفساد في الأرض، وإلقاء السّم في مياه أو طعام أو بلاد الأعداء، ففي الحديث عن أمير المؤمنين (ع): "نهى رسول الله أن يلقى السمّ في بلاد المشركين"[23]، مما قد يستفاد منه المنع من استعمال الأسلحة الذرية والكيميائية بطريق أولى[24]. ويُمنع المحارب من قطع الأشجار أو حرقها إلاّ في حالات الضرورة، جاء في وصية النبي (ص) الآنفة الذكر: "ولا تقطعوا شجرةً إلا أن تضطرّوا إليها"، وفي وصية أخرى له (ص) لسرايا المجاهدين: "ولا تقطعوا شجرةً مثمرة ولا تحرقوا زرعاً"[25]. وهكذا يوصي النبيّ (ص) أمراء الجند بأن لا يعقروا من البهائم والدواب ما لا حاجة لهم في أكله[26]. الذبح باسم الله هذه بعض التعاليم التي تعكس أخلاقية الإسلام وتعاليمه في حالات الحرب والقتال، وهي تعاليم تنبض بالرحمة والإنسانية، وإنّ انتماءنا للإسلام يفرض علينا نشر هذه القيم وتعميمها في العالم بأسره مساهمة في تنقية صورة الإسلام، وقبل ذلك فإنّ علينا أن ننشرها في أوساطنا الإسلامية وأن نربّي الأُمّة عليها بدلاً من ثقافة العنف وقطع الرؤوس والتمثيل بالأجساد، أو غير ذلك من مظاهر الوحشية التي يمارسها البعض في أيامنا باسم الله واسم رسوله، والله ورسوله بريئان من ذلك، فهذا رسول الله يوصي بالرحمة بالحيوان والإحسان إلى البهيمة وأن يحدّ ذابحها شفرته قبل الذبح فما بالك بالإنسان ! فقد رُوِيَ عنه (ص): "إنّ الله كتب الإحسان على كلّ شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحدّ أحدكم شفرته وليُرِحْ ذبيحته"[27]، ولكنا مع الأسف بُلينا بأناس غلاظ قساة لا تعرف الرحمة إلى قلوبهم سبيلاً، أساؤوا إلى الإسلام أكثر ممّا أحسنوا حتى تندّر البعض في وصفهم بالقول: قد بُلينا بـ "إمام" ذكر الله وسبّح فهو كالجزّار فينا يذكر الله ويذبح سادساً: هل بُعث النبي بالذبح، أو بالرحمة؟ وفي مقابل ما قدّمناه، فقد يتمسك دعاة الذبح والنحر، وقطع الرؤوس والأعناق، بحديث مرويّ عن رسول الله (ص) يذكر فيه أنّه بُعث بالذبح، وإليك نصّ الحديث قبل التعليق عليه: "عن عبد الله بن عمرو قال: ما أكثر ما رأيت قريشاً أصابت من رسول الله (ص) فيما كانت تظهر من عداوته، وقد حضرتهم وقد اجتمع أشرافهم في الحِجْر فذكروا رسول الله فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من هذا الرجل قط، سفّه أحلامنا وشتم آباءنا وعاب ديننا وفرّق جماعتنا وسبّ آلهتنا، لقد صبرنا منه على أمر عظيم، فبينا هم في ذلك إذ طلع رسول الله (ص) فأقبل يمشي حتى استلم الركن فمرّ طائفاً بالبيت، فلما أن مرّ بهم غمزوه ببعض القول، قال: وعرفتُ ذلك في وجهه، ثم مضى (ص) فلما مرّ بهم الثانية غمزوه بمثلها، فعرفتُ ذلك من وجهه، ثم مضى (ص) ومرّ بهم الثالثة غمزوه بمثلها، ثم قال (ص): أتسمعون يا معشر قريش أمّا والذي نفس محمد بيده لقد جئتكم بالذبح، قال: فأخَذَت القومَ كلمتُه حتى ما منهم رجل إلاّ لكأنّما على رأسه طائر واقع، حتى أنّ أشدّهم فيه وطأة قَبْل ذلك يتوقاه بأحسن ما يجيب من القول، حتى أنّه ليقول: انصرف يا أبا القاسم راشداً فوالله ما كنت جهولاً"[28]. وقد اتخذ التكفيريّون هذه الرواية مستنداً لأعمال العنف وسفك الدم التي يُقْدِمون عليها، كما أنّ بعضهم رفعها كشعارٍ له، إلاّ أننا نرفض هذا الحديث رفضاً قاطعاً، وذلك لسبَبَيْن: أولاً: إنّه يجعل الهدف من بعثة النبي (ص)، أو عنوان رسالته ذبحَ الناس، وهذا مخالف للقرآن الكريم في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}[الأنبياء: 107]، ولِمَا رُوِيَ عنه (ص): "إنّما بُعِثت رحمة مهداة"[29] إنّ شعار "جئتكم بالذبح" هو شعار تنفيري إقصائي دموي، فكيف يرفعه النبي (ص) ويجعله عنواناً لدعوته ولا سيما أنّه لا يزال في مرحلة الدعوة إلى الله؟! ثانياً: إنّ هذا الكلام قيل في مكة قبل الهجرة كما يدل سياقه، وعندما خاطبهم النبي (ص) بعبارة: "لقد جئتكم بالذبح"، كما يفترض الحديث خافوا وأُصيبوا بالذعر، وهذا الأمر يبعث على التعجّب والاستغراب، لأنّ المرحلة المكية امتازت باعتماد النبي (ص) فيها أسلوب المداراة والصبر والأناة وتحمّل الأذى، كما أنّ موازين القوى كانت في غير صالحه، فكيف يواجههم بهذه الكلمة وهو لا يملك دفع الأذى عن نفسه فضلاً عن أصحابه؟! ثم كيف يصاب هؤلاء بالخوف والذعر حتى يقول بعضهم له: "اذهب راشداً"، مع كونهم في عزّ قوتهم وجبروتهم وعنادهم؟! إنّ ذلك غير مفهوم بحسب المنطق الطبيعي للأمور. إلاّ أن يقال: إنّ الله سبحانه وحماية لنبيّه (ص) المهدّد من قريش قد أوحى إليه أن يواجههم بهذه الكلمة، أو أجراها على لسانه، الأمر الذي أوقع الرعب والخوف في قلوب المشركين بطريقة غير اعتيادية، بيدّ أنّ هذا لو كان محتملاً ووارداً كان معناه أنّ العبارة المذكورة هي نفسها واردة في سياق التخويف والتهويل في محاولة لحماية النفس أكثر من ورودها على نحو الجد لتكون قاعدة للنبي (ص) وللمسلمين في التعامل مع غيرهم. [1]أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 15865 [2]أخرجه النسائي 6949 وأبو داوود 2760. [3] أخرجه البخاري 6863 والبيهقي في السنن الكبرى 15829. [4]ذكره ابن أبي عاصم في كتاب الزهد ص138. [5]الوافي، ج16 ص566. [6] المصدر نفسه، ج16 ص564. [7] الوافي، ج16 ص567. [8]المبسوط للطوسي ج3 ص66، المبسوط للسرخسي ج18 ص172، الدر المختار ج7 ص115، المغني ج10 ص155، السرائر: ج2 ص351 إلى غير ذلك. [9]الفقيه ج4 ص74، كنز العمال: ج5 ص309. [10]ذكر ذلك السيد الخوئي، راجع: محاضرات في المواريث ص192. [11] مَن لا يحضره الفقيه، ج4 ص97، والكافي ج7 ص273. [12]أخرجه الشيخان والنسائي، راجع: كنز العمال ج1 ص93. [13]كنز العمال، ج16 ص21. [14]أخرجه النسائي عن ابن عمر راجع كنز العمال ج1 ص93. [15] مناقب آل أبي طالب ج3 ص95، وراجع نحوه ما في نهج البلاغة ج3 ص21، والكافي ج1 ص299. [16]الكافي ج5 ص27، 29، 30. [17] راجع بحار الأنوار ج47 ص137 وج44 ص343. [18] الكافي ج2 ص338. [19] المصدر نفسه، ج5 ص31. [20]مجمع الزوائد ج6 ص286. [21] مسند أحمد ج3 ص488، سنن أبي داوود ج1 ص628. [22] نهج البلاغة ج3 ص78، والمعجم الكبير للطبري ج1 ص100، وتاريخ الطبري ج4 ص114. [23]الكافي ج5 ص28. [24]قد عالجنا حكم تصنيع الأسلحة الكيميائية واستخدامها في الحروب، وهكذا حكم قطع الأشجار وإحراق الغابات في كتاب الإسلام والبيئة، فليلاحظ. [25] الكافي ج5 ص29. [26] وسائل الشيعة الباب 15 من أبواب جهاد العدو الحديث3، وقد أشبعنا هذا الموضوع بحثاً في كتاب "الإسلام والبيئة" فليراجع. [27] سنن أبي داوود ج18 ص643، وسنن الترمذي ج2ص431، وسنن النسائي ج7 ص227، وبحار الأنوار ج62 ص315. [28]صحيح ابن حبان ج14 ص218، ومسند أحمد ج2 ص218. [29] مجمع الزوائد ج8 ص257.
=============
الخطاب الديني والتحدّيات الداخلية
الشيخ حسن الصفار هناك خطباء متمرّسون في إذكاء الخلافات الطائفية، ومحترفون لإثارة الكراهية والبغضاء بين أبناء الأمة. كان التحدِّي الأكبر أمام الخطاب الإسلامي في حقب ماضية هو مواجهة التيارات المناوئة للإسلام. ففي بدايات القرن التاسع عشر الميلادي أدرك دعاة الإسلام خطر حملات التبشير التنصيري التي واكبت الاحتلال الأوروبي للبلاد الإسلامية، وكان إلى جانبها نشاط استشراقي مكثّف يهدف إلى تشكيك المسلمين في دينهم، وإثارة الشبهات حول القرآن الكريم، وسيرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، والمفاهيم والتشريعات الإسلامية، طفحت به كتب كثير من المستشرقين ودراساتهم. فانبرى المخلصون الواعون من علماء الأمة بألسنتهم وأقلامهم وأرواحهم لردّ هذه الهجمات العاتية، وبذلوا قصارى جهدهم للوقوف أمام تلك الموجات العارمة، رغم محدوديّة إمكاناتهم قياساً بقدرات الغزاة الذين يستندون إلى ميزانيات ضخمة، وهيمنة عسكرية سياسية، ومراكز أبحاث وتخطيط. وفي العقود الأولى من القرن العشرين للميلاد، كانت هناك معركة أخرى تنتظر دعاة الإسلام، هي أشد شراسة من حملات التنصير وشبهات الاستشراق، وهي مواجهة المدّ الشيوعي والتيارات العلمانية المناوئة للدين. ذلك أنَّ معظم التيارات العلمانية التي ظهرت في البلاد الإسلامية، أخذت منحى المحاربة والمناوأة للدين، بخلاف معظم تيارات العلمانية في الغرب التي التزمت الحياد تجاه الدين. فقد استثمرت هذه التيارات المناوئة أرضية السخط والرفض للواقع السيئ المتخلّف لدى جماهير الأمة، وتبنّت شعارات الثورة والنهوض، داعية إلى التنكّر للدين والتخلّص منه، لأنّه يتحمّل مسؤولية تخلّف الأمة وانحطاطها. وتمكّنت هذه التيارات من استقطاب شرائح من أبناء الأمة، ووصلت إلى مواقع السلطة والحكم في عدد من البلدان العربية والإسلامية، عبر الانقلابات العسكرية، والتنظيمات الحزبية. فكانت المعركة عنيفة قاسية في بُعديها الفكري والسياسي، حيث عانى دعاة الإسلام من قمع الأنظمة التي انبثقت من هذه التيارات المناوئة. وما كاد ينتهي القرن العشرون حتى انحسر مدّ تلك التيارات، وظهرت طلائع الصحوة الإسلامية، وارتفعت رايات الإسلام في كلِّ مكان، إذ استعادت جماهير الأمة ثقتها بدينها، بعد أن وجدت تلك التيارات ﴿كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ﴾[النور: 39]، وهكذا بدأ عصر الإسلام من جديد. وهناك تحدّيات خارجية لا تزال قائمة أمام الخطاب الإسلامي، وفي طليعتها الحرب الإعلامية الثقافية الطاحنة على الإسلام، بوصفه دين إرهاب وعنف، التي تجاوزت كلّ أعراف وتقاليد العلاقات بين الأديان والحضارات والأمم، كما تمثّل ذلك في الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للنبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، التي نشرتها صحيفة دنماركية ثم أعادت نشرها هذا العام عدد من الصحف في الدول الأوروبية، في تحدٍّ سافر لمشاعر المسلمين، وإساءة صارخة لدينهم وهويتهم. لكن مثل هذه التحدّيات الخارجية ليست على درجة كبيرة من الخطورة تستلزم وضعها على رأس التحديات وأولويات المهام أمام الخطاب الإسلامي. إنّني أعتقد أنّ الخطاب الإسلامي يواجه الآن تحدّيات داخلية هي الأهم والأخطر على مستقبل الإسلام والأمة. فلا بد من الاستجابة لها والارتقاء إلى مستوى مواجهتها. ولعلّ من أبرز وجوه هذه التحدّيات ما يلي: أولاً: إنتاج ثقافة التنمية والبناء فقد برع الخطاب الإسلامي في تعبئة جماهير الأمة ضدّ الأعداء، وضدّ واقع الفساد والانحراف، وتلك مهمّة هدم وتقويض. ولكن ما البديل الذي يجب أن تتّجه الأمة لبنائه على الصعيد السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وبناء المعرفة وتنمية الأخلاق؟ وكيف يقود الإسلام معركة التنمية والبناء؟ هذا ما يحتاج إلى إجابة معمّقة تتضمن برامج عمل، وآليات تنفيذ، وثقافة حركة وإدارة. ثانياً: العلاقة الإيجابية مع الآخر المصالح في عالم اليوم متشابكة، والصراع والنزاع ليس هدفاً ولا استراتيجية دائمة، وإنّما هو ضرورة بمقدار مواجهة العدوان. كما أنّ الإسلام رسالة خير ورحمة للبشرية جمعاء. من هذا المنطلق لا بدّ من إنتاج خطاب يساعد على الانفتاح والحوار مع الآخر، ولا بدّ من نشر ثقافة دافعة لصنع العلاقات الإيجابية مع الغير، ولتجاوز آثار مراحل الصراع والنزاع. صحيح أن هناك اعتداءات لا تزال قائمة ضدّ الإسلام والأمة، لكن المطلوب حصر المواجهة والصراع مع الجهات المباشرة للعدوان دون استعداء للعالم كلّه، وتعميم الصراع على مستوى الأديان والحضارات. والأشدُّ إلحاحاً حاجة الأمة إلى ثقافة العلاقة الإيجابية مع الآخر الداخلي، حيث لا نزال نعيش آثار الصراعات القديمة التي حصلت بين الأسلاف في القرون الأولى لتاريخ الأمة، والتي تتفجّر اليوم على شكل فتنٍ ونزاعات طائفية. كما لا يزال التنوّع القومي والقبَلي عائقاً أمام الوحدة الوطنية، والاستقرار السياسي، في عدد من البلدان العربية والإسلامية. ثالثاً: ترشيد التوجّهات والممارسات الدينية فالإقبال على الدين، وارتفاع المعنويات في أوساط المتديّنين، قد يدفع باتجاه الغلوّ والمبالغة في التوجّهات والممارسات الدينية، خاصة وأنَّ في تراث الأمة بمختلف مذاهبها ما يغذّي مثل هذه الاتجاهات. كما أنّ بعض القوى الدينية التقليدية التي لا تمتلك مشاريع للتنمية والنهوض، قد تسعى لدغدغة مشاعر العامة، وعواطفهم الدينية، لتعزيز نفوذها ومواقعها، في مقابل صعود قوى الإصلاح والتطوير. وليس مستبعَداً أن تدخل على الخط بعض الجهات الخارجية، أو بعض القوى المصلحية في الداخل لتشجيع اتجاهات المبالغة والغلو في الأوساط الدينية. إنَّ خطر توجّهات الغلوّ كبير على مستقبل الإسلام والأمة، ولذلك حذّر الله تعالى الأمم السابقة من الغلوّ في الدين، يقول تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ﴾[النساء: 171]. وتتمثّل أهم مظاهر خطر الغلوّ في النقاط التالية: أ- تحريف المفاهيم، وإفراغ الأحكام الشرعية من مضامينها، والابتعاد عن مقاصد الدين وأهدافه، وإشغال الأمة بحالة طقوسية فارغة، تستنزف الجهود، وتصنع حالة من الإشباع الكاذب، والشعور الزائف بأداء الواجب نحو الدين. ب- الاستغراق في الجوانب الغيبية على حساب العقل ومراعاة السُّنن الإلهية للطبيعة والحياة، مما عزَّز حالة التواكل والكسل، وعدم البحث الموضوعي والمعالجة الواقعية لمشكلات الحياة، وفتح المجال أمام أسواق الشعوذة والدجل، التي تدّعي القدرة على تقديم مختلف العلاجات للأمراض الجسمية، والمشكلات النفسية، والقضايا الاجتماعية. ت- تشجيع التطرّف والتشدّد تجاه الآخر الخارجي والداخلي، انطلاقاً من تفاصيل الخلافات العقدية والتاريخية، وإغفال مساحات الالتقاء والاشتراك، لقد أصبح عندنا خطباء متمرّسون في إذكاء الخلافات الطائفية، ومحترفون لإثارة الكراهية والبغضاء بين أبناء الأمة، وقد منحتهم القنوات الفضائية أفضل الفرص لرفع أصواتهم وبث سمومهم في مختلف الأرجاء. ث- ممارسة الإرهاب الفكري تجاه أيِّ رأي مخالف واتهامه بالمروق والابتداع، مما يوقف حركة الاجتهاد، ومسيرة التطوير والتجديد. إنّ هذه التحدّيات الداخلية توجب على العلماء والدعاة المدركين لها أن يوجِّهوا خطابهم واهتمامهم نحو مواجهتها، وتبصير جماهير الأمة بما يخدم مصلحتها، ويصون رسالتها الإسلامية العظيمة عن عَبَث الغالين والمتزمّتين. ولا شكّ أنّها مهمّة شاقّة تكتنفها صعوبات بالغة، لأنَّ دعاة التشدّد والغلو يستثيرون عواطف ومشاعر العامة الدينية، ويستندون إلى آراء وتبريرات لها جذورها في التراث المذهبي لمختلف الطوائف والمذاهب، ويُظهرون أنفسهم حماة للعقيدة وحرّاساً لشعائرها، ولا يتورّعون عن التشكيك في دين مَن يختلف معهم ولو في أدنى التفاصيل. الدعوة على بصيرة لقد تحدث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأمر الله تعالى له، عن أهم سمة لمنهجه في الدعوة إلى الله، وهي امتلاك البصيرة، يقول تعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾[يوسف: 108]. والبصيرة من البصر والإبصار، فكما يحتاج الإنسان إلى حاسة البصر ليرى الأشياء المادية في هذه الحياة، وليتمكّن من السير في طرقها متلافياً الضياع والوقوع في الحفر والمزالق، كذلك يحتاج إلى المعرفة والوعي لتقويم الآراء والأفكار، والتمييز بين مسالك الخير ومهاوي الشرّ والفساد. وتلك هي البصيرة. وكون الداعي على بصيرة في دعوته يعني أمرين: الأول: اطمئنانه للفكرة ووضوحها عنده، حيث لا يصلح للداعي أن يطرح فكرة لم يجتهد في بحثها، ولم يتأكّد من صحّتها، ولا ينبغي له أن يجترّ في خطاباته طرح ما هو سائد ومتناقل دون تحقيق وتمحيص. ومن المؤسف جدّاً أن تجد بعض العلماء والدعاة ينقلون للناس روايات تاريخية، وآراء عقدية، ومسائل ذات تأثير في أذهان الناس وسلوكهم، قبل أن يكلفوا أنفسهم عناء التأكد من صحة تلك النقولات، اتكالاً على ما سمعوه من خطباء آخرين، أو أخذاً من مصادر غير معتمدة، أو استجابة لرغبة المستمعين. إنّ وسائل البحث وأدوات المعرفة أصبحت متوفرة ومبذولة، فلا عذر للمقصّرين والمتقاعسين. الآخر: معرفة الواقع الخارجي الذي تلامسه الفكرة المطروحة، فليست كل فكرة صحيحة صالحة للعرض في كل زمان ومكان، ولعل المقصود بالحكمة في الدعوة في نص الآية الكريمة: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ ﴾[النحل: 125] هو اختيار القول المناسب للموقع المناسب. من هنا يحتاج الدعاة في كلِّ مجتمع إلى تقويم ظروف مجتمعهم، ودراسة أوضاع البيئة التي يتحرَّكون فيها، لينطلق خطابهم الديني من خطة مدروسة، وليركّزوا على الأولويات. وقد تحدّث العلامة الشيخ عبدالله العَلَمي الغزّي الدمشقي أستاذ دروس التفسير في الجامع الأموي بدمشق المتوفى سنة 1355هـ 1936م حول هذه الآية الكريمة: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ ﴾[يوسف: 108] في كتابه القيم (مؤتمر تفسير سورة يوسف) فقال تحت عنوان (أكثر دعاة أهل اليوم هم على غير بصيرة): (النبي عليه الصلاة والسلام، كان يدعو إلى الله على بصيرة، وهكذا خلفاؤه وعلماء السلف والأئمة المجتهدون وسائر العلماء الصالحين، ولكن من المؤسف، أنَّ أكثر دعاة أهل اليوم، هم على غير بصيرة، لأنّهم مزجوا الدخائل بعقائد الدين، وأدخلوا البدع والأخلاق الرديئة في العوائد الإسلامية، وعلّموا الجهال تعاليم خادعة، لُبِّست الغيّ بالرشاد، كما علموهم التأويلات الباطلة، التي شبهت الحق بالباطل، حتى صار الجبر «توحيداً»، وإنكار الأسباب «إيماناً» وترك الأعمال المفيدة «توكلاً» ومعرفة الحقائق «كفراً وإلحاداً» وإيذاء المخالف في المذهب «ديناً» والجهل بالفنون والتسليم بالخرافات «صلاحاً». واختبال العقل وسفاهة الرأي «ولاية وعرفاناً» والذلّة والمهانة «تواضعاً» والخنوع وقبول الضيم «رضى وتسليماً» والتقليد الأعمى لكلّ متقدّم «علماً وإيقاناً». هذا ما كتبه الشيخ الجليل قبل ثمانية عقود من الزمن عن دعاة عصره، فهل دعاة اليوم أفضل حالاً من أولئك؟ هذا ما نأمله ونرجوه.
============
ألا ترون أنّ المزاج الإيراني هو الذي أنتج التشيّع المغالي والإمامة المبالغ بها في العصر الحديث؟
الشيخ حيدر حب الله السؤال: ما رأيكم في من يربط بعض النظريّات في العصمة المطلقة أو علم الإمام المطلق أو الولاية التكوينيّة التي لا يساعد على القول بها ظاهر القرآن الكريم وجوّه العام، بالمزاج الإيراني المولع بالبحوث الفلسفيّة والعقليّة المعقّدة من جانب، والميّال روحيّاً في الوقت ذاته إلى أجواء الميثولوجيا والمبالغة؟ ويدّعي أنّ هذه المواضيع لم تشتهر إلا بعد أن استولى التشيّع على إيران؟ (عماد الرفاعي، العراق). الجواب: تارةً نتكلّم عن الموقف الرسمي الكلامي للشيعة (التراث الكلامي)، وأخرى نتكلّم عن النصوص الحديثية (التراث الحديثي): 1 ـ فإذا تكلّمنا على مستوى النصوص الحديثية، فنحن نجد الصورتين معاً في كتاب أصول الكافي مثلاً، ولا يمكن القول بأنّ أصول الكافي يقدّم الصورة غير المبالغ بها (بحسب تعبيركم) فقط، بل نجد في نصوصه معطيات وأحاديث تدعم كلا المزاجين. نعم، بعض الكتب الأخرى يتضح فيها المزاج العرفاني بشكل كبير جدّاً، لكنّ المشكلة هي التأكّد من وجود هذه الكتب الحديثية بهذه النسخ الموجودة بين أيدينا اليوم في تلك العصور، حيث هناك جدلٌ كبير في هذا الموضوع. فعلى سبيل المثال كتابٌ مثل كتاب (بصائر الدرجات) وهو أحد الكتب العمدة والأساسيّة والمفصليّة في تكوين المفهوم الجديد للإمامة، هذا الكتاب يوجد بحثٌ ونقاش في أصل وجوده بهذه النسخة القائمة اليوم في العصور السابقة، حيث يدّعى أنّ أقدم نسخة له ترجع للقرن العاشر الهجري (العصر الصفوي)، وأنّ العلماء السابقين ما نقلوا عنه هذه المرويات، ولهذا لم أذكر هذا الكتاب، وإنّما ذكرت مثال كتاب الكافي نظراً لمعلوميّة النسبة، وإلا فلو أقحمنا مثل هذا الكتاب فسوف تكون الثروة الحديثية في هذا المجال أكبر. 2 ـ أمّا إذا تكلّمنا عن الموقف الرسمي للشيعة (التراث الكلامي)، فنحن نلاحظ تنامياً واضحاً لهذه المقولات منذ العصر الصفوي، وهو العصر الذي تحوّلت فيه غالبيّة الشيعة من العرب إلى غير العرب إذا صحّ التعبير، كما يقرّ بذلك الشيخ مرتضى مطهّري، في سياق نقده للفكرة التي تقول بأنّ تشيّع الإيرانيين جاء بوصفه ردّ فعل على غزو عمر بن الخطاب لبلادهم، حيث يرى أنّ غالبيّة الشيعة كانوا من غير الفرس حتى أواسط العصر الصفوي، وأنّ الغالبيّة الفارسيّة إنّما بدأت منذ ذلك الوقت، أي من أواسط العصر الصفوي (مطهري، مجموعه آثار 20: 89 ـ 90، وذلك في بحثه حول تاريخ الاجتهاد؛ وأيضاً في ج16: 113 ـ 115، في بحثه حول الإسلام وإيران). فلو رجعنا إلى كتب متكلّمي الشيعة قبل ذلك، مثل كتب المفيد، والمرتضى، والطوسي، والحلبي، والحمصي، والعلامة الحلي، والمحقّق الحلي، وغيرهم، فضلاً عن علماء مدرسة قم القديمة مع الأشعري والصدوق وابن الوليد، ومدرسة بني نوبخت الكلامية، فنحن لا نجد غلبة هذا المزاج في فهم الإمامة، بل الإمامة هي نظام الحياة الدنيوية في الإدارة والعيش والدين وتطبيق الشريعة وحفظ الإسلام والمسلمين وغير ذلك، ولا أعني بهذا عدم وجود مقولات من هذا النوع، لكن من يقرأ كتب كلام الشيعة الإماميّة ويقرأ تعريفهم للإمامة خلال القرون العشرة الهجرية الأولى، فسوف يلاحظ امتيازاً في التوصيفات والمفاهيم والآراء والمزاج العام. أمّا منذ العصر الصفوي فالأمور تختلف تماماً، حيث المزاج الصوفي والعرفاني واضحٌ جدّاً بأدنى مقارنة بين عرفان ابن عربي وما تركه علماء الشيعة خلال القرون الأربعة الأخيرة. ولهذا الأمر أسباب، وتوجد تحليلات كثيرة في هذا المجال يمكن طرحها، وقد لا يسعني الكلام لبسط القول فيها جميعاً، وأعرض صورتين مختلفتين في تقويم هذا المشهد: الصورة الأولى: وهي ترى أنّ هذا التيار كان موجوداً في القرون الأولى غاية الأمر أنّ علم الكلام الإمامي تأثر بالمنهج العقلاني المعتزلي أو التقى معه، لهذا لم تشهد مثل هذه المقولات نموّاً في وسطه، فتراجعت مدرسة الإمامة الوجودية لصالح مدرسة الإمامة الإدارية والدينية، وهذا هو ما يفسّر عدم الانسجام بين التراث الحديثي والتراث الكلامي بشكل نسبي، ولهذا نجد أنّ المتكلّمين الشيعة أكثروا من نقد الحديث الكلامي معتمدين بشكل أكبر على العقل (بصورته الكلامية في القرون الأولى). أمّا جماع الإخباريّة والصوفية والفلسفة الصدرائيّة، فقد اتفق هذه المرّة ـ رغم اختلافه ـ على منح جرعة إضافية لهذا الفهم للإمامة. ويرى هذا الفريق المؤيّد لهذه الصورة في تفسير الموقف أنّ علماء الكلام الشيعي المتقدّمين قد ارتكبوا خطأ كبيراً بتأثرهم بمنهج المعتزلة أو ميلهم لطرائق المتكلّمين المعاصرة لهم، إذ ضحّوا بهذه الطريقة بثروة حديثية عظمى موجودة في تراثهم الإمامي؛ لأنّها لم تكن تنسجم مع خلفياتهم الفكريّة، واتهموها بالغلوّ والإفراط، وفي حقيقة الأمر إنّه لا غلوّ فيها، وإنّما علم الكلام الشيعي لم يكن قد نما بعدُ إلى حدّ استيعاب وفهم حقيقة هذه النصوص الحديثية التي تمّ إغفالها بشكل كبير. وما فعلته صوفيّة العصر الصفوي وفلسفته المتعالية إنّما كان إعادة بناء النظام الفلسفي الوجودي بطريقة وفّرت لنا فهماً جديداً للوجود، اكتشفنا معه أنّ تلك الروايات التي كان قد هجرها المتكلّم الشيعي ميدانيّاً في تعامله الكلامي كانت حقّاً، وكان من الخطأ عدم الاهتمام بها. إنّ فلسفة العصر الصفوي وتصوّفه كشفا التراث الحديثي وأعادا تظهيره والاهتمام به إلى جانب نشاط التيار الإخباري في تلك الفترة. فالموضوع ليس موضوع الإيراني وغير الإيراني من وجهة النظر هذه، بل هو موضوع تطوّر الدرس الفلسفي والعرفاني الذي كشف لنا عن حقّانية بعض المفاهيم التي فوجئنا باشتمال النصوص الحديثية منذ قديم الأيّام على كثيرٍ منها. وحتى لو لم نتهم العلماء السابقين أو نبيّن عجز فهمهم لقضيّة الإمامة ونقصانه، فقد يمكننا القول بأنّهم أغفلوا هذه الموضوعات في كتبهم الكلامية نظراً لانشغالهم بالجدل مع المذاهب الأخرى، في حين انّ هذه الموضوعات التفصيلية في حقيقة الإمامة تعود لجدل داخلي فلا معنى لطرحه في الجدل المذهبي، ولهذا غلب عليهم تغييب مثل هذه المقولات قياساً ـ وأشدّد على كلمة (قياساً) ـ بما حصل في العصر الصفوي إلى يومنا هذا. الصورة الثانية: وهي ترى أنّ هذه النصوص الحديثية التي تقدّم الإمامة بوصفها ما يقوم عليه بناء الوجود، على قسمين: القسم الأوّل: وهو النصوص الحديثية التي اشتملتها الكتب الحديثية الشيعية الثابتة النسبة إلى تلك القرون، كأصول الكافي وبعض مرويّاته. القسم الثاني: النصوص الحديثية التي لم نشهد حضوراً لها أو ما يؤكّد نسبتها للقرون السابقة، مثل كتاب بصائر الدرجات وكثير من الروايات المتفرّقة التي وجدنا ظهورها منذ عصر ابن عربي وابن طاووس (وكلاهما في القرن السابع الهجري) وما بعد. ويرى هذا الفريق أنّ تراث مدرسة الغلوّ الشيعي التي حاربها أهل البيت أشدّ المحاربة، قد عُزل وحوصر ورفض في الأوساط الشيعية بتوجيه من أهل البيت عليهم السلام، وأنّ بعض مرويّاته قد نفذت إلى الكتب الحديثية، تماماً كما نفذت بعض المرويّات المؤيّدة للتشيّع إلى كتب الحديث السنيّة، وأنّ علماء الشيعة في القرون الأولى قد ضعّفوا في بحوثهم الكلاميّة هذا النوع من الأحاديث وأهملوه، انطلاقاً من عدم انسجامه مع العقل تارةً، ومع القرآن الكريم أخرى. ولمّا ظهر ابن عربي وتنامى التصوّف منذ القرن الذي سقطت فيه الخلافة العباسية (القرن السابع الهجري)، تأثر بعض الشيعة المتأخّرين بالتصوّف تأثراً كبيراً يشبه تأثر بعض السابقين به من الغلاة، وعندما يلتقي التصوّف بالتمذهب تظهر المذاهب الباطنيّة، ولهذا حاول الغزالي أن ينفي تهمة الباطنية عن الصوفيّة، وميّز بين التصوّف والباطنية في مشروعه الصوفي والكلامي معاً، فالذي حصل هو أنّ بعض علماء الشيعة ـ وغالبيّتهم من الإيرانيين ـ تشرّبوا الثقافة العرفانية والفلسفية الميّالة للتصوّف، وآمنوا بها أشدّ الإيمان، اتباعاً منهم لابن عربي ومدرسته، وكانوا أفراداً قليلة كمثل سيد حيدر الآملي والسهروردي وغيرهما، وفي العصر الصفوي قوي هذا التيار لأنّ الصفويين هم في الأساس جماعة صوفيّة كانت تعيش في الشمال الغربي لإيران، فتحوّل العصر الصفوي إلى عصر حاضن للتصوّف والعرفان، وظهرت الكتب المنحولة غير المعلوم تاريخها، فوظّفها هؤلاء للجمع بين التصوّف والتشيّع، وذلك لهدفين: أحدهما: حفظ نزعتهم الصوفيّة في المناخ المذهبي الشيعي الذي يرفض التصوّف منذ الطوسي والمفيد، فجعلوا التصوّف في خدمة المذهب، لاسيما وأنّه كانت بينهم وبين الإخباريين منازعات في إصفهان. وثانيهما: حفظ نزعتهم المذهبيّة من خلال تعظيمها وعملقتها عبر الأدوات الصوفيّة في نظرية الإنسان الكامل لابن عربي، وبهذا التقى التمذهب مع التصوّف في العصر الصفوي في إيران؛ لأنّ الإيراني هو الذي نشّط هذا اللقاء. ومن هنا يتهم هؤلاء الإيرانيين بأنّهم المسؤولون ـ بحسب نزعاتهم الباطنيّة التاريخية الموروثة ـ عن صوفنة التشيّع وعرفنته وعملقته، وإدخاله في غنوصيّة وباطنية مخيفة، موظّفين بعض الأحاديث الآحادية (وهم أساساً لا يرون حجية لمثل هذه الظنون) لخدمة أفكارهم في المناخ الشيعي. ولهذا يقولون بأنّ السهروردي في (الحكمة الإشراقية ونظرية النور) إنّما صاغ حكمته الإشراقية على أساس الكتب الفارسية القديمة التي حصل على نُسخ منها وروّجها بصيغة إسلاميّة في المناخ الإسلامي، ولهذا نجد منذ عصره حديثاً عن نظريات من يسمَّون بالفهلويين الإيرانيين، وهم حكماء فارس القدماء، ونظريّاتهم ما تزال تثار إلى اليوم في بعض الكتب الفلسفية والعرفانيّة بين الشيعة وتنسب أيضاً إليهم، وهناك دراسات حول هذا الموضوع المتعلّق بالسهروردي يمكن مراجعتها في كتب المختصّين. وخلاصة القول: إنّ الصورة الثانية ترى أنّ التشيّع لم تكن له علاقة بكلّ هذه المنظومة الغالية، وإنّما هو مفاهيم أبسط من هذا بكثير، لكنّ بعض التراث الحديثي القليل أضيف إلى تراث مجعول غير معلوم النسبة في العصر الصفوي، وهو العصر الذي شهد نموّ التصوّف والفلسفة المتعالية عند الإيرانيين الميّالين بذاتهم لمثل هذا المزاج، فالتقت هذه العناصر لتنتج تشيّعاً جديداً، ليس هو إلا الغلوّ الذي كان في العصور السابقة، فغلوّ العصور السابقة ـ من وجهة النظر هذه ـ هو التشيّع الرسمي الصفوي بهذا الفهم للإمامة، وهو الفهم الذي لعب أمثال العلامة المجلسي وصدر الدين الشيرازي دوراً كبيراً فيه، كلّ من موقعه. هاتان قراءتان للموضوع تختلفان أشدّ الاختلاف في فهم تطوّرات نظرية الإمامة عند الشيعة، ففيما يرى الفهم الأوّل أنّنا شهدنا منذ العصر الصفوي يقظةً أعادتنا إلى تراثنا الحديثي وأفهمتنا المعنى الحقيقي للولاية والإمامة، وأنّ متكلّمي القرون الأولى قد بخسوا الإمامة حقّها، أو فرضت عليهم الظروف ذلك. يرى الفهم الثاني أنّ التشيّع هو ذلك الذي كان يعيش في مناخه المتقدّمون، وأنّ بعض بقايا الغلو ظلّت موجودة في التراث الحديثي ، وما لبث العصر الصفوي بنزعته الصوفية والعرفانية أن استعان بهذا التراث الحديثي وبما أضيف إليه من كتب وروايات غير معلومة النسبة، فنتج تشيّع جديد آخر، لعب الإيرانيّون الدور الأكبر في صياغته منذ دخولهم أفواجاً في التشيّع في العصر الصفوي. وقراءة الباحث تختلف تبعاً لنظريّته العقدية في الإمامة. وهناك فهوم أخرى للموضوع لا حاجة للإطالة فيها.
========
أَخَلق الله الجنّة لنا نحن الشيعة فقط؟
أيذهب باستور وأديسون وأمثالهما إلى النار، ويخلّد المقدّسون العاطلون الذين أنفقوا أعمارهم في زوايا المساجد في الجنّة؟ كتب الشهيد الشيخ المطهّري في كتابه (العدل الإلهي) صفحة 257 وضمن: (أَخَلق الله الجنّة لنا نحن الشيعة فقط؟) أيذهب باستور وأديسون وأمثالهما إلى النار، ويخلّد المقدّسون العاطلون الذين أنفقوا أعمارهم في زوايا المساجد في الجنّة؟ أخلق الله الجنّة لنا نحن الشيعة فقط؟ ولا يغيب عن ذاكرتي أنّ رجلاً من أهل بلدتي جاء يوماً إلى طهران وكان إنساناً مسلماً متديّناً وعندما لقيني ناقشني بهذه المسألة. وكان هذا الرجل قد شاهد في مستشفى للمصابين بالجذام (الجذام: داء كالبرص يسبّب تساقط اللحم والأعضاء عن الجسم) في مشهد الرضا (ع) ممرّضات مسيحيات يقمن بخدمات مخلصة (على الأقل كما يعتقد هو) للمرضى فتأثّر تأثراً بالغاً وهيّجه الموضوع ودفعه نحو الشكّ والتساؤل. وكما تعلمون فإنّ تمريض الأشخاص المصابين بالجذام عمل شاق ينفر منه الطبع وهو معقّد للغاية. وبمجرّد تأسيس هذه المستشفى هناك لم يوافق أحد من الأطباء سوى القليل للعمل فيه. أمّا الممرّضات فقد أحجمن عن التمريض فيه إطلاقاً. وأعلنت الصحف عن حاجة هذه المستشفى إلى ممرّضات ولكن لم تستجب ولا ممرّضة واحدة في طول إيران وعرضها لتلك الدعوة. وبعد ذلك لبّت الدعوة شابات مسيحيات من فرنسا كنّ قد انصرفن عن الدنيا فجئن من بلادهنّ وأخذن على عاتقهنّ تمريض هؤلاء المجذومين. وقد أثّرت هذه التضحية والعمل الإنساني والرعاية المخلصة التي تقدّمها هذه الممرّضات إلى هؤلاء المصابين بالجذام والذين قد تخلّى عنهم حتى الآباء والأمهات، أثرت في نفسه آثاراً لا تنمحي. وحكى لي أنّ الممرّضات المسيحيات كنّ يلبسن ملابس طويلة وفضفاضة ولم يظهر منهن سوى الوجوه والأيادي،وتحمل كلّ واحدة منهن مسبحة طويلة لعلّ فيها ألف حبّة، وكلّما انصرفت إحداهن من أعمالها انصرفت إلى الذكر والتسبيح. ثم يتساءل هذا الرجل بفكر مبعثر ونغمة متحمّسة: أهذا القول الذي يدعي أنّ غير المسلم لا يدخل الجنّة صحيح؟
===========
السبّ المقدّس
عماد علي بو خمسين تمكّن الصفويّون من فرض سيطرتهم على إيران، وفي سنة 1501 م (907 هـ)، أعلن الشاه إسماعيل الصفوي قيام الدولة الصفوية وأنّ المذهب الشيعي الاثني عشري هو المذهب الرسمي للدولة 1. كان اختيار المذهب الشيعي مذهباً رسمياً للدولة لعدّة أسباب، أهمّها محاولة التميّز عن الدولة العثمانية المجاورة والتي كانت تتّخذ المذهب السنّي مذهباً رسمياً لها، والتي كانت أيضاً معاديةً للصفويين أشدّ العداء، وقامت بينهما فيما بعد عدد من الحروب 2. استحدث الشاه اسماعيل بعض الطقوس الغريبة وأَمَر رجال الدين بنشرها في الناس على أنّها جزء من المذهب الشيعي 3، وكان الهدف منها هو صنع هوية خاصة للدولة الجديدة وضمان ولاء الناس له، ونفورهم من الخلافة العثمانية التي كانت على المذهب السنّي كما ذكرنا 4. وما يهمّنا من تلك الطقوس أنّ الشاه اسماعيل أمرَ الناس بسبّ الخلفاء الراشدين في العلن، وبالفعل كان ذلك… يبدو أنّ هذه الأوامر قد وقعت على موضع القمع والظلم المترسّخ في قلوب بعض الشيعة والذي كانت مدّته حوالي الثمانية قرون، فلاقت قبولاً عندهم. وأما من كان لا يقبل بذلك من الشيعة والسُّنّة الموجودين آنذاك فكان هناك حلّ آخر لإقناعهم. فحسب تعليمات الشاه كان هناك منادٍ يسير في الشوارع ومعه بعض الجند، ويقول: “اللهم الْعَنْ أبا بكر وعمر وعثمان”… وكان من الواجب على كلّ مَنْ يسمع هذا النداء أن يجيب فوراً وبصوتٍ عالٍ: “اللهم أكثِر ولا تُقِل”، فَمَنْ وصله النداء ولم يُجِبْ قام الجنود بإعدامه مباشرةً 5. وكم من الضحايا ذهبوا من جرّاء ذلك. لم يَعْلَم الشاه إسماعيل، أو ربما لم يكن يهمّه أساساً، أنّه بذلك كان يزيد من تعميق الاختلاف والفرقة بين الشيعة والسُّنة، كما حدث سابقاً في زمن معاوية بن أبي سفيان، ممّا كان له الأثر البعيد على الناس، ولا يزال بالإمكان رؤية هذا الأثر حتى يومنا هذا… استمرّ ذلك اللعن العلني لسنواتٍ طويلة حتى كبرت الأجيال الجديدة وهم يظنّون أنّ هذا جزءٌ لا يتجزّأ من الدين، وأنّه ضروري لإعلان الولاء لأهل البيت والبراءة من أعدائهم، بل وظهرت بعض الأحاديث المنسوبة لأئمة الشيعة أو النبي والتي يستشهدون بها لتبرير هذا السلوك والتشجيع عليه… والنبيّ يشجّع يتركّز السبّ لدى بعض الشيعة، وليس كلّهم، على ثلاثة شخصيّات أساسية هي أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعائشة بنت أبي بكر. وباختصار، فإنّ قراءة هؤلاء الشيعة للتاريخ تقول إنّ أبا بكر قد تولّى الخلافة بغير حقٍّ بينما هناك مَن أوصى الرسول له بالخلافة من بعده، أمّا عُمَر فقد تهجّم على فاطمة الزهراء, وأمّا عائشة فقد حرَّضَتْ على حرب علي بن أبي طالب في معركة الجمل. وهكذا، فإنّهم بذلك قد تسبّبوا بفرقة بين المسلمين وإقصاء أو تأخير لعليّ بن أبي طالب عن منصب الخلافة، وهو الإمام الأول لدى الشيعة… وهذه المسائل لا زالت موضع جدل واختلاف إلى اليوم لدى المؤرخين والباحثين الشيعة وغير الشيعة بين النفي والتأويل والإثبات… وليس موضوعنا هو إثبات أو نفي هذه الأحداث التاريخية، وإنما هو كيف تَستدلّ الفئة القليلة التي تبيح سبّ أبي بكر وعمر وعائشة بالأحاديث النبوية لتبرير توجيه السبّ واللعن لهم. من ضمن ذلك، الحديث الذي رواه الكليني عن أبي عبدالله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: “إذا رأيتُم أهل الرِّيَبِ والبِدَع من بَعْدي فأظهِرُوا البَرَاءَة منهُم وأكْثِرُوا مِن سَبِّهم والقولِ فيهم والوقيعة، وباهِتُوهُم 6 كَيْلَا يطمَعُوا في الفسَادِ في الإسلام ويَحْذرَهم الناسُ ولا يتعلّمُونَ من بِدَعِهِم. يكتبُ اللهُ لكم بذلك الحَسَنات ويرفعُ لكم به الدّرَجَات في الآخِرة” 7. عند التأمّل في هذا الحديث نجد أنّه يُحَرِّضُ على الإكثار من السبّ والبهتان والافتراء وترويج الإشاعات والكذب ضِدّ من أسماهم (أهل الرِيَب والبِدَع)… ولكن ألا يعني ذلك أيضاً تحريض مَن ينتمون للمذاهب الأخرى على ظلم الشيعة والكذب عليهم… فكلّ مذهب يعتبر نفسه صحيحاً والآخر مبتَدِعاً، وهذا الحديث الذي بين أيدينا مرويٌ عن رسول الله، وبالتالي هو مُوَجَّه لكلّ المسلمين، وليس للشيعة بشكلٍ خاصّ. إذن فهذا الحديث في الواقع لا يبيح سبّ أهل البدع والريب بل هو بمثابة إعلان حرب بين كلّ مذهب إسلاميّ والمذاهب الأخرى. هل يتماشى هذا الحديث مع الخُلًق العظيم والروح النبوية التي اعتدناها في أحاديث وسيرة رسول الله؟ أين هذا الحديث من حديث الرسول: “لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ وَلَا اللَّعَّانِ، وَلَا الْفَاحِشِ وَلَا الْبَذِيء” 8، و قوله: “لا تَسُبُّوا الناسَ فتكسَبُوا العَداوَةَ منهم” 9، وقول جعفر الصادق: “إنّ اللهَ عزّ و جَلّ لمْ يَبْعَثْ نبيّاً إلا بصِدْقِ الحَدِيثِ وأدَاءِ الأمَانَةِ إلى البَرّ والفَاجِر” 10. ويقول الله تعالى: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾[المائدة: 8]. و يقول تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ﴾[النحل: 90]. ويقول رسول الله: “أيّها الناسُ ما جَاءكُم عنّي يُوَافِقُ كِتَابَ اللهِ فأنا قلتُه، وما جَاءكم يُخَالِفُ كِتابَ اللهِ فلمْ أقُلْه” 11. ولو افترضنا أيضاً أنّ الحديث صحيح، فهو لم يذكر أسماء أشخاص مُحَدَّدِين لسبّهم، وإنّما جاء هذا الفهم من محاولة إخضاع النص لتوجّهات الدولة الصفوية آنذاك، وتفسيره بطريقة توافق متطلّبات ومصالح ذلك الزمان. يَضرِبُ لنا علي شريعتي، عالم الاجتماع الإيراني المعروف، مثالاً آخر على تأويل وإخضاع النصوص على الطريقة الصفويّة، كما حدث عند ترجمة كتاب نهج البلاغة من العربية إلى الفارسية… يقول شريعتي: “عندما وصل المترجِم إلى مقولة عليّ لأصحابه: (إنّي أكْرَهُ لكُمْ أنْ تَكُونُوا سَبَّابين) ووَجَدَ أنّها لا تنسجم مع التوجّه العام لدى علماء التشيّع الصفويّ، لجأ كالعادة إلى التأويل وهي الحِرفة التي تتجلّى فيها المهارة الفائقة للتشيّع الصفوي في قلب معاني التشيع العلوي وتجريدها من مضمونها الحقيقي… فقال فضيلة المترجِم: (ليس المراد من هذه العبارة هو عدم جواز شتم المُخالِف واللعن عليه بل على العكس هذا واجبٌ وتكليف، غير أنّ المنع جاء هنا من أمير المؤمنين بخصوص سبّ بني أمية، وذلك خشية أن يسبّوا بالمقابل أمير المؤمنين، فيكون السابّ لبني أمية مُتسبّباً في سب أمير المؤمنين (ع)، وهو أمر غير جائز طبعاً)… لاحظوا هنا كيف حوّل المترجِم كلامَ أمير المؤمنين إلى قاعدة مقلوبة، ومفادها أنّه لا يجوز السبّ إلا إذا كان الطرف المقابل مؤدّباً لا يردّ بنفس الطريقة…!” 12. مشكلة اجتماعية مع مرور الوقت انتقلت هذه العادة (عادة السبّ واللعن للخلفاء) مع غيرها من العادات التي استحدثها الصفويّون، إلى مناطق الشيعة خارج إيران والتي تأثّرت بقوة الدولة الصفوية المجاوِرة لهم والمشارِكة لهم في المذهب. ومن الطبيعي أن يتأثّر الضعيف بالقويّ، بالذات إذا كانا على معتقدٍ واحد، فيأخذ عاداته حتى لو كانت سيّئة. ولا تزال مثل هذه العادات موجودة إلى اليوم عند البعض، وإن كانت حِدّتها قد خفّتْ عمّا كانت عليه. ففي السابق كان المجتمع الواحد منغلقاً على نفسه والجهل منتشراً بين عامة الناس، أما الآن فقد انتشر الوعي وصار الإعلام منفتحاً، وأدرك الناس ضرورة تعايش أبناء المجتمع الواحد من سنّة وشيعة مع بعضهم البعض. سِلاح الضعيف يتربّى الصبي على سماع هذه اللعنات والشتائم في محيطه ضدّ شخصيّات في صدر الإسلام، يشجّعه على ذلك الشعور بالغبن كردّة فعل تجاه الاضطهاد والتهميش والمعاملة العنصرية التي تعرّض لها المجتمع الشيعي ولا يزال… والضعيف ليس لديه سلاحٌ يحمله ليطالب بحقوقه أو ليدفع الأذى عن نفسه. كلّ ما لدى الضعيف هو سلاح الشتائم كوسيلة للتنفيس عن غضبه… يوجّهها لمن آذوه أو حرموه من حقوقه… أو يوجّهها لرموزهم الدينية حتى يزيد من إغاظتهم. فإذا كبر ذلك الصبي الذي اعتاد على سماع السّباب وترديده، فإنه يرفض أن يصدّق أنّ السبّ واللعن لا قيمة لهما، بل يقاوم بشدّة من يقول إنّ ذلك لن يجلب له ثواباً ولن يقرّبه من الله زلفى، فهذا السبّ واللعن قد تضخّم في ذهنه حتى صار يظنّه جزءاً لا يتجزّأ من إيمانه بالله، وشعيرة مهمة لإظهار محبّته وولائه لأهل البيت. وأما الحديث: “لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبَّاباً وَلَا فَحّاشاً، وَلَا لَعَّاناً“13، فيصبح لا قيمة له عنده… فالموروث الاجتماعي والعقل المُبَرْمَج منذ الصغر، أقوى من كلِّ حديثٍ شريف وأقوى من كلِّ آيةٍ كريمة. والواقع أنّ علماء الشيعة في وقتنا الحاضر ينكرون سبّ الصحابة، ويقولون إنّه لا أصل له في المذهب الشيعي ولا يمارسه إلا (القلّة المتعصّبة) كردّة فعل كما قلنا. ولكن يظهر أن هناك فجوة بين هؤلاء العلماء وبين البعض من عامة الناس، فلا يستمعون لهذا الإنكار ولا يتبعونه، بل يمرّون عليه مرور الكرام وكأنّه موجّهٌ لغيرهم. منطق السبّ المقدّس لم أستوعب يوماً كيف يكون السبّ عبادة… هل من الممكن أن يكون هناك دين يشجّع أبناءه على سبّ الآخرين ويَعِدُهُم بالثواب العظيم عليه؟ هل يريد الله ذلك لعباده المؤمنين؟ كنت أظنّ أنّ التقرّب إلى الله يكون بعمل المعروف وإفشاء السلام والكلمة الطيبة… لا يمكن للسُّباب وبذاءة اللسان أن يَجِدَا مكاناً بين هذه الأمور حتى لو كانا موجَّهين لأعدى الأعداء… شتّان ما بين الاثنين. فإذا قلنا لهم ذلك قالوا: “نحن لا نسبّ، نحن نلعن فقط…” كأنّهم بهذا صاروا في قِمّة الأدب والخُلُق الرفيع، وكأنّ اللعن أهون من السبّ والشتم… هل هناك أحد يقبل أن تلعنه أو تلعن رموزه الدينية ويرضى بذلك لمجرّد أنّك (لمْ تسبّه)؟ فالأذى النفسي ذاته ينتج في الحالتين ولا يقبل به أحد، بل سيردّ عليك اللعنات بمثلها وأكثر. كيف تكون ردّة الفِعْل في سنة 37 هـ كان أهل الشام يشتمون عليَّ بن أبي طالب أثناء حرب صفّين وذلك بتحريضٍ من معاوية بن أبي سفيان. فلمّا سمع بعض أصحاب عليّ ذلك، ما كان منهم إلا أن ردّوا عليهم الشتائم بمثلها… ولما سمع ذلك الإمام عليّ قال لهم: “كرهتُ لكم أن تكونوا لعّانين، شتّامين، تشتُمون وتتبرّأون، ولكن لو وصفتم مساوئ أعمالهم، فقلتم من سيرتهم كذا و كذا، ومن عملهم كذا وكذا، كان أصْوَبَ في القولِ وأبلغَ في العذر“ 14. و نرى هنا أنّ الإمام لم ينْهَ أصحابه عن السبّ وكفى، بل يقول لهم تحدّثوا بما فعلوا بكم وبما أساؤوا إليكم ولا تسكتوا، فهذا حقّ… وبمقاييس اليوم، يشبه ذلك الحرب الإعلامية بين طرفين متناقضين، يبيح كلّ طرف لنفسه من الوسائل ما يتناسب مع مبادئه وشخصيّته… ومرّةً أخرى، شتّان ما بين الأسلوبين، وشتّان ما بين المبدأين. ولكن كيف كانت ردّة فعل أصحاب عليّ بعد أن قال لهم ذلك، وهل توقّفوا عن السبّ فعلاً؟ قالوا في لحظتها: “نقبلُ عِظَتَكَ ونتأدّبُ بأدَبِك“ 15. إذن لم يحاول أصحاب الإمام علي أن يكونوا أذكى من إمامهم ولم يجادلوه، ولم يقولوا إنّ السبّ واللعن موجودان في القرآن وإن الرسول كان يسبّ ويلعن مَن تخلّف عن جيش أسامة، كما يتحجّج بذلك بعضهم اليوم… وعلى كل حال، فقد قال بعض العلماء إنّ اللعن الموجود في القرآن الكريم أو حديث الرسول هو على التعميم وليس التخصيص، فلا يجوز لعن شخص محدّد بالاسم ما لم يَرِدْ نصّ صريح في ذلك 16. كيف توقّفَ السبّ استخدم معاوية سبّ عليّ كوسيلة لتنفير أهل الشام من عليّ 17، وكذلك كوسيلة لغسل عقول الأجيال الجديدة فيضمن بذلك تعميق الاختلاف بين الفريقين فلا يتعاطف أحد من فريقه مع الفريق المضاد في يومٍ من الأيام 18. استمرّ سبّ عليّ على منابر الأمويّين حوالي الستين عاماً حتى زمن الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز، الذي أمر بوقف السبّ ونهى عنه 19. يروي لنا عمر بن عبد العزيز موقفاً من طفولته، يوضّح لنا تأثير التلقين على الأطفال وغسيل المخ المُمَنهج الذي مارسه الأمويّون، كما يوضّح كذلك أنّ التربية السليمة بمقدورها تصحيح الكثير من المفاهيم قبل فوات الأوان… يقول عمر بن عبد العزيز: “كنتُ غلاماً أقرأ القرآن على بعض ولد عتبة بن مسعود، فمرّ بي مُعَلِّمي يوماً وأنا ألعب مع الصبيان ونحن نلعن عليّاً، فكَرِهَ ذلك ودخل المسجد، فتركت الصبيان وجئت إليه… فلمّا رآني قام فصلّى وأطال في الصلاة شِبهَ المُعرِض عنّي حتّى أحسستُ منه ذلك فلمّا انفتل من صلاته كَلَحَ في وجهي. فقلتُ له: ما بال الشيخ؟ فقال لي: يا بُنيّ أنت اللّاعنُ عليّاً منذ اليوم؟ قلت: نعم. قال: فمتى علمتَ أنّ اللّه سخط على أهل بدرٍ بعد أن رضيَ عنهم؟ فقلت: يا أبتِ، وهل كان عليّ من أهل بدر؟ فقال: ويحك! وهل كانت بدرٌ كلّها إلاّ له؟ فقلت: لا أعود… فلم ألعنه بعدها” 20. ولكنّ ذاك السبّ الذي أوقفه عمر بن عبد العزيز كان للأسف قد ترك بالفعل جرحاً غائراً لا يندمل في وجدان الأمة، أضف لذلك الكثير من الحروب والأحداث السياسية التي حدثت في ذلك الزمن… فحتى بعد ذهاب الأمويّين، ظلّ هناك مَن يعادي أهل البيت ومن شايعهم… وكردّة فعل طبيعية، ظهر كذلك مَنْ يبغضون كلّ مَنْ يمثّل السلطة المضادّة التي قمعتهم، أو من أسّسَ لها. اليوم يعلمنا التاريخ دروساً مهمّة: القمع الفكري لن يولّد إلا مجتمعات مشوّهة، احتكار الحقيقة لن يولّد إلا مجتمعات متناحرة، امتلاك السياسي للدين في يده لن يولّد إلا المآسي. بَيْنَ معاوية الأموي وإسماعيل الصفوي، لعبت السياسة ألاعيبها، واختلط الدهاء السياسي بمحاولات استغلال الدين لخدمة مصالح الدولة وحاكمها المطلق ومن يَرِثُ المُلك بعده من أبنائه. وبَقِي السبّ المقدّس إلى يومنا هذا، يدعمه في ذلك تأثيرات وضغوط وموروثات اجتماعية كثيرة كما ذكرنا. الأمويّون سبّوا عليَّ بن أبي طالب، والصفويّون سبّوا أبا بكر وعمر، والآن بعض الشيعة يسبّون رموز السنّة في السرّ أحياناً وفي العلن أحياناً أخرى (كما فعل المقيم في لندن، والذي أساء لعائشة زوج الرسول على قناته الفضائيّة). ثم يقوم بعض المتطوّعين من السنّة بسبّ الشيعة واختراع الأوصاف لهم، إذ يبدو أنّ مبدأ (باهِتوهُم) الذي تحدّثنا عنه هو مبدأ له شعبيّة كبيرة هذه الأيام لدى الجميع… ولكن هنا تظهر مشكلة بسيطة وهي أنّ رموز الشيعة من أهل البيت هم رموز مشتركة بين الفريقين، فلا يمكن للسنّي أن يسبَّ علي بن أبي طالب أو جعفر الصادق… فما العمل في هذه الحالة؟ هنا تتمّ الاستعاضة عن ذلك عن طريق سبّ الشيعة من عامة الناس ووصفهم بأنّهم أحفاد المجوس وأحفاد الصفويّين وأبناء المتعة، فيردّ الشيعة بأنَّ السنّة هم أحفاد الأمويين وأبناء المسيار… دوّامة لا تنتهي من الفعل وردّة الفعل، يُلقي فيها كلّ طرف اللوم على الطرف الآخر… وبمجرّد إلقاء نظرة على تعليقات القرّاء في مواقع الانترنت المختلفة تحت أيّ موضوع يتعلّق بالشأن السنّي الشيعي، تُظهِر القلوب مكنوناتها مستعينةً بالتخفّي خلف الأسماء المستعارة أحياناً، والصريحة أحياناً أخرى… هذا السُّباب المتبادل يعكس وجود أزمة ثقة وحالة حنق عامة على الآخر… تُصَمُّ فيها الآذان عن قول الله تعالى: ﴿وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ﴾[الحجرات: 11]. ***** الهوامش 1 علي أحمد رشيد، الصفوية التاريخ والصراع والرواسب (أسباب وبواعث قيام الدولة الصفوية) ص 50. وانظر: د. مشتاق عبد مناف الحلو، الصفوية التاريخ والصراع والرواسب (الصفوية والعثمانية، تطاحن الأيدولوجيات الطائفية) ص 66. 2 د. علي شريعتي، التشيع العلوي والتشيع الصفوي، ص 76. وانظر: د. علي الشيخ، الصفوية التاريخ والصراع والرواسب (الدولة الصفوية وأتباع الأديان والمذاهب الأخرى) ص 99. 3 د. علي الوردي، لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث، ج 1، ص 59. وانظر: د. علي الشيخ، الصفوية التاريخ والصراع والرواسب (الدولة الصفوية وأتباع الأديان والمذاهب الأخرى) ص 96– 98. 4 بعد رحيل الشاه إسماعيل، تولى ابنه الشاه طهماسب الحكم، وبرز في عهده اسم الشيخ علي بن عبد العالي الكركي، الذي صار شيخ الإسلام والمسؤول عن الشؤون الدينية في الدولة، وقد وضع الكركي رسالة لا تزال مخطوطة بعنوان: “نفحات اللاهوت في لعن الجبت والطاغوت” في تجويز لعن الخلفاء (د. كامل مصطفى الشيبي، الصلة بين التصوّف والتشيع، ج 2 ، ص 373), ولا يخفى معنى عنوان هذه الرسالة على أحد. 5 د. علي شريعتي، التشيّع العلوي والتشيع الصفوي، ص 75. وانظر: د. علي الوردي، لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث، ج 1، ص 58. وانظر: د. علي الشيخ، الصفوية التاريخ والصراع والرواسب (الدولة الصفوية وأتباع الأديان والمذاهب الأخرى) ص 103. 6 يقول محقّق كتاب الكافي في الهامش في معنى باهِتوهم: “والظاهر أنّ المراد بالمُبَاهَتة إلزامهم بالحجج القاطعة وجعلهم متحيّرين لا يَحيرون جواباً، كما قال تعالى: ﴿فبُهِتَ الذى كفر﴾، ويحتمل أن يكون من البهتان للمصلحة فإنّ كثيراً من المساوئ يعدّها الناس محاسن خصوصاً العقائد الباطلة، والأول أظهر“… بينما يرى ابن منظور في معجم لسان العرب أنّ معنى بَاهَتَ يختلف عن معنى بُهِتَ المذكورة في الآية، يقول ابن منظور: “بَاهَتَهُ: اسْتقْبله بأَمرٍ يَقْذِفُه به، وهو منه بريء، لا يعلمه فَيَبْهَتُ منه، والاسم البُهْتانُ. وبَهَتُّ الرجلَ أَبْهَتُهُ بَهْتاً إِذا قابلتُه بالكذب“… ثم يضيف ابن منظور: “وفي التنزيل العزيز: ﴿فبُهِتَ الذي كَفَر﴾, تأْويلُه: انْقَطَع وسكتَ مُتحيّراً عنها“. (ابن منظور، لسان العرب، مادة: بهت). 7 الكليني، أصول الكافي، باب مجالسة أهل المعاصي، ج2، ص 375. وهذا الحديث صححه المجلسي في مرآة العقول ج 11 ص 7، وصحّحه الخوئي في مصباح الفقاهة ج1 ص 362، وعقّب عليه الخوئي بتفصيل مهم ممّا يستحقّ الاطلاع عليه. 8 الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحيحين، كتاب الإيمان، ج 1، ص 52 و 53. ونقله محمد مهدي النراقي، جامع السعادات، ج 1، ص 301. 9 محمد مهدي النراقي، جامع السعادات، ج 1، ص 301. 10 الكليني، أصول الكافي، باب الصدق وأداء الامانة، ج 2، ص 104. وكذلك: المجلسي، بحار الأنوار، ج 75، ص 116. 11 الكليني، أصول الكافي، باب الأخذ بالسنة وشواهد الكتاب، ج 1، ص 69. 12 د. علي شريعتي، التشيع العلوي والتشيع الصفوي، ص 77 – 78. 13 صحيح البخاري، كتاب الأدب، حديث رقم 5684. 14 نصر بن مزاحم المنقري، وقعة صفّين، ص 103. وكذلك: نهج البلاغة، الشريف الرضي، ص 492 رقم 204، بإيجاز واختلافٍ يسير، واللفظ هنا للمنقري. 15 المصدر السابق. 16 محمد مهدي النراقي، جامع السعادات، ج 1، ص 304-305. وكذلك انظر: الشيخ حسين علي الراضي، النبي الأعظم وثقافة اللعن، مقال بتاريخ 8/3/2012 م على موقعه www.alradhy.com. 17 صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل علي بن أبي طالب، ج 7، ص 120. وكذلك: الطبري، تاريخ الأمم والملوك (تاريخ الطبري)، أحداث السنة الأربعين، ص 900. وكذلك: ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج 3، ص 273. وكذلك في العديد من المصادر المتفرّقة مثل تاريخ الطبري و بغية الطلب في تاريخ حلب وغيرها. 18 جاءَ في كتاب شرح نهج البلاغة: “أنّ قوماً من بني أمية جاءوا إلى معاوية، فقالوا له: إنّك بلغتَ ما أمِلتَ، فلو كففتَ عن لعن هذا الرجل..!. فقال: لا والله حتى يَرْبُو عليها الصغير ويهرم عليها الكبير، ولا يذكر له ذاكرٌ فضلاً” (ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج 4 ص 57). 19 سير أعلام النبلاء للذهبي ج 5، ص 147. وكذلك في العديد من المصادر التي ترجمت لعمر بن عبد العزيز. 20 شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ج 4 ص 58 – 59.
=========
الغلوّ
الشيخ المفيد الغلو في اللغة: مجاوزة الحدّ والخروج عن القصد وهو الإفراط في حقّ الأنبياء أو الأئمة (عليهم السلام) بالأخص (تصحيح الاعتقاد للشيخ المفيد ص109). ومن علاماته: ادعاء الألوهية في البشر، أنبياء أو أئمّة أو ادّعاء حلول الإله فيهم، أو إضفاء صفة من صفاته تعالى عليهم، أو إخراجهم عن حدّ البشرية بأيِّ نحو كان. (الملل والنحل للشهرستاني ج1 ص288، مصر 1948). ونجد عند الشيخ المفيد- رحمه الله- أنّه كان متابعاً لموقف أئمة أهل البيت(ع) في التصدّي لهذه الظاهرة الخطيرة ولما أعلنوه (ع) مراراً من البراءة من الغلاة والجهر بلعنهم وأمر شيعتهم بالابتعاد عنهم والتبرّؤ منهم (الإمام الصادق والمذاهب الأربعة ج2 ص234). لقد تصدّى الشيخ المفيد لمعالجة هذه الظاهرة الخطيرة، والوقوف بحزم وجرأة في وجهها، والدفاع عن المذهب وبيان الاعتقادات الصحيحة، ثم ذكر أيضاً: "إنّ الإمامية لم يكتفوا بالبراءة منهم، بل جرّدوا الحجج من الردّ على القائلين بمقالاتهم، وباينوهم في الظاهر والباطن". (المسائل الصاغانية في الرد على أبي حنيفة: ص251 مطبوعة ضمن مجموعة رسائل، ط1، منشورات مكتبة المفيد، قم، إيران). الاعتقادات التي تجعل الإنسان مغالياً يحدّد الشيخ المفيد الأمور الاعتقادية التي يصير بها الإنسان مغالياً، أي الأمور التي تخرجه عن الاعتقاد الصحيح، ويمكن تثبيتها كما يأتي: أولاً: ادّعاء الألوهية في النبيّ أو الإمام أو ادّعاء النبوّة في الإمام، قال الشيخ المفيد في هذه المسألة: "ويكفي في علامة الغلوّ نفي القائل به عن الأئمة سمات الحدوث وحكمه لهم بالإلهيّة والقدم.." (راجع: بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج25 ص346). وقال في مكان آخر: "والغلاة من المتظاهرين بالإسلام هم الذين نسبوا أمير المؤمنين والأئمة من ذرّيته عليهم السلام إلى الألوهية والنبوّة..."(تصحيح الاعتقاد ص111) ثم قال: "وهم ضلاّل كفّار، حكم فيهم أمير المؤمنين صلوات الله عليه بالقتل والتحريق بالنار، وقضت الأئمة عليهم السلام عليهم بالإكفار والخروج عن الإسلام..". (بحار الأنوار: ج25 ث265، ط2، بيروت، مؤسسة الوفاء). ثمّ بيّن بعد ذلك الرأي الصحيح والاعتقاد السليم فقال: " إنّ رسل الله تعالى من البشر وأنبيائه والأئمة من خلفائه محدثون مصنوعون تلحقهم الآلام، وتحدث لهم اللذات، وتنمو أجسامهم بالأغذية، وتنقص على مرور الزمان، ويحلّ بهم الموت ويجوز عليهم الفناء، وعلى هذا القول إجماع أهل التوحيد. وقد خالفنا فيه المنتمون إلى التفويض وطبقات الغلاة". (أوائل المقالات: ص84). جاء في بحار الأنوار عن الأئمة (ع): "احذروا على شبابكم الغلاة لا يفسدونهم!.. فإنَّ الغلاة شرّ الخلق؛ يصغِّرون عظمة الله، ويدعون الربوبيّة لعباد الله" (بحار الأنوار ج25 ص265، راجع الإمام الصادق لأسد حيدر ج1 ص234، دار الكتاب الإسلامي، بيروت، ط2، 1390ه). وصف الإمام أو النبي ببعض الصفات الإلهية إنّ من علامات الغلوّ التي يحدّدها الشيخ المفيد هي: إضافة صفة من صفات الله تعالى على النبيّ أو الإمام، أو أيّ شخص آخر وهذا، بدون شكّ، تجاوزٌ للحدّ، ولعلّ أهمّ ما يتّصل بذلك ممّا ذكره أمران: أوّلهما: إضفاء صفة الخلق أو الرزق إلى الأئمة(عليهم السلام). وثانيهما: ادعاء علمهم بالغيب على نحو المطلق، ونورد ما ذكره الشيخ المفيد في هذا المقام كما يلي: ذكر الشيخ المفيد، أنّ المفوّضة صنف من الغلاة، وعلّل ذلك بأنّهم أضافوا الخَلْق والرِّزق إلى الأئمة (عليهم السلام) وأنّهم ادّعوا أنّ الله تعالى تفرّد بخلقهم خاصة وأنّه فوّض إليهم خلق العالم" (تصحيح الاعتقاد ص109). وقد جاء في القرآن الكريم قوله: {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ}[الأعراف: 54]، وقوله تعالى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ}[فاطر: 3]. ادّعاء علم الغيب للأئمة قال الشيخ المفيد: "فأما إطلاق القول على الأئمة بأنّهم يعلمون الغيب فهو منكر بين الفساد؛ لأنّ الوصف بذلك إنّما يستحقّه من علم الأشياء بنفسه لا بعلم مستفاد، وهذا لا يكون إلاّ لله عزَّ وجلَّ، وعلى قولي هذا جماعة أهل الإمامة، إلاّ من شذ عنهم من المفوضة ومن انتمى إليهم من الغلاة". (أوائل المقالات: 77). والشيخ المفيد يعالج هذه المسألة من زاوية أخرى فيقول: "أما ما ورد من الأخبار التي يفيد ظاهرها بأنّهم- عليهم السلام- يعرفون ما في ضمائر بعض العباد، ويعرفون ما يكون فتأويل ذلك عنده: أنّه ليس ذلك بواجب في صفاتهم، ولا شرطاً في إمامتهم، وإنّما أكرمهم الله تعالى به، وأعلمهم إيّاه للطف في طاعتهم والتمسّك بإمامتهم، وليس ذلك بواجب عقلاً، ولكنّه وجب لهم من جهة السماع.."(أوائل المقالات، ص77). وفي آمالي المفيد روى عن ابن مغيرة قال: "كنت أنا ويحيى بن عبد الله بن الحسن عند أبي الحسن(ع) فقال له يحيى: جعلت فداك إنّهم يزعمون أنّك تعلم الغيب؟ فقال: سبحان الله، ضع يدك على رأسي فوالله ما بقيت شعرة في جسدي ولا في رأسي إلاّ قامت، ثم قال: لا والله ما هي إلاّ وراثة عن رسول الله صلى الله عليه وآله.." (آمال المفيد، منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية، قم المقدسة، المطبعة الإسلامية، 1403 ه، ص23). وفي هذا المعنى ورد عن أمير المؤمنين (ع) أنّه قال: "إنّه تعلّم من ذي علم" (نهج البلاغة، خطبة رقم 128)، إشارة إلى ما رُوِيَ عنه (ع): "علّمني رسول الله (ص) ألف باب من العلم، يفتح لي من كلّ باب ألف باب". (الإرشاد، الشيخ المفيد، ص22، رواية ينتهي سندها إلى عبدالله بن مسعود).
=========
الفقيه والمثقف
العلامة السيد محمد حسين فضل الله للحديث عن “الفقيه” و “المثقف” دائرتان تتصلان بالخط الذي يتحرك فيه الفقيه الإسلامي في مسؤولياته الذاتية والرسالية. الفقيه في الدائرة الذاتية والرسالية فهناك الدائرة الذاتية في علم الفقه، كاختصاص في مفردات الشرع الإسلامي في النطاق الفقهي، من خلال الدراسة المنهجية التي ترتكز على توثيق النص في سنده وألفاظه، وتحقيق المضمون في مدلوله وأبعاده، للوصول إلى مرحلة الاستنتاج في استخراج الحكم الشرعي من مصادره الموثوقة. وهناك الدائرة الرسالية لامتداد الإسلام في حركة الإنسان في الواقع، من حيث هو منهج للحياة، وحلّ لمشاكلها، وانفتاح على آفاقها، ومواجهة لتحدياتها، من أجل تحقيق الصيغة المثلى، والأنموذج الذي يستطيع الوقوف بقوةٍ وصلابة أمام التيارات الأخرى في ساحة الصراع، على مستوى المفاهيم والوسائل والأساليب، بحيث يملك الموقف الحركي المتنوع الألوان والمتعدّد الأبعاد، فيكون الفقيه رسولاً مرحلياً في معنى الرسالة في دائرة الامتداد لحركية الرسول. ففي الدائرة الأولى، قد يرى البعض أن ثقافة الفقيه تتمحور حول القواعد التي تحدّد الطريقة لفهم النص وتوثيقه في نطاق العلوم العربية أو علم الدراية والحديث والرجال، أو فقه القرآن، مع التركيز على علم المنطق الذي يحدد الجانب الشكلي للاستدلال، وعلم الأصول الذي يزوّده العلم بالقواعد الممهدة لتحديد الوظيفة العملية من خلال تحديد الحكم الشرعي الواقعي أو الظاهري، ليكون علم الفقه الذي يتابع مناهجه ومسائله ومفرداته هو نتاج ذلك كله. فإذا تمّ له ذلك، كان قد أخذ العلم الفقهي من كل أطرافه من دون حاجةٍ إلى علوم أخرى – حتى أن التفسير القرآني لا يمثل حاجة له، خارج نطاق آيات الأحكام – لأنه ليس بحاجة إلى التخصص بالقرآن في هذه الدائرة لاتصاله بالمسألة العقيدية، مثلاً، التي هي في منأى عن دور الفقيه.. أمّا علم الكلام والفلسفة فهو ترف فكري لا علاقة له بالفقه من قريب أو من بعيد. إنّ المسألة المطروحة في هذا الجانب هي الوصول إلى جسم الشريعة لا روحها، وإلى مفرداتها لا أبعادها، وإلى فرضياتها لا وقائعها، ولهذا فلا ضرورة للتدقيق في موضوعات الأحكام، لأن وظيفة الفقيه هي تحديد الحكم الشرعي على الموضوعات المفترضة. فلا يجب عليه إحراز الموضوع – من حيث هو الفقيه المفتي – لأن الفتوى تطلق الحكم على الموضوع على أساس تقدير وجوده في الواقع الخارجي، وعلى المكلف أن يلاحق حركة الموضوع في حياته وحياة الآخرين تبعاً للحكم الشرعي الفتوائي، وربما استثنى الفقهاء من ذلك الموضوعات التي لا بد للفقيه من تحديد مفهومها من خلال النصوص، كالغناء والصعيد والوطن، وأمثالها من موضوعات الأحكام التي يختلف الرأي في طبيعة مضمونها أو في سعته أو ضيقه، من خلال المعنى اللغويّ أو العرفي أو الشرعيّ، إن كان للشارع حقيقة شرعية فيه في حجم المصطلح. بين دور الفقيه والحاكم الشرعي إن دور الفقيه في هذه الدائرة هو دور العالم بالقانون الذي يحدد مدلولات موادّه، لتكون ثقافته محدودة فيما هو القانون في ذاته لا في روحه، إلاّ بالمقدار الذي يتصل به ذاتياً. وقد نجد في بعض النظريات الفقهية في مسألة حكم الحاكم الشرعي، أنه ليس حجة في تحديد موضوعات الأحكام، بل هو مختص بباب القضاء، فلو أن الحاكم الشرعي، مثلاً، حكم بهلال شهر رمضان أو بالعيد، فلا يجب على الناس إطاعته في ذلك، حتى إذا كانوا يرجعون إليه في الفتوى، فيتوقف قبولهم به بالقناعة الشخصية بذلك بقطع النظر عن حكمه ورأيه. وقد امتدّ هذا الاتجاه الضيِّق المنغلق على الدائرة الذاتية للفقه في شخصيته، إلى الانغلاق الفقهي على الدائرة المذهبية، فلم يعد للفقيه الشيعي أيّ اهتمام ثقافي بالفقه السنّي إلا بالمقدار الذي يتصل ببعض تعقيدات الفقه المذهبي من ناحية انفتاحه على بعض تفاصيله في نطاق موضوعات “التقية” مثلاً، كما أنّ الفقيه السنّي يفكّر بالطريقة نفسها في فقدان الاهتمام الثقافي بالفقه الشيعي، إلاّ من خلال الرغبة الذاتية غير الملحّة في معنى الاختصاص. وهكذا فقدنا في مجتمعاتنا الفقهية صفة الفقيه الإسلامي الموسوعي في مسألة الاختصاص الفقهي، الأمر الذي أبعد الواقع الإسلامي الفقهي العام عن التصور الدقيق للتفكير المتنوع في هذه الدائرة المذهبية أو تلك، وهذا ما أدّى إلى توسيع المساحة الهائلة الفاصلة بين مواقع المجتمع الإسلامي، على أساس أن النماذج المتحركة فيها هي نماذج فقهاء المذاهب، لا فقهاء الإسلام، فكان الإصرار الجامد على الوقوف عند حدود المذهب في المسألة الاجتهادية، بحيث أصبح من المألوف أن يتهم فقيه شيعي بأنه أصبح قريباً من الانحراف إلى الدائرة السنّية إذا تبنى حكماً موافقاً للمذهب السنّي، أو يتهم فقيه سنّي بالخضوع للمؤثرات الشيعية إذا أفتى بما يوافق مذهب الشيعة، على أساس أنّ كل دائرة لا بد أن تبقى مغلقة عن الدائرة الأخرى على الدوام. وهناك ظاهرة سلبية نشأت في ظلِّ هذا المفهوم المحدود لدور الفقيه، وهي ابتعاده عن مسألة تبليغ الدعوة أو المفردات الفقهية على خطِّ التوعية العامة، لأن هذا لا يلتقي بمهمة العالم الفقيه، بل يلتقي بمهمة المبلّغ الذي يستهلك ثقافة الفقيه ليبلِّغها إلى الإنسان. وبذلك بدأ الفصل بين مهمة الفقيه ومهمة المبلّغ والواعظ، حتى رأينا في بعض الدوائر العلمية الفقهية، من ينكر على الناس مطالبة الفقيه بذلك، لأنه ليس دوره أو وظيفته أو مسؤوليته. إنّ خلاصة النظرة، في هذا المفهوم، هي أنّ الفقيه يملك اختصاص الفقه في مسائله تماماً كما هو الطبيب الذي يملك اختصاص المعرفة الطبية في مفرداتها، من دون أن تكون لأية ثقافة فلسفية أو علمية أو اجتماعية أو أدبية أو سياسية، مدخلية في معناه، فلا يكون افتقاده لها نقصاً في موقعه أو دوره. إنّها النظرة التي تنتج الفقيه الجامد المنغلق عن حاجات عصره، لا الفقيه الحركي في عالم التحديات.. وربما نلتقي – في هذا المجال – ببعض النماذج التي لا تملك ثقافة عقيدتها الإسلامية في الاستدلال الفكري للعقيدة على أساس القواعد العلمية، بل قد تكون خاضغة لأفكار سطحية أو لتقليد المناخ العام الذي قد تستثيره أيةّ مناقشة لبعض التفاصيل أو توجيه علامات استفهام لأيّ خط فكري في هذا المضمون العقيدي أو ذاك، تماماً كأيّ شخص جاهل يتحرك في موقع الانفعال. وفي الدائرة الرسالية، تختلف المسألة، كليّاً، عن الدائرة الذاتية، فهناك الأفق الرحب الذي ينفتح على الإسلام، وهناك الأرض الواسعة الممتدة في اتجاه الأهداف الإسلامية الكبرى، وهناك الأمة الإسلامية الكبيرة في مستوى العالم، وهناك العالِمُ في الدائرة الإنسانية الذي يتطلع إلى الإسلام في قضاياه ومشاكله، وهناك الفقه الإسلامي المنطلق من قاعدة الإيمان بالله وبرسله وباليوم الآخر، المتحرك في حاجات الإنسان وأوضاعه من أجل تفجير طاقاته على أساس الحرية والعدالة، لتكون الحياة كلها دعوةً في خط الرسالة ورسالة في حجم الحياة. وفي ضوء ذلك، ينطلق دور الفقيه ليكون دور النبي باعتباره الحامل لرسالته، الأمين عليها، على هدى الحديث الشريف المأثور: “العلماء ورثة الأنبياء” و “العلماء أمناء الرسل”، فإذا كانوا ورثة الأنبياء، فلا بُدّ لهم من أن يتحركوا على مستوى الدعوة والحكم والجهاد والحركة في خط الإنسان والحياة. وإذا كانوا الأمناء للرسل، فلا بد لهم أن يكونوا الحافظين لرسالتهم ولأمتهم، السائرين في دروبهم، الحارسين لمواقعهم، الثابتين في مواقفهم ومواقعهم. وهكذا يكون الفقه النافذة التي يطلُّ الفقهاء من خلالها على الواقع كله والإنسان كله، ولن يكون – الفقيه – مجرد مثقف في الحكم الشرعي، بل يمتد إلى أن يكون مثقف في الإسلام كله عقيدةً وشريعةً ومنهجاً وهدفاً على خطِّ النظرية، وحركة وجهاداً ودعوة وسلطة على خط التنفيذ والامتداد في الحياة. وفي هذا الاتجاه، نقف مع الفقيه ليكون الحاكم الذي يتدخل في حلّ مشاكل الساحة فيما يختلف فيه النّاس في أمورهم الخاصة والعامة، حتى لا يبقى فراغ في الحكم على مستوى الإسلام، فيفسح المجال لغيره، أو يخضع للمنحرفين عن الخط ليكونوا الحاكمين على الناس من خلال انحرافهم، وهذا ما نستوحيه من قول الإمام جعفر الصادق (ع): “انظروا إلى رجل منكم قد روى حديثنا، وعرف أحكامنا (أحكام الإسلام)، ونظر في حلالنا وحرامنا (حلال الإسلام وحرامه) فارضوا به حكماً فإني قد جعلته عليكم حاكماً...”. فإذا كانت ثقافة الحديث ومعرفة الأحكام، ووعي الحلال والحرام، هي الأساس الذي يرتكز عليه موقع الحكم للحاكم، فلا بد أن تنطلق هذه الثقافة في حركة انفتاح على واقع الناس ووعي لمشاكلهم وفهم لقضاياهم وتطلّعٍ إلى غاياتهم، للقيام بدور الحاكمية في المستوى اللائق الذي يحفظ شؤون البلاد والعباد، من خلال وعيه الشامل للخلفيات الكامنة وراء الأحداث، وللنتائج السلبية أو الإيجابية الحاصلة منها، وللتطلعات المستقبلية التي يخطط لها، ولا بُدّ أن تتفاعل الثقافة الإسلامية الفكرية والفقهية مع الأوضاع المحيطة بالواقع المتجدّد تبعاً لتجدد الأوضاع في أجواء الظروف المختلفة. دراسة حالة الرواة ونلتقي في الاتجاه نفسه بالحديث المعروف: “وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله...”. فقد نفهم من هذا النص، أن المطلوب فيه هو مواجهة “رواة الأحاديث” للحوادث الواقعة المتجددة التي لم يسبق وقوعها في زمن النصوص الإسلامية، بالاجتهاد المفتوح على كل مفرداتها من أجل استنباط أحكامها، وذلك باستيحاء القواعد العامة الثابتة في الكتاب والسنّة من أجل تطبيقها على الواقع الجديد، فلا يبقى هناك فراغ في التشريع في الموضوعات التي لم يرد فيها نصّ خاص، الأمر الذي يفرض المعرفة الميدانية للواقع، مقارنةً بالواقع المماثل، أو منفتحة على الخصائص والشروط المختزنة في داخله بالإضافة إلى المعرفة الفقهية، لتكون ثقافة الواقع في كل دقائقه وخصوصياته أساساً لفهم نوعية التشريع الإسلامي في الوقائع، لأن الفقيه إذا لم يفهم موضوع الحكم جيّداً، فلا يملك معرفة الحكم الثابت له. وربما كانت الإشارة في الحديث إلى الرجوع إلى “رواة الحديث” في توجيه الأحداث وتحريكها والإشراف عليها في منطق الولاية العامة، لتكون دليلاً على نظرية “ولاية الفقيه”، الأمر الذي يفرض الإحاطة بكل ظروف الحوادث الواقعة الصغيرة والكبيرة، حتى يملك الفقيه القدرة على الإمساك بها وإدارتها وتوجيهها إلى الوجهة التي تحمي حركة الأمة، وتنمّي طاقاتها وتحقق أهدافها. دور الثقافة في حركة الاجتهاد وفي كلا الاحتمالين، ثقف الثقافة العامة في مسائل الواقع لتكون أساساً للاجتهاد هنا، ولحركة الولاية هناك، وتدخل في هذا الجانب كل الموضوعات المستحدثة التي لم يعرفها الفقهاء القدامى، مما فرضته الحاجات الجديدة، في تطورات الواقع الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والأمني للإنسان، الذي بدأ يطرح كثيراً من علامات الاستفهام حول النظرة الإسلامية إليه، كما انطلق ليثير أكثر من مشكلة للإنسان المسلم على مستوى التحديات الكثيرة والمتنوعة. وقد نلاحظ – في هذا المجال – أن الاتجاهات الأخرى المضادَّة قد أثارت الكثير من المسائل الفكرية والعملية حول حقوق الإنسان، كما فرضت الكثير من الأوضاع مما تختلف فيه المصالح والمفاسد النوعية، التي تختلف الأحكام فيها بين موقع وآخر أو فرضية وأخرى، بحيث لا يكفي فيه جانب الفرض والتقدير، بل يتعين فيه التركيز على الواقع. وربما فرضت التطورات، على صعيد ولادة الدولة الإسلامية، كثيراً من القضايا المتصلة بفقه الدولة الذي يختلف عن فقه الفرد في غير نطاق الدولة، الأمر الذي يلتقي بأكثر من مسألة جديدة أو مشكلة حادثة، على أساس الواقع العالمي الخاضع للخطوط المطروحة لدى الناس الآخرين، من خلال طريقتهم في التفكير، باعتبار أنهم هم الذين خطَّطوا لتنظيم الواقع الإداري والاقتصادي والسياسي والأمني، فكيف يواجه الفقيه ذلك كله، إذا لم يكن واعياً للمتغيرات الفكرية والعملية في العالم في دائرة الولاية العامة أو في نطاق الاجتهاد الفقهي؟ فإنّ ذلك كله يمثل حركة ضغط متجددة دائمة في ملاحقة كل مسألة ومشكلة من خلال حاجة النّاس إلى الأجوبة التي تحدد الفكرة، والخطوط التي تحدّد خط السير، لارتباط ذلك بحياتهم اليومية الملحّة، أو بمستقبلهم المنطلق من قاعدة الواقع الحاضر. فهل يقف حائراً أمام ذلك؟ أم ينطلق في إثارة الاحتمالات والفرضيات على الطريقة القديمة ليترك للناس ملاحقة الاحتمالات، في عملية إخضاع للواقع أو عملية تفسير له، الأمر الذي قد يبتعد عن الواقعية الذاتية للأشياء ويحول دون امتلاك الناس رؤية واضحة أمام هذا الواقع المستجدّ؟ إننا أمام هاتين الدائرتين لا نجد مجالاً للاكتفاء بالدائرة الأولى، لأنها تبقي الفقيه في النطاق الضيّق، أي الإطار النظري، وفي آفاق الاحتمالات التي تبعده – كما تبعد الناس – عن حركة الفقه في الواقع، وحركة الإسلام في الحياة في كثير من الحالات، بعيداً عن أي فرصة لقيادة المجتمع بالمعنى الواسع للكلمة، بحيث يكون الفقيه مجرّد حالة ثقافية محدودة، كأي حالة ثقافية في مجالات أخرى لا علاقة لها بالموقع القيادي. إن طروحات "المرجعية العامة" أو "الولاية العامة" تفرض الانفتاح على الواقع كله في كلّ مفرداته الثقافية التي لا بُدّ له من أن يعيها بشكلٍ مباشرٍ في تجربته الخاصة، أو بشكل غير مباشر من خلال استشارة الخبراء، ليستطيع بذلك تحريك الطاقات الحية المتنوعة على مستوى الفرد أو المجتمع أو الأمة كلها، من موقع القيادة الفكرية والعملية التي تملأ الفراغ الكبير في حياة الناس، حتى لا يحتاجوا إلى البحث عن تساؤلاتهم ومشاكلهم في موقعٍ آخر، ما قد يؤدي بهم إلى الانحراف. وهكذا نقف في خطِّ الدعوة والتبليغ والإنذار، لنلاحظ أنّ القرآن قد طرح مسألة التفرّغ الفقهي الإسلامي للطائفة المنفتحة على حاجات التوعية الشاملة للأمّة، فلا تخرج للجهاد فيمن يخرج من المسلمين، وذلك لتحقيق الهدف الكبير في إنذار الأمة بالمستوى الذي يحقق لها الانضباط في خطوط الإسلام العامة، وهذا هو ما جاء في قوله: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾[التوبة:122]. ومن اللافت في هذه الآية، أنها ركزت على التفقه في الدين الذي يشمل مسألة العقيدة والشريعة وحركة المنهج في الواقع، بحيث يعيش المؤمنون الاكتفاء الذاتي في كل ما يحتاجون إليه من المعرفة الإسلامية في خطِّ النظرية والتطبيق؛ الأمر الذي يفرض على هؤلاء المتفقهين في الدين أن يواجهوا كل علامات الاستفهام التي تثيرها التطورات الحياتية في أفكار الناس، وكل التحديات التي تطلقها حركة الصراع في ساحة الواقع، فلا يبقى هناك أيّ فراغ يعطّل حركة الحذر الواعي في ذهنية الأمة وفي تطلعاتها المستقبلية. إنّ الآية تخطِّط للمراحل القادمة التي تمثل الامتداد الحضاري للإسلام في واقع الأمة، ليبقى لها. في كل جيل ـ طلائع متقدمة تقود الحياة على أساس الإسلام في مواجهة كل المتغيرات وكل التحديات. إنّ الفقهاء ورثة الأنبياء في العلم والدعوة، كما يقول البعض في تفسير الحديث، فلا بد أن تقوم بهم الحجة على الناس من خلال ما يريد الله لهم أن يكونوا في مستوى إقامة الحجة عليهم من قبله، تماماً كما هو النبي الذي تقوم به الحجة على الناس من قبل الله. وهم ورثة الأنبياء، وأمناء الرسل في قيادة المسيرة، فلا بد لهم من الارتفاع إلى المستوى الرفيع من وعي الحياة بالإضافة إلى وعي الإسلام، لأنه لا معنى لقيادة لا تعرف كيف تخطط لحركتها، أو تواجه جمهورها بالتوعية الشاملة. إنّ الفقيه شاهد عصره، وقائد أمته، ورسول ربه، من دون وحي أو نبوّة، ونذير للناس في كل ما يواجههم من قضايا ومشاكل في الحاضر والمستقبل. إنه الذي يملأ فراغ الحياة من النبوّة ليكون دوره دور الرسالة المتحركة في أكثر من اتجاه وعلى أكثر من صعيد. إن العصر يتطور بسرعة، فلا بد للذين يضعون أنفسهم في موقع القيادة أن يلاحقوا كل خطوات التطور بالسرعة نفسها، ليواكبوا الحياة في قضاياها المتحركة المتجددة بالحلول الإسلامية الواقعية التي تمنح الإنسان جواباً عن كل سؤال وحلاً لكلّ مشكلة، لأن أيّ تأخر عن الاندفاع في هذه المواكبة الفكرية والعملية قد يدفع الناس إلى الانكفاء والجمود، أو البحث عن قيادة أخرى لمسيرةٍ بعيدة عن خط الإسلام، وهذا مما لا يرضاه الله ورسوله في كل زمان ومكان...
======
آية الله المطهري والاكاذيب التي تروى في الحسينية في عاشوراء
http://www.dd-sunnah.net/forum/showthread.php?t=38819
محرم موسم لعن الصحابة ونشر الأكاذيب في الحسينية / آية الله مطهري
http://www.dd-sunnah.net/forum/showthread.php?t=59374
عاشوراء الحسين مطهري وجدان الثأر / رشيد خيون
https://alwatan.wordpress.com/2012/03/02/%D8%B9%D8%A7%D8%B4%D9%88%D8%B1%D8%A7%D8%A1-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B3%D9%8A%D9%86-%D9%85%D8%B7%D9%87%D8%B1%D9%8A-%D9%88%D8%AC%D8%AF%D8%A7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AB%D8%A3%D8%B1-%D8%B1%D8%B4%D9%8A%D8%AF/
=============
روايات الشيعة مضروبة ضعيفة
http://aljazeeraalarabiamodwana.blogspot.com/2016/10/blog-post_23.html
الشيخ مطهري: محاولة لتشذيب عاشوراء
http://aljazeeraalarabiamodwana.blogspot.com/2016/10/blog-post_70.html
أساطير كربلاء! فمتى يستيقظون؟
http://aljazeeraalarabiamodwana.blogspot.com/2016/10/blog-post_47.html
جولة في أفكار الشهيد المطهري حول الملحمة الحسينية
http://aljazeeraalarabiamodwana.blogspot.com/2016/10/blog-post_72.html
الدين بين مطرقة الخطباء الخرافيين وسندان العلماء الساكتين
http://aljazeeraalarabiamodwana.blogspot.com/2016/10/blog-post_10.html
بنات النبي (ص) لا ربائبه / منقول من موقع شيعي
http://aljazeeraalarabiamodwana.blogspot.com/2016/10/blog-post_84.html
هل هناك مصطلح اسمه مرجع أعلى؟!
http://aljazeeraalarabiamodwana.blogspot.com/2016/10/blog-post_48.html
فتنة الشعائر الجديدة
http://aljazeeraalarabiamodwana.blogspot.com/2016/10/blog-post_43.html
تصويب منهجي: الشيرازيون و«الطقسنة»... مرة أخرى
http://aljazeeraalarabiamodwana.blogspot.com/2016/10/blog-post_71.html
أدوات الفتنـة في الواقع الإسلامي
http://aljazeeraalarabiamodwana.blogspot.com/2016/10/blog-post_99.html
ماذا يقصد علي شريعتي من (التشيّع العلوي والتشيّع الصفوي)؟
http://aljazeeraalarabiamodwana.blogspot.com/2016/10/blog-post_94.html
نظافة الأساليب
http://aljazeeraalarabiamodwana.blogspot.com/2016/10/blog-post_67.html
هل حدثت زيارة الأربعين؟
http://aljazeeraalarabiamodwana.blogspot.com/2016/10/blog-post_90.html
الدين بين مطرقة الخطباء الخرافيين وسندان العلماء الساكتين
http://aljazeeraalarabiamodwana.blogspot.com/2016/10/blog-post_10.html
-----------------
بــاعـــتـــراف كـبــــــار مشـــــايــــخ الشــــيعــة :أســــاطير كربــــلاء! !!! فمتـى يســـتـيـقـظــون ؟ قــــاطــــعـــــوا صــــنّــــــــــاع الأســــاطــيــــــر... بقلم : نايف كريِّم (إعلامي لبناني مدير تلفزيون المنار سابقاً)
http://aljazeeraalarabiamodwana.blogspot.com/2016/10/blog-post_47.html
=======
الشيخ مطهري: محاولة لتشذيب عاشوراء
http://aljazeeraalarabiamodwana.blogspot.com/2016/10/blog-post_70.html
=======
الغلو والبدع
البكاء على الحسين (عليه السلام) بسبب الأكاذيب
ثمّ يذكر الشهيد مطهّري ما قاله الشيخ النوري في كتاب (اللؤلؤ والمرجان) عن هذه التحريفات فيقول: "من الواجب أن نقيم المآتم على الحسين (عليه السلام)، أمّا المآتم التي تقام عليه اليوم فهي جديدة، ولم تكن هكذا فيما مضى؛ وذلك بسبب كلّ تلك الأكاذيب التي أُلصقت بحادثة كربلاء دون أن يفضحها أحدٌ. إنَّنا يجب أن نبكيَ الحسين (عليه السلام)، ولكن ليس بسبب السيوف والرماح التي استهدفت جسدَه الطاهر الشريف في ذلك اليوم التاريخي؛ بل بسبب الأكاذيب التي أُلصقت بالواقعة".
كما ورد في مقدّمة الكتاب (اللؤلؤ والمرجان) إشارة إلى منبع الأكاذيب، حيث نقرأ قول الشيخ النوري: "كتب لي أحد العلماء من الهند يشكو كثرة الأكاذيب التي يروِّج لها قرّاء التعزية الحسينيّة في تلك البلاد، وقد رجاني أن أعمل شيئاً بهذا الخصوص، كأنْ أكتب كتاباً يساهم في منع استمرار الخطباء من الكذب على المنابر الحسينية".
ثم يكتب الحاج النوري (رضوان الله عليه) مضيفاً: "إنَّ هذا العالِم الهندي يتصوَّر أنَّ قرّاء التعزية الحسينية يبدأون بنشر الأكاذيب بعد أن يصلوا إلى الهند؛ ولا يدري أنَّ المياه ملوّثة من رأس النبع، وأَنَّ مصدر المآتم الكاذبة هي (مدن) كربلاء والنّجف وإيران؛ أي مراكز التشيُّع الأساسيّة نفسها".
ثمّ يقول الشهيد مطهّري: وفي هذا المجال يذكر أنَّ أحد العلماء الكبار المتواجدين في إحدى المحافظات الإيرانية، وهو من العلماء الذين يحملون بعض المعاناة والألم والحسّ الديني، وكان على الدوام يعترض على مثل هذه الأكاذيب التي تقال على المنابر ويقول: ما هذه السموم التي تُنفث فوق المنابر؟!.
وقد جاءه مرّة أحد الوعّاظ يقول: أتعلم أنَّنا لو تخلّينا عن مثل هذه الخطابات لتوجّب علينا إغلاق هذه الدكّان. فردّ عليه هذا العالِم: إنّها أكاذيب يجب علينا عدم ذكرها على المنابر مهما حصل.
الإمام عليّ (عليه السلام) يطلب الماء للإمام الحسين (عليه السلام) وهو على المنبر
ومن التحريفات، كما يقول المطهّري: ذكر الحاج نوري في مقدّمة كتابه، قصّة تقول: إنَّ أمير المؤمنين عليّاً (عليه السلام) صعد يوماً إلى المنبر ليخطب في الناس، وحصل أن عطش الإمام الحسين (عليه السلام) وطلب ماء، فقطع أمير المؤمنين (عليه السلام) خطبته، وطلب من الناس أن يأتوا بالماء لابنه الحسين؛ فكان أبو الفضل العبّاس وهو طفل صغير أوَّل مَنْ نهض ليأتيَ بالماء، حيث ذهب إلى أُمِّه وأحضر الماء وعاد إلى المجلس، والماء فوق رأسه، وقد تبلّلت ثيابه، إلى آخر القصة بتفاصيلها المعروفة... ولمّا رأى أمير المؤمنين (عليه السلام) هذا المنظر انسابت الدموع على خدّيه، ولما سُئِل عن سبب البكاء؟ أجاب (عليه السلام): تذكرت كذا وكذا "أي عطش الحسين (عليه السلام) في كربلاء"... إلى آخر الخيال والتحليق المعروفة نهايته.
فالحاج نوري هنا يناقش هذه القصّة الخياليّة بشكلٍ جميل، فيقول: إذا ما سلّمنا بصحّة هذه القصّة جدلاً، فهذا يعني أنَّ أمير المؤمنين (عليه السلام) كان يلقي تلك الخطبة في الكوفة، إذ إنَّه (عليه السلام) لم يصعد إلى المنبر ويخطب إلاَّ في زمان خلافته، ممَّا يعني أنَّ ابنه الحسين (عليه السلام) كان رجلاً يناهز الثالثة والثلاثين من العمر في ذلك الوقت، فهل من المعقول والمنطقي، أن يقوم رجل بذلك العمر مثل الإمام الحسين (عليه السلام) ليطلب الماء من أبيه وهو يخطب بالناس ويعظ؟ وماذا لو كان هذا السلوك قد صدر من شخصٍ عاديٍّ؟ أمَا كنَّا وجّهنا له تهمة الوقاحة وسوء الأخلاق لمثل هذا التصرّف؟ وبعد فإنَّ أبا الفضل العبّاس كان قد بلغ سنّ الخامسة عشْرة على الأقلّ في ذلك الزمان، فأين طفولته حسب القصّة؟
ونموذج آخرُ في الكذب والتزوير والاختلاق، قصّة الرسول والرسالة معه حيث يقال: إنَّ رسولاً قدم إلى الإمام الحسين (عليه السلام) حاملاً معه رسالة يريد الجواب عليها، فيقول له الإمام، أن اذهب وعد إلينا بعد ثلاثة أيام، وأنَّه لمّا عاد إليه بعد الأيام الثلاثة، وسأل عنه، قيل له بأنَّه عازم على المغادرة (إلى الكوفة) وقد بدأ تحرّكه، فقال في نفسه: طالما الأمر كذلك، فلأذهب لأرى كيف يكون جلال شاه الحجاز (يقصد بالإمام الحسين) وعظمة موكبه، وانطلق (الموكب) فإذا به يرى الحسين (عليه السلام) نفسه، وقد جلس على كرسي فخم، وبنو هاشم على كراسيَّ، ثمَّ إذا بهم يُحضرون الهوادج المزخرفة بالحرير والديباج، ثمّ أحضروا المخدَّرات (النساء) وأركبوهن بكلّ احترام وتعظيم ومثل هذه الأقوال... ثمّ يقفزون (قرَّاء العزاء) فجأة إلى اليوم الحادي عشر من المحرَّم، ليقولوا للناس: انظروا ماذا حلَّ بِحُرَم أبي عبد الله (عليه السلام) في هذا اليوم بعد تلك العظمة والجلالة والفخامة؟ ومَن قال إنَّ عظمة أبي عبد الله (عليه السلام) تُقاس بالكرسيّ المذهّب الذي يجلس عليه، أو بالذهب المرصَّع أو الديباج والحرير الذي يغطّي الهوادج لأهل بيته أو بالخيول والخَدَم والحَشَم المرافقين له ولقافلته.
ليلى... أُمّ عليّ الأكبر، وشبهة وجودها في كربلاء
ونموذج آخر للتحريف في وقائع عاشوراء، وهو القصّة التي أصبحت معروفة في المجالس والقراءات الحسينية؛ وهي قصة ليلى أُمّ عليّ الأكبر؛ وفي الحقيقة لا يوجد دليل تاريخي واحد يؤكّد وقوعها، ولكن ليس هناك مؤرِّخ واحد يؤكّد وجودها أو حضورها في معركة كربلاء، وبالرغم من هذا التأكيد (بعدم حضورها في كربلاء) نسمع في المجالس التي تُقرأ قصّة احتضان ليلى لابنها عليّ الأكبر، في ساحة المعركة والمشهد العاطفي الخيالي المحض، حتّى أنِّي حضرت شخصيّاً في قم مجلساً حسينياً أُقيم باسم آية الله البروجردي، دون أن يكون هو حاضراً بالطبع، وقد سمعت في هذا المجلس، أنَّ عليّاً الأكبر نزل إلى ساحة المعركة، وإذا بالحسين يتوجّه إلى أُمّه ليلى ويطلب منها الدخول إلى إحدى الخيم، لتنشر شعرها، وتتوجّه إلى ربّها بالدعاء ليرجع ابنها سالماً إليها، ويقول: لقد سمعت جدّي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول، بأنَّ دعاء الأُمّ بحقّ ابنها مستجاب. فهل هناك تحريف أكثر من ذلك؟
أوّلاً: ليس هناك ليلى في كربلاء حتّى يحدِّثها الإمام (عليه السلام).
ثانياً: هل هذا منطق الحسين (عليه السلام) في المعركة؟ قطعاً لا، لأنَّ منطق الحسين (عليه السلام) يوم عاشوراء كان منطق التضحية والجهاد.
ونموذج آخرُ سمعته في طهران.. كنتُ في أحد المجالس الحسينية في بيت أحد كبار علماء هذه المدينة قبل سنوات عدّة، وكان القارئ يتحدّث عن ليلى وابنها عليّ الأكبر؛ ولما وصل بحديثه إلى حيث توجّهت (ليلى) إلى الخيمة، ونشرت شعرها بناءً على طلب الإمام الحسين (عليه السلام)، فإنَّها نذرت أيضاً زرع الطريق من كربلاء إلى المدينة بالرَّيْحَان، إذا ما استجاب الله تعالى دعاءها وأرجعه لها سالماً من المعركة؛ وطول هذا الطريق ثلاثمائة فرسخ. قال القارئ ذلك ثم أنشد شِعراً:
نذرٌ عليّ لئن عادوا وإنْ رجعوا لأَزْرَعَنَّ طريق التَّفتِ (الطَّفِّ) رَيْحَانا
سمعته وذُهلت وزاد تعجُّبي ورحت أبحث في بطون الكتب؛ وإذ بي أجد بأنَّ كلمة "التفت" هي منطقة غير منطقة كربلاء أولاً؛ ثم إنَّ بيت الشعر كلّه لا علاقة له بحادثة عاشوراء، لا من قريب ولا من بعيد، بل إنَّه نُظِم على لسان مجنون ليلى العامريّة، الذي كان ينتظر ليلاه المقيمة في هذه المنطقة المذكورة. وإذ بقرّاء المجالس حوَّلوه إلى لسان ليلى أُمّ عليّ الأكبر، وكلمة (الطفّ) كربلاء أصبحت "التّفت". فتصوّروا معي بالله عليكم لو أنَّ مسيحيّاً أو يهوديّاً أو ملحداً كان حاضراً، ألاَ تنتظرون منه أن يقول ما هذه السخافات والترّهات التي تشوب تاريخ هؤلاء الناس؟
الشهيد مطهري، الملحمة الحسينية
============================
مفهوم اللعن في القرآن وموقف الإمام علي من السب واللعن
حسين الراضي
الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَسْتَهْدِيهِ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِي اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ. وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ انْتَجَبَهُ لِوَلَايَتِهِ وَاخْتَصَّهُ بِرِسَالَتِهِ وَأَكْرَمَهُ بِالنُّبُوَّةِ أَمِيناً عَلَى غَيْبِهِ وَرَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ. وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَعَلَيْهِمُ السَّلَامُ[1].
لا تزال المشكلة القديمة الجديدة التي تتفاعل على الساحة وهي الفتنة المذهبية القائمة على السبّ والشتم واللعن، وقد طُرحت قديماً في صدر الإسلام كمشكلة تحتاج إلى حلّ، وممّن تصدّى لحلّها أئمتنا (عليهم السلام) وعلى رأسهم أمير المؤمنين (عليه السلام).
فلم يزل الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) يربّي أولاده وأهل بيته وأصحابه وشيعته على أعلى مكارم الأخلاق وحميد الصفات ويحذّرهم من مساوئ الأخلاق وأن يتعالوا عن هذه السقطات التي لا تتناسب مع المؤمنين وتثير الأحقاد في المجتمع وتفكّك عرى الوحدة فيه.
وقبل الدخول في موقف أمير المؤمنين (ع) نشير إلى معنى اللعن في اللغة ومعناه في القرآن الكريم:
1- المعنى اللُّغوي للّعن
الحاصل من كلام أهل اللغة أنّ اللّعن على قسمين:
1- اللّعن من الله فهو الطّرد عن رحمته. وهذا مختصٌّ به سبحانه.
2- اللعن من الناس: فهو السبُّ، والشتم، والدعاء على الشخص.
فالنسبة بين السبّ واللعن العموم والخصوص من وجه.
2- مفهوم اللعن في القرآن الكريم
اللعن في القرآن يمكن أن يُنظَر إليه من أكثر من زاوية وحالة:
- الحالة الأولى: أن يكون بملاحظة اللاعن مَنْ هو، فهل هو الله أو الناس؟
فإن كان اللعن من الله فهو الطرد من رحمته وهو في حدِّ ذاته عذاب.
وإذا كان من الناس فيكون من باب الدّعاء على الغير ممّن يستحقّ العذاب وطلب الطرد من رحمة الله بأن يُبعده الله من الرحمة ويُنزل عليه عقابه.
- الحالة الثانية: أن ينظر إلى الآيات القرآنية الواردة في اللعن ويحاول أن يرى لها وجهاً جامعاً مشتركاً سواء كان من جهة اللاعن أو الملعون أو اللعن نفسه.
3- أوجه اللعن في القرآن الكريم
هنا ذكر المفسّرون أنّ اللعن في القرآن له أربعة أوجه حيث وردت آيات عديدة، قال الحيري النيسابوري المتوفّى 431 هـ في كتابه «أوجه القرآن»:
اللعن على أربعة أوجه- ثم ذكر الأوجه الأربعة واستشهد ببعض الآيات على كلّ وجه، ونحن ذاكرون تلك الأوجه مع زيادة بعض الآيات التي تتناسب مع كلِّ وجه-:
- الوجه الأول: العذاب
وفي هذا المعنى يوجد عدة آيات يظهر منها أنّه قد أُطلق اللعن وأُريد منه العذاب، منها:
1- قوله تعالى حكاية عن الكافرين: ﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ﴾[البقرة:88].
2- قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾[البقرة:159].
فَلَعْنُ الله لهم هو عذابه إليهم.
ولعن الناس الدعاء عليهم، كما سوف يأتي، فاللعن من الله يختلف عن اللعن من الناس.
3- قوله تعالى: ﴿مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً﴾[النساء:46].
4- قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً﴾[النساء:52].
5- قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً﴾[الأحزاب:57].
6- قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ﴾ [محمد:23].
7- قوله تعالى: ﴿وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾[النور:7]
8- قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً﴾[الأحزاب:64].
فاللعن في هذه الآيات بمعنى العذاب من الله لمن يستحقه من الكافرين أو الظالمين أو الكاذبين وليس للإنسان في هذا العذاب أيُّ شأن أو ممارسة، بل هو فعل الله. ما عدا الآية المتقدّمة تحت رقم 2 فإنّها اشتملت على لعنين: من الله ومن اللاعنين وسوف يأتي[2].
- الوجه الثاني للعن: الدعاء من الإنسان على غيره:
1- كقوله: ﴿وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾ فإنّ المتلاعنين، كلُّ واحد يلعن الآخر، فاللعنة تنزل على مَنْ يستحقّ منهما.
2- قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً﴾[الأحزاب:68].
3- قوله تعالى: ﴿أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾[هود:18].
4- قوله تعالى: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾[المائدة:78].
5- قوله تعالى: ﴿وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾[الأعراف:44] فهذه الآيات كلّها في إطار الدعاء على مَن يستحقّ الطرد من رحمة الله سبحانه. هذا في اللعن بمعنى الدعاء.
أما اللعن بمعنى السبّ والشتم- كما ذُكر في المعنى اللغوي- الذي يتعارف عليه أكثر الناس ويستعملونه في محاوراتهم ومجادلاتهم وفي الفتن الدائرة بينهم، فمثل هذا اللعن لا وجود له في القرآن الكريم.
- والوجه الثالث للّعن: المسخ:
وهو يدخل بحال من الأحوال في العذاب فإنَّ المسخ في حدِّ ذاته عذاب وغضب من الله على بعض خلقه، كقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً﴾[النساء:47] أي نمسخهم كما مسخنا أصحاب السبت وطردناهم بالمسخ [3]
- والوجه الرابع للّعن: الطرد من رحمة الله
وقد يكون هذا الوجه أوسع وأعم الوجوه حيث إنّ العذاب والمسخ يدخلان في هذا الوجه أيضاً وهنا آيات منها:
1- قوله: ﴿مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا﴾[الأحزاب:61].
2- قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾[البقرة:161].
3- قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾[آل عمران:87].
فلعنة الله عليهم، هي طَرْدهم من رحمة الله، أمّا لعنة الناس والملائكة فهي الدعاء عليهم بأن يبعدهم الله عن رحمته..
4- قوله تعالى: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾[المائدة:13] أيّ طردهم من رحمته بالمسخ[4].
وكيفما كان فما كان من فعل الله، فإليه الأمر والنهي، ولا يجوز لأحد أن يتدخّل فيه، وما كان من فعل العبد الذي هو الدعاء على الغير فهذا الدعاء مرهون على حسب أسبابه، إمّا بكون المدعوّ عليه كافراً، كما في كثير من الآيات المتقدّمة، أو يدخل في عنوان الظالمين والمنافقين وغيرهم ممّن يستحقّ الدعاء عليه.
فاللعن المستعمَل في القرآن من جهة الناس، هو ما يصدق عليه دعاء على الطرف الآخر واستعمله بعضهم ضدّ بعض.
أمّا أنّ الدعاء على الآخرين هل يدخل تحت مطلق استحباب الدعاء أم له حالة خاصة فهذا ما يحتاج إلى بحثٍ وتدقيق.
والذي يظهر من جملة من الأخبار أنّ الدعاء على الآخرين، وإن كان جائزاً في نفسه مع وجود مبرّراته وأسبابه ولكنّه من ناحية أخلاقية يكون مرجوحاً، ويدخل عدمه في باب مكارم الأخلاق والعفو عن الآخرين، هذا إذا لم يتجاوز الداعي الحدَّ الشرعيّ، وإلا أصبح محرّماً ويكون الظالم مظلوماً والمظلوم ظالماً.
- الأسلوب القرآني الحكيم
لم يكن من أسلوب القرآن الحكيم أن يذكر أسماء مَنْ كان يتحدّث عنهم، أو نزلت الآية بسببهم، لا في جانب المدح والثناء، ولا في جانب الذمّ والتقريع، فكان القرآن الكريم حكيماً إلى أبعد حدّ، حيث لم يذكر أسماء الكافرين أو المشركين أو المنافقين أو الظالمين أو الأولياء إلاّ نادراً حتى في الأمم الماضية.
أمّا في هذه الأمة، ففي حالة المدح والثناء لم يُذكر بالاسم إلا رسول الله صلى الله عليه وآله [5]، وفي جانب الذمّ ذُكر أبا لهب بكنيته وامرأته حمّالة الحطب.
وهذا الأسلوب الحكيم قد استعمله الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله طيلة حياته إلى حدٍّ كبير، ولم يصرّح بالأسماء إلا نادراً خصوصاً في جانب الذم، وتبقى جملة كبيرة من الروايات التي نقلت لنا بعض الأسماء في مجالها الروائي الذي يخضع للتقييم والنفي والإثبات.
ومن بعده سار على هذا المنهج أئمّتنا، أئمّة أهل البيت (ع) طيلة حياتهم، وسيرتهم حافلة بكثير من الأمثلة والشواهد، وهذا السلوك هو من أفضل الأساليب العقلانيّة الحكيمة خصوصاً في طرح الأسماء التي تكون مورد النزاع في المدح أو الذم لدى الأمة. هذا كلّه إذا كان اللعن بعنوان الدعاء.
- المشكلة
وأما إذا كان اللعن بعنوان السبّ والشتم والتشفّي من الآخرين، كما هو المتعارف عليه عند الأطراف المتنازعة والمختلفة فكرياً وعقائدياً وطائفيّاً ومذهبيّاً وسياسيّاً وكلّ طرف يريد أن يتغلّب على الطرف الآخر وإسقاطه، ويستعمل اللعن كوسيلة من وسائل التغلّب، بل يستعمله كدليل من الأدلّة القمعية الاستفزازية الجارحة المؤذية للطرف المخالف له، فهذا ليس من القرآن في شيء.
وهذا ما تشهده الساحة الآن من التشنّج الطائفيّ والمذهبيّ وكلّ طرف يكيل للطرف الآخر الصاع صاعين؛ فبعض المتشدّدين المتعصّبين الجهلة من الشيعة يقابل أهل السنّة عموماً أو بعض رموزهم خصوصاً بمختلف الشتائم والسبّ والألفاظ القبيحة باسم اللعن الوارد في القرآن الكريم والسنّة النبوية وروايات أهل البيت (ع)، وقد تصل الحالة إلى حدّ التكفير، ولأنَّ بعض التكفيريّين من المحسوبين على السُّنة يقومون بالقتل الجماعي على الهوية، فهذا ما لا يرتضيه القرآن الكريم والسُّنة النبوية وسيرة أهل البيت (ع) بل هم بُراءٌ من ذلك جملةً وتفصيلاً.
كما أنّ بعض المتعصّبين والمتشدّدين الحاقدين ممّن ينتسب إلى أهل السُّنة يستعمل نفس الأسلوب المتقدّم وزيادة ويحكم بكفر الشيعة واستباحة دمائهم وأموالهم.
4- ما هو الحل؟
إنّي أتصوّر وبكلِّ تواضع أمام العلماء والمفكّرين، ومَنْ يهمّهم مصلحة الإسلام والمسلمين أنّ الحلّ:
1- أن يقوم العقلاء والعلماء والمفكّرون من كلِّ فريق فيما يخصّ مذهبهم وطائفتهم وينقدون ويكشفون ما فيه من سلبيّات وعيوب وتجاوزات على الأطراف الأخرى، ويضعون حدّاً لتلك السلبيّات التي تصدر من الأفراد أو الجماعات من تلك الطائفة، ويقدّمون ذلك خدمة للأمّة الإسلامية بدل التشهير والاتّهام للأطراف الأخرى التي تخالفهم.
2- أن يقوم كلّ فريق بتنقية تراثه من الشوائب التي أُدخلت عليه سواء ما كان فيه تحامل على المخالفين أم ما لم يكن.
وحسب خبرتي المتواضعة، فإنّه توجد مساحات واسعة لأهل السُّنة فيما لديهم من تراث فيه الكثير من التحامل على الشيعة وتكفيرهم والتحريض عليهم سبّبت في خلق أزمات وحروب لمئات السنين بينهم، وكذلك الحال لدى الشيعة، فتوجد مساحات واسعة في تراثهم لا تقلّ عن تلك المساحة عند أهل السُّنة في التحامل على أهل السُّنة والتحريض عليهم، وقد خلقت أزمات كبيرة وحروباً راح ضحيّتها الكثير من الطرفين.
3- تحديد المجرم من كلِّ فئة ومحاسبته خاصة دون تجريم وتحميل التبعات لكل الطائفة فلا يؤخذ البريء بذنب المجرم، كما قال عزّ وجلّ: ﴿وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾[الأنعام:164] وقال تعالى: ﴿وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾[الزمر:7] فلا بدّ من محاصرة الفئات التكفيرية من أيِّ فئة كانت وتمييزها عن غيرها ولا يعمّم فعلها على بقية أفراد الطائفة، فأهل السُّنة فئات متعدّدة، وكذلك الشيعة فئات متعدّدة، فلا يجوز تعميم فعل يصدر من فئة من السُّنة على جميع أهل السُّنة، أو فعل يصدر من فئة من الفئات من الشيعة على جميع الشيعة.
4- إنّ القيام بهذا العمل ووضع حدٍّ لمثل هذه التجاوزات- التي لا يرضى بها دين سماويّ ولا قانون وضعيّ ولا ضميرٌ إنسانيّ- وفضح الدسائس التي أُدخلت على تراثنا وعلى تاريخنا، لَهُو من أفضل القربات عند الله، فهم بذلك يقدّمون أعظم خدمة للإسلام والمسلمين وعزّهم وكرامتهم.
5- إنّي ومنذ سنوات عديدة عملت على هذا النهج وحاولت:
1- أن أدرس منهج أئمّة أهل البيت (ع) وأن أستضيء بنور هداهم بما قالوه أو فعلوه أو حثّوا عليه ودعوا أتباعهم إلى التمسّك به.
2- وأن أكشف بعض ما أُلصق بمدرستهم زوراً وبهتاناً والذي يتنافى مع القرآن الكريم ومعالي الأخلاق التي جُبِلوا عليها.
3- وأن أُبرز نقاط القوّة في سيرتهم وحرصهم على هذا الدين القويم والمحافظة عليه، وعلى وحدة المسلمين، وأن أقدّم في ذلك ما أتمكّن عليه خدمة للإسلام والمسلمين.
4- تتبّعت كثيراً من القضايا التي قد كانت متداولة لمئات من السنين وقد تكون مسلّمة لدى البعض وأبرزت ما فيها من خللٍ وعيب.
5- حاولت أن أُفَعّل بعض الروايات التي كانت مقصيّة، ومهمّشة ومُغيّبة لفترة طويلة من الزمن لأسباب سياسيّة أو مذهبيّة دينيّة معيّنة وقد تكون صحيحة السّند في نفسها وقد تكون هي الحلّ لمشاكل المجتمع في مثل هذه الروايات.
6- موقف الإمام علي (ع) من السبّ واللعن
إنّ من أهمّ الأسباب للفتن المذهبيّة والطائفيّة استعمال السبّ والشتم واللعن للطرف الآخر الذي تختلف معه عقائديّاً أو مذهبيّاً أو سياسيّاً كوسيلة من الوسائل تريد أن تحقّق أهدافك منه.
حاول البعض أن يشرعن السبّ والشتم واللعن الذي هو أحد مصاديق السبّ في الشريعة الإسلامية، وأن يلصق ذلك بقادته الميامين (ع) وأنّهم استعملوه ضدّ مَنْ خالفهم، وهذا ما لا يتناسب مع مقام بعض العلماء حتى يتناسب مع مَنْ مَدَحَهم الله في الذكر الحكيم وقال في سيِّدهم ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾[القلم:4].
وقد تحدّثت عن ذلك لأكثر من مرة، وحاولت أن أعرض موقف أئمة أهل البيت (ع) وسيرتهم في ذلك كي تنجلي بعض الغشاوات.
وهنا أعود مرة أخرى لأعرض موقف أمير المؤمنين وسيّد الوصيّين علي بن أبي طالب (ع) في بعض جوانبه وفي بعض كلامه دون جميعه.
حادثة وقعت في وقت الإعداد واستنهاض الناس للقتال في حرب صفين– كما يقول به البعض– وبعضٌ يقول إنّ هذه الحادثة وقعت أثناء الحرب والقتال وقد سمعها علي (ع) مباشرة، الحادثة رُويت بعدّة روايات وحاصلها أنّ بعض أصحاب علي (ع) تعرّض لمعاوية وأصحابه بالسبّ واللعن ولكن الإمام علي (ع) استنكر ذلك وقال إنّ هذا العمل غير ناجح ولم يكن أمراً صحيحاً بل النهج القويم أن تشرح أفعال مخالفيك ليتعرف الآخرون عليها مع الخلق الإسلامي.
حاولت أن أنقل هذه الحادثة برواياتها المتعدّدة لأهمّيتها ثم أعرض ما فهمه العلماء منها:
- الرواية الأولى:
فقد رَوَى نَصْرُ بن مزاحم: عن عمر بن سعد «الأسدي»، عن عبد الرحمن، عن الحارث بن حصيرة، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَرِيكٍ قَالَ:
خَرَجَ حُجْرُ بْنُ عَدِيٍّ وَعَمْرُو بْنُ الْحَمِقِ يُظْهِرَانِ الْبَرَاءَةَ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمَا عَلِيٌّ أَنْ كُفَّا عَمَّا يَبْلُغُنِي عَنْكُمَا.. فَأَتَيَاهُ فَقَالَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَلَسْنَا مُحِقِّينَ؟!
قَالَ: بَلَى.
قالا: أو ليسوا مبطلين؟. قال: بلى. قَالَا: فَلِمَ مَنَعْتَنَا مِنْ شَتْمِهِمْ؟!.
قَالَ: كَرِهْتُ لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا: لَعَّانِينَ، شَتَّامِينَ تَشْتِمُونَ، وَتَتَبْرَأونَ، وَلَكِنْ لَوْ وَصَفْتُمْ مَسَاوِئَ أَعْمَالِهِمْ فَقُلْتُمْ مِنْ سِيرَتِهِمْ كَذَا وَكَذَا، وَمِنْ أَعْمَالِهِمْ كَذَا وَكَذَا، كَانَ أَصْوَبَ فِي الْقَوْلِ وَأَبْلَغَ فِي الْعُذْرِ، وَ«لَوْ» قُلْتُمْ مَكَانَ لَعْنِكُمْ إِيَّاهُمْ، وَبَرَاءَتِكُمْ مِنْهُمْ: اللَّهُمَّ احْقُنْ دِمَاءَهُمْ، وَدِمَاءَنَا، وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِهِمْ وَبَيْنِنَا، وَاهْدِهِمْ مِنْ ضَلَالَتِهِمْ، حَتَّى يَعْرِفَ الْحَقَّ مِنْهُمْ مَنْ جَهِلَهُ، وَيَرْعَوِيَ عَنِ الْغَيِّ وَالْعُدْوَانِ مِنْهُمْ مَنْ لَهج بِهِ، لَكَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ، وَخَيْراً لَكُمْ.
فَقَالَا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ نَقْبَلُ عِظَتَكَ وَنَتَأَدَّبُ بِأَدَبِك[6].
- الرواية الثانية:
التي رواها ابن أعثم الكوفي في كتابه «الفتوح» بعد كلام طويل لأصحاب أمير المؤمنين (ع):
قال: فعندها خرج حجر بن عدي وعمرو بن الحمق الخزاعي، فجعلا يظهران البراءة من أهل الشام واللعنة لهم، فأرسل إليهما علي أن «كُفّا عمّا يبلغني عنكما».
فأقبلا إلى عليّ وقالا: يا أمير المؤمنين! ألسنا على الحق؟.
قال: بلى!.
قالا: فَلِمَ تمنعنا عن شتمهم ولعنهم؟.
فقال: لأنّي أكره لكم أن تكونوا لعَّانين شتَّامين، ولكن لو وصفتم مساوئ أعمالهم كذا لكان ذلك أصوب في القول وأبلغ في الرأي، ولو قلتم: اللهم ! احقن دماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، وأهدهم من ضلالتهم[7] ، لكان ذلك أحب إليَّ[8] لكم.
فقالا: يا أمير المؤمنين! فإننا نقبل عظتك ونتأدب بأدبك[9].
- الرواية الثالثة:
التي رواها الدينوري في كتابه «الأخبار الطوال» فقال: قالوا: وبلغ عليّاً أنَّ حجر بن عدي وعمرو بن الحمق يُظهران شتم معاوية، ولعن أهل الشام، فأرسل إليهما أنْ كُفّا عمّا يبلغني عنكما.
فأتياه، فقالا: «يا أمير المؤمنين، ألسنا على الحقّ، وهم على الباطل؟».
قال: «بلى، ورب الكعبة المسدنة».
قالوا: «فلم تمنعنا من شتمهم ولعنهم؟».
قال: «كرهت لكم أن تكونوا شتَّامين لعَّانين، ولكن قولوا: اللّهم احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، وأهدهم من ضلالتهم، حتى يعرف الحق من جهله، ويرعوي عن الغي من لهج به»[10].
- نستخلص من هذه الروايات الثلاث:
1- اتّفاق هذه الروايات على أنَّ أمير المؤمنين (ع) كان يكره لأصحابه أن يكونوا شتّامين لعّانين وهذه الكراهة بمعنى عدم الرضا والمنع من هذا الفعل فإذا صحّت سنداً فإنّ مفادها حرمة السبّ واللعن كما فهمها بعض العلماء الذين سوف يأتي الحديث عنهم، لا الكراهة التي هي أحد الأقسام الخمسة «الحرمة، والوجوب، والاستحباب والكراهة، والجواز».
2- مفاد هذه الروايات مع روايات أخرى صحيحة السند وقوله تعالى ﴿وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾[الأنعام: 108] وأنَّ اللعن من سائر الناس أحد مصاديق السبّ؛ مُفاد كلّ ذلك:
أنَّ السبّ واللعن من الأمور المحرّمة: وذلك أنَّ الإمام أمير المؤمنين (ع) منع أصحابه بشدّة من الشتم واللعن كما جاء في الرواية الأولى والرابعة «قَالَا: فَلِمَ مَنَعْتَنَا مِنْ شَتْمِهِمْ؟!» وفي الثانية والثالثة «قالا: فلم تمنعنا عن شتمهم ولعنهم؟» ومنع الإمام المعصوم دالٌ على الحرمة. فالسبّ واللعن لم يكونا من الأمور العبادية كما يصوّره البعض، بل من الأمور المبغوضة التي تجلب مختلف الفتن والمصائب.
3- أنّ حرمة السب واللعن لا تُنَزِّه الطرف الآخر ولا تبرّؤه من كفره إن كان كافراً، أو من فسقه إن كان فاسقاً، أو من ضلاله إن كان ضالاً «وَاهْدِهِمْ مِنْ ضَلَالَتِهِمْ، حَتَّى يَعْرِفَ الْحَقَّ مِنْهُمْ مَنْ جَهِلَهُ» فقد يستحقُّ الطرف الآخر اللعن والعذاب الأليم في واقع الأمر لأفعاله الشنيعة فهذا شيء، وشتمه ولعنه شيء آخر.
4- أنّ الإمام (ع)عندما منع من الشتم واللعن واللذين هما من مساوئ الأخلاق طرح عملاً آخر أكثر مفعوليّة منهما، ألا وهو شرح أفعال الطرف الآخر لجماهير الأمّة بعدلٍ وإنصاف دون الكذب والبهتان.
5- الدعاء للمخالف بالهداية عن الضلال «.... وَاهْدِهِمْ مِنْ ضَلَالَتِهِمْ، حَتَّى يَعْرِفَ الْحَقَّ مِنْهُمْ مَنْ جَهِلَهُ، وَيَرْعَوِيَ عَنِ الْغَيِّ وَالْعُدْوَانِ مِنْهُمْ مَنْ لَجَّ بِهِ» إنَّ صاحب القلب الكبير الرحيم حتى لأعدائه لم يقتصر على عدم سبّهم والدعاء عليهم بالعذاب واللعن لهم– حتى وإن فُسّر بالدعاء على الغير- بل ثقّف شيعته أن يدعوا لأعدائهم ومخالفيهم بالهداية، فأين هذه الروحيّة والثقافة التي يريدها علي بن أبي طالب (ع) حتى لمن سلَّ سيفه عليه يقاتله، وبين ثقافة السب والشتم واللعن؟؟؟ !!!
6- الدعاء لهم بحقن دمائهم «اللَّهُمَّ احْقُنْ دِمَاءَهُمْ، وَدِمَاءَنَا....» وفي الرواية الثانية «ولو قلتم: اللهم! احقن دماءهم....» ولم يذكر «دماءنا» أي لم يذكر دمه ودم أصحابه بل كان نظره على حفظ دم عدوّه ومَنْ يقاتله.
إنّني لا أفهم لغة السبّ والشتم واللعن في قاموس هذا الرجل الذي خلقه الله مع ابن عمه وأولاده الهداة رحمة وذخراً وشرفاً ليس للمسلمين فحسب، بل للبشرية عامة.
إنَّ المحافظة على حقن الدماء مهمٌّ إلى أبعد حدّ، وبأيِّ ثمن كان، وبأيِّ وسيلة، والسبُّ والشتم واللعن من أهمِّ أسباب سفك الدماء في الأمة فَيَحْرُمان ولو بالعنوان الثانوي، إذا لم يَحْرُما بالعنوان الأوّلي.
7- النتيجة الحَسَنة: بالالتزام بعدم السبّ والشتم واللعن فهو الخير للأمة لمحافظتها على كرامتها، بل ووحدتها، وقد يحصل الوئام بين المتنازعين كما قال (ع): «لَكَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ، وَخَيْراً لَكُمْ».
8- إنّ مفردات السبّ والشتم واللعن لم تكن ثقافة أمير المؤمنين (ع)، بل ثقافة العاجز المهزوم الذي لم يكن لديه أيّ رصيد علميّ أو عمليّ أو أخلاقيّ، والإمام أمير المؤمنين (ع) بعيدٌ عن هذا بُعْدَ ما بين السماء والأرض سواءً كان في حال الحرب أو السلم، وشيعته المخلصون على هداه سائرون، لهذا قال حجر وعمرو بن الحمق «يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ نَقْبَلُ عِظَتَكَ وَنَتَأَدَّبُ بِأَدَبِك» فمن يستعمل السبّ والشتم واللعن- حتى لمن يستحقّ- لم يتأدّب بأدب أمير المؤمنين (ع) وإنّما تأدّب بأدب أعدائه الذين اتّخذوا السبّ واللعن ثقافة استمرّوا عليها لعشرات السنين.
الهوامش
[1] الكافي ج : 3 ص : 422 في الصحيح عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام فِي خُطْبَةِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ .
[2] انظر وجوه القرآن للحيري .
[3] غريب القرآن للطريحي ص 555 .
[4] غريب القرآن للطريحي ص 555
[5] وذكر زيد بن حارثة في قضية الزواج .
[6] وقعة صفين لنصر بن مزاحم ص 103 وعنه في بحارا لأنوار ج : 32 ص : 399
شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج3 ص171
أعيان الشيعة ج 4 ص 569 وج 8 ص 376
الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة للسيد علي خان ص 423
وعند مستدرك الوسائل ج12 ص 305 ح14159
جامع أحاديث الشيعة ج15 ص 518 ح1667
نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة ج2 ص104 وج6 ص 318
مستدركات علم الرجال للنمازي ج2 ص 253
[7] زيد في وقعة صفين ص 103 حتى يعرف الحق منهم من جهله ، ويرعوي عن الغي والعدوان من لهج به .
[8] الظاهر سقطت كلمة [ وخيراً ] كما تقدت في رواية نصر بن مزاحم .
[9] كتاب الفتوح - لأحمد بن أعثم الكوفي - ج 2 - ص 543
[10] الأخبار الطوال - الدينوري - ص 165
=================================
ذرية الرسول(ص) بين المحبة والطبقية
غير خافٍ أنّ من أهم المبادئ التي أرساها الإسلام وحرص الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) على التبشير بها مبدأ التساوي بين الناس، سواءً في أصل الخِلْقة الإنسانيّة، أو في الوظيفة والدور، أو في الحقوق والواجبات، محارباً (صلى الله عليه وآله وسلم) كلّ أشكال التمييز العنصري والتفاوت الاجتماعي، رافضاً الارستقراطيّة القرشيّة ومعاييرها الظالمة في تفضيل الناس بعضهم على بعضهم، مقدّماً معايير جديدة للتفاضل بين الناس لا تقوم على أساس النسب ولا العشيرة ولا اللون ولا الجنس ولا غيرها من المعايير الجاهلية، فـ "لا فضل لعربيّ على أعجميّ ولا لعجميّ على عربيّ، ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر إلاّ بالتقوى" ، وإنما يقوم التفاضل على أساس الدين والتقوى وما يقدّمه الإنسان لنفسه أو لأمّته من أعمال الخير والخدمات وما يكتسبه من مواصفات حَسَنة ويتحلّى به من خصال طيّبة، قال تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم}، [الحجرات: 13] وقال سبحانه: {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون}، [الزمر: 9] ويقول تعالى: {أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون}، [السجدة: 18].
باختصار: إنّ معيار التفاضل يرتكز على عنصرين أساسيين:
أحدهما: أن تكون الفضائل مكتسبة بالإرادة، وليست موروثة بالولادة، بحيث تبقى في إطار الشكل دون المضمون.
الثاني: أن تندرج الصفاتُ المكتسبة، في عداد الفضائل لا الرذائل، فتكون صفات حسنة في نظر العقل والشرع.
وقد حرص النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في تطبيقه لهذه المبادىء على البدء بالأقربين من بني هاشم، وهم أهله وعشيرته، ليسجّل رفضاً قاطعاً لكل الامتيازات التي أرستها العقليّة الجاهلية، فلم يقبلْ أن يحابي أهل بيته أو يعطيهم أية خصوصية تميِّزهم عمّن سواهم، أو ترفعهم عن مستوى سائر الناس، ولهذا وجدناه (صلى الله عليه وآله وسلم) وبعد أن نزل قوله تعالى: {وأنذر عشيرتك الأقربين}، [الشعراء: 213] يوجّه خطابه لذوي رحمه وقرابته قائلاً: "يا معشر قريش اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئا ، يا بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئا، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئاً، ويا صفية بنت عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئاً، ويا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئاً" ، ورفض (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يستثنيهم من القوانين، فليس هناك أحد من أقربائه أو ذريته فوق القانون، قال (صلى الله عليه وآله وسلم): "إنّما أهلك من كان قبلكم أنّهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيمُ الله لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعتُ يدها".
ولكنّ المفارقة أنّ هذا المبدأ الإسلامي الأصيل الذي جاء به الإسلام وعمل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بموجبه قد تمّ انتهاكه وتجاوزه فيما بعد وفي خصوص ذريّة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، كما تمّ تجاوز غيره من المبادئ الاسلامية، لا من موقع العصيان والتمرد، بل من موقع العاطفة والتساهل؛ وخطورة هذا التجاوز أو التساهل أنّه قد تمّ إلباسه لبوساً إسلامياً، وإنّ المتأمّل في بعض النصوص الروائيّة، كما في بعض الفتاوى الفقهية، سوف يحمل انطباعاً مغايراً لما تقدّم من مبادىء، بل ربّما سوف يجد واقعاً مختلفاً كرّسته بعض النصوص والفتاوى، والتي مفادها أنّ الإسلام أعطى امتيازات خاصة لعشيرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وذرّيته، الأمر الذي خلق إشكالية فعليّة طرحها بعضهم إزاء هذا التضاد بين الواقع وبين المبادئ.
الشيخ حسين الخشن
==========
حديث الكساء: صحيح أم مخترع؟!
يقول السائل: ﻫﻞ ﺻﺤﻴﺢ أﻥ ﺳﻤﺎﺣﺔ ﺍﻟﺴيد محمد حسين فضل الله ﻳﻘوﻝ إﻥ: حديث ﺍﻟكساء ﻏﻴﺮ ﺻﺤﻴﺢ؟ والجواب هو: ﺳﻤﺎﺣﺘﻪ (قده) ﻳُﺸكل ﻓﻲ خصوص ﺍلحديث ﺍﻟﻤﺮﻭﻱ ﻓﻲ ﻛﺘﺎﺏ ﻣﻔﺎﺗﻴﺢ الجنان ﺑﺎﻟﺸكل ﺍﻟمذكوﺭ ﻓﻴﻪ، ﺃﻣﺎ ﺣﺎﺩﺛﺔ ﺍلكساء ﻭﻧﺰﻭﻝ ﺁﻳﺔ ﺍﻟتطهير ﺑﺤﻖ ﺃﻫﻞ ﺍﻟبيت (عليهم ﺍﻟﺴﻼﻡ) ﻓﻬﻲ ﺛﺎﺑﺘﺔ ﻻ ﺇﺷكاﻝ ﻓﻴﻬﺎ ﻭتدﻝ ﻋﻠﻰ عصمتهم ﻭﻣﻨﺰلتهم ﻭعظيم فضلهم عليهم ﺍﻟﺴﻼﻡ. [1]
ﻟﻸﺳﻒ ﺍلشديد ﻓﺈﻥَّ كلّ حديث ﺍلكساء ﺑﺎﻟﺼﻴﻐﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺃﻭﺭﺩﻫﺎ ﺍﻟﺸﻴﺦ ﻋﺒﺎﺱ ﺍﻟﻘﻤﻲ ﻓﻲ ﻣﻔﺎﺗﻴﺢ ﺍﻟﺠﻨﺎﻥ ليس ﻟﻪ سند متّصل ﺑﺎﻟﻤﻌﺼﻮﻡ (ﻉ). فهم ﻳﺮﻭُﻭﻧﻪ ﻋﻦ ﺟﺎﺑﺮ ﺑﻦ عبد ﺍﻟﻠﻪ ﺍﻷﻧﺼﺎﺭﻱّ، ﻋﻦ ﻣﻮﻻﺗﻨﺎ فاطمة الزهراء (ﻉ)، ﻭلكن ﻣﺎﺫﺍ ﻋﻦ ﺍلواسطة بينهم ﻭﺑﻴﻦ ﺟﺎﺑﺮ ﺍﻷﻧﺼﺎﺭﻱّ، ﻭﺍﻟﻤﻔﺮﻭﺽ ﺃنّ عدداً ﻛﺒﻴﺮاً ﻣﻦ ﺍﻟﺮﻭﺍﺓ ﻳﻤﻸ ﺍﻟﻤﺴﺎﻓﺔ ﺍﻟﺰﻣﺎﻧﻴّﺔ ﺍﻟﻔﺎﺻﻠﺔ، ﻭﺍﻟﺘﻲ قد ﺗﺘﺠﺎﻭﺯ ﺍﻷلف ﻋﺎﻡ؟! لم ﺃعثر ﻋﻠﻰ هذه القطعة ﻣﻦ ﺍﻟﺴند، ﻭﺑﺎﻟﺘﺎﻟﻲ ﻓﺈﻥّ هذا ﺍﻟحديث ﺑﺎﻟﻤصطلح ﺍﻟحديثي ﻫﻮ حديث ﻣﻌﻠَّﻖ، ﻭﺍﻟحديث ﺍﻟﻤﻌﻠَّﻖ ﻣﻦ ﺃﻗﺴﺎﻡ ﺍﻟحديث ﺍﻟﻀﻌيف. نعم، ﻭﺭﺩﺕ ﻋﺒﺎﺭﺍﺕٌ ﻣﺸﺎﺑﻬﺔٌ ﻟﻤﺎ ﺫُﻛﺮ ﻓﻲ ﺁﺧﺮ حديث الكساء ﻓﻲ بعض ﺍﻟﺮﻭﺍﻳﺎﺕ ﻋﻦ ﺍﻟﻨﺒﻲّ (ﺹ)، ﻭلكنها ﺭﻭﺍﻳﺎﺕٌ ﺿﻌﻴﻔﺔٌ ﺳنداً، ﺃﻱ ﻓﻲ بعض ﺭﻭﺍﺗﻬﺎ خدﺷﺔٌ ﻓﻲ ﺍﻟﻮﺛﺎﻗﺔ ﺃﻭ ﺍلعدﺍﻟﺔ، ﻭﺑﺎﻟﺘﺎﻟﻲ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﺃﻥ ﺗﺼﻨّف هذﻩ ﺍﻟﺮﻭﺍﻳﺎﺕ ﻓﻲ ﺍﻟﺮﻭﺍﻳﺎﺕ ﺍﻟﺼﺤﻴﺤﺔ ﺃﻭ ﺍﻟﻤﻘبوﻟﺔ، ﺍﻟﺘﻲ يمكن ﺃﻥ ﻧﺴﺘﻔيد ﻣﻨﻬﺎ ﻋﻘيدﺓً ﺃﻭ حكماً ﺷﺮﻋﻴّﺎً. [2]
عن ابن عساكر في تاريخه قال بسنده إلى ﻋﺎﺋﺸﺔ ﺃﻡ ﺍﻟﻤﺆﻣﻨﻴﻦ ﻗﺎلت: ﺧﺮﺝ ﺭﺳﻮﻝ ﺍﻟﻠﻪ ﺫﺍﺕ غداة ﻭﻋﻠﻴﻪ ﻣﺮﻁ وﻣﺮجل ﻣﻦ ﺷﻌﺮ ﺃسوﺩ، فجلس فأتت ﻓﺎطمة ﻓﺄﺩﺧﻠﻬﺎ ﻓﻴﻪ، ﺛﻢ ﺟاء ﻋﻠﻲ ﻓﺄﺩﺧﻠﻪ ﻓﻴﻪ، ثم ﺟﺎء ﺣﺴﻦ ﻓﺄﺩﺧﻠﻪ ﻓﻴﻪ، ﺛﻢ ﺟﺎء ﺣﺴﻴﻦ ﻓﺄﺩﺧﻠﻪ ﻓﻴﻪ، ثم ﻗﺎﻝ: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً } (الأحزاب:33). ومثله رواه في سنن البيهقي والحاكم في المستدرك وابن جرير الطبري وغيرهم كثير. وروى ابن عساكر في تاريخه بسنده عن عمير بن مجمع قال: ﺩخلت ﻣﻊ ﺃﻣﻲ ﻋﻠﻰ ﻋﺎﺋﺸﺔ ﻗﺎلت ﺃﻣﻲ: ﺃﺧﺒﺮﻳﻨﻲ كيف ﻛﺎﻥ حب رسول الله (ص) ﺑﻌﻠﻲ (ع)؟ ﻓﻘﺎلت ﻋﺎﺋﺸﺔ: ﻛﺎﻥ ﺃحب ﺍلرﺟﺎﻝ ﺇﻟﻰ ﺭﺳﻮﻝ ﺍﻟﻠﻪ (ص)، لقد ﺭﺃﻳﺘﻪ يوﻣﺎً ﺃﺩﺧﻠﻪ تحت ثوبه ﻭﻓﺎطمة ﻭﺣﺴﻨﺎً ﻭﺣﺴﻴﻨﺎً، ثم ﻗﺎﻝ: اللهم هؤلاء ﺃﻫﻞ ﺑﻴﺘﻲ، اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً. قالت: فذهبت ﻷﺩﺧﻞ ﺭﺃﺳﻲ ﻓرفعه، قلت: ﻳﺎ ﺭسوﻝ ﺍﻟﻠﻪ! ﺃﻭلست ﻣﻦ ﺃهلك؟ ﻗﺎﻝ: إنك ﻋﻠﻰ ﺧﻴﺮ، إنك ﻋﻠﻰ ﺧﻴﺮ... ﻭﺃﺧﺮﺟﻪ ﺍﻟﺸﻴﺦ ﺍلصدوق ﻓﻲ "ﺍﻷﻣﺎﻟﻲ" ﺹ / 382 ﺡ / 5 ﻣﻦ ﺍلمجلس 72 ﻣﻦ ﻃﺮﻳﻘﻪ ﻋﻦ ﺍﻟﻌﻮﺍﻡ ﺑﻦ حوشب ﻣﻦ حديث ﻋﺎﺋﺸﺔ ﻣﺨﺘﺼﺮﺍً. روى ﺍﺑﻦ ﺟﺮﻳﺮ ﺍلطبرﻱ ﻓﻲ ﺗﻔﺴﻴﺮﻩ (22-71)ﺡ بسنده إلى ﺃﻡ ﺳﻠﻤﺔ زوجة رسول الله (ص) ﻗالت: ﻟﻤﺎ ﻧﺰلت هذه ﺍﻵﻳﺔ:{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} ﺩﻋﺎ ﺭﺳﻮﻝ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﺎً ﻭﻓﺎﻃﻤﺔ ﺍﻟﺰﻫﺮﺍء ﻭﺣﺴﻨﺎً ﻭﺣﺴﻴﻨﺎً عليهم ﺍﻟﺴﻼﻡ ﻓﺠﻠﻞ عليهم ﻛﺴﺎء ﺧﻴﺒﺮﻳﺎً ﻓﻘﺎﻝ: : اللهم هؤلاء ﺃﻫﻞ ﺑﻴﺘﻲ، اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً ، قالت ﺃﻡ ﺳﻠﻤﺔ: ألست منهم؟ ﻗﺎﻝ: أنت ﺇﻟﻰ ﺧﻴﺮ. ورواية الطحاوي في مشكل الآثار اللفظ نفسه وغيره كثر من طرق السنة والشيعة بألفاظ مختلفة والمعنى واحد. وهذا هو الحديث الصحيح، أما الزيادة عليه فمخترعة، قال الشيخ القمي في كتابه منتهى الآمال عند ذكر حديث الكساء، وهذه الزيادة أي من عند نزول جبرائيل (ع) إلى آخر الحديث هو من مفردات كتاب الطريحي إلى بعد الألف هجري، وكذلك رفضه العلامة الريشهري، وكذا الإمام الخالصي وغيرهم ممن حقق ودقق في هذا الحديث الجديد المخترع الذي يخالف في فقراته الكتاب والسنة. [3]
ﻭﺍﻷﺩﻟﺔ ﻋﻠﻰ ﺿﻌﻒ ﻫﺬﺍ ﺍلحديث ﻛﺜﻴﺮﺓ، ﻧﺸﻴﺮ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺄﺗﻲ ﺇﻟﻰ ﺑﻌﻀﻬﺎ:
1 - لم ﻳﺮﺩ ﻫﺬﺍ ﺍلحديث ﻓﻲ ﺃﻱ ﻛﺘﺎﺏ ﻣﻦ الكتب ﺍﻟﻤﻌﺘﺒﺮﺓ ﻟﻠﻔﺮﻳﻘﻴﻦ، ﺑﻤﺎ ﻓﻴﻬﺎ ﺍلكتب ﺍﻟﺘﻲ تعمد ﺇﻟﻰ ﺟﻤﻊ ﺍﻷﺣﺎﺩيث ﺍﻟﻤنسوﺑﺔ ﺇﻟﻰ ﺃﻫﻞ ﺍﻟبيت (ﻋﻠﻴﻬﻢ ﺍﻟﺴﻼﻡ) كبحار الأنوار. ﻗﺎﻝ ﺍﻟﻤﺮحوم المحدِّث ﺍﻟﻘﻤﻲ ﻓﻲ ﻛﺘﺎﺏ (ﻣﻨﺘﻬﻰ ﺍﻵﻣﺎﻝ) ﺣﻮﻝ ﺍﻟحديث ﺍﻟﺸﺎﺋﻊ، بعد ﺃﻥ أثبت تواتر حديث الكساء: ﺃﻣﺎ ﺍلحديث ﺍﻟﻤﻌﺮﻭﻑ بحديث ﺍﻟﻜﺴﺎء ﺍﻟﺸﺎﺋﻊ ﻓﻲ ﻋﺼﺮﻧﺎ ﺑﻬﺬﺍ ﺍﻟشكل فلم يلحظ ﻓﻲ ﺍﻟكتب ﺍﻟﻤﻌﺘﺒﺮﺓ ﺍﻟﻤﻌﺮﻭﻓﺔ ﻭﺃﺻﻮﻝ ﺍلحديث ﻭﺍﻟﻤﺠﺎﻣﻊ ﺍﻟﻤﺘﻘﻨﺔ ﻟﻠمحدثين. ﻭﺟﺎﺯ ﻟﻨﺎ ﺃﻥ ﻧﻘﻮﻝ: ﺇﻧﻪ ﻣﻦ ﺧﺼﺎئص ﻛﺘﺎﺏ (ﺍلمنتخب).
2 - ﺇﻥ ﺃﻭﻝ ﻛﺘﺎﺏ - ﻓﻴﻤﺎ نعلم - ﻧﻘﻞ هذا الحديث بلا سند - ﻛﻤﺎ ﺃﺷﺎﺭ ﺇﻟﻴﻪ المحدث ﺍﻟﻘﻤﻲ - ﻫﻮ ﻛﺘﺎﺏ "ﺍلمنتخب". [4]
ﻭﺧﻼﺻﺔ ﺍﻟﻘﻮﻝ: ﺇﻥَّ حديث ﺍﻟﻜﺴﺎء ﺑﺼﻴﻐﺔ ﻣﻔﺎﺗﻴﺢ ﺍﻟﺠﻨﺎﻥ ﻫﻮ حديث ﻣﻌﻠَّﻖ ضعيف، ﻭﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﺍﻻﻋﺘﻘﺎﺩ ﺑﻤﺎ ﺟﺎء ﻓﻴﻪ. ﻭكذلك ﻫﻲ ﺍﻟﺮﻭﺍﻳﺎﺕ ﺍﻷﺧﺮﻯ ﺍﻟﺘﻲ تذكر بعض ﺍﻟﻌﺒﺎﺭﺍﺕ ﺍﻟﻮﺍﺭﺩﺓ ﻓﻲ ﺁﺧﺮ حديث ﺍﻟﻜﺴﺎء، ﻓﻬﻲ ﺿﻌﻴﻔﺔٌ سنداً، ﻭﺑﺎﻟﺘﺎﻟﻲ ﻻ ﺗشكّل ﺣﺠّﺔً ﻓﻲ ﺍﻟﻌﻘﺎئد، ﻭﻻ ﻓﻲ ﺍﻷﺣﻜﺎﻡ. ﻭﺃﻣّﺎ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﺇﻟﻰ ﺁﻳﺔ ﺍلتطهير ﻓﻼ ﺧﻼﻑ ﺑﻴﻦ ﺍﻟعلماء ﻓﻲ ﺃﻥّ ﻣﺼﺎﺩﻳﻘﻬﺎ هم ﻋﻠﻲّ ﻭﻓﺎطمة ﻭﺍﻟﺤﺴﻦ ﻭﺍﻟﺤﺴﻴﻦ (ع)، ﻓﻬﻢ ﺃﻫﻞ بيت ﺍﻟﻨﺒﻲّ (ﺹ).[5]
ﺍللهم ﺛﺒِّﺘْﻨﺎ ﻋﻠﻰ ﺩﻳنك ﻣﺎ ﺃﺣﻴﻴﺘﻨﺎ، ﻭﻻ ﺗُﺰﻍْ ﻗﻠﻮﺑﻨﺎ بعد ﺇﺫْ هديتنا، ﻭﻻ ﺗﺨﺮﺟﻨﺎ ﻣﻦ هذه الدنيا ﺣﺘّﻰ ﺗﺮﺿﻰ ﻋﻨّﺎ، إنّك ﺳﻤﻴﻊٌ مجيب.
[1] مكتب الاستفتاءات ﺍﻟﺘﺎﺑﻊ ﻟﺴﻤﺎﺣﺔ ﺍﻟﻤﺮﺟﻊ ﺍلسيد ﻣحمد ﺣﺴﻴﻦ ﻓﻀﻞ ﺍﻟﻠﻪ. (موقع بينات) http://arabic.bayynat.org.lb/ListingFAQ2.aspx?cid=30&Language=
[2] حديث الكساء في الميزان. الموقع الرسمي لسماحة الشيخ محمد عباس دهيني. http://dohaini.com/?p=1066
[3 صحيح الدعوات: ص: 308 - 309. الشيخ ياسر يوسف عودي.
[4] ﺃﻫﻞ ﺍﻟبيت ﻓﻲ ﺍﻟكتاب ﻭﺍﻟﺴﻨﺔ - محمد ﺍﻟﺮﻳﺸﻬﺮﻱ - ﺹ: 39 - 40.
[5]: حديث الكساء في الميزان. الموقع الرسمي لسماحة الشيخ محمد عباس دهيني. http://dohaini.com/?p=1066
تنسيق علي الرضى عيسى
===========
العثمانيون بعيون منصفة
إنّ إصدارنا للأحكام يتّصف دائماً وللأسف بأنّه ينطلق من نظرة أحادية للأمور، إنّنا دائماً ننظر للمسائل بعين واحدة، والباعث على الأسف والدهشة أكثر أنّنا نعاني جميعاً من هذه المشكلة سواء كنّا متحجّرين ومتطرّفين أو مستنيرين ومنفتحين! ويمكن القول إنّ أحكامنا الصادرة بحقّ الدولة العثمانية مثال بارز لظاهرة التشابه في أنماط التفكير لدى هذين الفريقين المتضادّين.
المتطرّف عندنا ينظر إلى الكيان العثماني من موقف شيعي متعصّب فيعتبره بالتالي سُنيّاً عُمَريّاً مُنكِراً للإمامة ومخالفاً لوصيّة النبي وغير معتقد بصاحب الزمان.. وفي ضوء ذلك هو مدان! (حتى في مقابل المسيحية)!
أمّا الشخصية ذات التوجّه المنفتح، فإنّه ينظر إلى النظام العثماني على أنّه نظام إقطاعي منحطّ وطائفي لا يؤمن بالديمقراطية، فهو أيضاً مدان (حتى في مقابل الغرب)! بوسعنا أن نقول إنّ كلا الفريقين صائب في نظرته ومحقّ في توجيه الانتقاد، لكنّ الخطأ يكمن في أن كلا الطرفين ينظر إلى القضية من زاوية ثابتة ومطلقة، في حال أنّ من شروط النظرة العلميّة الصحيحة أن تكون شاملة ومتعدّدة الزوايا والأبعاد وذات طابع نسبي، خلافاً للعوام الذين يميلون عادةً إلى تعميم الأحكام وإضفاء صفة الجزم عليها.
نعم! إنّ النظام العثماني نظام سنّي وغير ديمقراطي وهو فاسد من الناحية الأخلاقية. ولكن إذا تجاوزنا قضية كوننا شيعة أو مؤمنين بالاشتراكية، فاعتبره الشيعي (المنفتح) نظاماً إسلاميّاً يقف بوجه المدّ المسيحي (الاستعماري) واعتبره المستنير سدّاً منيعاً بوجه الغزو الاستعماري الغربي الذي يهدّد وجودنا كشرقيّين، فإنّ الحكم عليه ربما سيختلف آنذاك! من تلك الزاوية سوف يتمنّى الشيعي أن يظهر صلاح الدين الأيوبي– المناوئ للشيعة– مرة أخرى في فلسطين، ويجرّد خالد بن الوليد سيفه للهجوم على عساكر الروم، وسيتمنّى أن يُبعث السلاجقة من جديد ليلقوا بجحافل الصليبية في عرض البحر المتوسط، وأن ينهض العثمانيون ليطردوا الأجانب الغربيّين من أراضي المسلمين في آسيا وأفريقيا.
إنّ هذه الحملات الإعلامية المسعورة ضدّ العثمانيين إنّما تعكس وجود عقد قديمة في نفوس المسيحيّين والغربيّين من الدولة العثمانية، وهي ردّ فعل مُتوقَّع حيال الجروح العميقة التي خلّفها العثمانيون في الجسد الأوروبي إبان الحروب الطاحنة التي خاضوها معهم...
إنّنا حين نعتبر الحاكم العثماني في ذلك العهد حاكماً جائراً وفاسداً وغير مؤهّل، فإنّما يصحّ ذلك في حال النظر إليه من منظار إسلامي ومقارنة خصائصه بالخصائص التي يفترض أن يتوفّر عليها الحاكم الإسلامي الحقيقي، وكذلك إذا نظرنا إليه ممثّلاً للطبقة الحاكمة في مقابل المحكومة المحرومة أعني جمهور العمال والفلاحين وغيرهم من الشرائح المسحوقة.
أما إذا نظرنا إلى الحاكم من زاوية كونه يقف حائلاً بوجه الاستعمار الغربي والتبشير الصليبي، فإنّ الحكم يجب أن يتّخذ منحىً آخر. عندما يهاجم الغرب الحاكم العثماني فإنّه لا يهاجمه لكونه حاكماً فاسداً أو مستبدّاً أو سنّياً، بل يهاجمه لأنّه الممثل الرسمي لقدرة الإسلام في منطقة البحر المتوسط، وهو سدّ منيع بوجه أطماعهم التوسعية المتّجهة نحو آسيا شرقاً وأفريقياً جنوباً.
إنّ النزاع العثماني- الغربي هو في أفقه الأوسع يعكس واقع النزاع بين قوّتي الإسلام والمسيحية (الأوروبية) في عالم القرون (15 و16 و17 و18 إلى 19).
من كتاب التشيّع العلوي والتشيّع الصفوي للدكتور علي شريعتي
ص68-71
==============
أين ذهبت أمة العقل
محمد طراف *
يقول الله تعالى في محكم كتابه: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران : 110]، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ} [البقرة : 143]... والآيات التي تميّز هذه الأمة عن غيرها عديدة، وكذلك الأحاديث النبوية، وأحاديث أئمّة أهل البيت(ع)، وما فيها من تبجيل للعقل ولإعمال الفكر في كلّ حياتنا دون استثناء، فقد جاء في الحديث عن أبي جعفر الصادق عليه السلام أنّه قال:" لما خلق الله العقل استنطقه ثم قال له: أقبِل فأقبَل ثم قال له: أدبِر فأدبر، ثم قال: وعزّتي وجلالي ما خلقت خلقاً هو أحبّ إليّ منك ولا أكملتك إلا فيمن أحب، أما إنّي إيّاك آمر، وإيّاك أنهى وإيّاك أعاقب، وإيّاك أثيب.".. وما يميّز المسلمين الذين يتّبعون مذهب أهل البيت(ع) عن باقي المذاهب الإسلامية، هو بقاء باب الاجتهاد في الدين مفتوحاً، وما هذا الاجتهاد سوى إبقاء لدور العقل في الحكم على كّل شيء... وحتى في الحكم بصحة أو بطلان الأحاديث الواردة إلينا عن النبي(ص) وأهل بيته(ع)... فقد ورد عن النبي(ص): "ما جاءكم عني فاعرضوه على كتاب الله، فما وافقه فأنا قلته، وما خالفه فلم أقله"، وعن أئمّتنا (ع):"ما أتاكم عنّا فاعرضوه على كتاب الله، فما وافق كتاب الله فخذوا به، وما خالفه فاطرحوه.".. إذاً، فالمعيار في كلّ ما لدينا وما نعايشه هو كتاب الله وإعمال العقل في الحكم على ما يأتينا ويردنا، أو ما يبتدعه الكثيرون اليوم من أمور لا عهد لنا بها، وهي ما تخالف كتاب الله وتعيدنا إلى أمور رفضها الإسلام وحاربها، وهذا ما سنعرض له في نقاطٍ أربع...
1- أول هذه البدع مرتبط بالمعصية الأولى التي قام بها إبليس لربّه حين رفض الانصياع لأمره بالسجود لآدم (ع)، وما كان تبريره لهذا الرفض والعصيان إلا فخره بأصله على أصل آدم(ع)، {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ}[الأعراف : 12]... وهذا الأمر أدى إلى طرد إبليس من الجنة نهائياً، {قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ} [الأعراف : 13] و هنا حقد على آدم وذريّته وتوعد بالعمل على الانتقام ودفع هذه الذرية للوقوع في المعاصي وإبعادهم عن خط الله، {قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَـذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً} [الإسراء : 62]، ومنذ ذلك اليوم بدأ الصراع بين الإيمان والكفر وسيستمر إلى قيام الساعة... أما الغريب اليوم وما هو مستنكر هو بروز عقائد جديدة لدى بعض مدّعي الالتزام بخط أهل البيت (ع) وهو الادّعاء بأن الله خلق شيعة أهل البيت(ع) من طينة، وباقي البشر من طينة أخرى، وما هذا المنطق إلا منطق إبليس اللّعين في استعلائه على آدم وعصيانه لخالقه... أيعقل أن يصدر عن أمّة تدّعي العمل بالعقل أن تقول بمثل هذا؟! والخطاب القرآني واضح في نفي هذه البدعة، {إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لَّازِبٍ} [الصافات : 11]، {خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الزمر : 6].. {وَهُوَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} [الأنعام : 98]... والآيات عديدة في هذا المجال، والمؤسف أن لا صوت يأتي لينفي هذه البدع والقول ببطلانها، فأين نحن من أحاديث أهل البيت التي تحثنا على محاربة الغلو والإتيان بالبدع... ألا يُعدّ هذا اتباعاً لأبليس ومنطقه؟! أليس هذا من الشرك والكفر؟! فكيف نجمع بين خط أهل البيت(ع) وبين خط إبليس ومنطقه؟!!
2- من الأمور التي شدّد عليها القرآن هي مبدأ الثواب والعقاب، ومبدأ أنّ كلّ إنسان مسؤول عن عمله، وليس هناك من أحد يحمل أوزار أيّ أحد آخر مهما علا شأنه وعظُم...{ قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [الأنعام : 164]، {مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء : 15]، {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى}[فاطر : 18]... وكذلك الأحاديث الشريفة العديدة، وبالأخص حديث النبي(ص): "يا عبّاس بن عبد المطلب، يا عم رسول الله، اِعمل لما عند الله فإنّي لا أغني عنك من الله شيئاً، يا صفيّة بنت عبد المطلب، يا عمّة رسول الله، اِعملي لما عند الله فإنّي لا أغني عنك من الله شيئاً، يا فاطمة بنت محمد، يا بنت رسول الله، اِعملي لما عند الله فإنّي لا أغني عنك من الله شيئاً..."، ثم قال: "ألا إنّه لا ينجي إلا عمل مع رحمة".... فكان موقف الإسلام والقرآن واضحاً من بعض المعتقدات التي يؤمن بها أتباع الأديان الأخرى كالإيمان بالفداء عند المسيحيّة، بحيث يعتقدون أنّ المسيح قد صُلب من أجل أن يكفّر عن خطايا المسيحيين، ويتحمّل كلّ تبعاتهم ويتكفل بإدخالهم الجنة دون حساب.. وهذا ما يتعارض مع ما ذكرنا في بداية هذه النقطة... ولكن المفجع أن من يقوم ببناء ثقافة هذه الأمّة اليوم، وهم أصحاب المنابر الحسينيّة - للأسف - باتوا يروّجون لهذا التوجّه، من أنّ الإمام الحسين(ع) استُشهد فداءً لشيعته ومن أجل أن يحمل أوزارهم ويكفر خطاياهم، فهذا الاستشهاد ما هو إلا كصلب المسيح باعتقادهم، وقد طهّرت دماء الإمام (ع) كل ذنوب الشيعة، وباتت الطريق إلى الجنة معبّدة لهم، يدخلونها دون حساب، ولكن هيهات هيهات... وما إنكار الإمام الصادق لمقولة من كان يحمل هذا المنطق إلا خير دليل على بطلانه ورفض الإسلام والدين له، فقال: "ما أنصفتمونا أن كُلّفنا بالعمل ووُضع عنكم"...
3- جاءت الرسالات السماوية لتخاطب العقول والنفوس بالحجج والبراهين الدامغة، لا بالمعجزات والخوارق، وكان الأنبياء هم أبناء بيئتهم ومجتمعاتهم، ولم يرسل الله نبيّاً إلا إلى قومه، وبلسانهم وليخاطبهم على قدر عقولهم لا غرائزهم... {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [إبراهيم : 4]... وهكذا كانت تسير الرسالات، وكانت هناك بعض التدخلات الإلهية المسدّدة لمسيرة الأنبياء والرسل، وذلك بحسب الأجواء التي كان يعيشها ذلك المجتمع، أو أن يقوم النبي بدحض بعض الأعمال كالسِّحر أو أن يأتي ببعض الأمور التي تعيد ما تفرق وابتعد عن الدين، كمسالة إحياء الموتى وإبراء الأكمه وما شابه... وهذه مكرمات مَنّ الله عليها على بعض الأنبياء في حالات محدّدة لأجل أمور تعود لحكمة الله... ثم جاء الإسلام بمعجزته الخالدة وهي القرآن، وكذلك مسيرة النبي (ص) وسيرته، وحياة أهل البيت(ع) العظيمة والمفعمة بالعقل والمنطق والحجة والدليل... فحسبنا سرد سيرتهم لنشر الدين على أوسع نطاق دون مغالاة وخرافات... وبالتوازي مع انتشار المغالاة، بدأت تسود ذهنية في أوساطنا من قبل الكثيرين من رجال الدين، ألا وهي أن لكل إمام معجزاته كما الأنبياء، فكما يزعمون، هل يُعقل أن يتكلم النبيّ عيسى (ع) في مهده ولا يتكلم هذا الإمام في مهده؟! وهل يُعقل أن يحيي الموتى ولا يستطيع أئمتنا إحياء الموتى؟! وهل يكلم سليمان الحيوانات ويفهم لغتهم ويعجز أئمتنا(ع) عن ذلك؟!! ويأتون بالروايات الكاذبة المدسوسة لدعم هذه الذهنية المتخلفة التي تجنح بالتشيّع عن خطّ العقل إلى سكة الخرافة.
4- وأخيراً وليس آخراً، تأتي مسألة الظواهر غير المعهودة لدينا قديماً ولا حديثاً، وإنما متأخراً جداً وفي عصرنا هذا... فكم كنا نسخر ولا نقيم اهتماماً للكثير من المظاهر التي كانت تحدث (بهتاناً) لدى الأديان الأخرى، كمسألة رشح الزيت أو الدم من بعض تصاوير وتماثيل الشخصيات الدينية، وحتى أنّنا لم ندخل في بحث صحّة هذه الأحداث لأنّنا نعلم علم اليقين زيفها وأنها مكذوبة، لأنها تخالف كلّ مبادئ وتعاليم ديننا ومذهبنا وما جاءنا عن النبي(ص) والأئمّة(ع)... وها نحن نستمدّ هذه الأباطيل من غيرنا لنلصقها زوراً بأهل البيت(ع)، وكأنّهم يحتاجون إلى ما يقوّي سيرتهم أو يعظمهم عند الناس، أوَ لا تكفي سيرتهم العطرة لتملأ هذا الكون فكراً وإسلاماً!! وها هم يريدون العودة إلى الوثنية من جديد ومن خلال منطق الصنميين {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر : 3]، فما حاربه الإسلام يأتي هؤلاء ليعيدوه باسمه وتحت رايته، لا بل باتت هذه الأباطيل هي الدين وكل إنكار لها هو الكفر... نحن ندّعي أننا الأمة المنتظرة لخروج الإمام المهدي(عج)، والمنتظرة الخلاص والعاملة له، والأمّة التي تدّعي تهيئة البيئة والظروف لخروجه، والأمّة التي تعوّل على أن تكون من جنوده وأنصاره والمستشهدين بين يديه...
أفبمثل هذه الذهنية نريد أن نستقبله، وبمثل هذه الأباطيل سننصره وندعو إليه؟! أهذا انتظار العاملين المجاهدين والداعين؟! أين أنتم وأين أهل البيت(ع) وفكرهم، أهكذا نكون زيناً لهم؟! وآخر كلامنا هو ترداد كلام سيّدنا وإمامنا علي بن أبي طالب (ع) لأصحابه: " أفبمثل هذه الأعمال تريدون أن تجاوروا الله في دار قدسه، هيهات لا يُخدع الله عن جنته"...
*كاتب إسلامي
==========
الشعائر الحسينية بين النمذجة والإصلاح
حيدر حب الله الشعائر الدينية والمظاهر الإيمانية أقوى رسوخاً في حياة الإنسان حتى من الاعتقادات الدينية نفسها، ومن ثم فإجراء تعديلات أو إصلاحات فيها يبدو أصعب من إجراء إصلاحات في مجالات دينية أخرى. ولعل بعض أسباب ذلك دخول الشعائر والمظاهر الدينية في مكوّنات الشخصية الإنسانية، كونها المظهر الحسي للدين الذي يتعامل الإنسان معه تعاملاً مباشراً. 1 ـ والشعائر الحسينية في المذهب الإمامي لها خصوصياتها ووضعها في نفوس المؤمنين، وقد تحوّلت عبر الزمن إلى مضخّة تضخّ بالحراك والهيجان الذي ساعد ويساعد على خلق روح ثورية دفاعية في النفوس، تقف مانعاً دون نفوذ كل جسم غريب أو تسلّط كل جائر، ولسنا نبعد عن مظاهر ساهمت مقولات الثورة الحسينية في خلقها كالثورة الإسلامية في إيران والمقاومة الإسلامية في لبنان و ... إن الحفاظ على هذه الروح الأبية التي تضخّ بها مقولات الثورة الحسينية في عصرٍ ما زال قانون المواجهة حاكماً فيه، تشهد بذلك السياسات الإسرائيلية والأميركية، لهو فريضة من فرائض الدين لاستثارة الهمم للدفاع عن الذات والأهل والوطن والدين والإنسان، ولا يصحّ ـ بأيّ حالٍ من الأحوال ـ أن نقتل هذه الروح التي حققت لنا نتائج باهرة عبر الزمن، بل وفي العصر القريب أيضاً. 2 ـ لكن ذلك لا يمنع من أن تتنوّع المواقف أحياناً، حسب طبيعة الظروف، فتغدو حسنيةً بعد أن كانت حسينية، أو تتحوّل إلى حسينية بعد أن كانت حسنية، والقصد من ذلك أن لا يتحوّل المذهب الإمامي إلى مذهب زيدي لا يرى شرعيةً إلاّ للخروج بالسيف، ولا يرى إماماً إلاّ فاطمياً نهض بسيفه لمواجهة الظلم. ربما لا يكون الأمر كذلك في العقيدة أو الفكر، لكنه قد يغدو كذلك في العقل الجمعي والذهن الجماعي، فتنعدم في ذاكرة الجماعة تنوّعات الأداء، ويغدو أداء واحد حصراً يمثل شريعة الله ورسوله، بل يتفاقم الأمر إلى حدّ اتهام الناس بتهم قاسية والتجريح بهم، وهم أصحاب رؤى مختلفة. ليس من الضروري تفسير انطلاق كلّ من يقدم أو يكون حسينيّاً على أنه حماس شبابي أو تهوّر غير عقلاني، ولا واقعي، كما أنه ليس من السليم تفسير رؤية كلّ من يتّخذ موقفاً حسنياً على أنه عميل أو متخاذل أو جبان أو .. بل يفترض أن تدرس الأمور بنمط عقلاني وعلمي وهادئ، بعيداً عن الاتهامات المتبادلة للوصول إلى أكبر قدرٍ ممكن من التفاهم والتفهّم. 3 ـ وقد سعى فريق من كبار العلماء المصلحين، كان من أوّلهم السيد محسن الأمين، ومن آخرهم السيد علي الخامنئي، وبينهم الكثير من العلماء كالشهيد المطهري والعلامة فضل الله و.. سعوا إلى إصلاح الشعائر الحسينية، وقد شكّلت رسالة "التنـزيه" للسيد الأمين عام 1346هـ منعطفاً في التاريخ الحديث للطائفة الشيعية، رغم ما لاقاه صاحبها من حملات طالت المرجع الديني السيد أبا الحسن الاصفهاني آنذاك لدفاعه عن آراء الأمين الإصلاحية. ولعلّ من المؤسف ـ وربما من المتوقع ـ أن تتضاعف مظاهر عاشوراء التي تعرّضت لنقد المصلحين، بوصف ذلك ردّة الفعل الانتقامية على حركات الإصلاح، وهذا ما شاهدناه لدى البعض بعد الدعوة التي أطلقها المرشد الخامنئي عام 1994م في خطابه التاريخي في مدينة ياسوج الإيرانية. 4 ـ وقد شعر التيار الرافض لحركة إصلاح الشعائر أن المذهب الإمامي والعقائد الشيعية تتعرّض لغزو وإبادة، فرأى أن تتوقف حركة النقد الداخلي في هذه الفترة على الأقل، ورجّح سياسة الدفاع على سياسة الإصلاح، دون أن يدرك بجدية ـ على ما يبدو ـ المخاطر القادمة نتيجة هذه السياسة التي تراكم المشاكل الداخلية حتى تتعاظم تحت شعار مواجهة الآخر الخارجي، وربما زاد فريق ليحاول إقناع نفسه بشرعية ما يقوم به مما كانت دعوات إلى إصلاحه، فيتمسّك له بدليل هنا أو بشاهدٍ هناك، لسنا في معرض بحثه أو مناقشته فعلاً. وقد تعزّزت لدى فريقٍ من الفرقاء القناعة بأنّ تصفية الحساب مع بعض المظاهر أو الوقائع غير الثابتة دينياً، ربما يواصل سيره لتتعرّض الأمور الثابتة بعد ذلك لهزّة أو ارتجاج، فقرّر إبقاء المعركة في دائرة الموضوعات البسيطة، بل وتضخيمها، فيما يشبه خطّاً دفاعياً وهمياً، يصون الثوابت من أن تغدو عرضةً لهجمات. 5 ـ وتتنوّع جهات الإصلاح اللازمة في الشعائر الحسينية وأمثالها، ويقف على رأسها ضرورة تصفية نصوص السيرة الحسينية التاريخية من الأكاذيب والأساطير التي اختلقت عبر الزمن، ولم يكن لها من وجود في مصادر الحديث ولا التاريخ ولا التراث، وإنما صنعتها العقلية الشعبية أو ما بحكمها، إنّ هذه الضرورة ضرورةٌ علمية ومعرفية، كما أنّها ضرورة توعوية وتربوية في الوقت عينه. ولا يعني ذلك أبداً تنحية كل نصّ تاريخي لا تستسيغه عقولنا العادية أو تجده خلاف المألوف، وإنما تنحية ما تقوم الشواهد التاريخية أو العقلية أو الشرعية أو .. على نفيه، وفق منهج ينبغي تحديده على أسس علمية وضوابط منطقية، تخضع لنظريات مدروسة ومبرهن عليها في قراءة التاريخ، لا لأيديولوجيات مسقطة تهدف التزييف أو.. وليس فقط ينبغي تنحية الأكاذيب والمعلوم عدم صدوره ولا وقوعه ولو بالعلم العادي الاطمئناني، بل من الضروري تشييد السيرة الحسينية وفق أسس النقد التاريخي والحديثي أيضاً، فالذي لم يثبت ـ ولو لم يكن عدمُه ثابتاً ـ ينبغي تخفيف حضوره على الأقل، كما أنّ الذي يقع مرجوحاً من الناحية التاريخية ينبغي تقديم الطرف الراجح المقابل له عليه، وبعبارة جامعة، ينبغي التعامل مع وقائع الثورة الحسينية والنصوص التاريخية الواصلة إلينا عنها، تبعاً لدرجة صحتها، فالمؤكد صحته ينبغي الترويج له والإصرار عليه وإشاعته، وأما غيره فينبغي أن يكون حضوره على تبع قيمته العلمية والتاريخية، ولا ينظر فقط إلى رغبة الرأي العام الذي نطالب نحن ــ من ننعت أنفسنا بالعلماء ــ أن نوجّهه ونصوّبه لا أن يكون هو المسيّر دائماً لحركتنا وأدائنا. إن الشعوب في حال إنتاج دائم للمعتقدات الشعبية الممزوجة بالخرافة، كما تؤكّد ذلك أيضاً تواريخ الأديان كافّة، وعلماء الدين ومفكرو المسلمين والمصلحون الاجتماعيّون يمثلون بالدرجة الأولى مصفاةً تنقّي هذه المنتجات الملوّثة بالخرافة أو الوهم، فإذا تعطّلت هذه المصفاة تلوّث المناخ كلّه، وصار من العسير ديمومة الحياة في ظلّه. 6 ـ ومن عناصر الإصلاح الضرورية الأخرى، إصلاح المظاهر العامّة، وإعادة النظر فيها وفق الموازين الشرعية والعقلية والإنسانية، ثمة مظاهر يجب نقدها لتقديم صورةٍ أكثر جماليةً وتأثيراً في القلوب عن الثورة الحسينية، فمظاهر مثل التطبير (ضرب القامات)، ووضع الأقفال على الأبدان، وضرب السلاسل، واللطم العنيف المدمي، وشبه التعرّي الموجود أحياناً، والمشي على النيران، والزحف والمشي مشية الكلاب على أبواب المراقد المطهرة للمعصومين(ع)، ونعت الذات بأنّها كلب الأئمة(ع) أو التسمّي بأسماء تحمل هذا المضمون أو..، وغير ذلك من المظاهر، لم يقم عليها ـ من وجهة نظرنا ـ دليل شرعي، بل باتت اليوم سلاحاً بيد الآخر لتشويه المذهب الإمامي في أرجاء المعمورة. ولا نريد بذلك التنازل عن عقائدنا وشعائرنا لأجل الآخر أو خوفاً من تشويهه وتشهيره، فهذا ما لا يرضاه الله لنا، وإنما نقصد ملاحظة قانون التـزاحم بين المصالح والمفاسد، سيما وأنّ هذه المظاهر على أقصى تقدير مستحبّة بعنوانها الأوّلي لا واجبة، فلا ينبغي التورّط في الحرام لأجل تحقيق مستحب. 7 ـ ولسنا نطالب بقمع هذه المظاهر بالقوّة أو مواجهتها بالعنف والقسوة، فهذا ما لا نجد عظيم جدوى من ورائه، إنما المطلوب نشر الوعي، ورفع مستواه بين العامة من الناس، بل بين بعض رجال الدين أيضاً، بطريقٍ مباشرٍ أو غير مباشر، لا بإثارة العامة أو تهييجهم. إنّ المعتقدات والمشاعر الدينية ربما يضيق نطاقها على صعيد الكم من حيث عدد المقتنعين بها عندما نمارس ضغطاً وقسوةً، لكن العدد القليل المتبقّي ترسخ عنده المفاهيم المحمولة، وتزداد رسوخاً وتعمّقاً، ليتحوّل تياراً صلداً على قلّة مناصريه. إنّ الطرف الرافض لهذه الأنشطة الإصلاحية يحقّ له أن يبدي رأيه، ويمارس نشاطه بحريّة، وأن لا يُقمع أو يرهب أو يستخفّ به، دون أن يكون له قمع غيره أو تفسيقه أو تضليله أو تكفيره.. بسبب أمور لا تسمّى سوى الاختلاف في وجهات النظر ليس إلاّ. 8 ـ ومن أبرز مظاهر الإصلاح تطوير آليّات عرض الثورة الحسينية، فليست المجالس العزائية المتداولة هي السبيل الوحيد لنشر ثقافة الثورة، بل قد استجدّت طرق يمكن إضافتها إلى ما كان، فإدخال الثورة الحسينية إلى دور السينما، وإلى التلفزيون والفضائيات والكمبيوتر، وللأطفال والشبان، قصّةً وروايةً وحكاية و.. كلّها وسائل جديدة يمكن توفيرها لخدمة الأهداف الحسينية الكبرى. كما أنّ تنظيم المسيرات والمجالس العزائية، واتسامها بالترتيب والتنظيم والأناقة والتناسق والجمال و.. وإخضاعها لتجويد وتحسين مستمرّين، كلّها عناصر مساعدة على رفع مستوى إحياء الشعائر، لتكون منبراً إعلامياً للإسلام يعرض الفكر والمفهوم كما يُبدي العاطفة والإحساس، بدل أن تستغلّ للتشويه والتـزييف. إنّ صور الإحياء وأشكاله أمرٌ بشريّ لا يخضع لنصٍّ إلهي أو حكم ديني، وإنّما يتبع الأوضاع الاجتماعية والثقافية في المجتمعات المختلفة، شريطة أن يبقى محافظاً على القواعد والأخلاقيات والأسس الدينية العامة، وهذا ما يسمح لأشكال إحياء الشعائر بفرص كبيرة من التطوير والتجويد، تبعاً لحاجات العصر وضرورات المرحلة، دون أن يكون هذا التطوير ـ بالضرورة ـ خوفاً من طرفٍ أو حياءً من آخر، وإنّما رغبة عقلانية صادقة في إرفاد نظم مشاركاتنا الشعبية بالمزيد من التناسق المنسجم مع التطوّرات التي تلفّ المجتمع برمّته.
===============
فليكفّوا عن هذا العمل
يؤسفني أن أقول إن أموراً جرت خلال الأعوام الماضية وأعتقد أن أيادي تقف وراءها، أموراً جرت، أثارت الشبهات لدى كلّ مَنْ رآها.. منذ القدم كان متعارفاً أن يضرب الناس أيام العزاء أجسادهم بالأقفال ثم تحدث العلماء عن ذلك، فزالت تلك العادة، واليوم ظهرت هذه العادة مجدّداً، ما هذا العمل الخاطئ الذي يقوم به البعض و(التطبير) أيضاً من جملة هذه الأمور، ويعتبر عملاً غير مشروع. أعلم أنّ البعض سيقول لم يكن من المناسب أن يتحدّث فلان عن التطبير، وما دخله في الأمر، كان حَرِيّاً بهم أن يَدَعَهُم يضربون الرؤوس بالقامات (السيوف)، كلا لا يصح ذلك، لو كانت مسألة (التطبير) التي بدأوا يروّجون لها في السنوات الماضية سائدة أيام حياة إمامنا (السيد الخميني) الراحل (رضوان الله عليه) لوقف الإمام بوجهها، إنّه عمل خاطئ، البعض يمسكون بالقامات ويضربون بها رؤوسهم ليغرقوا بدمائهم، عَلَامَ ذلك؟ وهل يعتبر ذلك عزاء؟ اللطم على الرؤوس هو العزاء، وعفوياً يلطم الذي نزلت به مصيبة، رأسه وصدره، هذا هو العزاء، العزاء الطبيعي، ولكن هل سمعتم أنَّ أحداً راح يضرب رأسه بالسيف لفقد عزيزٍ من أعِزَّتِه؟ هل يُعتبر ذلك عزاء؟ كلا، إنّه وَهْمٌ، ولا يمتُّ ذلك إلى الدين بصلة، وما من شك بأن الله لا يرضى ذلك. ربما من سلف من علمائنا لم يكن يستطيع أن يصرّح بذلك، ولكنّنا اليوم نعيش حاكميّة الإسلام وظهوره، فينبغي أن لا نقوم بعمل يجعل من المجتمع الإسلامي المحبِّ لأهل البيت (عليهم السلام) والذي يفتخر باسم ولي العصر- أرواحنا فداه- وباسم الحسين بن علي (عليه السلام) وباسم أمير المؤمنين (عليه السلام) لا ينبغي أن نجعله في نظر باقي مسلمي العالم وغير المسلمين، يبدو وكأنّه مجتمع خرافيّ وغير منطقيّ. كلّما فكرت في الأمر رأيت أنّني لا يمكنني السكوت عن هذا العمل الذي هو بالتأكيد عمل غير مشروع وبدعة، فليكفّوا عن هذا العمل، فإنّني غير راضٍ عنه، إنّني غير راضٍ من كلِّ قلبي عن كلّ شخص يريد التظاهر بالتطبير... من كتاب (خطاب القائد) ص18-19، الصادر عن الوحدة الإعلامية المركزية.
==============
الاختلاف في الاجتهاد ليس مبرّراً للإرهاب الفكري
الشيخ حسن الصفار في مواجهة التحدّيات المعرفية الخطيرة أمام الفكر الديني، وفي مقابل الطوفان الثقافي العالمي الجارف الذي يقتحم كلّ زوايا مجتمعنا وغرف بيوتنا، ويستقطب بوسائله الإعلامية والمعلوماتية المتطوّرة اهتمامات أبنائنا وبناتنا، هناك حاجة ماسّة لتكثيف العطاء الفكري والثقافي من قبل المرجعيّات والجهات الدينية. كما أنّ تطوّر الحياة وتقدُّم مستوى العلم والمعرفة يستوجب تطوير استراتيجيات الطرح الديني، وتجديد خطط التثقيف والتوجيه. إنّ على الساحة الدينية أن تثبت قدرتها على مواكبة التغيّرات والاستجابة للتحدّيات. وذلك لا يتحقّق إلا بتوجيه الاهتمام نحو التحدّيات الكبيرة، وبتضافر الجهود نحو الأهداف المشتركة، أما الانشغال بالخلافات الجانبية والقضايا الجزئية، فإنّه يشكّل هروباً من المعركة الأساس، ويُضعف كلّ القوى الدينية. لقد أصبحت حرية الرأي شعاراً ومطلباً لكلِّ المجتمعات والشعوب، وأصبح الانفتاح والحوار بين الحضارات والثقافات نهجاً يتطلّع إليه عقلاء البشر على مستوى العالم، فكيف سيقدّم المتديّنون أنفسهم أمام الآخرين، وهم لا يتحمّلون بعضهم بعضاً، ولا يحتكمون للحوار في خلافاتهم، ولا يستطيعون التعايش فيما بينهم واحترام بعضهم بعضاً؟ إنّ السمة الغالبة على مَن يمارسون الوصاية الفكرية استثارتهم لانفعالات المتدينين وتجييشيهم لعواطفهم، بعنوان حماية العقيدة والدفاع عن الثوابت والمقدّسات، لكنّهم لا يبذلون جهداً يناسب التحدّيات المعاصرة في إيضاح أصول العقيدة، وكأنَّ العقيدة تتلخّص عندهم في القضايا الجزئية التي يختلفون فيها مع الآخرين، كما أنَّ بعضهم يخلط الأوراق في تحديد الثوابت والمقدَّسات، وكأنّها قضايا اعتبارية، فالثابت والمقدّس ما يعدُّونه هم كذلك دون مقاييس واضحة متَّفق عليها. إنّنا بحاجة إلى تنوير العقول بالبحث العلمي والطرح المنطقي، وليس مجرد تجييش العواطف وإثارة الأحاسيس. طريق الأنبياء إن الطريق المشروع والنهج الصحيح لنشر أي فكرة ومبدأ، هو عرضها بأحسن بيان، والدعوة إليها بالمنطق والبرهان، والجدال عنها بأفضل أساليب التخاطب مع العقول والنفوس، وذلك هو النهج الإلهي الذي قرَّره القرآن الكريم، يقول تعالى: ﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾[النحل: 125]. كذلك فإنّ مواجهة الأفكار الباطلة، والآراء الخاطئة، يكون بنقدها ومناقشتها، وتسليط الأضواء على مكامن انحرافها، ونقاط ضعفها. إنَّ الرسالات الإلهية تتعامل مع الإنسان باعتباره كائناً عاقلاً مريداً، ولذلك تحترم عقله وتتخاطب معه، وتراهن على الثقة به وحسن اختياره. كما ترفض أساليب الهيمنة وممارسة الوصاية الفكرية، بما تعني من تجاهل لدور العقل، ومصادرة لحرية الإنسان. فالتخاطب مع العقل لا يكون بلغة العنف والقمع، وإنما بمنطق الحجة والبرهان: ﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ﴾[النمل: 64]. ﴿قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا﴾[الأنعام: 148]. ﴿لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَة﴾[الأنفال: 42]. ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾[البقرة: 256]. تلك هي المبادئ الناظمة للمواجهة الفكرية، لإثبات حقانية الدين وبطلان ما عداه. ولا يقبل الإسلام الإساءة إلى المخالف في الدين والرأي لمجرد مخالفته، ما لم يمارس عدواناً يستلزم الردّ والردع. كما لا ينصح الإسلام بالقطيعة مع المخالفين، بفصل وشائج العلاقات الإنسانية والاجتماعية معهم. بل على العكس من ذلك يوصي بالبرّ بهم والإحسان إليهم ما داموا مسالمين غير معتدين. يقول تعالى: ﴿لا يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾[الممتحنة: 8]. وقد ورد في أسباب نزول هذه الآية أن أسماء بنت أبي بكر، قَدِمت عليها أمها وكان أبو بكر طلَّقها في الجاهلية، فَقَدِمت على ابنتها أسماء بهدايا: زبيب وسمن وقرظ، فأبت أسماء أن تقبل هديتها أو تدخلها بيتها، وأرسلت إلى عائشة: سلي رسول الله، فقال: «لتدخلها». وفي صحيح البخاري (حديث رقم2620) عن أسماء بنت أبي بكر قالت: قدمت عليّ أمي وهي مشركة في عهد رسول الله فاستفتيت رسول الله قلت: إن أمي قدمت وهي راغبة، أفأصل أمي؟ قال: «نعم صلي أمك». وفي وصية القرآن الكريم بالبر بالوالدين، يشير إلى أنّ واجب البر بهما، وحسن العلاقة معهما، لا يتأثّر بالاختلاف الديني معهما، حتى وإن كانا يأمران الولد بالشرك بالله، يقول تعالى: ﴿وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾[لقمان: 15]. وكذلك الحال ينسحب على الأرحام والأقرباء، فإن الاختلاف الديني والفكري لا ينبغي أن يؤثّر على مستوى التواصل معهم كأرحام، جاء عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) أنه سأله الجهم بن حميد قائلاً: يكون لي القرابة على غير أمري ألهم عليّ حق؟ قال: «نعم حقُّ الرحم لا يقطعه شيء». إنّ على المسلم أن يلتزم حُسْنَ الخُلُق مع كلّ مَن يتعامل ويتعاطى معه، حيث ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «أحسن صحبة من صاحبك تكن مسلماً»، وجاء عن حفيده الإمام جعفر الصادق (عليه السلام): «ليس منّا مَن لم يحسن صحبة من صحبه، ومرافقة من رافقه». مرض الساحة الدينية من أسوأ أمراض الساحة الدينية في مجتمعاتنا، ما يسود معظم أجوائها من حالات الصراع والخصام الداخلي، وسعي بعض الجهات لممارسة دور الوصاية على أفكار الآخرين. فما تراه هي هو الحقُّ المطلق الذي لا يجوز لأحد الخروج عليه، وإلا استحقّ النَّبذ والطرد، والمحاصرة والإلغاء، وأصبح مستهدَفاً في وجوده المادي والمعنوي. نجد ذلك واضحاً في الخلافات المذهبية، حيث تتبادل الأطراف مع بعضها تُهَم التكفير والتبديع والمروق من الدين، ويجري التحريض على الكراهية في أوساط الأتباع، وقد يصل الأمر إلى إباحة هدر الدماء وانتهاك الحقوق والأعراض. كما نجد ذلك على مستوى الخلافات داخل المذهب الواحد، حين تتعدَّد المدارس، وتختلف الآراء في بعض التفاصيل العقدية والفقهية في إطار المذهب نفسه. إنّ اعتقاد كلّ طرف صواب رأيه وخطأ الرأي الآخر أمر مقبول، بناءً على مشروعية حقّ الاجتهاد، لكن إنكار حقّ الطرف الآخر في الاجتهاد وإبداء الرأي، والتعبئة ضدّه بالتشكيك في دينه والحكم بفساد نيّته، هو مَزلق خطير يؤدّي إلى تمزيق الساحة الدينية، وتشويه سمعتها، ودفع أبنائها إلى الصراع والاحتراب، كما حصل بالفعل. إنَّ التعبير عن الرأي الاجتهادي عقديّاً وفقهيّاً ضمن الضوابط المقرّرة أمر مشروع، وحقّ مكفول للجميع، ولا يصحّ أن تحتكره جهة وتصادره من الآخرين، فإنَّ ذلك إرهاب فكريّ، وإغلاق فِعليٌّ لباب الاجتهاد، وحرمان للساحة العلمية من الثراء المعرفي. أمّا الحذر من وجود آراء خاطئة، وطروحات منحرفة، تخالف المعتقدات السائدة، والاتجاهات الفقهية المشهورة، فهذا لا يقف أمامه القمع والتهريج، وإنّما المواجهة العلمية الفكرية، التي تثبت ضعف الرأي الآخر وخطأه، ومكامن الانحراف والثغرات فيه، وتظهر صحة الرأي المتين وأصالته، وتعالج الإشكالات المثارة حوله. إنّ أساليب القمع والإرهاب الفكري لا تستطيع أن توقف زحف الرأي الآخر، بل قد تخدمه بإثارة الاهتمام به، وتكتّل أتباعه للدفاع عنه، ولتعاطف الكثيرين مع ظلامتهم بسبب ما يستهدفهم من قمعٍ وتشويه، وبخاصة في هذا العصر الذي سادت فيه شعارات الحرية والانفتاح، وتطلّعات التغيير والتجديد. إنّ تمزيق صفوف المؤمنين وتحويل ساحتهم إلى خنادق للصراع والاحتراب، ودفعهم إلى انتهاك حرمات بعضهم بعضاً، وإسقاط كل طرف وتشويهه لرموز وشخصيات الطرف الآخر، جريمة أكبر وخطر أعظم من وجود رأي في قضية جزئية نعدّه خاطئاً باطلاً. ثم إنّ تعاليم الإسلام وأخلاقياته، وسيرة النبي والأئمة والصحابة الأخيار لا تقبل مثل هذه الأساليب ولا تتطابق معها. وهناك روايات وردت عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) يحذِّرون فيها أتباعهم من نهج الإقصاء والإلغاء لبعضهم بعضاً على أساس الاختلاف في بعض الجزيئات العقدية. فعن عبدالعزيز القراطيسي قال: قال لي أبو عبدالله الإمام جعفر الصادق (عليهم السلام): "يا عبدالعزيز إنّ الإيمان عشر درجات بمنزلة السلّم، يصعد منه مرقاة بعد مرقاة، فلا يقولنّ صاحب الاثنين لصاحب الواحد لست على شيء، حتّى ينتهي إلى العاشر، فلا تسقط من هو دونك فيسقطك مَن هو فوقك، وإذا رأيت من هو أسفل منك بدرجة فارفعه إليك برفق، ولا تحملنّ عليه ما لا يطيق فتكسره، فإنّ مَن كسر مؤمناً فعليه جبره". وعن الصباح بن سيابة، عن أبي عبدالله (عليه السلام): قال: "ما أنتم والبراءة، يبرأ بعضكم من بعض، إن المؤمنين بعضهم أفضل من بعض، وبعضهم أكثر صلاة من بعض، وبعضهم أنفذ بصراً من بعض، وهي الدّرجات".
========
التطبير: رؤية إسلامية فقهية
الشيخ حسين الخشن لعل من أغرب الوسائل المتبعة في إحياء الذكريات الدينية تلك الوسيلة أو الطريقة التي يعتمدها البعض في إحياء ذكرى شهادة الإمام الحسين (ع) والمتمثلة بضرب الرؤوس بالسيوف، وهو العمل الذي اصطلح عليه في بعض الأوساط بــ "التطبير"1، فماذا عن شرعيّة هذه الوسيلة؟ ومتى جاءتنا ومن أين؟ وما هي مبرّرات المدافعين عنها؟ وهل هي مبرّرات مقبولة؟ في المقابل، ما هو مستند المعارضين لها وحجتهم في رفضها؟ هذا ما نحاول تسليط الضوء عليه فيما يأتي: عادة حادثة ودخيلة إنْ لم يكن من الواضح عندنا بشكلٍ تفصيلي متى وكيف نشأت هذه العادة؟ ومَن هو أوّل مَن قام بهذا العمل أو سنّ هذه السنة؟ إلّا أنّه من المؤكّد أنّها عادة مستحدثة ولم تكن في عصر النبي(ص) ولا الأئمّة من أهل البيت (ع)، ولم ترد أيّة إشارة في شأنها، لا في كتب الحديث والروايات، ولا في كتب التاريخ ولا في غيرها من المصادر، وذلك بالرغم من توفّر الدواعي لنقل مثل هذا التصرّف، ليس بسبب غرابته فحسب، بل وبسبب منافاته للتعاليم الإسلامية الآمرة بالصبر على المصائب والناهية عن الجزع وخمش الوجوه وشق الجيوب عند المصيبة. وهكذا لم يُعهد ولم ينقل حدوث مثل هذا التصرّف فيما تلا عصر الأئمّة (ع) من قرون؛ لأنّ ما نقله بعض المؤرّخين – كالمقريزي في خططه، وأبي الفداء في تاريخه – عن مظاهر الاحتفال بعاشوراء في العصر الفاطمي والبويهي، ليس فيه إشارة إلى هذه العادة .2 يقول السيد محسن الأمين: "ولم ينقل ناقل أنّ أحداً فعلها من عوامّ الشيعة، ولا أنّ أحداً أجازها من علمائهم في الأعصار التي كانت ملوك البلاد الإسلامية فيها كلّها شيعةً"، ويذكر السيد مثالاً على تلك الدول : دولة الفاطميين والحمدانيين والبويهيين، ثم يضيف: "مع ما كان عليه بنو بويه من التشدُّد في نشر إقامة العزاء، حتى كانت في زمانهم تعطّل الأسواق في بغداد يوم عاشوراء، وتُقام مراسم العزاء في الطرقات".3 ويرجّح الكثير من العلماء والباحثين أن تكون هذه العادة قد تسربت إلى الفضاء الإسلامي الشيعي من خارجه، وتبرز أمامنا عدة آراء في تحديد المنشأ أوالمصدر القادمة منه، فبينما يرجِّح السيد هاشم معروف الحسني أن تكون هذه العادة التي وصفها بالدخيلة والتي لا يقرّها الشرع قد تسرّبت إلى بعض الأقطار بعد أنْ حكمها الشيعة من الهنود القدامى 4، فإنّ الشهيد مطهّري يذهب إلى "أنَّ الطبل والتطبير عادات ومراسم جاءتنا من أرثودكس القفقاز وسَرَتْ في مجتمعنا كالنّار في الهشيم".5 أمّا عن ظهورها في جبل عامل، فيقول السيّد محسن الأمين: "ولم تكن هذه الأعمال معروفة في جبل عامل، ولا نقل أنّ أحداً فعلها فيه، وإنّما أحدثها فيه في هذا العصر بعض عوامّ الغرباء، وساعد على ترويجها بعض من يرتزق بها، ولم ينقل عن أحد من علماء جبل عامل أنّه أذن فيها أو أمر بها في عصر من الأعصار...".6 أجل، ثمّة إشارة بالغة الدلالة أشار إليها محمد بن طولون الصالحي الدمشقي في كتابه "إعلام الورى"، في أحداث سنة 907هـــ، حيث قال ما نصّه: "في يوم عاشوراء، اجتمع جماعة من الأوباش والأعجام والقلندرية بدمشق، وأظهروا قاعدة الروافض من إدماء الوجوه وغير ذلك، وقام عليهم بعض الناس، وترافعوا إلى نائب الغيبة (وكيل الوالي أثناء غيابه) المذكور، فنصر أهل البدعة وشوّش على القائم عليهم".7 صحيح أنَّ هذا النص يتحدَّث عن إدماء الوجوه لا الرؤوس، إلّا أنّ ذلك لا يقلِّل من دلالته على أنّ قضية الإدماء كانت منتشرةً في بعض الأوساط في بداية القرن العاشر وربّما فيما سبقه، ولاسيما بملاحظه قوله: وأظهروا "قاعدة الروافض" التي تشير إلى أنَّ قضيّة إدماء الوجه كانت معروفةً عند مَن أسماهم ابن طولون بــ "الروافض" وهو مصطلح يُنبَز به الشيعة كما هو معروف. ولكن هذا النصّ لا يثبت امتداد هذه العادة إلى ما قبل القرن التاسع فضلا عن اتصالها بزمن الأئمّة (ع) كما لا يخفى، كما أنّه لا يدلّ على شرعيّة هذا التصرُّف كما هو واضح. التطبير وخدمة القضيّة! في ضوء ما تقدم من كون هذه العادة طارئة وغير متصلة بزمن المعصومين، يكون من الضروري أن نطلّ على الوجوه والمستندات التي تمسّك بها المدافعون عنها، لنلاحظ مدى تماميّتها وهل هي كفيلة بإثبات شرعيتها. ولكن قبل ذلك يجدر بنا هنا أن ننبه إلى قضيةٍ في غاية الأهمية،وهي أنّه عندما نريد أن نحوِّل عملا ما إلى سُنّة نواظب عليها ونهتم بها ونعتمدها في إحياء الذكرى الحسينية أو غيرها من المناسبات، ونخرج بها إلى الرأي العام ، فإنّا علينا أن لا نقتصر في تقييمها على السؤال عن مدى إباحتها بالمعنى الفقهي، بل يجدر بنا أن نسأل عن مدى مساهمة هذه الوسيلة في خدمة القضية التي نتبناها ونؤمن بها والخط الذي ننتمي إليه، وهذا ما علينا أن نعرفه فيما يرتبط بعادة التطبير، إن لجهة مساهمتها في التعريف بأئمة أهل البيت(ع) وإيصال فكرهم إلى الآخرين وفتح قلوب الناس عليهم، أو – على الأقلّ - لجهة تأثيرها في تهذيب نفوس الذين يقومون بهذا العمل وهو ضرب رؤوسهم بالسيف ويحيون عاشوراء بهذه الطريقة الدموية، فهل يستطيع المدافعون عن هذه العادة أن يذكروا لنا مدى مساهمتها في تحقيق هذه الأهداف؟ أَوَليس جرح الرؤوس بالسيوف، ثم ضربها بالأكُفّ حتى ينزف الدم ويملأ الوجه والرأس واليدين ويلطخ الثياب كلّها يعدّ مشهداً منفِّراً للآخرين، ومثيراً لدهشتهم وتعجبهم، كما أنّه مفزع للأطفال ومرعب للنساء، وبالتالي يكون الإستمرار في هذا العمل مساهما في إغلاق قلوب الناس عن التعرف على مدرسة أهل البيت (ع) تحت عنوان إحياء ذكرهم؟! وبعبارة أخرى : نكون بهذا العمل قد ساهمنا من حيث لا نشعر في إماتة ذكرهم (ع) بدل أن نحييه وننشره!. دعوة إلى المدافعين عن التطبير ودعونا نتحدث بلغة الأرقام والإحصاءات، نتجنب لغة التهويل أو التخوين و اتهام المتمسكين بالتطبير والمدافعين عنه في نواياهم، كما قد يفعل بعضهم عندما يتهمون المعارضين لهم بالتقصير بحق أهل البيت (ع)، ونحن عندما لا نتهمهم فلأنه لا يحق لنا ذلك، كما لا يحق لهم ذلك أيضا، بل دعوني أقول: إننا لا نشك بإنتفاء نية الإساءة أو قصد التشويه عند معظم هؤلاء، بل وحرص الكثيرين منهم على نشر فكر أهل البيت(ع)، لكن من جهتنا، فإننا نختلف معهم، ليس فقط في شرعية هذا العمل، بل في تقييم الفائدة المرجوة منه، إذ نحن على قناعة تامة بأنه عمل يسيء إلى مدرسة أهل البيت (ع) وأتباعهم . وفي ضوء ذلك، فإننا سوف نتحدث معهم بلغة الأرقام والإحصاءات،ونوجهها دعوة جديّة للمدافعين عن هذا العمل والمروجين له، ومفاد هذه الدعوة: أن تعالوا واختاروا أية جهة موثوقة من الجهات المختصة بالعمل الإحصائي وكلّفوها بالقيام بإجراء عملية استطلاع رأي واسعة تشمل شريحة كبيرة وواسعة من الناس ويكون المستهدف بهذا الإستطلاع ليس خصوص المسلمين الشيعة أو السنة ، بل وغير المسلمين أيضاً، على أن يكون السؤال الموّجه إليهم واضحاً ومحدداً وبعيداً عن الاعتبار الديني أو المذهبي حتى لا تأتي الإجابة مبنية على موقف مذهبي مسبق سلبياً كان أو إيجابياً تجاه هذه الظاهرة، لنسأل - مثلاً - السؤال التالي: لو رأيت أشخاصاً يدمون أنفسهم بالسيوف أو السلاسل الحديدية تعبيراً عن حزنهم على موت فقيد أو قائد لهم، فما هو انطباعكم الأولي إزاء ذلك، هل تستسيغ هذا العمل؟ أو أنك تستغربه وتستهجنه وتستنكره؟ ويمكننا أن نقدّم للمستطلعَين صورةً عن أحد مواكب التطبير والإدماء ونسأل كل واحد منهم: ما هو رأيك بهذا العمل الذي يقوم به أصحاب هذه الصورة ؟ وعلى ضوء هذه الإجابات يمكننا أن نعرف إلى أي حد تخدم ظاهرة التطبير فكرنا وقضيتنا. المؤيِّدون ومبرِّراتهم وهنا نصل إلى المقاربة الفقهية لهذه المسألة الحساسة، وسوف نبدأ أولا بملاحظة أدلة المدافعين عن هذه العادة، ثم ننتقل إلى ملاحظة أدلة المعارضين والرافضين لها. أما المدافعون عن التطبير فقد تشبَّثوا بعدّة وجوه وشواهد وهي ما يلي: الأول: إنّه لا دليل على حرمة هذا العمل رغم أنَّ فيه إضراراً بالنفس، ولكن هذا المقدار من الإضرار لم تثبت حرمته، وإنّما ثبتت لدينا حرمة قتل النفس أو قطع الأعضاء أو نحو ذلك، أمّا ما دون ذلك من إلحاق الأذى بالنفس، فهو محكوم بالحليّة، بمقتضى أصالة البراءة والحلية الثابتة بحكم العقل القاضي بقبح العقاب بلا بيان، وبحكم الشرع، من خلال قوله تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً}. (الإسراء:15). ولكن نقطة الضعف في هذا الاستدلال هي نهوض الدليل على الحرمة، كما سيأتي، ومعه، فلا مجال للتمسك بالأصل المذكور، كما هو معلوم ومحقق لدى الفقهاء والأصوليين. الثاني: إنّه لا ريب في أنَّ البكاء والإبكاء على الإمام الحسين(ع) مطلوب ومستحبّ، كما نصت عليه الروايات العديدة والمتظافرة الواردة عن الأئمة (ع)، والبكاء أو الإبكاء فعلٌ يحتاج إلى محفّز، والمحفّز إمّا قوليٌّ كذكر المصائب وإنشاد المراثي، أو عمليٌّ كضرب الرأس بالسيف. والجواب: إنّ ما دلّ على محبوبيّة البكاء والإبكاء ناظر إلى الطرق الإنسانيّة المألوفة لذلك، ولا يشمل الوسائل غير المتعارفة في التعبير عن الحزن، كما هو الحال في عادة ضرب الرأس بالسيف. هذا إنْ لم يثبت لنا حرمة هذه العادة، وإلّا سيكون خروجها عمّا دلّ على مطلوبيّة البكاء والإبكاء واضحاً وجليّاً؛ لأنّ ما يدلّ على مطلوبيّة شيء لا يستفاد منه مطلوبيّته ولو بالوسائل المحرَّمة، ألَا ترى أنّ ما دلّ على استحباب إدخال السرور على قلب المؤمن – مثلاً – لا إطلاق له، لصورة إدخال السرور على قلبه بالطرق المحرَّمة كالغيبة أو الزنا أو نحو ذلك؟.8 الثالث: إنّ في هذا العمل (إدماء الرأس) اقتداءً بالحسين(ع) وصحبه، ومواساةً وتعزيةً "لآل البيت (ع)"، ولا ريب في أنّ الاقتداء بالحسين(ع) مطلوب ومحبوب، ومواساة أهل البيت (ع) هي من أعظم القربات. والجواب على هذا الاستدلال الذي هو من غرائب الكلام أولا : إنّ الاقتداء بالإمام الحسين (ع) يكون بأن نُقتَل حيث قُتِل، ونجرح رؤوسنا حيث جَرَح رأسه، وهو لم يجرح نفسه بعقل بارد وهو يسير في الطرقات، وإنّما جرح نفسه وضحَّى بنفسه وهو في ساحة المعركة، يقاتل في سبيل الله، فلنجرح رؤوسنا ونبذل دماءنا في مواجهة العدو، فبذلك يكون الاقتداء .9 ثانيا: أمّا مسألة المواساة، فإنّها مطلوبة ومستحبَّة بالتأكيد، ولكن السؤال : كيف تكون المواساة، ثم لمن تكون ؟ أمّا السؤال الأول عن كيفية المواساة، فجوابه : أنها تكون بالطرق المألوفة والمتعارفة، دون الطرق المستهجنة أو المحرّمة، ومسألة أن يجرح الإنسان نفسه لأنَّ حبيبه جُرِح، أو يجلد ظهره لأنّ حبيبه جُلِد، ليست من أساليب المواساة لدى العقلاء، ليشملها ما دلّ على مطلوبيّة المواساة. وأما السؤال الثاني، وهو : مَنْ نُواسي بهذه التصرُّفات؟ فالذي يتردَّد على الألسن أنّنا نواسي سيدتنا الزهراء (ع) أو رسول الله (ص) أو أمير المؤمنين (ع) ، نواسيهم بدمعتنا ولطمنا على الصدور وجرح رؤوسنا. إلّا أنّ ملاحظتنا الأساسية على هذا الكلام هي: إنّ استخدام مفهوم المواساة في المقام وعلى الرغم من شيوعه على الألسنة لا يخلو من لبس أو مصادرة أو اشتباه، وذلك لأنّ المواساة إنّما تكون للإحياء بسبب تأثّرهم وحزنهم وانفعالهم البشري على فقد حبيب أو عزيز أو صديق، أمّا الموتى الذين توفاهم الله فلا معنى لمواساتهم! صحيح أنّ رسول الله (ص) وابنته فاطمة الزهراء (ع) ووصيّه أمير المؤمنين (ع) وغيرهم من آل البيت(ع) هم أحياء عند ربّهم يُرزقون إلّا أنّه وفق مقاييس ذلك العالم، فليس واضحا أنّهم يعيشون الحزن والغمّ والألم، لنواسيهم أو نخفف عنهم، بل هم في شوقٍ وفرح للقاء أحبابهم ومصيرهم إليهم { فرحين بما أتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنزن } ( آل عمران 170) ، وفرح اللقاء هذا يغمرهم حيث إنهم سوف يعيشون معا في كنف رضوان الله وجنته البرزخية التي أعدّها للصالحين من عباده وأولياءه . ولو سلّم أنّ الموتى يتأثرون ويتألمون في عالمهم البرزخي لما يجري على أقربائهم وأحبابهم في عالم الدنيا، فلا يبعد انصراف أدلة المواساة إلى مواساة الأحياء في عالمنا هذا، دون الأحياء في عالم البرزخ. ومن اللطيف ما ذكره الشهيد مطهَّري تعليقاً على قضيّة مواساة الزهراء، قال (رحمه الله): "إنّ هذا أمر مثير للسخرية، فهل تحتاج الزهراء بعد مرور 1400 عام على المأساة إلى المواساة، في الوقت الذي نعلم أنّها الآن مجتمعة مع الحسين (ع)... وهل إنَّ فاطمة عندكم طفلة صغيرة حتى تظلّ تلطم وتبكي بعد 1400 عاماً حتى نأتي لنعزّيها ونأخذ بخاطرها هذا هو الكلام الذي يخرّب الدين" .10 الرابع: إنّ العقيلة زينب الكبرى (ع) عندما رأت رأس أخيها الحسين(ع) مرفوعاً فوق الرمح أمام محملها نطحت جبيبنها بمقدَّم المحمل حتى سالَ الدم وتقاطر من تحت قناعها11، وقد حصل هذا العمل بمرأى الإمام زين العابدين (ع) وقد أقرّه وأمضاه ولم ينهها عنه. ولكن هذا الدليل مردود لعدة وجوه أهمها: أولا : إنّ الرواية التي نقلت ذلك ضعيفة السند؛ لأنّها مرسلة، كما صرّح بذلك العلامة المجلسي 12، قال: "رأيت في بعض الكتب المعتبرة رُوي مرسلاً عن مسلم الجصاص"، ثم ذكر الرواية، ومع ضعف الرواية سنداً فلا تصلح لإثبات حكم شرعي، وهو إباحة ضرب الرؤوس بالسيوف، والظاهر أنَّ الكتاب الذي نقل عنه المجلسي هذه الرواية هو "المنتخب" للطريحي، كما ذكر العلامة النقدي 13، وكون الكتاب معتبراً عند المجلسي كما ذكر في كلامه، لا يعني أنّ رواياته كلّها معتبرة عنده، فضلاً عن غيره، كما هو واضح. ثانيا: إنّ من المستبعد صدور هذا الفعل من العقيلة زينب(ع)؛ لأنّه مخالف لوصيّة أخيها الإمام الحسين (ع)، فإنّه أوصاها قائلاً: "أُخيّة، إنّي أقسمت فأبري قسمي، لا تشُقِّي عليَّ جيباً، ولا تخمشي عليّ وجهاً، ولا تدعي عليّ بالويل والثبور إذا أنا هَلَكْت" 14. وهذه الوصيّة فضلاً عن كونها واردة في مصادر أكثر اعتباراً من تلك الرواية، فإنّها منسجمة مع العمومات أوالمطلقات الكثيرة الناهية عن خمش الوجه، وفي بعضها النهي عن لطمه15 ، واستناداً إلى هذه الروايات أفتى فقهاؤنا بحرمة خمش الوجه ولطمه، بل ادعي عليه الإجماع .16 فإذا كان الحسين (ع) ينهى زينب(ع) عن مجرّد خمش وجهها، فكيف تنطح جبينها حتى يسيل الدم؟! وقد تطرح محاولتان لرفع المنافاة المذكورة بين ما تضمنته تلك الرواية وما اشتملت عليه الوصية: المحاولة الأولى: أن يقال: إنّ الإدماء لم يكن مقصوداً لزينب(ع) ولا كانت تتوقّعه عندما لطمت رأسها، فلا يتنافى فعلها هذا مع وصية الإمام (ع) لها. ولكنّ هذا التوجيه لئنْ رفع المنافاة، فإنّه سيقضي على إمكانية الإستدلال بالرواية لإثبات جواز الإدماء؛ لأنّ إدمائها (ع) لرأسها غير مقصود لها بحسب الفرض. المحاولة الثانية: أن يقال: إنّ وصية الحسين (ع) نهتها عن خمش الوجه، وكلامنا في إدماء الرأس. بيد أنّ هذه المحاولة أضعف من سابقتها، وذلك لأننا في هذه المرحلة من البحث لا نبغي الاستدلال بما جاء في الوصية على حرمة التطبير ليورد علينا بما ذكر، وإنّما نريد القول بأنّ الوصية معارضة للرواية المذكورة، والمعارضة محققة، لأنّ تلك الرواية لم ترد في إدماء الرأس ليقال بعدم المنافاة بينها وبين الوصية، وإنما نصّت على أن زينب نطحت جبينها حتى سال الدم، والجبين جزء من الوجه، فالتعارض بينها وبين الوصية الناهية عن خمش الوجه محكم، هذا على أن لقائل أن يقول: إنّ ما ورد في الروايات من النهي عن خمش الوجه يستفاد منه حرمة إدماء الرأس أيضا ولو في غير الوجه أيضا، لأنّ خمش الوجه هو بنظر العرف مثال للإدماء، أو أنه تعبير عن الجزع. الخامس: إنّه ورد في الخبر عن الإمام الرضا (ع): "... إنّ يوم الحسين أقرح جفوننا وأسبل دموعنا..." 17، بتقريب أنّ تقريح الجفون معناه جرحها . ولكنّ هذه الرواية، فضلاً عن كونها غير نقيّة السند18، ، فإنّها لا تدلّ على المدعى وهو جواز التطبير، إذ يمكن الاعتراض على دلالاتها: أولا: إنَّ تقريح الجفون هو عبارة عن ظهور أثر البكاء على جفون العين، فترى محمرة لذلك، وهذا التقريح لا يصل إلى حد الجرح كما لا يصل ضرره إلى حدّ ضرب الرأس بالسيف وما يستتبعه من نزف كثير للدم وربّما إغماء، ولذا فإنّ الكثير ممن يضربون قاماتهم يضطرون إلى مراجعة المستشفيات والأطباء، كما نرى ذلك رأي العين، وعليه، فلا يقاس الأعلى بالأدنى. ثانيا: إنَّ تقريح الجفون – كما يرى السيّد الأمين في رسالة التنزيه – يحصل بصورة قهرية، نتيجةً لكثرة البكاء وليس عن اختيار وتعمُّد – كما في ضرب الرأس – وإنْ لم يمكن الجزم بذلك، فلا أقل من احتماله احتمالاً قوياً يمنع من الاستدلال. وعِلْمُ الإمام (ع) بترتّب القرح على بكائه غير معلوم إلّا من باب عِلْم الغيب الذي لو سلم لا يكون مناطاً للتكليف. السادس: إنّ الإدماء هو من مصاديق الجزع، والجزع وإن كان مبغوضاً في المصائب لكنه جائز في خصوص مصيبة أبي عبد الله الحسين(ع)، بل ومحبوب، طبقاً لما جاء في الأخبار الواردة عن الأئمة الأطهار (ع) والتي تتقدم على العمومات والمطلقات الناهية عن الجزع تقدم الخاص على العام والمطلق على المقيد. ويلاحظ على ذلك: أولاً: إنّ الرواية الأساس والتي عليها الاعتماد من روايات الجزع هي رواية معاوية بن وهب عن الصادق (ع) والتي جاء فيها: "كل الجزع والبكاء مكروه ما خلا الجزع والبكاء لقتل الحسين (ع)" 19 ، وبصرف النظر عن سند ها وما فيه من إشكال 20، وبصرف النظر أيضاً عما قيل بشأنها أو يقال من منافاتها لحكم العقل باعتبار أنّ الجزع في بعض تعبيراتها العنيفة كالتطبير أو نحوه مما قد يدخل تحت ظلم النفس هو أمر قبيح في ذاته 21، أو هو في الأقل صفة غير حسنة في الإنسان بل مستقبحة عقلائياً، وبصرف النظر عما قد يُطرح كمعارضٍ لرواية الجزع تلك، والمعارض هو ما تقدم من نهي الإمام (ع) لزينب عن خدش وجهها حزناعليه، باعتبار أنّ الخدش من مصاديق الجزع كما هو واضح، وبصرف النظر أيضاً عن منافاته - أي الجزع- لقيمة الصبر التي أكدّ عليها القرآن بتأكيدات لا تقبل التقييد، الأمر الذي يجعل من الصعب الركون إلى هذه الرواية أو غيرها في إثبات هذا الحكم المخالف للمطلقات والعمومات الناهية عن الجزع ولا سيما بناءً على مبنى حجية الخبر الموثوق، أقول: بصرف النظر عن ذلك كله، فإنّ هذا الخبر يتضمن ما لا يمكن الالتزام به وهو الحكم بكراهة البكاء إلاّ على الإمام الحسين (ع)، فإن هذا مما لا يمكن الإلتزام به، إذ كيف يُحكم بكراهة مطلق البكاء، والحال أنه أمر فطري، وقد بكى رسول الله(ص) على ولده إبراهيم (ص) وعلى جعفر بن أبي طالب، وبكت الزهراء (ع) على أبيها(ص) وعلى أختها رقية بنت رسول الله (ص)، وبكى الكثير من الأئمة (ع) في موارد مختلفة . 22 ولأجل ما ذكرناه من الإشكال فقد سعى غير واحد من الفقهاء لتوجيه الكراهية الواردة في هذا الخبر بتوجيه يرفعع الإشكال والإعتراض ، وقدّم في هذا المجال توجيهان: الأول: ما ذكره الشيخ يوسف البحراني حيث قال: إنّ "المراد بالكراهة هنا عدم ترتب الثواب والأجر عليه مجازاً لا الكراهة الموجبة للذم" .23 الثاني: ما ذكره السيد الخوئي رحمه الله من أنّ "المراد بالكراهية فيه الكراهية العرفية، لعدم مناسبته – أي البكاء- مع الوقار والعظمة والمنزلة" .24 إلا أنّ هذين التوجيهين مخالفان للظاهر، ولا سيما الثاني، فلا يصار إليهما، والسيد الخوئي رحمه الله معترف بأنّ ما ذكره هو تأويل للخبر، فلا ملزم للأخذ به، لأنّنا ملزمون باتباع الظواهر دون الإحتمالات والتأويلات، ومن الواضح أنّ حمل الكراهية في كلام المعصوم على الكراهة العرفية هو مجرد احتمال يحتاج إلى قرينة، لأن المعصوم هو في صدد بيان الأحكام الشرعية، لا الأحكام العرفية، على أن كراهية البكاء عرفا وعدم مناسبته للوقار أمرغير دقيق، إذ لنا أن نسأل أين هو العرف الذي يستنكر البكاء؟ وهل يستنكره بالنسبة للرجال أم للنساء ؟ لا يخفى أنّ النساء من دأبهن البكاء ولا يعيبهن ذلك، والرجال أيضا يبكون في المصائب ولا يعيبهم ذلك ولا ينافي وقارهم، أجل المكروه عرفا هو مرتبة من البكاء تبلغ حد الجزع، وفي ضوء ما تقدم من عدم وجود جواب مقنع للإشكال المتقدم، فسوف يضعف الوثوق بالخبر المذكور، ويزداد وهنا على وهن، ولا سيما على مبنى القائلين بحجية الخبر الموثوق. ثانياً: مع التسليم بصحة الرواية وقابليتها لتخصيص المطلقات وإمكان توجيه كراهة البكاء الواردة فيها بشكل أو بآخر، إلاّ أنّ كون التطبير من مصاديق الجزع غير واضح، لأن التعبير عن الجزع لدى الناس لم يعهد من خلال الإدماء ولم يُعرف عن أحداً أنه كان يعبر في حالات جزعه بجرح رأسه وإدماء نفسه بشكل متعمد واختياري، وإن كان قد يحصل الإدماء ويترتب على بعض تصرفات الإنسان الجزع بشكل غير مقصود له. ثالثاً: مع التسليم بمصداقية التطبير للجزع إلا أنّ ما دلّ على حرمة التطبير ولو بالعنوان الثانوي – كما سيأتي- يخرجه عن المصداقية المذكورة إخراجاً حكمياً، لأنّ الجزع - على فرض إباحته - لا يُؤدى بطريقة محرمة، أترى هل يتوهمنّ أحد أنّ دليل الجزع يشمل صورة خلع الإنسان ثيابه بالكلية والمشي عارياً أمام الناظر المحترم باعتبار أنّ ذلك من مصاديق الجزع؟! أو يشمل صورة خلع المرأة لحجابها وكشفها لأجزاء من جسدها بنفس الإعتبار؟ وهل يتحقق الجزع بقطع الإنسان لبعض أصابع يده؟! بالطبع لا، لأنّ دليل الجزع ليس مشرّعا أو مبيحا للمحرمات، وإنما يؤدى الجزع – على فرض شرعيته في نفسه - بالطرق المشروعة، وعليه، فلا بدّ من إثبات عدم حرمة التطبير في الدرجة الأولى ليتمسك بعد ذلك بدليل الجزع لإثبات إباحته. رابعاً: إنّ المستفاد من بعض الروايات أنها وضعت سقفاً أعلى للجزع فلا يُتجاوز، ففي خبر جابر عن أبي جعفر (ع)، قال: "قلت له: ما الجزع؟ قال: أشد الجزع الصراخ بالويل والعويل ولطم الوجه والصدر وجز الشعر من النواصي" 25. فهذا هو أقصى الجزع وأشده أما ما هو غير ذلك أو أعنف منه كالتطبير فلا يدخل في الجزع، وهذه الرواية وإن كانت ضعيفة السند، إلاّ أنّها تؤيد ما ذكرناه. وهناك حجج أخرى لمؤيّدي التطبير أضعف ممّا تقدّم فلا ضرورة لذكرها. المعارضون وحججهم تمسَّك معارضو التطبير بأحد وجهين: الأول: أنَّ هذا العمل فيه إضرار واضح بالنفس، وكلّ إضرار بالنفس حرام، ويدلّ على ذلك العقل الذي يحكم بقبح ظلم النفس، وسيرة العقلاء المستقرة على ذمّ من يجرح نفسه ويدميها بغير سبب مشروع، وهكذا النصوص الكثيرة، مثل ما ورد عن إمامنا الباقر (ع): "ولكنّه سبحانه خَلَقَ الخَلْق، فعلِم ما تقوم به أبدانهم فأحلّه لهم... وعَلِم ما يضرّهم فنهاهم عنه..." 26، إلى غير ذلك من الروايات المستفيضة والأدلّة التي يُستفاد منها حرمة الإضرار بالنفس ولو لم يصل إلى حدّ الهلاك المحتم. (راجع للتوسّع في شأن هذا الدليل وما أورد عليه ما ذكرناه في كتاب: "في فقه السلام الصحيّة التدخين نموذجاً"). وقد اتّفق الفقهاء، كما ينقل السيّد محسن الأمين: أنّه إذا خاف المكلّف حصول الخشونة في الجلد وتشقّقه من استعمال الماء في الوضوء، انتقل فرضه إلى التيمُّم ولم يجز له الوضوء، مع أنّه أقل ضرراً وإيذاءً من شقّ الرؤوس بالمدى والسيوف .27 وقد تمسّك بهذا الدليل في المقام كلٌّ من السيد الأمين والسيد فضل الله، وقد اعترف الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء رحمه الله في كتابه "الفردوس الأعلى" بأنّ مقتضى القواعد الفقهية من حرمة الإضرار وإيذاء النفس وإلقائها في التهلكة هو حرمة التطبير والإدماء، وإن حاول رحمه الله في استدراك له أن يثبت الحلية في صورة ما لو صدر هذا العمل بنحو العشق وقصد الحب لأبي عبد الله الحسين(ع)، ولكن محاولته هذه غير موفقة، لأن النوايا الحسنة لا توجب تغيير الحكم الشرعي كما لا توجب تغيير الموضوع في المقام وهو الإضرار بالنفس .28 الثاني: إنّ هذا العمل لو افترضنا أنّه مباح بالعنوان الأولي، ولكن بما أنّه صار موجباً لوهن المذهب وهتكه، ورمي أتباعه بالوحشية والتخلّف والسخرية منهم، فيحرم بالعنوان الثانوي، ولا سيما أنّ الأئمّة (ع) قد أمروا أتباعهم بأن لا يفعلو ما يُسيء إليهم: "كونوا زيناً ولا تكونوا شيناً، حبِّبونا إلى الناس، ولا تُبغِّضونا، جرّوا إلينا كلّ مودّة، وادفعوا عنّا كلّ قبيح..." 29. وقد تمسّك بهذا الدليل كثيرون من العلماء والفقهاء (كالسّادة: الأمين وفضل الله والخامنئي وهاشم معروف الحسيني، والشيخ مغنيّة..)، وأقرّ آخرون بأنّ هذا العمل لو كان موجباً للهتك والسخرية فهو محرَّم، كالسيد الحكيم الذي أفتى "بأنّه لا مانع منها إن لم يكن فيها خوف الضرر... ولم تكن موجبةً للسخرية وتهييج عداوة الغير" 30، ونظير هذا الكلام قاله السيد الخوئي في الإجابة على بعض الاستفتاءات .31 وطبيعي أنّ صدق عنوان الهتك والتوهين أو السخرية - كما عبَّر السيد الحكيم - لن يدركه أو يتوجه إليه إلّا مَنْ له اطّلاع على أصداء المسألة في الواقع العالمي، وما تعكسه وسائل الإعلام من ردود الفعل تجاهها، وما تتركه من انطباعات سيّئة في نفوس الآخرين إزاء أتباع مدرسة أهل البيت (ع). وقد يقول قائل: إذا كان استهزاء الآخر وسخريته موجباً لترك هذه العادة وتحريمها، فهذا يستلزم رفع اليد عن الحجّ والصلاة وغيرهما من العبادات؛ لأنَّ الغير قد يسخر من حجّنا وما فيه من أعمال قد تبدو غريبة، مثل رمي الجمرات أو الطواف بالبيت أو السعي بين جبلي الصفا والمروة.. وهكذا قد يَسخَرْ الآخرون من صلاتنا وما فيها من ركوع وسجود.. أفهل نترك الحج والصلاة أو غيرها من الشعائر حتى لا يسخر منا الآخرون؟! والجواب: إنّ الصلاة والصيام والحجّ هي من العبادات والفرائض التي قام عليها الدين، وما كان كذلك فلا مجال لرفع اليد عنه بسبب سخرية الآخرين واستهزائهم، وأمّا التطبير فليس واجباً، وإنّما هو – إن لم يكن محرماً- على أحسن التقادير عمل مباح، والمباح يتغيَّر حكمه بتغيّر العناوين، أو طروء عناوين ثانوية عليه كعنوان الهتك أو نحوه، ولا يقاس بالواجب إطلاقاً. هذا كلّه لو كان هذا العمل (التطبير) يؤتى ويؤدى لا بقصد القربة والعباديّة، وأمّا مع الإتيان به بعنوان التعبُّد والتقرُّب إلى الله سبحانه، كما هو الملحوظ خارجاً فسوف يبرز أمامنا وجه ثالث للتحريم، ألَا وهو عنوان البدعة، فإنَّ أي عمل عبادي أو شعائري يؤتى به بكيفيّة خاصةً، إن لم يقم عليه دليل خاص، كان ابتداعاً في الدين وتقوّلاً على الله بما لم يقله. ولكن يمكن التعليق على ذلك بأنه يكفي لخروج العمل عن الإبتداع وجود الأمر به ولو كان دليله عاما، ولا حاجة للدليل الخاص، فتأمل. موقف العلماء من ضرب الرأس قد يحلو للبعض أن يقول: إنَّ القول بتحريم التطبير شاذٌّ ولم يتبنَّاه من يُعتدُّ به من العلماء والفقهاء، ولكن هذا الكلام ناشئ من قلّة الاطّلاع على آراء العلماء، فإنّ الكثير من علمائنا وفقهائنا وقفوا بوجه هذه العادة وغيرها من العادات الدخيلة، يقول الإمام الخميني في إشارة نرجِّح أنّها ناظرة إلى مسألة التطبير: "فنحن لا نقول ولا يقول أحد من المؤمنين إن كلّ عمل يقام بهذا العنوان هو عمل مقبول، بل إنّ العلماء الكبار اعتبروا الكثير من هذه الأعمال غير جائزة وكانوا يمنعون منها" .32 ويُعتبر العلامة الكبير السيد محسن الأمين من أشجع العلماء في مواجهة هذه العادة وغيرها من "المنكرات والبِدَع" – على حدِّ تعبيره – التي أدخلت على الشعائر الحسينية، وقد قاد (رحمه الله) حركةً إصلاحيةً في مواجهتها، وناصره في حركته هذه السيد أبو الحسن الأصفهاني، - مفتياً بحرمة ضرب الرأس – والسيد هبة الدين الشهرستاني والشيخ عبد الكريم الجزائري المجتهد الكبير، وهكذا العلامة الشيخ محسن شرارة والسيد مهدي القزويني وغيرهم .33 وقد اعترف الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء 34 بأنَّ مقتضى القواعد حرمة إدماء الرأس كما أسلفنا، وإن دافع عنه في بعض كتبه الأخرى، ونُقل عن السيد الحكيم قوله: "إنَّ ضرب القامة غُصَّة في حلوقنا" .35 وهكذا هاجم هذه العادة علماء آخرون، فالسيد هاشم معروف الحسني اعتبرها ظاهرةً شاذّةً ودخيلةً، وأنّها من الزيادات التي أساءت إلى المآتم الحسينية وإلى التشيّع، وقد استغلّها أعداء الشيعة للتنديد والتشويه والسخرية، وصاروا يقصدون بلدة النبطية يوم العاشر من المحرّم ويسمُّونه يوم جنون الشيعة، ويضيف بأنَّ الأئمّة بلا شكّ لا يرضون بهذه المظاهر ويتبرَّأون منها .36 وهكذا وجدنا الشيخ عبد الله نعمة يراها من الشوائب الغريبة البعيدة عن روح الذكرى وجلالها وأهدافها، وأنّها لا تتّصل بالدين بسبب أو نسب، وإنّما هي عادة دخيلة على المجتمع الشيعي امتصّها من خارجه 37، وبالجرأة عينها تصدَّى العلامة المرجع السيد فضل الله لمواجهة هذه العادة وتحريمها. وأخيراً وليس آخراً، فقد دعا سماحة السيد الخامنئي إلى محاربة هذه الظاهرة والمنع منها؛ لأنّها تسيء إلى التشيُّع وتشوِّه صورته. وإثر موقف السيد الخامنئي هذا، فقد صدرت العديد من المواقف العلمائية المؤيّدة له والداعمة لرأيه. ونختم الحديث بكلمة للشيخ محمد جواد مغنية تصوّر موقف العلماء اتّجاه هذه العادة، يقول رحمه الله: "وعلماء الشيعة بكاملها دون استثناء ينكرونها أشدَّ الإنكار، وإذا سكت عنها مَن سكت وغضّ الطرف، فإنّما يسكت خوفاً من بعض العوام الذين اتخذوها سبيلاً للاتّجار والكسب" {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران:175] .38 * تعود كتابة هذا البحث حول التطبير إلى ما يقرب من عقد من الزمن، وقد نشر حينها في جريدة بينات الصادرة عن مكتب المرجع الراحل السيد محمد حسين فضل الله وقد أجرينا عليه بعض التعليقات الطفيفة وألحقنا به بعض الإضافات. 1- أصل الكلمة مأخوذ من اللغة الفارسية، فإنّ "الطّبر والطبرزين: الفأس من السلاح، والكلمتان فارسيّتان"، (المنجد في اللغة 459، ونحوه ما في المعجم الوسيط، ج2، ص555). 2- راجع كلماتهما في سيرة الأئمّة الاثني عشر، للسيد هاشم معروف الحسني، ج2، ص107. 3- التنزيه ص31. 4- من وحي الثورة، ص167. 5- راجع كتاب: الإمام عليّ (ع) في قوتيه الجاذبة والدافعة ص165. 6- التنزيه، ص30. 7- نقلاً عن دائرة المعارف الشيعيّة، ج7، ص432. 8- راجع المكاسب المحرَّمة للشيخ الأنصاري، ج1، ص308. 9- أنظر: حديث عاشوراء للسيد فضل الله ، ص134. 10- الملحمة الحسينيّة، ج1، ص35. 11- فتاوى العلماء في الشعائر الحسينيّة، ص100،141. 12- بحار الأنوار، ج45، ص114. 13- زينب الكبرى، ص112. 14- الإرشاد، ج2، ص94 ورواه الطبري. 15- راجع الوسائل، ج15، ص583، الباب 31 من أبواب الكفّارات الحديث، ومستدرك الوسائل، ج2، 449، الحديث 10،6،1 من أبواب الدفن. 16 أنظر: ذكرى الشيعة في أحكام الشريعة للشهيد الأول محمد بن مكي الجزيني ج2 ص56. 17- أمالي الصدوق، ص190. 18- فإن الصدوق رواها عن شيخه جعفر بن محمد بن مسرور، وهذا الشيخ وإن ترضى الصدوق وترحم عليه، لكنّ ذلك لا يدل على التوثيق، طبقاً للمبنى الرجالي المشهور أنظر: معجم رجال الحديث ج5 ص90. 19- وسائل الشيعة ج14 ص505 من أبواب المزار ح10. 20- وقع الخلاف بينهم في صحة هذه الرواية، فقد وصفها صاحب الجواهر بالحسنة (جواهر الكلام ج4 ص365)، وكذلك السيد الخوئي رحمه الله (أنظر: التنقيح في شرح العروة الوثقى ج9 ص365)، ووصفها صاحب الحدائق بـ "الرواية"، مع أنّ دأبه التصريح بصحة الروايات أو وثاقتها، لكن في صراط النجاة ج3 ص443 وصفت بالصحيحة، وظاهر الشيخ آصف محسني في كتابه "الأحاديث المعتبرة في جامع أحاديث الشيعة" ص82و291 تضعيفها. أقول: ربما كان مرد الخلاف بينهم في توثيق الرواية إلى الإشكال في وثاقة رجلين واقعين في سند الرواية، وهما : الأول: محمد بن جعفر بن موسى بن قولويه، والد جعفر بن محمد بن قولويه صاحب كامل الزيارات، فمحمد هذا لا تصريح بوثاقته إلاّ أن يكتفى برواية ابنه جعفر عنه في كامل الزيارات حيث إنّه قد التزم بأن لا يروي في كتابه إلاّ عن ثقة، وهو قد أكثر الرواية عن والده مباشرة وبدون واسطة، (أنظر: معجم رجال الحديث ج18 ص174-175) ويؤيد ذلك قول النجاشي فيه إنه من خيار أصحاب سعد بن عبد الله الأشعري القمي. الثاني: أبو محمد الأنصاري، وهذا لو كان متحداً مع أبي محمد الأنصاري الذي يروي عنه محمد بن عيسى العبيدي ومحمد بن عبد الجبار، والذي هو عبد الله بن إبراهيم الأنصاري كما حقق التستري وغيره (أنظر: قاموس الرجال ج6 ص210-211)، فيمكن توثيقه ، لشهادة محمد بن عبد الجبار بأنه "كان خيّراً" (الكافي ج3 ص127)، وأمّا قول نصر بن الصباح فيه "مجهول لا يعرف" فقد ردّه السيد الخوئي بأنه "لا يعتني به، لأنّ نصر بن الصباح ضعيف" (معجم رجال الحدث ج23 ص40-42) وقد مال صاحب قاموس الرجال أيضا إلى وثاقة أبي محمد الأنصاري، مقدماً تزكية محمد بن عبد الجبار له على غمز نصر بن الصباح فيه (قاموس الرجال ج11 ص1494 وج6 ص211)، هذا مع أنّ دلالة "كان خيّراً" على التوثيق لجهة عدم الكذب قريبة ولكن دلالتها على التوثيق لجهة العنصر الآخر المعتبرفي الوثاقة وهو الضبط لا تخلو من تأمل،ولا سيما أن هذا الكلام لم يرد في مقام الجرح والتعديل، ومما يبعث على الشك في وثاقته "أنّ ابن الغضائري" قال في ترجمته: "يلقى عليه الفاسد كثيراً... ويجوز أن يخرج شاهداً" (قاموس الرجال ج6 ص209)، وإن كان السيد الخوئي رحمه الله لا يعتد بتضعيفات ابن الغضائري، هذا كله لو ثبت أن أبا محمد الأنصاري في روايتنا متحد مع الأنصاري الذي يروي عنه العبيدي ومحمد بن عبد الجبار، لكنّ الاتحاد غير واضح، لأنه لم نجد رواية للحسن بن محبوب الزراد عن أبي محمد الأنصاري إلاّ في روايتنا هذه، وهكذا لم نجد رواية للأنصاري عن معاوية بن وهب إلاّ روايتنا هذه. 21- ذكر ذلك السيد فضل الله رحمه الله ، أنظر: التعليقات التي علّقها على أجوبة الشيخ التبريزي على بعض الإستفتاءات الموجهة إليه ص57،هذا ولكن يمكن التأمل في حكم العقل بقبح الجزع وكونه من مصاديق حكمه بقبح الظلم. 22- أنظر وسائل الشيعة ج3 ص282 الباب87 من أبواب الدفن.. 23- الحدائق الناضرة ج4 ص 164. 24- التنقيح في شرح العروة الوثقى ج9 ص342. 25- وسائل الشيعة ج3 ص272 ح1 ب83 من أبواب الدفن. 26- الوسائل الباب 1، من الأطعمة أبواب المحرمة، الحديث 1. 27- التنزيه، ص28. 28- راجع لمعرفة مزيد من التفاصيل حول رأيه هذا، والتعليق عليه : ما ذكرناه في كتاب: "عاشوراء ..قراءة في المفاهيم وأساليب الإحياء". 29- بحار الأنوار، ج75، ص 348. 30- فتاوى العلماء في الشعائر، ص88. 31- المسائل الشرعية، ج2، ص339. 32- كشف الأسرار، ص169. 33- أعيان الشيعة، ج10، ص178. 34- الفردوس الأعلى، ص21. 35- نقل عنه ذلك السيد مرتضى العسكري، راجع: حوارات في الحرمين، ص270. 36- من وحي الثورة الحسينيّة، ص167. 37- روح التشيُّع، ص499. 38- الإسلام مع الحياة، ص68.
=======
الفقهاء وذهنية الاحتياط
في كتابه (الشريعة تواكب الحياة) ص197، حول ذهنيّة الاحتياط عند بعض الفقهاء يقول سماحة الشيخ حسين الخشن: رغم أنّ المتأمّل في الإسلام بقواعده الفقهيّة العامة وقوانينه التشريعيّة التفصيليّة يدرك أنّ طابعه العام هو التيسير والتسهيل، إلاّ أنّ ذلك لم ينعكس بشكلٍ بيّنٍ في فتاوى الفقهاء ورسائلهم العمليّة، لأنّ هناك ظاهرة بارزة في الفقه الإمامي، وهي ظاهرة لجوء الفقيه إلى الاحتياط في الفتوى، بحيث إنّ المكلّف محكومٌ بالعمل بالاحتياط في نسبة كبيرة من الفروع، وهذه الظاهرة ملحوظة عند فقهاء الشيعة فقط، ولا تظهر عند المذاهب الأخرى إلاّ نادراً، كما وأنّها أكثر شيوعاً عند الفقهاء المتأخرين منها عند المتقدّمين (قضايا إسلامية معاصرة، العدد 9 و10، ص29). أسباب ظاهرة الاحتياط أمّا عن أسباب شيوع ظاهرة الاحتياطات الكثيرة في الفقه الشيعي، فيرى العلامة الفقيه السيّد محمّد حسين فضل الله أنّها قد تكون "ناشئة في العمق من عدم إحساس الفقيه بالمسؤوليّة عن المكلّفين في حركته الاجتهاديّة واستغراقه في مسؤوليّته عن نفسه، حتى في المورد الذي يملك فيه الحُجّة، فيتعامل مع الفتاوى التي يصدرها للمكلّفين كما يتعامل مع احتياطاته الذاتيّة.. وقد امتدّت هذه الظاهرة لدى الفقهاء بالمستوى الذي يسجّلون فيه الاحتياط لمجرّد مخالفة بعض العلماء للرأي، حتّى لو لم يكونوا من المشهور، أمّا الشهرة الفتوائيّة، فقد تمثّل الأساس للاحتياطات الفتوائيّة، وكذلك شبهة الإجماع، أو دعوى الإجماع أو الإجماع مع احتمال المدرك، مع قيام الحُجّة لهم على الفتوى الترخيصيّة" . (م.ن، عدد8، ص23). ويُرجع بعض العلماء أسباب شيوع الظاهرة إلى عدّة أمور: الأمر الأول: النظر إلى الشريعة على أنّها شريعة الأفراد، لأنّ الفقيه الذي يُفتي بالاحتياط ينظر إلى الفرد الذي يمكنه أن يحتاط، أما لو رأى أنّ هذا الحكم موضوع للأمة أو لمجتمع بكامله، فإنّ الاحتياط يصبح كارثة على المجتمع أو يصبح مستحيلاً.. الأمر الثاني: إنّ الفقيه يتعاطى الإفتاء بعقليّة حذرة، ويعتبر كما اعتبر السيد الخوئي (رض) أنّ الفقيه لا يجب عليه أو لا يتعيّن عليه أن يبيّن الرُّخص، بل عليه أن يُبيّن الأحكام الإلزاميّة فقط، فيُفتي في موارد الرُّخص بالاحتياط، كما أنّه يتورّع من الإفتاء في موارد عدم وضوح الدليل.. الأمر الثالث: في بعض الحالات تكون هذه الظاهرة ناشئة من النظر إلى نصوص السُّنّة، باعتبارها مُطْلَقات وعمومات ثابتة بصرف النظر عن خصوصيّات الزمان، وفي حالات أخرى من التأثّر بالإجماعات والشهرات التي لم يقم على حجّيّتها دليل (م.ن، عدد 9 و10، ص30). متى يكون الاحتياط مقبولاً ومتى يكون مرفوضاً؟ وإنّ كان الاحتياط عبارة عن اللاموقف في المسألة الشرعية، فقد يكون مقبولاً وتدعو الحاجة إليه "في موارد التباس الدليل وعدم الوصول إلى الحُجّة من دون أيّ أساس للوضوح الذي تنطلق الفتوى منه، ولكن لا بدّ من الاقتصار على ذلك، والانفتاح على الفتوى الحاسمة في الموارد الوَرَعيّة والفتوائية التي لا تستند إلى حُجّة" (م.ن، عدد8، ص23). كما أنّنا لا نمانع من الاتجاه إلى الاحتياط في الحوادث التي تقلّ البلوى بها وتقضي ظروف الجماعة أو الشخص الحذر من تعدّي حدود الله، ويكون الاحتياط فيها ممكناً من غير حرج ولا ضرر على المكلّف الشخص أو الجماعة، بحيث يكون الاحتياط وسيلة لحفظ حرمة الشريعة وسلامة سلوك الفرد وليس كتماناً للحقيقة الشرعية، وأمّا إذا كان على الحكم الشرعيّ دليلٌ بيّن، وكانت دائرة البلوى فيه عامة تشمل الأمّة كلّها أو تكاد، والاحتياط فيه يؤدّي إلى الحرج الشديد، فإنّ الاحتياط في هذه الحالة قد يكون على خلاف مقصد الشارع المقدّس، لأنّه يؤدّي إلى تفويت مصلحة الحكم الشرعي على الأمّة، بل ربّما أصبح كارثة على المجتمع، كالاحتياطات في قضايا علاقة المرأة بالمجتمع، أو علاقة المسلمين بغيرهم (الستر والنظر، للشيخ شمس الدين، ص235) فعندما يفتي الفقيه مقلّديه بالاحتياط في موضوع النظر إلى وجه المرأة ولو كان بدون تلذّذ أو ريبة، أو بلزوم تغطية الرجل الجميل وجهه إذا كان مظنّة لفتنة النساء به، فإنّ هذه الفتاوى ستغدو مصدراً للحرج والعُسر على الناس ولنتصوّر مدى العُسر الذي يعانيه إنسانٌ مسلم فرضت عليه الظروف العيش في بلدان الغرب عندما يفتيه الفقيه احتياطاً بنجاسة الكفّار، ونجاسة كلّ ما لاقوه إلى الملاقي الخامس والسادس، مع قيام الدليل على الطهارة في البحث العلمي، أَوَليس ترك الاحتياط في هذه الموارد وأمثالها هو المنسجم مع مبدأ الاحتياط؟ وقد أجاد المحقّق القمّي صاحب القوانين عندما قال: "وكلّ من يبتلى بالمسائل الطارئة بين الناس يعلم أنّ الاحتياط لا ينفع" وأضاف في جوابٍ له على رسالة من قبل الملا علي النوري الذي كان يرى تبعاً لبعض الفقهاء أنّه "لا مجال في أمثال هذا الزمان إلاّ للاحتياط" يقول: "لم أستطع إلى الآن أن أفهم إمكانية أن يأتيَ الإنسان بجميع أو أغلب التكاليف بالاحتياط من دون خوف" ثم قال القمّي: "الاحتياط في بعض الموارد مستحيل، ويتعيّن إمّا الاجتهاد أو التقليد، مثلاً في الجهر والإخفات في بسم الله الرحمن الرحيم في الصلاة الإخفاتية، فالبعض قال بوجوب الجهر وبعضٌ قال باستحبابه، ولست أدري هل الاحتياط في الجهر أم في الإخفات، في الفعل أو الترك خوف العذاب... وأنتم إذا لم تريدوا الاتكاء على نفي العُسر والحرج، وتريد أن تقضي صلاة عمرك، وفي كلّ يوم تصلّي أيضاً الصلوات الإخفاتية أداءً فكيف يمكنك ذلك؟" ثم يذكر له مجموعة من المحاذير المترتبة على سلوك طريق الاحتياط، ويضيف: ثمّ ما المراد من الاحتياط، فإن كان المراد منه تحصيل اليقين فهذا غير ممكن، ولو أمكن في مورد فليس مما يشفي العليل، لأنّ غالب العبادات مركبات مثل الوضوء والغسل والصلاة والصوم والحجّ والجهاد، بل كذلك قاطبة، فإذا كان أحد الأجزاء ظنّياً، فالمركب يكون ظنّياً لا يقينياً لأنّ الكل ينتفي بانتفاء الأجزاء.." إلى أن يقول: "ثم بناءً على الآية الشريفة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}[التحريم: 6]، فبماذا تأمرون عيالكم الذين يتبعونكم، فإنّهم سيتبعونك، إمّا بأن يقلّدوك أو يحتاطوا كما تحتاط.. والمرأة عليها مواكبة أمر البيت والأطفال والحفاظ على حقوق الزوجية ولوازمها، والبنت الصغيرة في أول التكليف كيف تحمّلونها هذه المشاقّ والحال أنّ الحقّ تعالى قال في القرآن المجيد {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}[الحج: 78] {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}[البقرة: 185] والنبي (ص) قال: الشريعة سمحة سهلة، فإذا قال الله: لماذا تحمّلون عبادي المشاق ولم أرِدْ منهم إلاّ اليسير، وإذا قال النبي(ص): إنّ ديني سهل فلماذا تعقّدون الأمر على أمّتي وخصوصاً الضعفاء منهم فبماذا تجيب؟ وإذا أتيت بأدلّة حسن الاحتياط ففيها ألف كلام، وغاية ما يسلم به الاستحباب لا غير، إلى غير ذلك من مساوئ الالتزام بالاحتياط. ويضيف: "هذا في العبادات، أمّا المعاملات والمرافعات فإنّ الألم أشدّ والمصيبة أعظم، إذ قد تحتاج إلى قطع النزاع بين شخصين لا مجال للصلح بينهما، وفي ترك الحكم مفاسد عظيمة من قتل النفوس وسفك الدماء وهتك الأعراض... "(قصص العلماء، ص172-175). تبرير ظاهرة الاحتياط وقد تبرّر ظاهرة الاحتياط ببعض التبريرات، منها: أنّ الفتوى بالترخيص قد تخلق جوّاً من التساهل والتسامح في السلوك، ما يدفع بالكثير إلى تجاوز حدود الرخصة الشرعية إلى المحرّمات تذرّعاً بفتاوى الحلّ، ولهذا فالأجدر الاحتياط بحرمة اللعب بآلات القمار- كالورق- بدون رهان حتّى لا يجرّ ذلك إلى اللعب بها على وجه قماريّ، كما أنّ الأَوْلى الحكم احتياطاً بنجاسة أهل الكتاب حتى لا يفضي القول بطهارتهم إلى استسهال تناول مآكلهم ومشاربهم التي قد لا تخلو من المحرّمات أو نحو ذلك. وهذا يقال في سائر الموارد. ولكنّ هذا المبرّر غير مُقنع، فإنّ غير الملتزمين بالشرع لا ينتظرون الأحكام الترخيصيّة ليبرّروا بها عدم التزامهم، كما أنّ تعدّي بعض الناس في استعمال الرخص لا يغيّر حكم الله ويصير الحلال حراماً، لا سيّما أنّ الله يحبّ للعبد أن يأخذ بِرُخَصِه كما يُكره له ارتكاب معاصيه، على ما جاء في الحديث النبوي، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}[المائدة: 87]. وقد يبرّر اتجاه الفقيه إلى الاحتياط أنّه بمقتضى أدلّة حجّية الفتوى، فإنّ ما يجب على الفقيه بيانه هو الأحكام الإلزامية فقط دون الأحكام الترخيصيّة، ولكنّه رأي لا يعرف له وجهٌ بعد ملاحظة ما دلَّ على وجوب بيان أحكام الله تعالى والأحكام الترخيصيّة كالإلزاميّة ممّا يتوقّف عليه انتظام حياة الناس واستقامتها على جادة الشرع (الستر والنظر، ص237). النتائج السلبية لظاهرة الاحتياط ولئن كان باعث الفقهاء على الإفتاء بالاحتياط هو ضمان الخلاص الأخروي لهم وربما لمقلّديهم أيضاً، فإنّ له في المقابل نتائج سلبية عديدة: 1- منها، أنّ الاحتياط في الموارد العامة البلوى يُوقع المكلّفين في العسر والحرج ويؤدّي بالتالي إلى تمرّد الكثيرين على الحكم الشرعي وعدم امتثاله، بل ربّما خلق لهم عقدة من الشرع ذاته، ولعلّ هذا الظاهرة هي إحدى أسباب شيوع مرض الوسوسة في قضايا الطهارة والصلاة وغيرها التي يُبتلى بها بعض المؤمنين، ما يؤدّي إلى تعقيد حياتهم الشخصية والاجتماعية، لأنّ هذا الظاهرة قد أدخلت الكثير من الأحكام الشرعيّة غير التحريميّة في ذهنيّة المكلّفين إلى أحكام تحريميّة لأنّها كذلك من حيث النتيجة. 2- إنَّ كتمان الأحكام الشرعيّة الترخيصيّة، والاحتياط في مواردها، يعطي صورة مغايرة عن واقع الإسلام وطبيعته التيسيرية، ما يُوجب ابتعاد الكثيرين عنه ونفورهم منه. ولهذا فإنّ إصدار الفتاوى الترخيصية في الموارد التي قامت الحجّة عليها: "يحقّق نتيجتين: إحداهما عملية: من حيث ارتباطها بعمل المكلّف وتسهيل أموره وإبعاده عن العسر والحرج، والثانية فكرية: وهي تقديم الصورة الصحيحة للإسلام من خلال أحكامه الأصيلة". (قضايا إسلامية معاصرة، عدد 8، ص23). 3-إنّ نزعة الاحتياط لا تتناسب مع حركيّة التشريع الإسلامي ومرونته التي تفرضها حركية الحياة وتطوّراتها البالغة التعقيد. 4-إنّها تؤدي إلى إلغاء أيّ رؤية لمقاصد الشريعة. 5-إنّها تخلق انكماشاً في ذهنيّة الفقهاء أنفسهم، ما ينعكس سلباً على حركة الفقه، لا سيّما أنّ هذه النزعة شكّلت ذهنية عامة لدى الفقهاء تعتبر أنّ الترخيص المخالف للمشهور شذوذٌ فقهي لا بدّ من تجنّبه، وهذا ما ساهم ويساهم في خنق روح الإبداع، حذراً وتخوّفاً من تبعات الجهر بالمخالفة التي أقلّها الرمي بالشذوذ وتأسيس فقه جديد والخروج على المألوف ونحو ذلك. شجاعة النطق بالحق "وفي ضوء ذلك، فإنّ على الفقيه أن يملك شجاعة النطق بالحقّ فيما ثبت له من الحقّ، لا سيّما إذا كانت المسألة تتعدّى حالته الذاتية إلى الحالة العامة في مسؤولية الآخرين ومسؤولية إعطاء النظرة الصحيحة عن الإسلام، وإذا كان يلاحظ الورع والتقوى في أموره، فعليه أن يواجه المسألة في دائرتين: الأولى: إنّ الورع والتقوى يمثّلان العنوانين الخاضعين لقيام الحُجّة لدى الإنسان في أيِّ أمر من الأمور، فيكون اتباعه للحُجّة مصداقاً لهذين العنوانين، لأنّه حينئذ يُحرز الجدال عن نفسه، في هذا المورد أمام الله، لأنّه ليس مكلّفاً بالواقع في بُعده العميق بعيداً عن مصادر الاجتهاد الموثوقة، كما أنّ قاعدة (مَن اجتهد فأصاب فله أجران، ومَن اجتهد فأخطأ فله أجرٌ واحد)، تُسبغ الشرعيّة على عمل المجتهد وتحرّره من عقدة الخطأ في إصابة الواقع. الثانية: إنّ على هذا الفقيه أن يبتعد عن موقع المرجعية في الفتوى، لتكون احتياطاته لنفسه، فلا يفرضها على الناس ليربك حياتهم ويعقّد أمورهم من دون قاعدة علمية(م.ن، عدد8، ص23 و62).
========
البدع منشأ الفتن
سماحة العلامة المحقق الشيخ حسين الراضي جاء في الحديث الصحيح عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ: عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام، قَالَ: "خَطَبَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام النَّاسَ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا بَدْءُ وُقُوعِ الْفِتَنِ أَهْوَاءٌ تُتَّبَعُ، وَأَحْكَامٌ تُبْتَدَعُ، يُخَالَفُ فِيهَا كِتَابُ اللَّهِ، يَتَوَلّى فِيهَا رِجَالٌ رِجَالًا، فَلَوْ أَنَّ الْبَاطِلَ خَلَصَ، لَمْ يَخْفَ عَلى ذِي حِجًى، وَلَوْ أَنَّ الْحَقَّ خَلَصَ، لَمْ يَكُنِ اخْتِلافٌ، وَلكِنْ يُؤْخَذُ مِنْ هذَا ضِغْثٌ، وَمِنْ هذَا ضِغْثٌ، فَيُمْزَجَانِ فَيَجِيئَانِ مَعاً، فَهُنَالِكَ اسْتَحْوَذَ الشَّيْطَانُ عَلى أَوْلِيَائِهِ، وَنَجَا الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ الْحُسْنى". الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) يحصر وقوع الفتن الكبرى التي تهدّ الأمة وتفتّت وحدتها في أمرين مهمّين: 1- الأهواء التي تُتَّبَع: وهذا يشمل مختلف الأفكار الهدّامة والثقافات المنحرفة، اجتماعية وسياسية وعقدية ومذهبية واقتصادية، وكلّ ما يجرُّ المجتمع إلى الفتنة والاقتتال. 2- الأحكام المبتدعة: التي لا أصل لها في الكتاب الكريم والسُّنّة النبوية وقد ركّز على: أ- مخالفة الكتاب الكريم، وهذه كارثة كبرى وانحراف صارخ. ب- التقليد الأعمى للرجال، فقياسهم على معرفة الحقّ عندهم هو معرفة رجال معينين فلا يعرفون الحقّ إلا من خلالهم فما يقوله فلان هو الحقّ، وما لم يقله فهو باطل، عكس ما يقوله أمير المؤمنين عليه السلام: "إعرف الحقَّ تعرف أهله" أي أنّ الحقَّ هو الذي يحدّد الرجال الصالحين لا أن نقيس الحقّ على الرجال. ويخرج الإمام بنتيجة وهي أنَّ الباطل لو كان خالصاً لعرفه أكثريّة الناس ولما اشتبه عليهم، ولو كان الحقّ خَلُصَ من الشوائب والشبهات لما حصل الاختلاف بين الناس، ولكن يؤخذ من الحقِّ جزءٌ ومن الباطل جزء فيُمزجان، فعندها يختلط الحابل بالنابل، والحقّ بالباطل، فيقع الناس في الفتن، فمَنْ كان من أولياء الشيطان وقع في تلك الفتنة، ومَنْ كان له من الله عناية ولطف تحت أيِّ عنوان فتسبق له من الله الحسنى، فينجو من تلك الفتن والشُّبهات.
==========
التراشق والمهاترة بين السُّنّة والشيعة
في مطلع العهد الصفوي كان (القزلباشية) الصفوية يجوبون شوارع وأزقة المدن وهم يصيحون بصوت واحد: اللعنة على أبي بكر، اللعنة على عمر، وكان يتعيّن على المارّة أن يردّدوا هذا الشعار معهم، وكلّ مَنْ يتردّد في ذلك سيغرز الحراس حرابهم في صدره لإخراجه من حالة الشك والتردّد. الآن، لا شك أننا نرفض هذا العمل ونعتبره وحشيّاً وإرهابياً، ولكنه من الناحية الإعلامية كان له أثر لا يقبل الإنكار في نفسية الشيعة المعبّأة بالعقد، وهو بالحقيقة يمثّل ردّ فعل طبيعيّاً على الطعنات والمظالم التي تعرّضوا لها طوال التاريخ، والآن تأتي السلالة الصفوية شاهرة سيفها وهي تنادي بالثأر من السنّة والانتقام لظلامة أهل البيت وشهداء الشيعة، فما ظنّك بعوام الناس من الشيعة والذين لا يمتلكون عادة القدرة على تحليل المسائل الفكرية والتاريخية والعقائدية بعمق ودراية، ولا يدركون أنَّ هذا البقال أو العطّار السنّي لم يتورّط في أحداث السقيفة ولم يشهد كربلاء، هذا الجهل والتعصّب الطائفي كانت القوى السياسية والدينية الرسمية تستثمره في تحقيق أهدافها وتمرير مخطّطاتها وذلك عن طريق سحب الاختلاف العقائدي من دائرة أهل الخبرة والتخصّص إلى دائرة العوام ليتحوّل من خلاف فكري إلى خصومة واختلاف بين الترك والفرس والعرب والعجم والمسلمين والهندوس وغير ذلك. ومع ظهور الحركة المنادية بإبادة السنة في إيران والمتستّرة بالتشيع وولاية علي (ع) كان الملالي في الدولة العثمانية يفعلون الشيء نفسه بذريعة الدفاع عن الإسلام وسُنّة النبي فيرتقي واحدهم المنبر ويشمّر عن ساعده إلى المرفق ويغمرها مملوءة بالشيرة (نوع من القطر) ثم يخرجها ليغمرها في قارورة أخرى مملوءة بالذرة ويخرجها مرة ثانية ويتوجّه إلى مخاطبيه بالقول كم من الذرة علقت بيدي هذه؟! وعندما يحار الحاضرون في الجواب نظراً لكثرة العدد يضرب صاحبنا ضربته بعد أن نجح في التأثير نفسياً عليهم، فيصدر فتواه بأنّ من يستطيع أن يحظى برافضيّ ويقتله، فإنّ نصيبه من الحسنات سيكون بقدر الذي علق بساعد الملّا!! ونستطيع أن نحدس حجم الحقد الذي سيعتمل في نفوس الحاضرين تجاه الشيعة بحيث يتمنى كلّ واحد منهم أن تتسنّى له فرصة الظفر بأحد الرافضة ليتقرّب به إلى الله سبحانه وتعالى ويحصل على رصيد هائل من الحسنات! إنَّ الخلاف بين الشيعة والسنّة هو في الأساس خلاف فكري وعلمي وتاريخي يرتبط بطريقة فهم حقيقة الإسلام، وكلّ ما يدّعيه الشيعة في هذا المجال– وهو ادّعاء وجيه– أنّه ينبغي لمعرفة حقيقة الإسلام الاقتداء بأهل بيت النبي وعلي (ع) لأجل أن تكون المعرفة مباشرة ومن دون واسطة، وهذا بحدّ ذاته كلام معقول، كما يدّعي الشيعة أنّ مواصلة طريق الرسالة وروحها بعد النبي مرهونة باتباع علي (ع) والاعتراف به خليفة بعد النبي دون غيره ممّن عجزوا عن مواصلة الرسالة بروحها حتى آل أمر المسلمين إلى ما آل إليه مما يعرفه الجميع. وهذا أيضاً كلام معقول، غير أنّ هذا المعقول أصبح في زماننا هذا لعبة بيد قوّتين سياسيتين متشابهتين ومتخالفتين في آن واحد وهما الدولة الصفوية والدولة العثمانية، وتحوّل بالتالي إلى أداة لزرع الأحقاد بين رعايا الدولتين، والى درجة تثير السخرية والتندّر أحياناً كونها تتنزّل إلى مستوى لعب الأطفال. إنّ هذا النمط من التراشق والمهاترة هو الذي خيّم على مناخ الخلاف الفكري والعقائدي بين السنة والشيعة، وانعكس بشكل بارز على شكل تهم وافتراءات وسباب وشتائم، يأنف عنها أي إنسان فضلاً عن الإنسان المعتقد بعلي وبإسلام علي الذي وضع ضوابط أخلاقية رفيعة لأساليب الاحتجاج والمناقشة، ومنع من اتباع هذه الأساليب المستهجنة في الدفاع عن المبدأ وإثبات حقانيّته، وبذلك أصبح سائغاً جداً لدى الشيعي الإيراني أن يدع التركيز على الفضائل الأخلاقية والإنسانية لعليّ ويغفل الإشارة إلى المزايا الاجتماعية الفريدة لمبدأ الإمامة كنظام إلهي لقيادة المجتمع، ويقتصر على اللجوء إلى التنفيس عن عقده وأحقاده بلغة سوقيّة وألفاظ مبتذلة وافتراءات وأقاويل مقزِّزة بحقّ الخلفاء، ويعمد إلى اختلاق فضائل وكرامات فارغة للأئمة توجب استغفال عقول الناس وتخديرهم، وتحول دون تمكينهم من معرفة عليّ حقّ معرفته، وتبقيهم أسرى لأغلال الجهل والمذلّة. من كتاب التشيّع العلوي والتشيّع الصفوي للدكتور علي شريعتي ص75- 79
======
عقيدة التقمص
الشيخ حسين الخشن 1- التقمص تاريخاً ومفهوماً إنّ الاعتقاد بالتقمص هو فكرة آمنت بها بعض الطوائف والفرق قديماً وحديثاً، وينسب الاعتقاد به إلى بعض الفلاسفة القدامى والمـتأخرين، ومن الفرق الدينية التي آمنت بفكرة التقمص وعرفت به طائفة الدروز، في المقابل فإنّ الديانات السماويّة التوحيدية كافة رفضت فكرة التقمص رفضاً قاطعاً. والتقمص يعني انتقال النفس أو الروح من جسم بشري إلى جسم آخر، فمع موت الإنسان المتحقق بخروج روحه من جسده فإن هذه الروح تحلّ في جسم طفل وليد، فالجسم هو بمثابة القميص للروح تلبسه لفترة معينة ثم عندما يبلى القميص (الجسد) تنتقل الروح إلى قميص آخر، والتقمص هو أحد أصناف تناسخ الأرواح المطروح عند علماء الكلام والفلاسفة، فإنّ التناسخ - عندهم - تارة يكون بانتقال نفس الإنسان إلى جسد إنسان آخر ويسمى ذلك بالنسخ، وأخرى يكون بانتقالها إلى جسم حيوان ويسمى ذلك بالمسخ، وثالثة يكون بانتقلها إلى نبات ويسمى بالفسخ، ورابعة يكون بانتقالها إلى جماد، ويسمى بالرسخ[1]. ونشير هنا إلى أنّ قلّة المصادر "الدرزية" المتبناة من قبل المؤسسة الدينية الرسمية تجعلنا أمام ضبابيّة في موقف الدروز إزاء بعض النقاط التفصيلية المتصلة بموضوع التقمص، من قبيل: - هل أنّ النفس تبقى خالدة ولا تموت وتنتقل على الدوام من خلال التقمص من جسد إلى آخر ويستمر الأمر على هذه الحالة إلى ما لا نهاية، أو أنّ التقمص والتناسخ ينقطع في مرحلة معينة، وهي مرحلة قيام الناس لرب العالمين؟ - متى تحل الروح المفارقة في الجسد الجديد، هل تحل فيه وهو في الرحم أو بعد الولادة مباشرة؟ وإذا كانت تحل فيه وهو في بطن أمه فهل تحل فيه عند انعقاد النطفة أو بعد اكتمال صورة الجسد الإنساني؟ 2-الموقف الإسلامي من التقمص ولأننا تعودنا الصراحة والوضوح في بيان مواقفنا وطرح أفكارنا، فإننا نرفض فكرة التقمص ولا نقبل بها، لأنّ الدليل لا يساعد عليها، بل إنّ علماء الكلام[2] قد ذكروا عدة وجوه في إثبات استحالة التناسخ بأنواعه المشار إليها، وإليك بعض الملاحظات النقدية التي بالإمكان أن تسجل على هذه الفكرة: أولاً: إنّ القائلين بالتقمص وتناسخ الأرواح هم بين رأيين: الرأي الأول: أن يكون اعتقادهم بتناسخ الأرواح مبنياً على إنكار مبدأ المعاد، أو متضمناً لذلك، كما ينسب ذلك إلى القائلين بالتناسخ، فإنّهم لا يعتقدون بالبعث والمعاد ولا يرون أنّ ثمّة يوماً خاصاً للحساب أو أنّ هناك جنة وناراً، أجل إنّ الثواب أو العقاب إنما يحصلان في الطور الجديد الذي ستنتقل إليه الروح بعد التقمص، ليُعاقب الكافر أو العاصي من خلال انتقال روحه إلى جسد آخر يعيش معه حياةً ملؤها الشقاء والمعاناة والألم، ويثاب المطيع من خلال انتقال روحه إلى جسد آخر يعيش معه في طور جديد حياةً روحية هانئة. وهذا القول مرفوض رفضاً قاطعاً، لأنّ معناه - كما هو واضح - إنكار المعاد، والحال أنّ الإيمان بالمعاد هو من أسس الاعتقاد الديني التي تلاقت عليها رسالات السماء كافة، وقد عدّ المسلمون الإعتقاد بالمعاد أصلاً من أصول الدين . الرأي الثاني: أن لا يكون اعتقادهم بالتقمّص مختزناً ولا متضمناً إنكار عقيدة المعاد، بل يكون المقصود بالتقمّص هو عملية تناسخ مؤقتة للأرواح بهدف إعطاء فرصة ثانية أو ثالثة .. للإنسان تأكيداً لاختباره واختياره قبل يوم المعاد. وهذا الرأي وإن كان أهون حالاً من الرأي الأوّل، لكنه رأي لا يعضده الدليل المقنع لا من العقل ولا من النقل، بل إنّ الدليل النقلي قائم على بطلانه، فالنصوص الإسلامية الموثوقة تدل على أنّ الروح تنتقل إلى باريها في عالم جديد وهو عالم البرزخ، وليس إلى جسد إنسان آخر، وتدلّ هذه النصوص على أنّ كل مولود يفتح عينيه على الدنيا، فإنّ روحاً جديدة تنفخ فيه وتحلّ في جسده، وليست روحاً قديمة تحل فيه عقيب مفارقتها لجسد إنسان آخر انتقل إلى دار الفناء. ثانياً: إذا كان القائلون بالتقمّص يعتقدون أنّ " البشر لا يتناقصون ولا يزيدون وأنّ الأرواح معدودة منذ بداية الخلق"[3] فكيف لهم أن يفسّروا لنا حقيقة لا غبار عليها، وهي حقيقة تكاثر الخلائق جيلاً بعد جيل، بحيث إنّ عدد الناس كما هو معلوم وتؤكده الإحصاءات هو في تزايد مستمر وقد شارف العدد في هذا الزمن على الستة مليارات نسمة؟ فكيف يحصل التكاثر مع أنّ تناسخ الأرواح لو كان صحيحاً لكان لازم ذلك أن لا يتكاثر الجنس البشري وأن تبقى أفراده محدودة وثابتة، لأنّ المولود الجديد – طبقاً لنظريّة التقمص - لا تحلّ فيه روح جديدة، بل روح سابقة كانت تسكن في جسد آخر؟ ثالثاً: هل أنّ القميص (وهو الجسد) ضروري للنفس أو الروح بحيث إنّها لا تستغني عنه في بقائها؟ أو أنه ليس ضرورياً لها ويمكنها الاستغناء عنه ولو لفترة معينة ؟ إذا قيل: إنّها لا تستغني عنه، فهذا يعني أنّه وعند موت إنسان فإنّ روحه - لا محالة - سوف تنتقل مباشرة ودون انتظار إلى جسد جديد؟ وهنا يواجه هذه النظرية اعتراض وهو أنه في بعض الأحيان يحصل لنا اليقين بعدم ولادة أشخاص بعدد الذين ماتوا، كما في الحالات التي تحصل فيها إبادة جماعية تطال عشرات أو مئات الآلاف من الناس في خلال دقائق معدودة، كما في صورة إلقاء القابل النووية على المدن الكبيرة والتي تبيد الآف الناس فوراً، فأين تذهب هذه الأرواح أو النفوس المفارقة يا ترى؟ وكيف تبقى بلا جسد مع أنّ الجسد ضروري بالنسبة إليها كما هو المفروض!؟ وأما إذا قيل: إنّ الروح بإمكانها أن تستغني عن الجسد (القميص) فإنّ السؤال الذي يطرح نفسه أنّه لو لم يولد إنسان جديد عند مفارقة الروح لجسد صاحبها، فأين تذهب الروح المفارقة يا ترى؟ هل تبقى منتظرة معلّقة إلى حين ولادة إنسان جديد فتحلّ فيه؟ وكيف لأصحاب هذه النظرية إثبات ذلك؟ وهذه قضايا لا يكفي في إثباتها الإفتراضات والادعاءات المحضة، وإنما تحتاج إلى أدلة عقلية أو نقلية أو علمية. رابعا: من المعلوم أنّ النفس البشرية - ومنذ مجيئها إلى عالم الدنيا - تسير في خط تصاعدي تنمو فيه معارف الإنسان وتتكامل ثقافته ويزداد وعيه، وعليه فإنّ السؤال الموجّه إلى التناسخيين أو التقمصيين هو أنّه بعد موت الإنسان وانتقال النفس إلى جسد جديد بالتقمص، فهل تعود النفس إلى حالتها الأولى ممحيّة الذاكرة ومجردة من كل ما وصلت إليه من كمالات أو اكتسبته من ملكات أو مهارات؟ أو أنّ هذه النفس تنتقل بكل كمالاتها وملكاتها وقواها الإدراكية والغضبية والشهويّة المكتسبة إلى الجسد الجديد؟ فعلى الأول: أي إذا كانت النفس - وبعد تقمصها - تعود إلى حالتها البسيطة الساذجة التي كانت عليها عندما حلّت في الجسد الأول فهذا يرد عليه: أولا: أنه - والحال هذه - كيف لها أن تستعيد صوراً قديمة أو تتذكر أموراً أو أحداثاً جرت معها في التجربة الأولى؟! وبالتالي فأنّى لنا أن نثق بما يتم تناقله من أخبار عن حالات استرجاع عفوي لتلك الصور والذكريات ؟! وما الذي يمنع أن تكون صوراً مستولدة ومخلوقة لهذه النفس؟ ثانياً: على أنّه إذا أعيدت النفس وقد محيت ذاكرتها من كل آثار التجربة السابقة، فهذا معناه أنها ستكون كمن يواجه تجربة أولى له في الحياة، وهذا لا ينسجم مع ما يقوله أصحاب التقمص بأن الغرض منه - التقمص - هو إعطاء فرصة جديدة للإنسان، ليصلح ما أفسده في التجربة السابقة، فالاحتجاج - في محمكة العدل الإلهي - على الإنسان بأننا أعطيناك فرصة ثانية وثالثة لتصلح حالك لكنك لم تستجب، إنّما يكون له - أي الاحتجاج - معنى إذا كان هذا الإنسان يشعر ويعي أنه أمام فرصة جديدة واختبار جديد . وأمّا على الثاني: أي إذا انتقلت النفس إلى الجسد الجديد بكل قواها وكمالاتها وملكاتها التي اكتسبتها في التجربة الأولى، فهذا يلاحظ عليه: أولاً: إنّه خلاف الواقع، لأننا نجد أنّ المواليد الجديدة ليس لديها من المواهب والملكات والقدرات العقليّة والعلميّة مما كان لدى الإنسان الأول، بل إنّ هذه المواليد تبدو خالية من أي ملكات ومهارات وإنما تنمو عقلياً كما تنمو جسدياً . ثانياً: إنّ هذا - على فرض وقوعه فعلاً - يعني أنّ النفس مع انتقالها إلى الجسد الجديد فإنّها سوف تنتقل إليه محملة بأعباء سابقة، والذاكرة إذا كانت مشبعة ومثقلة بصور التجربة الأولى ومسكونة بأحداثها ومعاناتها فهذا سيفرض على النفس في طورها الجديد اتجاهات واختيارات محددة لا دخل لإرادتها فيها، أي أنّ النفس وبسبب التجربة الأولى وما تحفره فيها من صور سوف تغدو أسيرة اتجاهات معينة بما يملي عليها تصرفات محددة قد لا تختارها لو خليت أو جردّت من التجربة الأولى، وهذا خلاف منطق العدل الذي هو - حسب زعم القائلين بالتقمص -الهدف الكامن وراء الإعادة الجديدة . القرآن الكريم والتقمص هذا كله بصرف النظر عن النصوص الدينية عموماً والنص القرآني خصوصاً، أمّا لو أخذنا هذه النصوص بعين الاعتبار، فسوف نجد أنّها تدلّ بشكل واضح على عدم صحة عقيدة التقمص، وإليك توضيح ذلك: أولاً: قال تعالى بشأن أهل الجنة: {لا يذوقون فيها الموت إلاّ الموتة الأولى ووقاهم عذاب الجحيم} [الدخان56]، حيث دلّت الآية بصراحة تامة على أنّه ليس هناك سوى موتة واحدة قد مرّت عليهم، ما ينفي فكرة التناسخ والتقمص، لأنّه بناءً على هذه النظرية فإنّ هناك العديد من الموتات والإحياءات . وغير بعيد عن جو تلك الآية ما جاء في قوله تعالى: {أفما نحن بميتين إلاّ موتتنا الأولى ومنا نحن بمعذبين} [الصافات 60]. ثانياً: قال تعالى :{ حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون} [المؤمنون 99 – 100]، فقد دلّت هذه الآية المباركة على أنّ الإنسان بموته يدخل في عالم البرزخ ويستمر كذلك إلى يوم البعث، ما يعني أنّ حديث الإعادة إلى الحياة عبر جسد جديد هو حديث غير مطروح.. وربما يُعترض على القائلين بالتقمص أيضاً بأنّ العديد من الآيات القرآنية تدل دلالة قاطعة على أنّ النفس البشرية تتوفى وتقبض من قبل الله، قال تعالى: {الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها} [الزمر: 42] وقال سبحانه: {كل نفس ذائقة الموت} [آل عمران: 185]، فالنفس - إذاً – تموت وتضمحل ولا تنتقل من جسد إلى آخر. ولكن يلاحظ على ذلك بأنّ موت النفس لا يعني فناؤها وانعدامها، بل إنّها باقية، وتوفيها هو أخذها من الجسد وافية أي تامة، وهذا المعنى للتوفي هو ما يستفاد من الاستعمالات المختلفة للكلمة ولا سيما الاستعمالات القرآنية ، وقد نصّ على ذلك اللغويون[4]. وقد تسأل: إذا كان التوفي يعني أخذ النفس أو الروح من الجسد، فأين تذهب هذه النفس بعد التوفي؟ والجواب: ينقسم العلماء في الإجابة على هذا السؤال: 1- فمنهم من يعتقد أنّه يصار بها إلى جنة البرزخ أو ناره، تبعاً لإيمان صاحب النفس أو كفره، وقد حدّثنا القرآن عن أنّ الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون، وحياتهم هي عبارة عن الحياة البرزخية، قال تعالى: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون} [ آل عمران 196، وراجع البقرة 154]. 2- ومنهم من يعتقد أنّ الروح تحل في جسد مثالي في فترة البرزخ الفاصلة بين الحياة الدنيا والحياة الآخرة، والعذاب أو الثواب إنما تناله الروح بواسطة الجسد المثالي. وأما احتمال قيام النفس وحلولها في جسد آخر فقد عرفت بطلانه، على أنّ الإجماع الإسلامي بل وإجماع أتباع الديانات التوحيدية الثلات قائم على رفض حلوها في جسد آخر . 3- مستندات القائلين بالتقمص يستند القائلون بالتقمص إلى بعض الوجوه نشير إلى وجهين منها: الوجه الأول: وهو محاولة تبرير التقمّص بطريقة عقلية، وخلاصة هذا الوجه الذي نقله بعض الكتّاب المدافعين عن فكرة التقمص عن بعض مشايخ العقل الدروز[5]: إنّ تناسخ الأرواح يمنح الإنسان فرصة جديدة في هذه الحياة، فإذا كان في التجربة الأولى قد أخفق ولم يوفّق لسلوك طريق الخير، فربما يتعظ في المرة الثانية أو الثالثة، ما يجعل التقمّص وفقاً لهذا التبرير أكثر انسجاماً مع عدل الله تعالى ورحمته ولطفه، وبتعبير بعضهم أنّه " بالتقمص يثبت عدل الله في مخلوقاته، وتتكافأ الفرص وتتاح لكل مخلوق"[6]. ولكننا نلاحظ على هذا الكلام: أولاً: إنّ العمر الذي يمنحه الله للإنسان في هذه الدنيا - ولا سيما عندما يمتد هذا العمر بالإنسان - يشكّل فرصة كافية ووافية ليعتبر ويؤوب إلى رشده ويعود إلى ربه، كيف وباب التوبة أمام العصاة يظل مفتوحاً إلى أن آخر العمر، طبقاً لما أكدت عليه النصوص الدينية وورد في العديد من الأحاديث الشريفة، كما أنّ العبر والدروس التي تواجه الإنسان كل يوم وتذكره بربه هي أكثر من أن تحصى أو تعدّ. ثانياً: هل التقمص وانتقال الروح من جسد إلى آخر عام لكل البشر منذ بدء الخليقة وإلى نهاية الدنيا وبعث الأجساد من القبور، أو أنّه خاص بطائفة معينة وجيل محدد؟ إن كان التقمص عاماً وشاملاً لكل البشر منذ بدء الخليقة وإلى نهاية العالم، فهذا يعني أن هذه الجنس البشري والذي مرّت عليه الآف السنين قد أعطي مئات الفرص، وهذا بكل تأكيد ما لا تحتاجه عملية اختبار الإنسان، لأن الفرصة تمنح للشخص مرة أو إثنتين أو ثلاث، أم أن تمنح له مئات الفرص، فهذا أمر غريب ولا يقتضيه منطق العدل ولا يحتّمه . وأمّا إذا كان - التقمص - خاصاً بفئة معينة وطائفة محدودة وجيل بشري خاص، فهذا هو الظلم بعينه، لأنّه ما المميز لهؤلاء أو لهذه الطائفة أو الجماعة حتى يعطوا هذه الفرصة دون سواهم! ومعلوم أنّ من بديهيات العقل أن الله تعالى هو العدل المطلق الذي لا يظلم عباده مثقال ذرة. ثالثاً: إذا كان المبرر لمبدأ التقمص هو ما ذُكر من إعطاء فرصة جديدة للناس ، فالفرصة إنما يحتاجها العصاة والفسقة والكفرة، أما المؤمنون العاملون العابدون الذين نجحوا في التجربة الأولى، فليس ثمة ما يبرر إعادة إحيائهم وتقمصهم، بل قد تكون الإعادة وبالاً عليهم، إذ قد لا ينجحون في التجربة الثانية كما نجحوا في التجربة الأولى، فتكون إعادتهم – والحال هذه - ظلماً لهم وسبباً لمعاناتهم وشقائهم . الوجه الثاني: وهو من أهمّ الوجوه التي يعتمد عليها القائلون بفكرة التقمّص، وهو الاستناد إلى عينات ونماذج مختلفة يتم تناقلها وفحواها أنّ ثمة أشخاصاً عديدين قد تقمصوا وعادوا إلى الحياة بصور وأجساد جديدة، ومما يؤكد – حسب ما يدعى – حصول التمّص أنّ الوليد الجديد يستحضر صوراً ذهنية وذكريات عاشها شخص آخر لا تربطه به أية رابطة ولم يجمعهما زمان ولا مكان بل ربما عاشا ظروفاً مختلفة، وهذا ما قد يعبر عنه بالاسترجاع العفوي للذكريات، وهو إن دلّ على شيء فإنّما يدل على أنّ الروح التي استوطنت هذين الجسدين هي روح واحدة، وأنها انتقلت من أحدهما إلى الآخر بالتقمص. وتعليقاً على هذا الكلام نقول: أولاً: إنّ هذه القصص التي تتناقل على الألسنة عن حصول التقمّص بحاجة ماسّة إلى التدقيق فيها، بغية التأكد من صدقيتها من جهة ، ومن انسجامها مع فكرة التقمص من جهة أخرى، ومن الطبيعي فإنّ هذا لن يتسنى حصوله بمجرد الدعاوى بل لا بدّ إجراء دراسات محايدة وجادة ومستوعبة، تعمل على دراسة الحكايات المتداولة بشكل تفصيلي وتتعرف على ملابسات كل قضية منها وتدرس ظروفها وتلاحظ مدى تقاطعها مع القضيّة الثانية والثالثة.. ثانياً: إنّ هذه الحالات نادرة نسّبياً بالقياس إلى عدد أفراد الإنسان، فلماذا لا يتذكر كل الناس حياتهم السابقة؟! وإذا كان المبرر الذي يُعطى للتقمّص هو منح الإنسان فرصة جديدة لاختباره وامتحانه علّه يعمل على تغيير واقعه المنحرف ويراجع حساباته ويعمل على إصلاح نفسه، فهذا المبرر هو مبرر عام ولا يختص بإنسان دون آخر، بل هو يفرض أن يشعر أو يستذكر كل فرد من أفراد الإنسان حياته السابقة أو يستعيد بعضاً من فصولها ومشاهدها ومحطاتها، ليعي أنّه أمام فرصة جديدة، ويحسن استغلالها والإفادة منها، وبذلك تقوم الحجّة عليه، وأما لو لم يتذكر شيئاً عن حياته السابقة فكيف ستقام عليه الحجة بذلك، وحيث إنّ الغالبية العظمى من بني الإنسان لا يذكرون شيئاً عن حياةٍ سابقة عاشوها فهذا يعني أنّ التقمص يفقد فلسفته ومبرره. ثالثاً: إنّ من الممكن – بعد التوثق من تلك القصص والحكايات - إيجاد تفسيرات دينية أو نفسية أو غيرها لظاهرة ما عرف بالاسترجاع العفوي للذكريات، وليس بالضرورة أن ينحصر تفسير تلك القصص بالتقمص وانتقال الروح من جسد إلى آخر، وإليك بعض هذه التفسيرات المتصورة والمعقولة لهذه "الظاهرة"والتي قد تكون أقرب إلى التصديق من تفسيرها بالتقمص: 1-التفسير الديني، وهو أنّه من الممكن (وهذا ما نطرحه احتمالاً أو رأياً قابلاً للتأمل والمدارسة) أن يكون انتقال هذه الأفكار من إنسان إلى آخر قد حصل بواسطة ما يعرف قرآنياً بـ"القرين"، وهو مخلوق من الجن يقوم بدور الوسوسة للإنسان بخفاء، فما الذي يمنع أن تكون هذه الذكريات هي من فعل القرين أو الشيطان، بحيث "أوحى" للإنسان بصورٍ معينة عن بعض الأعمال أو المواقف التي كان يقوم بها شخص آخر متوفى، وهيأ له وكأنّ هذه الأعمال هي أعماله وتصرفاته. 2- التفسير النفسي، ألا يمكن أن تكون هذه الصور التي تتراءى للإنسان عن حياة أخرى قد عاشها هي مجرد صور خيالية أو تهيؤات نفسية تعيش في كوامن النفس نتيجة بعض المؤثرات أو الظروف الخاصة التي يعيشها الإنسان، أو العقد النفسية التي تعتريه أو الهواجس أو الأماني أو أحلام اليقظة التي يستغرق في التفكير بها وتسيطر على عقله ومخيلته فيتراءى له أنها صور ومشاهد ومواقف قد عاشها في حياة سابقة؟ 3-التفسير الروحي، إنّ هذا العالم فيه الكثير من الأسرار الخافية، وعالم الروح عالم محاط بالكثير من الأسرار والغموض، قال تعالى: {يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً} [ الإسراء 85 ]،هل أخذنا المنام نموذجاً لما يحصل أو يجري مع الروح؟ فالإنسان منا قد يرى في منامه شيئاً معيناً أو إنساناً أو حدثاً ما وهو لا يعرف عنه شيئاً، ثم لا تمض سوى أيام أو أسابيع حتى يعاين ما رآه في المنام رأي العين وعلى أرض الواقع، أليس هذا بالأمر المستغرب حقاً؟! وباتضاح هذا، فلنا أن نسأل فيما نحن فيه: أليس من الممكن والوارد أنّ تكون الروح قد تلاقت في عالم المنام مع روح أخرى وتهامست الأرواح وتعارفت، وحصل نتيجة ذلك تبادل في الأفكار وتلاقح في المعلومات بطريقة غير مفهومة لنا بشكل تام ولا نعيها بوضوح؟ 4-التفسير التخاطري، وما المانع في أن تكون القضية من قبيل التخاطر وهو التقاط الإنسان لبعض الصور والأفكار بطريقة غامضة؟ إلى غير ذلك من الاحتمالات التي يمكن أن تفسر لنا هذه الظاهرة، وهو الأمر الذي يجعل احتمال التقمص ضعيفاً للغاية. الوجه الثالث: وربما حاول القائلون بالتقمص الاستدلال بالقرآن الكريم، من خلال التمسك ببعض الآيات، ومن أبرزها قوله تعالى: {ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل } [غافر 11] فقد دلّ على أنّ هناك إماتتين، وهذا لا يمكن تفسيره أو فهمه إلاّ وفقاً لمبدأ التقمص، لأنّه إذا أمكننا تفسير الإحياءتين: بالإحياءة التي يعيشها الإنسان في الدنيا، وهي الإحياءة الأولى، والإحياءة التي يعيشها بعد المعاد وهي الإحياءة الثانية، لكن كيف نفسّر الإماتتين؟ إنّ الإماتة الأولى معلومة وواضحة، وهي ما نراه رأي العين من موت كل واحد من بني الإنسان في منتهى عمره، أمّا الإماتة الثانية، فلا تفسير لها إلاّ بافتراض إعادة الميت إلى الحياة، ليموت مجدداً بعد دورة جديدة له في هذه الحياة، وهذا ما يعتقده القائلون بالتقمص . والجواب على ذلك: أولاً: إنّ الآية دلّت على وجود إماتتين وإحياءتين فقط، وهذا لا ينسجم مع عقيدة التقمص، وذلك لأنّ القائلين بالتقمص إن كانوا ينكرون المعاد فهذا يعني أنهم يقولون بإماتات وإحياءات لا حد لها ولا حصر، وإن كانوا يعتقدون – ولو في نهاية المطاف – بالمعاد، فهم أيضاً - لا محالة - قائلون بالعديد من الإماتات والإحياءات خصوصاً بالنسبة للأجيال الأولى من الجنس البشري، ولا ينحصر الأمر عندهم بإماتتين وإحياءتين، ولذا فالآية الشريفة مغايرة لمعتقدهم ولا تدل عليه بأية حال. ثانياً: بصرف النظر عن الإشكال السابق، فإنّ الآية لا ينحصر تفسيرها ولا يتوقف فهمها على الاعتقاد بفكرة التقمص، بل ثمة وجوه أخرى في تفسيرها هي أقرب إلى الاعتبار وإلى ظاهر الآية الكريمة من تفسيرها بالتقمص، وإليك بعض هذه الوجوه : أحدها: أن الإماتة الأولى هي في الدنيا بعد انتهاء الحياة، والإماتة الثانية هي بعد حساب القبر وقبل البعث، لأن الإنسان وبعد موته تتم إعادة الروح إليه في القبر ليحاسب حساب القبر، ومن ثم ترفع هذه الروح عن الجسد مجدداً إلى يوم البعث، حيث تعود إليه من جديد. ثانيها: أنّ المقصود بالميتة الأولى هي ما كان عليه الإنسان قبل خلقه وبعث الروح فيه، لأنّ الموت يطلق على ما ليس فيه حياة فعلية إذا كان له قابلية الحياة، ويشهد لذلك قوله تعالى: {كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون} [البقرة 28]، وكذلك قوله تعالى: {أومن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون} [الأنعام 122]، وقوله عزّ من قائل: {.. فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها..} [ فاطر 9]. ثالثها: أنّ المقصود بالموتة الثانية هي الموتة الواقعة بعد الرجعة، وهذا ما يراه جمع من مفسري الشيعة بناءً على العقيدة المعروفة التي آمن بها مشهور الشيعة، وهي الإعتقاد بالرجعة، وقد ورد ذلك في بعض الروايات[7]. وخلاصة القول: إنّ التقمّص هو فكرة لا تستند إلى برهان عقلي مقنع ولا إلى دليل نقلي صحيح، بل إنّ البراهين العقلية والنقلية تدحض هذه الفكرة وتثبت وهنها. [1] الحكمة المتعالية لصدر المتألهين ج5 ص 4، والمبدأ والمعاد له أيضاً ص 435. [2] انظر: مقاصد الفلسفة للغزالي ص 370، وكشف المراد للعلامة الحلي 286. [3] التقمص لـ أمين طليع ص14. [4] انظر: مفردات الفاظ القرآن الكريم للراغب الأصفهاني ص 878. [5] انظر: التقمص لأمين طليع ص16. [6] المصدر نفسه ص16. [7] انظر: تفسير الصافي ج6 ص295.
======
السلفية الشيعية... الوهابية معكوسة!
الشيخ حسن المصطفى لستّ سنوات خلت، حلّ المرجع الشيعي السيد محمد حسين فضل الله، ضيفاً على شاشة فضائية المستقبل، ضمن حلقة خاصة من برنامج «خليك بالبيت»، الذي كان يقدّمه الزميل زاهي وهبي. في تلك الحلقة، كانت ليّ مداخلة عبر الهاتف، أسميتُ فيها معارضي فضل الله، ممّن يُصدرون في حقّه فتاوى التضليل والتفسيق، بـ«السلفية الشيعية»، متحدّثاً عن وجود شيعة «وهّابيّين»، لا يختلفون في وثوقيّتهم، وتحجّر معتقدهم، ورفضهم للآخر، عن مماثليهم من وهّابية السُّنّة. فضل الله الذي كان يعرف لمن أشير بحديثي، حاول التقليل من وطأة المصطلح، وتخفيف حدّته، معلناً عدم موافقته عليه، وإن أكّد في ذات الوقت وجود تيار متشدّد يعمل على تعطيل أيّ تحديث للفكر والفقه الشيعيّين. يومها، كانت الحملة على أشدّها ضدّ فضل الله وأفكاره، وكان الراحل آية الله ميرزا جواد التبريزي، يحمل لواء الممانعة العقدية، ضدّ ما يطرحه فضل الله من أفكار، وضدّ ما يثيره من تساؤلات، وما يشكّك فيه من وقائع تاريخيةــ أفكار وطروحات رأى فيها التبريزي، ومعه نفر من علماء الحوزة الدينية في مدينة قم المقدّسة، هرطقة، وطروحات من شأنها أن تزعزع البناء الشيعي، وتُضعف من تماسكه. الحملة التي بدت عقدية في ظاهرها، كان محرّكها صراع سياسي ومرجعي خفيّ حول التفرّد بالمقلّدين والمؤمنين. صراع أداره أخصام المرجع "البيروتي"، ممّن وجدوا في زعامته إحياءً لفكر سياسي يعود بجذوره لمدرسة حزب الدعوة الإسلامي العراقي، وفي ذات الوقت، منافساً يشاركهم فيما يقتسمون من مصالح مادية ودنيوية، هم أولى بها من غيرهم. المعركة تواصلت بضراوة، وأخذت النواة الصلبة للفكر السلفي الشيعي تزداد قوة، مستمدّة من صراعها مع «الضال المضلّ» وقوداً لديمومتها، ومن حماسات المنافحين عن «آل البيت» شعارات عملت على صياغة عقلية ماضوية، تشتغل بأحداث تاريخية في عصر الرسول والصحابة، وما تلاها في زمن الأئمة المعصومين، في قراءة تشحذ أحداث الماضي، محوِّلةً إياها نصالاً ترمي بها معرضيها. الانشداد إلى كتب التاريخ والتراث لم يكن ممارسة ابتدعها هؤلاء النفر من المتشدّدين الشيعة، وإنّما جاءت في كثير منها محاكاة لممارسات السلفيّة السنّية، والخطابات الوهابيّة المتشدّدة لمشايخ الجزيرة العربية، وخصوصاً علماء المدرسة النجدية، تلاميذ فكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وشيخ الإسلام ابن تيمية، ممّن وجدوا في التاريخ مادة دسمة لهجاء الشيعة وتكفيرهم. الرجوع إلى السلف الصالح، من صحابة وتابعين وعلماء أوائل، والاحتجاج بمقولات دينية، ووقائع اجتماعية لتفنيد المعتقد الشيعي، أثار ردّة فعل معاكسة، بحيث انشغل عدد من علماء الشيعة بالعودة لذات الكتب، لإثبات صوابية معتقدهم، من عين المراجع التراثية التي يستند لها الآخر السلفي، في محاججة علمية الطابع، حملت الكثير من الظلال الاجتماعية والسياسية والفكرية، انعكست سلباً على علاقة المذهبَيْن الإسلاميَّيْن، وحكمت عقلية الأتباع بأحكام وأفكار مسبقة عن كلِّ طرف، مشيّدة جِداراً سميكاً من التشاحن والنفرة. العقل الشيعي طوال تاريخه، كان في غالبه عقلاً منفتحاً، ناقداً، أقرب للفكر المعتزلي، وللفكر الفلسفي، وأسّس لعلم كلام إسلامي متين يستند إلى العقل، ويتّخذ منه ركيزة أساس في استدلالاته. وهو في ممارسته هذه سبق الفكر السنّي، الذي أغلق باب الاجتهاد، وانكفأ على أربع مذاهب: الحنفية، الحنبلية، المالكية، الشافعية. الشيعة وفي ما يحدّثون عن أئمتهم وسيرتهم العلمية، وخصوصاً ما ينقلونه عن الإمام جعفر الصادق، كان مكمن فخرهم واعتزازهم، انفتاح الصادق، وسعة صدره، ومقدرته على النقاش العقدي والفلسفي مع المَلاحدة والزنادقة وأصحاب الملل الأخرى. وكيف أنّه شكّل مدرسة تخرّج على يديه منها العديد من العلماء في حقول مختلفة: الفقه، الحديث، الكيمياء.. وسواها. جعفرٌ الصادق الذي إليه ينتسب الشيعة الإمامية، ويُسَمّون باسمه «الجعفرية»، يحتاج الشيعة لبعث فكره من جديد، والعودة لما سنَّه من أسلوب معاملة مع الغرماء والمخالفين، وعلميّته وعمق حجّيته، والحكمة الثاقبة التي ميّزت تراثه العلمي. حكمة يجد المراقب أنَّ التيار السلفي الشيعي أكثر ما يكون بُعداً عنها. بطبيعة الحال، فإنّ مؤيّدي هذا التيار المتشدّد، لا يقبلون التسمية، ويعتبرون أنّها تنطبق على مخالفيهم من السلفيّين السنة، غير واعين إلى اشتراك الطرفين في جذر أساس وهو التحجّر، وممارسة إقصاء المُخالِف ونَبْذه، ورفض أيّ محاولة للتجديد وللقراءة المعاصرة للتراث الديني. فالسلفية وببساطة هي طريقة تفكير تأخذ من التراث التاريخي والديني مرجعاً لها، متمسِّكة بظاهر النص، واقفة بشدّة ضدّ أيّ محاولة للنقد والمساءلة. من هنا، يصحّ وصف أي مدرسة فكرية تمارس السلوك الموصوف سابقاً، بالسلفية. يمكن اعتبار الانفتاح الإعلامي، وحرية التعبير التي شاعت عبر الإنترنت والفضائيات، وسهولة الاتصالات الحديثة، وشيوع مفاهيم عن حقوق الإثنيات والأقلّيات والمذاهب، وبروز نجم الشيعة سياسيّاً وفكريّاً، من خلال الدور المحوري لإيران، وحزب الله لبنان، وتسنّم الشيعة سدّة الحكم في العراق، كلّها عوامل ساعدت بشكلٍ أو بآخر في ولادة سلفية شيعيّة. وهي ولادة لم يكن لها أن تتمّ منطقياً، وفق المقدّمات السابقة. إلا أنّ ما جعلها تتمّ، هو تجاور هذه التطوّرات الهامة مع اشتداد السجال المذهبي السنّي/الشيعي، وما يتعرّض له الشيعة في العراق من عمليات قتل وإبادة على أيدي جماعات مناصرة لتنظيم القاعدة، وشعور الشيعة بأنَّ الأنظمة السياسية تحاصرهم ولا تريد إعطاءهم حقوقا كاملة. هذه الظروف المعقّدة، ولّدت شيئاً فشيئاً نظرة متصلّبة، استندت إلى أنّ ما قام به الكثير من العلماء كمبادرات حُسن نيّة للتقريب بين المسلمين، لم تُثمر شيئاً، وكان نتيجتها مزيداً من فتاوى التكفير والقتل، وتآمراً على النظام السياسي الشيعي في العراق وإيران، وحصاراً عربياً لحزب الله في لبنان. من هنا، علت أصوات مؤيّدة للكفّ عن دعم الفلسطينيين، وضرورة الاشتغال على المجتمع الشيعي ومصالحه الخاصة، والتوقّف عن مجاملة علماء ومشايخ السُّنّة، وعدم الخوف من إشهار العقائد الشيعية والجهر بها، بل، حرمة التفريط بالصغير منها. الاحتقان الشعبي لدى جمهور هذا التيار، دفعه للضغط على مرجعيّاته الفكرية والفقهية لتبنّي مواقف متصلّبة. مواقف كان من نتائجها إصدار فتاوى تضليل وتفسيق بحقّ عدد من الشخصيات الفقهيّة والفكريّة التي تمتلك نظرة حديثة وتمارس نقداً بحقّ الخطاب الديني التقليدي. علي شريعتي، محمد حسين فضل الله، مجتهد شبستري، مصطفى ملكيان، عبد الكريم سروش... جميعهم مُورست تجاههم حملة إقصائية عنيفة، لم يكن رأس حربتها طلبة علوم دينية صغار، بل نفرٌ من مراجع الدين، وأساتذة الحوزة العلمية، في دلالة عميقة، تُظهر إلى أيّ مدى يملك هذا التيار من قوة وسلطة رمزيتين، رغم عدم ضخامته عدديّاً. الأمور كادت أن تذهب إلى الأسوأ. وسعى البعض للتنقيب في بطون كتب علماء إمامية كبار، للبحث عن ما يعتبرونه هنات وزلات وضعفاً في العقيدة. وفي إحدى المرات، اتهم الشيخ علي الكوراني، وهو رجل دين لبناني مقيم في إيران، ويُعتبر أحد أهم منظري هذا التيارــ اتهم آية الله السيد محمد باقر الصدر، بأنه يستقي أفكاره من مصادر سنّية، في محاولته منه لِلَمز الصدر، إلا أنّه جُوبه بردع وصدٍّ شديدين، أثنياه عن مواصلة تعرّضه للعلامة الصدر، لما يمتلكه الأخير من مكانة مرموقة في الفكر الشيعي والإسلامي. الكوراني، لم يكن يمارس نقداً علمياً بريئاً حيال أفكار الصدر الأول، وإنّما راح يفتّش بكيدية بين سطور مؤلفاته. تفتيش يحلو له وللكثيرين ممارسته، لولا الخوف مما قد يواجهونه من مشكلات. خصوصاً أنَّ كثيراً من الشخصيّات التي قد يتعرّضون لها بالنقد الجارح، تمتلك سلطة دينية وسياسية واجتماعية، مما سيقود التعرّض لها، لحدوث ارتدادات سلبيّة، ستحجّم التيار المتشدّد وتفضح كثيراً من خباياه. بعض المنتمين لا يخفون حسرتهم على عدم قدرتهم على محاكمة أفكار مرشد الثورة الإيرانية، آية الله علي خامنئي. خصوصاً أنّهم يرون فيه امتداداً لمدرسة العلامة الراحل مرتضى مطهري، والذي كان من أشدّ المهاجمين للتيارات الفقهية والفكرية المتحجّرة في الوسط الشيعي، ومن المنادين بضرورة تطوّر الفقه وتحديثه. السلفية الشيعية رغم حدّيتها، إلا أنّها تبقى ضمن إطار محدّد لا تخرج عنه. فهي لا تكفّر بقيّة المسلمين، ولا تحلّ دماءهم، وفي ذات الوقت تدعو للتعايش السلمي، على العكس من السلفية التكفيرية السنّية التي تكفّر مَن اختلف معها، وتبيح دمه. العديد من طلاب العلم الصغار، والمنتفعين، والجهلة، والمدسوسين، يشكّلون العمق الشعبي للتيّار المتشدّد، وهم في حال أُطلق لهم العنان، سيمارسون سطوتهم على المرجعيّات الدينية، ويُجبرون بعضها، ربما، على تبنّي مواقف لا يؤمنون بها في دواخلهم. إنّ سلطة العوام، والمريدين، تمثّل قوة ضاربة، يخشاها الكثيرون، لارتباطها بتعقيدات اجتماعية، وسياسية، ومالية، تجعلهم محلّ مدارات، ومحلّ مشاركة في اتخاذ القرار أحياناً. وإنّ سكوت عدد من المرجعيّات الدينية حيال الممارسات المتشدّدة، رغم رفضها لها، سيؤدّي لرواج هذه الأفكار، وتمكينها، بحيث تصبح بمثابة المسلّمات والعقائد، وهي في أصل كثير منها، خرافات لا حقيقة لها. المطلوب اليوم ليس الصدام مع أصحاب الفكر السلفي الشيعي، وإنّما الدخول معهم في حوار صريح وعلمي، وممارسة قراءة نقدية لأفكارهم، دون التردّد تحت ذريعة أعذار واهية، لأنّ المماطلة في النقد، قد تدفع لتفشّي هذا التيار المحدود والصغير ليجذب إليه قطاعات أوسع، ليختزل ويختطف الفكر الشيعي، ويقدّمه في صورة مشوهة. صورة تجعله حبيس تاريخ يشدّه لبطونه، فيما هو مطالب بتقديم أجوبة وحلول لكثير من القضايا المعاصرة، والتي يراها أتباعه أولى بالبحث والانشغال. فمصير الناس مرتبط بالحاضر، لا بما سلف من أيام قُبِرت، ونُثِر عليها التراب. الخُلاصة حقُّ جعفر الصادق على الشيعة أن يعملوا على بعث فكره، وعلى العودة إلى ما سنّه من أسلوب في معاملة الغرماء والمخالفين، وإلى علميّته التي يبدو جلياً أنّ التيار السلفي الشيعي أبعد ما يكون عنها.
=============
عصمة الدماء والنفوس والأعراض
الشيخ حسين الخشن ومن المبادئ الإسلامية الهامّة على المستوى الإنساني مبدأ عصمة الدماء والنفوس والأعراض، والحديث عن هذا المبدأ أمر يكتسب أهمّية خاصة في وقتنا الراهن، ذلك أنّ أعمال العنف والقتل والإجرام بأبشع صورها والتي تتّسم بالوحشية المفرطة أصبحت عملاً طبيعيّاً وخبراً عادياً، وغدا قتل المسلمين الذين يسقطون بسيف التكفير مجرّد أرقام تُتلى على شاشة التلفزة وتُقرأ في عناوين الصحف دون أن تحرّك ساكناً أو تهزّ ضميراً، وهذه الأعمال تقوم بها بعض الجماعات الإسلامية السلفية في بلدان شتّى مثل الجزائر والعراق والسعودية وصولاً إلى سوريا التي ارتُكبت– ولا تزال- فيها الفظاعات، إلى غيرها من البلدان، ولم تُنْكر هذه الجماعات كثيراً ممّا نُسِبَ إليها بل اعترفت به، وربّما تفاخرت ببعض الأعمال التي لم تخلُ من التنكيل والتمثيل والتعذيب وقطع الرؤوس وشقّ الصدور ونبش القبور وإحراق الأحياء .. الأمر الذي أساء قبل كلّ شيء إلى صورة الإسلام، وشوّه سمعة المسلمين في العالم، فصوّرهم الإعلام الغربي أمّة تسترخص الدماء وتستهين بإنسانيّة الإنسان. وهذا ما يستدعي تضافر الجهود الفكريّة والتربويّة والإعلاميّة في سبيل تخليص الأُمّة من هذا المرض العضال، ووضع حدٍّ لهذه الاستهانة بالإنسان، ويهمّني هنا الإشارة إلى بعض القواعد الإسلاميّة ذات الصلة بقضيّة الدّم. أولاً: محقونيّة الدماء إنّ القاعدة الأساسية في الإسلام هي محقونية الدماء وعصمتها مع غضّ النظر عن هوية أصحابها المذهبية والدينية، لأنّ القتل وسفك الدماء قبيح في شريعة العقل والعقلاء باعتباره مصداقاً واضحاً للظلم وهو ممّا استقل العقل بقبحه، وأمّا في الشريعة الإسلامية، فإنّ حفظ النفوس هو من أهم المقاصد التي هدفت الشريعة إليها، ولذا اعتبر الله سبحانه أنَّ قتل نفس واحدة تعادل قتل البشر جميعاً وأنّ إحياءها يعادل إحياءهم جميعاً، قال تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً}[المائدة: 32]. ويلاحظ أنّ الآية لم تُضِفْ أيَّ قيد على النفس التي يحرم قتلها، مثل قيد الإسلام أو الإيمان، في دلالة واضحة على أنّ عصمة الدماء تتجاوز كلَّ الأُطُر الدينية أو غيرها، وإذا كانت بعض الروايات أضافت قيد "المسلم" أو "المؤمن" على النفس التي يَحْرُمُ قتلها، كما في قوله (ص)- في رواية ابن عمر – "مَنْ أعان على دم امرئ مسلم بشطر كلمة كُتِب بين عينيه يوم القيامة: آيس من رحمة الله"[1] فإنّ ذلك خاضع لظروف الكلام ومناسبة الحديث، ولا دلالة فيه على نفي العصمة عن دم غير المسلم، ومن هنا ورد في الروايات الكثيرة الأخرى التأكيد على حرمة غير المسلم وعصمة دمه، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص عنه (ع): "مَنْ قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة وإنّ ريحها يوجد من مسيرة أربعين عاماً"[2]. وتبقى إباحة القتل في بعض الموارد استثناءً تجوّزه بعض الضرورات الإنسانيّة وتفرضه المصالح النوعية النظامية، من قبيل القتل قصاصاً أو دفاعاً عن النفس أو قتل المفسد في الأرض أو غير ذلك، وقد أشارت الآية أعلاه إلى موردين من هذه الموارد التي تبيح القتل وهما: القتل قصاصاً، وقتل المفسد في الأرض. ثانياً: أصالة الاحتياط في الدماء ولمزيد من الاهتمام بالنفوس نقرأ في النصوص الإسلامية تحذيرات شديدة اللهجة بشأن الإقدام على سفك الدماء والاستهانة بالأرواح والإعانة على الجريمة ولو بشطر كلمة، ففي الحديث عن ابن عمر قال: "إنّ من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها سفك الدم الحرام بغير حلّه"[3]. وعنه (ص): "لَزوالُ الدنيا أهون على الله من دم يُسفك بغير حق[4]. وفي الحديث عن الإمام علي بن الحسين (ع) قال: "قال رسول الله (ص) لا يغرّنكم رحب الذراعين بالدم فإنّ له عند الله قاتلاً لا يموت، قالوا: يا رسول الله وما قاتل لا يموت؟ فقال: الموت"[5]. وعن الإمام الباقر (ع) عنه (ص): "قال أول ما يحكم الله فيه يوم القيامة الدماء فيوقف ابنَي آدم، فيقضي بينهما ثم الذين يلونهما من أصحاب الدماء حتى لا يبقى منهم أحد ثم الناس بعد ذلك حتى يأتي المقتول بقاتله فيشخب دمه في وجهه فيقول: هذا قتلني فيقول أنتَ قتلته فلا يستطيع أن يكتم الله حديثاً[6]. وعن الباقر (ع) أيضاً قال: "إنّ الرجل ليأتي يوم القيامة ومعه قدر محجمة من دم فيقول: والله ما قتلت ولا شركت في دم فيقال له: بل ذكرت عبدي فلاناً فترقى ذلك حتى قتل فأصابك من دمه"[7]. وانطلاقاً من هذه النصوص وغيرها أسّس الفقهاء قاعدة خاصة في باب النفوس والدماء هي قاعدة الاحتياط، خلافاً للقاعدة العامة المحكمة في أكثر الأبواب الفقهية، عنيت بها قاعدة البراءة والإباحة، ومفاد الاحتياط هنا: أنَّ أدنى شبهة كفيلة بحقن دم الإنسان ولو كان قاتلاً أو متّهماً بالقتل. إنّ ذلك كلَّه لا بدّ أن يؤسِّس لذهنيّة إسلاميّة تتورّع عن سفك الدماء وتتجنّب الخوض في كلِّ ما يعين على سفكها بغير حقّ. ثالثاً: درء الحدود بالشبهات إلى ذلك ثمّة قاعدة شرعية أخرى تصبّ في الاتجاه نفسه، وهي قاعدة "درء الحدود بالشبهات"، وهي قاعدة متسالم عليها لدى فقهاء المسلمين[8]، والأصل فيها ما ورد عنه (ص): "ادرأوا الحدود بالشبهات"[9]، ومؤدّاها، أنّ إقامة الحدّ منوطة بعدم وجود شُبْهة في البَيْن، ومن الأمثلة الواضحة لذلك ما يرتبط بمقامنا، فلو أنّ لو شخصاً تلفَّظ بكلمة الكفر، وظُنَّ أنّه قالها مكرَهاً أو مشتبَهاً، فيسقط الحدّ عنه ولا يُكفَّر، لأنّ الحدود مبنيّة على التخفيف، وهكذا لو صدر القتل يقيناً من شخص، لكنَّ التحقيقات القضائية لم تُوصِل القاضي إلى قناعة بأنّه قام بالقتل العمد، بل احتمل قوياً أن يكون ذلك شُبهة أو دفاعاً عن النفس، فلا يُصار إلى القصاص منه. والقاعدة المذكورة- بناءً على التفسير الآنف- هي قاعدة عقلائية، وقد تلتقي مع ما هو معروف في الأدبيات القضائية من "أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته"، ولكنّها ببعض التفسيرات الفقهية أوسع من ذلك، فإنّ بعض الفقهاء يرى أنّه حتى مع ثبوت الإدانة ظاهراً، فإنّ المتهم محقون الدم ما دامت الشبهة الواقعية موجودة، وإن اعترض على ذلك آخرون بأنّ لازم رفع الحد لمجرد الشبهة الواقعية أن لا يبقى إلا موارد قليلة تقام فيها الحدود[10]. وقد يُقال لهؤلاء: إنّ ذلك ليس لازماً باطلاً، لأنّ الإسلام بنى الحدود على التخفيف، ومن هنا جاء التشدّد في وسائل إثبات الحدود، ممّا قد يصل إلى مستوى الصعوبة البالغة في إثبات موجباتها كما في الزنا وغيره. رابعاً: قتل المسلم وترويعه! والغريب في أمر الجماعات التي تحمل الفكر التكفيري وتستهين بالأرواح وتسترخص سفك الدماء أنّها لا تفرّق بين مسلم وغيره، بل تنتهك حرمات الجميع معتبرة أنّ عامة المسلمين ممّن لا يوافقونها الرأي والفكر هم بحكم الكفار الحربيين، وربّما كانوا شرّاً منهم، كما جاء في كلمات بعض رموزها، هذا على الرغم من أنّ الله سبحانه يقول في كتابه: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا}[النساء: 93]. وفي الحديث: "أُتي رسول الله (ص) فقيل له: يا رسول الله قتيل في جهينة! فقام رسول الله (ص) يمشي حتى انتهى إلى مسجدهم، قال: وتسامع الناس فأتوه فقال (ص): من قتل ذا؟ فقالوا يا رسول الله ما ندري، فقال: قتيل بين المسلمين لا يُدرى مَن قتله! والذي بعثني بالحقّ لو أنّ أهل السماء والأرض شركوا في دم امرئ مسلم ورضوا به لأكبّهم الله على مناخرهم في النار"[11]. وعنه (ص): "كلُّ المسلم على المسلم حرام ماله وعِرضه ودمه، حسب امرئ من الشرّ أن يحقّر أخاه المسلم"[12]. وقد نهى (ص) عن ترويع المؤمن وتخويفه، ففي الحديث عنه (ص): "مَنْ روّع مؤمناً لم يؤمن الله روعته يوم القيامة..."[13] واعتبر (ص) أنّ حرمة المؤمن هي قدس الأقداس وليس فوقها حرمة، ولذا تراه يقول مخاطباً الكعبة: "ما أطيبك وأطيب ريحك! ما أعظمك وأعظم حرمتك! والذي نفس محمد بيده لَحُرْمَةُ المؤمن أعظم عند الله حرمة منك، مالُه ودمُه وأن يُظنّ به إلاّ خيراً"[14]. خامساً: ضوابط الحرب وأخلاقيّاتها إنّ القواعد الآنفة حول عصمة الدماء والأعراض هي أُسُس قانونيّة لا بدّ من مراعاتها في حال السِّلم، أمّا في حالة الحرب التي تُفرض على المسلمين وتؤدّي إلى انتهاك حُرُماتهم واحتلال ديارهم وتهجيرهم واستلاب خيراتهم، فتختلف الصورة وتتبدّل الأحكام ويصبح من حقّ المسلم بل من واجبه أن يدافع عن نفسه، ويواجه الاحتلال ويقاوم العدوان مقاومة الشرفاء ويقاتله دون تهاون أو هوادة، لكن مع ذلك فإنّ للحرب في الإسلام ضوابطَ وأخلاقيّات كثيرة تقيّد حركة المجاهد المسلم ويُمنع من تجاوزها وإلاّ فقدَ أَجْره ولم يَعُد مجاهداً في سبيل الله، بل ربّما عُدّ باغياً في حال تجاوزه للحدود، ويهمّني هنا أن أُشير إلى بعض الضوابط الأخلاقية التي أَمَرَ الإسلام بها ودعا إلى احترامها ومراعاتها في حال الحرب، وإن كنّا نجد بعض المنتمين إلى الإسلام في هذه الأيام لا يعيرونها اهتماماً: 1- رعاية الأسير: يُحرِّم الإسلام قَتْل المحارب بعد أن يقع في أسر المسلمين ويأمنوا شرّه وغدره، بل يوصي بحمايته والإحسان إليه إلى أن يتمّ إطلاق سراحه مَنّاً أو فداءً، وقد أوصى الإمام علي (ع) بقاتله ابن ملجم فقال في وصيّته (ع): "أطعموه واسقوه وأحسنوا إساره، فإن أصحُّ فأنا وليُّ دمي، وإن شئتُ عفوتُ وإن شئت استفدت وإن هلكت فاقتلوه"[15]. 2- استثناء الأطفال والنساء والشيوخ: يحرم كذلك التعدّي على غير المقاتلين من النساء والأطفال والشيوخ، وأكتفي هنا بنقل وصية رسول الله (ص) إلى أُمراء السرايا ونضعها برسم المسلمين ورسم العالم برمته، فقد كان (ص)- كما جاء في الحديث المعتبر عن الإمام الصادق (ع)- "إذا أراد أن يبعث سرية دعاهم فأجلسهم بين يديه ثم يقول: سيروا بسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملّة رسول الله، لا تغلوا ولا تمثلوا ولا تغدروا ولا تقتلوا شيخاً فانياً ولا صبياً ولا امرأة ولا تقطعوا شجراً إلاّ أن تضطروا إليها.."[16]. 3- حرمة الغدر والفتك: إنّ المسلم لا يغدر ولا يفتك، وقد أكّدت الوصية النبويّة الآنفة على ذلك، ومن أبلغ كلماته (ص) في هذا الشأن "الإيمان قيد الفتك"[17]، والفتك: "أن يهاجم الرجل الآخرَ وهو غافل فيشدّ عليه فيقتله"، وقد أعطانا الإمام عليّ (ع) مثلاً أعلى في هذا المجال عندما قال- فيما رُوِي عنه-: "أيّها الناس لولا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس، ألا إنّ لكلّ غدرة فُجرة ولكلِّ فُجرة كفرة، ألا وإنّ الغدر والفجور والخيانة في النار"[18]. 4- حماية اللاجئ: كلُّ مَنْ يدخل بلاد المسلمين لاجئاً أو مستأمناً ويُعطى الأمان من السلطات المخوّلة بذلك يغدو في حماية المسلمين وحِفْظهم ولا يجوز التعدّي عليه، قال تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ}[التوبة: 6]. ويبلغ اهتمام الإسلام بمسألة اللاجئ حداً يسمح فيه بمنح الأمان لمن ظنّ أنّ المسلمين أمّنوه وإنْ هُمْ لم يفعلوا ذلك، ففي الخبر عن الإمام الصادق (ع): "لو أنّ قوماً حاصروا مدينة فسألوهم الأمان فقالوا: لا، فظنّوا أنّهم قالوا: نعم، فنزلوا إليهم كانوا آمنين"[19]. ومن المؤسف والمخجل في آن أنّ بعض المسلمين غدوا يطلبون اللجوء السياسيّ إلى البلدان الغربية التي تمنّ على بعضهم فتمنحه اللجوء والحماية والنصرة بما لا يجده في بلده الأُم، وهذا من هوان الزمان على هذه الأمة! والأبشع من ذلك كلّه ما يقوم به بعض المسلمين من الاعتداء على بعض الأجانب ولا سيّما الغربيين المتواجدين في بلاد المسلمين عمّالاً أو سيّاحاً ضيوفاً، أو لاجئين، ضاربين عرض الحائط كلّ الأخلاق والقيم الإسلامية التي تمنع الإساءة إلى كلّ هؤلاء وتمنحهم الأمن والأمان، وقد ورد عنه (ص): "من أمّن رجلاً على دمه فقتله، فأنا بريء من القاتل وإن كان المقتول كافراً"[20]. وهكذا فإنّ الرسول أو المبعوث أو الموفد الدبلوماسي آمن على نفسه كاللاجئ فلا يجوز التعرّض له بسوء، سواء كان ينقل الرسائل أو يسعى للصلح بين الطرفين أو لهدنة مؤقتة، وقد قال (ص) لرسولي مسيلمة الكذّاب: "لولا أنّ الرُّسل لا تُقتل لضربت أعناقكما"[21]، رغم اعترافهما أمامه بنبوة مسليمة. 5- الوفاء بالعهود: ومن تعاليم الإسلام التي تعد مقياساً للتديّن والإيمان قضية الوفاء بالعهود والعقود قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ}[المائدة: 2]، وقال تعالى في وصف المؤمنين: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ}[المؤمنون: 8] ، ويندرج في العقود الواجبة الوفاء: إعطاء الآخر تأشيرة دخول إلى البلاد الإسلامية، فإنّها تمثّل عهداً وإذناً له بدخول أرض المسلمين آمناً مطمئناً، فيجب على المسلمين الوفاء بهذا العقد أو العهد ما دام الآخر ملتزماً بمضمونه ولم يستغل وجوده في البلد الإسلامي للقيام بأعمال عدوانيّة أو تجسّسيّة ضدّ الإسلام والمسلمين، قال سبحانه: {فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}[التوبة: 7]. 6- حرمة التمثيل: وأمر آخر حرص عليه الإسلام حِرصاً بالغاً هو حرمة التنكيل والتمثيل بأجساد الموتى والقتلى، ولو كانوا محاربين أو مجرمين، ففي وصيّة عليّ (ع) لابنه الحسن (ع): "يا بني عبد المطّلب لا ألفينكم تخوضون في دماء المسلمين خوصاً تقولون قتل أمير المؤمنين ألا لا يقتلن بي إلا قاتلي، انظروا إذا أنا متُّ من ضربته هذه فاضربوه ضربة بضربة، ولا تمثِّلوا بالرجل فإنّي سمعت رسول الله (ص) يقول: إيّاكم والمُثلة ولو بالكلب العقور"[22]. 7- رعاية البيئة والحيوان: وتمتدّ التعاليم الإسلامية والوصايا النبوية التي تحدّ من سلطة الإنسان أثناء اندلاع الحرب لتشمل البيئة، حرصاً على حمايتها- قدر المستطاع- من الأضرار والحفاظ على عناصرها الرئيسية- كالماء والحيوان والأشجار- من التلوث والانقراض. وعلى ضوء ذلك ورد النهي عن الإفساد في الأرض، وإلقاء السّم في مياه أو طعام أو بلاد الأعداء، ففي الحديث عن أمير المؤمنين (ع): "نهى رسول الله أن يلقى السمّ في بلاد المشركين"[23]، مما قد يستفاد منه المنع من استعمال الأسلحة الذرية والكيميائية بطريق أولى[24]. ويُمنع المحارب من قطع الأشجار أو حرقها إلاّ في حالات الضرورة، جاء في وصية النبي (ص) الآنفة الذكر: "ولا تقطعوا شجرةً إلا أن تضطرّوا إليها"، وفي وصية أخرى له (ص) لسرايا المجاهدين: "ولا تقطعوا شجرةً مثمرة ولا تحرقوا زرعاً"[25]. وهكذا يوصي النبيّ (ص) أمراء الجند بأن لا يعقروا من البهائم والدواب ما لا حاجة لهم في أكله[26]. الذبح باسم الله هذه بعض التعاليم التي تعكس أخلاقية الإسلام وتعاليمه في حالات الحرب والقتال، وهي تعاليم تنبض بالرحمة والإنسانية، وإنّ انتماءنا للإسلام يفرض علينا نشر هذه القيم وتعميمها في العالم بأسره مساهمة في تنقية صورة الإسلام، وقبل ذلك فإنّ علينا أن ننشرها في أوساطنا الإسلامية وأن نربّي الأُمّة عليها بدلاً من ثقافة العنف وقطع الرؤوس والتمثيل بالأجساد، أو غير ذلك من مظاهر الوحشية التي يمارسها البعض في أيامنا باسم الله واسم رسوله، والله ورسوله بريئان من ذلك، فهذا رسول الله يوصي بالرحمة بالحيوان والإحسان إلى البهيمة وأن يحدّ ذابحها شفرته قبل الذبح فما بالك بالإنسان ! فقد رُوِيَ عنه (ص): "إنّ الله كتب الإحسان على كلّ شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحدّ أحدكم شفرته وليُرِحْ ذبيحته"[27]، ولكنا مع الأسف بُلينا بأناس غلاظ قساة لا تعرف الرحمة إلى قلوبهم سبيلاً، أساؤوا إلى الإسلام أكثر ممّا أحسنوا حتى تندّر البعض في وصفهم بالقول: قد بُلينا بـ "إمام" ذكر الله وسبّح فهو كالجزّار فينا يذكر الله ويذبح سادساً: هل بُعث النبي بالذبح، أو بالرحمة؟ وفي مقابل ما قدّمناه، فقد يتمسك دعاة الذبح والنحر، وقطع الرؤوس والأعناق، بحديث مرويّ عن رسول الله (ص) يذكر فيه أنّه بُعث بالذبح، وإليك نصّ الحديث قبل التعليق عليه: "عن عبد الله بن عمرو قال: ما أكثر ما رأيت قريشاً أصابت من رسول الله (ص) فيما كانت تظهر من عداوته، وقد حضرتهم وقد اجتمع أشرافهم في الحِجْر فذكروا رسول الله فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من هذا الرجل قط، سفّه أحلامنا وشتم آباءنا وعاب ديننا وفرّق جماعتنا وسبّ آلهتنا، لقد صبرنا منه على أمر عظيم، فبينا هم في ذلك إذ طلع رسول الله (ص) فأقبل يمشي حتى استلم الركن فمرّ طائفاً بالبيت، فلما أن مرّ بهم غمزوه ببعض القول، قال: وعرفتُ ذلك في وجهه، ثم مضى (ص) فلما مرّ بهم الثانية غمزوه بمثلها، فعرفتُ ذلك من وجهه، ثم مضى (ص) ومرّ بهم الثالثة غمزوه بمثلها، ثم قال (ص): أتسمعون يا معشر قريش أمّا والذي نفس محمد بيده لقد جئتكم بالذبح، قال: فأخَذَت القومَ كلمتُه حتى ما منهم رجل إلاّ لكأنّما على رأسه طائر واقع، حتى أنّ أشدّهم فيه وطأة قَبْل ذلك يتوقاه بأحسن ما يجيب من القول، حتى أنّه ليقول: انصرف يا أبا القاسم راشداً فوالله ما كنت جهولاً"[28]. وقد اتخذ التكفيريّون هذه الرواية مستنداً لأعمال العنف وسفك الدم التي يُقْدِمون عليها، كما أنّ بعضهم رفعها كشعارٍ له، إلاّ أننا نرفض هذا الحديث رفضاً قاطعاً، وذلك لسبَبَيْن: أولاً: إنّه يجعل الهدف من بعثة النبي (ص)، أو عنوان رسالته ذبحَ الناس، وهذا مخالف للقرآن الكريم في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}[الأنبياء: 107]، ولِمَا رُوِيَ عنه (ص): "إنّما بُعِثت رحمة مهداة"[29] إنّ شعار "جئتكم بالذبح" هو شعار تنفيري إقصائي دموي، فكيف يرفعه النبي (ص) ويجعله عنواناً لدعوته ولا سيما أنّه لا يزال في مرحلة الدعوة إلى الله؟! ثانياً: إنّ هذا الكلام قيل في مكة قبل الهجرة كما يدل سياقه، وعندما خاطبهم النبي (ص) بعبارة: "لقد جئتكم بالذبح"، كما يفترض الحديث خافوا وأُصيبوا بالذعر، وهذا الأمر يبعث على التعجّب والاستغراب، لأنّ المرحلة المكية امتازت باعتماد النبي (ص) فيها أسلوب المداراة والصبر والأناة وتحمّل الأذى، كما أنّ موازين القوى كانت في غير صالحه، فكيف يواجههم بهذه الكلمة وهو لا يملك دفع الأذى عن نفسه فضلاً عن أصحابه؟! ثم كيف يصاب هؤلاء بالخوف والذعر حتى يقول بعضهم له: "اذهب راشداً"، مع كونهم في عزّ قوتهم وجبروتهم وعنادهم؟! إنّ ذلك غير مفهوم بحسب المنطق الطبيعي للأمور. إلاّ أن يقال: إنّ الله سبحانه وحماية لنبيّه (ص) المهدّد من قريش قد أوحى إليه أن يواجههم بهذه الكلمة، أو أجراها على لسانه، الأمر الذي أوقع الرعب والخوف في قلوب المشركين بطريقة غير اعتيادية، بيدّ أنّ هذا لو كان محتملاً ووارداً كان معناه أنّ العبارة المذكورة هي نفسها واردة في سياق التخويف والتهويل في محاولة لحماية النفس أكثر من ورودها على نحو الجد لتكون قاعدة للنبي (ص) وللمسلمين في التعامل مع غيرهم. [1]أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 15865 [2]أخرجه النسائي 6949 وأبو داوود 2760. [3] أخرجه البخاري 6863 والبيهقي في السنن الكبرى 15829. [4]ذكره ابن أبي عاصم في كتاب الزهد ص138. [5]الوافي، ج16 ص566. [6] المصدر نفسه، ج16 ص564. [7] الوافي، ج16 ص567. [8]المبسوط للطوسي ج3 ص66، المبسوط للسرخسي ج18 ص172، الدر المختار ج7 ص115، المغني ج10 ص155، السرائر: ج2 ص351 إلى غير ذلك. [9]الفقيه ج4 ص74، كنز العمال: ج5 ص309. [10]ذكر ذلك السيد الخوئي، راجع: محاضرات في المواريث ص192. [11] مَن لا يحضره الفقيه، ج4 ص97، والكافي ج7 ص273. [12]أخرجه الشيخان والنسائي، راجع: كنز العمال ج1 ص93. [13]كنز العمال، ج16 ص21. [14]أخرجه النسائي عن ابن عمر راجع كنز العمال ج1 ص93. [15] مناقب آل أبي طالب ج3 ص95، وراجع نحوه ما في نهج البلاغة ج3 ص21، والكافي ج1 ص299. [16]الكافي ج5 ص27، 29، 30. [17] راجع بحار الأنوار ج47 ص137 وج44 ص343. [18] الكافي ج2 ص338. [19] المصدر نفسه، ج5 ص31. [20]مجمع الزوائد ج6 ص286. [21] مسند أحمد ج3 ص488، سنن أبي داوود ج1 ص628. [22] نهج البلاغة ج3 ص78، والمعجم الكبير للطبري ج1 ص100، وتاريخ الطبري ج4 ص114. [23]الكافي ج5 ص28. [24]قد عالجنا حكم تصنيع الأسلحة الكيميائية واستخدامها في الحروب، وهكذا حكم قطع الأشجار وإحراق الغابات في كتاب الإسلام والبيئة، فليلاحظ. [25] الكافي ج5 ص29. [26] وسائل الشيعة الباب 15 من أبواب جهاد العدو الحديث3، وقد أشبعنا هذا الموضوع بحثاً في كتاب "الإسلام والبيئة" فليراجع. [27] سنن أبي داوود ج18 ص643، وسنن الترمذي ج2ص431، وسنن النسائي ج7 ص227، وبحار الأنوار ج62 ص315. [28]صحيح ابن حبان ج14 ص218، ومسند أحمد ج2 ص218. [29] مجمع الزوائد ج8 ص257.
=============
الخطاب الديني والتحدّيات الداخلية
الشيخ حسن الصفار هناك خطباء متمرّسون في إذكاء الخلافات الطائفية، ومحترفون لإثارة الكراهية والبغضاء بين أبناء الأمة. كان التحدِّي الأكبر أمام الخطاب الإسلامي في حقب ماضية هو مواجهة التيارات المناوئة للإسلام. ففي بدايات القرن التاسع عشر الميلادي أدرك دعاة الإسلام خطر حملات التبشير التنصيري التي واكبت الاحتلال الأوروبي للبلاد الإسلامية، وكان إلى جانبها نشاط استشراقي مكثّف يهدف إلى تشكيك المسلمين في دينهم، وإثارة الشبهات حول القرآن الكريم، وسيرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، والمفاهيم والتشريعات الإسلامية، طفحت به كتب كثير من المستشرقين ودراساتهم. فانبرى المخلصون الواعون من علماء الأمة بألسنتهم وأقلامهم وأرواحهم لردّ هذه الهجمات العاتية، وبذلوا قصارى جهدهم للوقوف أمام تلك الموجات العارمة، رغم محدوديّة إمكاناتهم قياساً بقدرات الغزاة الذين يستندون إلى ميزانيات ضخمة، وهيمنة عسكرية سياسية، ومراكز أبحاث وتخطيط. وفي العقود الأولى من القرن العشرين للميلاد، كانت هناك معركة أخرى تنتظر دعاة الإسلام، هي أشد شراسة من حملات التنصير وشبهات الاستشراق، وهي مواجهة المدّ الشيوعي والتيارات العلمانية المناوئة للدين. ذلك أنَّ معظم التيارات العلمانية التي ظهرت في البلاد الإسلامية، أخذت منحى المحاربة والمناوأة للدين، بخلاف معظم تيارات العلمانية في الغرب التي التزمت الحياد تجاه الدين. فقد استثمرت هذه التيارات المناوئة أرضية السخط والرفض للواقع السيئ المتخلّف لدى جماهير الأمة، وتبنّت شعارات الثورة والنهوض، داعية إلى التنكّر للدين والتخلّص منه، لأنّه يتحمّل مسؤولية تخلّف الأمة وانحطاطها. وتمكّنت هذه التيارات من استقطاب شرائح من أبناء الأمة، ووصلت إلى مواقع السلطة والحكم في عدد من البلدان العربية والإسلامية، عبر الانقلابات العسكرية، والتنظيمات الحزبية. فكانت المعركة عنيفة قاسية في بُعديها الفكري والسياسي، حيث عانى دعاة الإسلام من قمع الأنظمة التي انبثقت من هذه التيارات المناوئة. وما كاد ينتهي القرن العشرون حتى انحسر مدّ تلك التيارات، وظهرت طلائع الصحوة الإسلامية، وارتفعت رايات الإسلام في كلِّ مكان، إذ استعادت جماهير الأمة ثقتها بدينها، بعد أن وجدت تلك التيارات ﴿كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ﴾[النور: 39]، وهكذا بدأ عصر الإسلام من جديد. وهناك تحدّيات خارجية لا تزال قائمة أمام الخطاب الإسلامي، وفي طليعتها الحرب الإعلامية الثقافية الطاحنة على الإسلام، بوصفه دين إرهاب وعنف، التي تجاوزت كلّ أعراف وتقاليد العلاقات بين الأديان والحضارات والأمم، كما تمثّل ذلك في الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للنبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، التي نشرتها صحيفة دنماركية ثم أعادت نشرها هذا العام عدد من الصحف في الدول الأوروبية، في تحدٍّ سافر لمشاعر المسلمين، وإساءة صارخة لدينهم وهويتهم. لكن مثل هذه التحدّيات الخارجية ليست على درجة كبيرة من الخطورة تستلزم وضعها على رأس التحديات وأولويات المهام أمام الخطاب الإسلامي. إنّني أعتقد أنّ الخطاب الإسلامي يواجه الآن تحدّيات داخلية هي الأهم والأخطر على مستقبل الإسلام والأمة. فلا بد من الاستجابة لها والارتقاء إلى مستوى مواجهتها. ولعلّ من أبرز وجوه هذه التحدّيات ما يلي: أولاً: إنتاج ثقافة التنمية والبناء فقد برع الخطاب الإسلامي في تعبئة جماهير الأمة ضدّ الأعداء، وضدّ واقع الفساد والانحراف، وتلك مهمّة هدم وتقويض. ولكن ما البديل الذي يجب أن تتّجه الأمة لبنائه على الصعيد السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وبناء المعرفة وتنمية الأخلاق؟ وكيف يقود الإسلام معركة التنمية والبناء؟ هذا ما يحتاج إلى إجابة معمّقة تتضمن برامج عمل، وآليات تنفيذ، وثقافة حركة وإدارة. ثانياً: العلاقة الإيجابية مع الآخر المصالح في عالم اليوم متشابكة، والصراع والنزاع ليس هدفاً ولا استراتيجية دائمة، وإنّما هو ضرورة بمقدار مواجهة العدوان. كما أنّ الإسلام رسالة خير ورحمة للبشرية جمعاء. من هذا المنطلق لا بدّ من إنتاج خطاب يساعد على الانفتاح والحوار مع الآخر، ولا بدّ من نشر ثقافة دافعة لصنع العلاقات الإيجابية مع الغير، ولتجاوز آثار مراحل الصراع والنزاع. صحيح أن هناك اعتداءات لا تزال قائمة ضدّ الإسلام والأمة، لكن المطلوب حصر المواجهة والصراع مع الجهات المباشرة للعدوان دون استعداء للعالم كلّه، وتعميم الصراع على مستوى الأديان والحضارات. والأشدُّ إلحاحاً حاجة الأمة إلى ثقافة العلاقة الإيجابية مع الآخر الداخلي، حيث لا نزال نعيش آثار الصراعات القديمة التي حصلت بين الأسلاف في القرون الأولى لتاريخ الأمة، والتي تتفجّر اليوم على شكل فتنٍ ونزاعات طائفية. كما لا يزال التنوّع القومي والقبَلي عائقاً أمام الوحدة الوطنية، والاستقرار السياسي، في عدد من البلدان العربية والإسلامية. ثالثاً: ترشيد التوجّهات والممارسات الدينية فالإقبال على الدين، وارتفاع المعنويات في أوساط المتديّنين، قد يدفع باتجاه الغلوّ والمبالغة في التوجّهات والممارسات الدينية، خاصة وأنَّ في تراث الأمة بمختلف مذاهبها ما يغذّي مثل هذه الاتجاهات. كما أنّ بعض القوى الدينية التقليدية التي لا تمتلك مشاريع للتنمية والنهوض، قد تسعى لدغدغة مشاعر العامة، وعواطفهم الدينية، لتعزيز نفوذها ومواقعها، في مقابل صعود قوى الإصلاح والتطوير. وليس مستبعَداً أن تدخل على الخط بعض الجهات الخارجية، أو بعض القوى المصلحية في الداخل لتشجيع اتجاهات المبالغة والغلو في الأوساط الدينية. إنَّ خطر توجّهات الغلوّ كبير على مستقبل الإسلام والأمة، ولذلك حذّر الله تعالى الأمم السابقة من الغلوّ في الدين، يقول تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ﴾[النساء: 171]. وتتمثّل أهم مظاهر خطر الغلوّ في النقاط التالية: أ- تحريف المفاهيم، وإفراغ الأحكام الشرعية من مضامينها، والابتعاد عن مقاصد الدين وأهدافه، وإشغال الأمة بحالة طقوسية فارغة، تستنزف الجهود، وتصنع حالة من الإشباع الكاذب، والشعور الزائف بأداء الواجب نحو الدين. ب- الاستغراق في الجوانب الغيبية على حساب العقل ومراعاة السُّنن الإلهية للطبيعة والحياة، مما عزَّز حالة التواكل والكسل، وعدم البحث الموضوعي والمعالجة الواقعية لمشكلات الحياة، وفتح المجال أمام أسواق الشعوذة والدجل، التي تدّعي القدرة على تقديم مختلف العلاجات للأمراض الجسمية، والمشكلات النفسية، والقضايا الاجتماعية. ت- تشجيع التطرّف والتشدّد تجاه الآخر الخارجي والداخلي، انطلاقاً من تفاصيل الخلافات العقدية والتاريخية، وإغفال مساحات الالتقاء والاشتراك، لقد أصبح عندنا خطباء متمرّسون في إذكاء الخلافات الطائفية، ومحترفون لإثارة الكراهية والبغضاء بين أبناء الأمة، وقد منحتهم القنوات الفضائية أفضل الفرص لرفع أصواتهم وبث سمومهم في مختلف الأرجاء. ث- ممارسة الإرهاب الفكري تجاه أيِّ رأي مخالف واتهامه بالمروق والابتداع، مما يوقف حركة الاجتهاد، ومسيرة التطوير والتجديد. إنّ هذه التحدّيات الداخلية توجب على العلماء والدعاة المدركين لها أن يوجِّهوا خطابهم واهتمامهم نحو مواجهتها، وتبصير جماهير الأمة بما يخدم مصلحتها، ويصون رسالتها الإسلامية العظيمة عن عَبَث الغالين والمتزمّتين. ولا شكّ أنّها مهمّة شاقّة تكتنفها صعوبات بالغة، لأنَّ دعاة التشدّد والغلو يستثيرون عواطف ومشاعر العامة الدينية، ويستندون إلى آراء وتبريرات لها جذورها في التراث المذهبي لمختلف الطوائف والمذاهب، ويُظهرون أنفسهم حماة للعقيدة وحرّاساً لشعائرها، ولا يتورّعون عن التشكيك في دين مَن يختلف معهم ولو في أدنى التفاصيل. الدعوة على بصيرة لقد تحدث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأمر الله تعالى له، عن أهم سمة لمنهجه في الدعوة إلى الله، وهي امتلاك البصيرة، يقول تعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾[يوسف: 108]. والبصيرة من البصر والإبصار، فكما يحتاج الإنسان إلى حاسة البصر ليرى الأشياء المادية في هذه الحياة، وليتمكّن من السير في طرقها متلافياً الضياع والوقوع في الحفر والمزالق، كذلك يحتاج إلى المعرفة والوعي لتقويم الآراء والأفكار، والتمييز بين مسالك الخير ومهاوي الشرّ والفساد. وتلك هي البصيرة. وكون الداعي على بصيرة في دعوته يعني أمرين: الأول: اطمئنانه للفكرة ووضوحها عنده، حيث لا يصلح للداعي أن يطرح فكرة لم يجتهد في بحثها، ولم يتأكّد من صحّتها، ولا ينبغي له أن يجترّ في خطاباته طرح ما هو سائد ومتناقل دون تحقيق وتمحيص. ومن المؤسف جدّاً أن تجد بعض العلماء والدعاة ينقلون للناس روايات تاريخية، وآراء عقدية، ومسائل ذات تأثير في أذهان الناس وسلوكهم، قبل أن يكلفوا أنفسهم عناء التأكد من صحة تلك النقولات، اتكالاً على ما سمعوه من خطباء آخرين، أو أخذاً من مصادر غير معتمدة، أو استجابة لرغبة المستمعين. إنّ وسائل البحث وأدوات المعرفة أصبحت متوفرة ومبذولة، فلا عذر للمقصّرين والمتقاعسين. الآخر: معرفة الواقع الخارجي الذي تلامسه الفكرة المطروحة، فليست كل فكرة صحيحة صالحة للعرض في كل زمان ومكان، ولعل المقصود بالحكمة في الدعوة في نص الآية الكريمة: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ ﴾[النحل: 125] هو اختيار القول المناسب للموقع المناسب. من هنا يحتاج الدعاة في كلِّ مجتمع إلى تقويم ظروف مجتمعهم، ودراسة أوضاع البيئة التي يتحرَّكون فيها، لينطلق خطابهم الديني من خطة مدروسة، وليركّزوا على الأولويات. وقد تحدّث العلامة الشيخ عبدالله العَلَمي الغزّي الدمشقي أستاذ دروس التفسير في الجامع الأموي بدمشق المتوفى سنة 1355هـ 1936م حول هذه الآية الكريمة: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ ﴾[يوسف: 108] في كتابه القيم (مؤتمر تفسير سورة يوسف) فقال تحت عنوان (أكثر دعاة أهل اليوم هم على غير بصيرة): (النبي عليه الصلاة والسلام، كان يدعو إلى الله على بصيرة، وهكذا خلفاؤه وعلماء السلف والأئمة المجتهدون وسائر العلماء الصالحين، ولكن من المؤسف، أنَّ أكثر دعاة أهل اليوم، هم على غير بصيرة، لأنّهم مزجوا الدخائل بعقائد الدين، وأدخلوا البدع والأخلاق الرديئة في العوائد الإسلامية، وعلّموا الجهال تعاليم خادعة، لُبِّست الغيّ بالرشاد، كما علموهم التأويلات الباطلة، التي شبهت الحق بالباطل، حتى صار الجبر «توحيداً»، وإنكار الأسباب «إيماناً» وترك الأعمال المفيدة «توكلاً» ومعرفة الحقائق «كفراً وإلحاداً» وإيذاء المخالف في المذهب «ديناً» والجهل بالفنون والتسليم بالخرافات «صلاحاً». واختبال العقل وسفاهة الرأي «ولاية وعرفاناً» والذلّة والمهانة «تواضعاً» والخنوع وقبول الضيم «رضى وتسليماً» والتقليد الأعمى لكلّ متقدّم «علماً وإيقاناً». هذا ما كتبه الشيخ الجليل قبل ثمانية عقود من الزمن عن دعاة عصره، فهل دعاة اليوم أفضل حالاً من أولئك؟ هذا ما نأمله ونرجوه.
============
ألا ترون أنّ المزاج الإيراني هو الذي أنتج التشيّع المغالي والإمامة المبالغ بها في العصر الحديث؟
الشيخ حيدر حب الله السؤال: ما رأيكم في من يربط بعض النظريّات في العصمة المطلقة أو علم الإمام المطلق أو الولاية التكوينيّة التي لا يساعد على القول بها ظاهر القرآن الكريم وجوّه العام، بالمزاج الإيراني المولع بالبحوث الفلسفيّة والعقليّة المعقّدة من جانب، والميّال روحيّاً في الوقت ذاته إلى أجواء الميثولوجيا والمبالغة؟ ويدّعي أنّ هذه المواضيع لم تشتهر إلا بعد أن استولى التشيّع على إيران؟ (عماد الرفاعي، العراق). الجواب: تارةً نتكلّم عن الموقف الرسمي الكلامي للشيعة (التراث الكلامي)، وأخرى نتكلّم عن النصوص الحديثية (التراث الحديثي): 1 ـ فإذا تكلّمنا على مستوى النصوص الحديثية، فنحن نجد الصورتين معاً في كتاب أصول الكافي مثلاً، ولا يمكن القول بأنّ أصول الكافي يقدّم الصورة غير المبالغ بها (بحسب تعبيركم) فقط، بل نجد في نصوصه معطيات وأحاديث تدعم كلا المزاجين. نعم، بعض الكتب الأخرى يتضح فيها المزاج العرفاني بشكل كبير جدّاً، لكنّ المشكلة هي التأكّد من وجود هذه الكتب الحديثية بهذه النسخ الموجودة بين أيدينا اليوم في تلك العصور، حيث هناك جدلٌ كبير في هذا الموضوع. فعلى سبيل المثال كتابٌ مثل كتاب (بصائر الدرجات) وهو أحد الكتب العمدة والأساسيّة والمفصليّة في تكوين المفهوم الجديد للإمامة، هذا الكتاب يوجد بحثٌ ونقاش في أصل وجوده بهذه النسخة القائمة اليوم في العصور السابقة، حيث يدّعى أنّ أقدم نسخة له ترجع للقرن العاشر الهجري (العصر الصفوي)، وأنّ العلماء السابقين ما نقلوا عنه هذه المرويات، ولهذا لم أذكر هذا الكتاب، وإنّما ذكرت مثال كتاب الكافي نظراً لمعلوميّة النسبة، وإلا فلو أقحمنا مثل هذا الكتاب فسوف تكون الثروة الحديثية في هذا المجال أكبر. 2 ـ أمّا إذا تكلّمنا عن الموقف الرسمي للشيعة (التراث الكلامي)، فنحن نلاحظ تنامياً واضحاً لهذه المقولات منذ العصر الصفوي، وهو العصر الذي تحوّلت فيه غالبيّة الشيعة من العرب إلى غير العرب إذا صحّ التعبير، كما يقرّ بذلك الشيخ مرتضى مطهّري، في سياق نقده للفكرة التي تقول بأنّ تشيّع الإيرانيين جاء بوصفه ردّ فعل على غزو عمر بن الخطاب لبلادهم، حيث يرى أنّ غالبيّة الشيعة كانوا من غير الفرس حتى أواسط العصر الصفوي، وأنّ الغالبيّة الفارسيّة إنّما بدأت منذ ذلك الوقت، أي من أواسط العصر الصفوي (مطهري، مجموعه آثار 20: 89 ـ 90، وذلك في بحثه حول تاريخ الاجتهاد؛ وأيضاً في ج16: 113 ـ 115، في بحثه حول الإسلام وإيران). فلو رجعنا إلى كتب متكلّمي الشيعة قبل ذلك، مثل كتب المفيد، والمرتضى، والطوسي، والحلبي، والحمصي، والعلامة الحلي، والمحقّق الحلي، وغيرهم، فضلاً عن علماء مدرسة قم القديمة مع الأشعري والصدوق وابن الوليد، ومدرسة بني نوبخت الكلامية، فنحن لا نجد غلبة هذا المزاج في فهم الإمامة، بل الإمامة هي نظام الحياة الدنيوية في الإدارة والعيش والدين وتطبيق الشريعة وحفظ الإسلام والمسلمين وغير ذلك، ولا أعني بهذا عدم وجود مقولات من هذا النوع، لكن من يقرأ كتب كلام الشيعة الإماميّة ويقرأ تعريفهم للإمامة خلال القرون العشرة الهجرية الأولى، فسوف يلاحظ امتيازاً في التوصيفات والمفاهيم والآراء والمزاج العام. أمّا منذ العصر الصفوي فالأمور تختلف تماماً، حيث المزاج الصوفي والعرفاني واضحٌ جدّاً بأدنى مقارنة بين عرفان ابن عربي وما تركه علماء الشيعة خلال القرون الأربعة الأخيرة. ولهذا الأمر أسباب، وتوجد تحليلات كثيرة في هذا المجال يمكن طرحها، وقد لا يسعني الكلام لبسط القول فيها جميعاً، وأعرض صورتين مختلفتين في تقويم هذا المشهد: الصورة الأولى: وهي ترى أنّ هذا التيار كان موجوداً في القرون الأولى غاية الأمر أنّ علم الكلام الإمامي تأثر بالمنهج العقلاني المعتزلي أو التقى معه، لهذا لم تشهد مثل هذه المقولات نموّاً في وسطه، فتراجعت مدرسة الإمامة الوجودية لصالح مدرسة الإمامة الإدارية والدينية، وهذا هو ما يفسّر عدم الانسجام بين التراث الحديثي والتراث الكلامي بشكل نسبي، ولهذا نجد أنّ المتكلّمين الشيعة أكثروا من نقد الحديث الكلامي معتمدين بشكل أكبر على العقل (بصورته الكلامية في القرون الأولى). أمّا جماع الإخباريّة والصوفية والفلسفة الصدرائيّة، فقد اتفق هذه المرّة ـ رغم اختلافه ـ على منح جرعة إضافية لهذا الفهم للإمامة. ويرى هذا الفريق المؤيّد لهذه الصورة في تفسير الموقف أنّ علماء الكلام الشيعي المتقدّمين قد ارتكبوا خطأ كبيراً بتأثرهم بمنهج المعتزلة أو ميلهم لطرائق المتكلّمين المعاصرة لهم، إذ ضحّوا بهذه الطريقة بثروة حديثية عظمى موجودة في تراثهم الإمامي؛ لأنّها لم تكن تنسجم مع خلفياتهم الفكريّة، واتهموها بالغلوّ والإفراط، وفي حقيقة الأمر إنّه لا غلوّ فيها، وإنّما علم الكلام الشيعي لم يكن قد نما بعدُ إلى حدّ استيعاب وفهم حقيقة هذه النصوص الحديثية التي تمّ إغفالها بشكل كبير. وما فعلته صوفيّة العصر الصفوي وفلسفته المتعالية إنّما كان إعادة بناء النظام الفلسفي الوجودي بطريقة وفّرت لنا فهماً جديداً للوجود، اكتشفنا معه أنّ تلك الروايات التي كان قد هجرها المتكلّم الشيعي ميدانيّاً في تعامله الكلامي كانت حقّاً، وكان من الخطأ عدم الاهتمام بها. إنّ فلسفة العصر الصفوي وتصوّفه كشفا التراث الحديثي وأعادا تظهيره والاهتمام به إلى جانب نشاط التيار الإخباري في تلك الفترة. فالموضوع ليس موضوع الإيراني وغير الإيراني من وجهة النظر هذه، بل هو موضوع تطوّر الدرس الفلسفي والعرفاني الذي كشف لنا عن حقّانية بعض المفاهيم التي فوجئنا باشتمال النصوص الحديثية منذ قديم الأيّام على كثيرٍ منها. وحتى لو لم نتهم العلماء السابقين أو نبيّن عجز فهمهم لقضيّة الإمامة ونقصانه، فقد يمكننا القول بأنّهم أغفلوا هذه الموضوعات في كتبهم الكلامية نظراً لانشغالهم بالجدل مع المذاهب الأخرى، في حين انّ هذه الموضوعات التفصيلية في حقيقة الإمامة تعود لجدل داخلي فلا معنى لطرحه في الجدل المذهبي، ولهذا غلب عليهم تغييب مثل هذه المقولات قياساً ـ وأشدّد على كلمة (قياساً) ـ بما حصل في العصر الصفوي إلى يومنا هذا. الصورة الثانية: وهي ترى أنّ هذه النصوص الحديثية التي تقدّم الإمامة بوصفها ما يقوم عليه بناء الوجود، على قسمين: القسم الأوّل: وهو النصوص الحديثية التي اشتملتها الكتب الحديثية الشيعية الثابتة النسبة إلى تلك القرون، كأصول الكافي وبعض مرويّاته. القسم الثاني: النصوص الحديثية التي لم نشهد حضوراً لها أو ما يؤكّد نسبتها للقرون السابقة، مثل كتاب بصائر الدرجات وكثير من الروايات المتفرّقة التي وجدنا ظهورها منذ عصر ابن عربي وابن طاووس (وكلاهما في القرن السابع الهجري) وما بعد. ويرى هذا الفريق أنّ تراث مدرسة الغلوّ الشيعي التي حاربها أهل البيت أشدّ المحاربة، قد عُزل وحوصر ورفض في الأوساط الشيعية بتوجيه من أهل البيت عليهم السلام، وأنّ بعض مرويّاته قد نفذت إلى الكتب الحديثية، تماماً كما نفذت بعض المرويّات المؤيّدة للتشيّع إلى كتب الحديث السنيّة، وأنّ علماء الشيعة في القرون الأولى قد ضعّفوا في بحوثهم الكلاميّة هذا النوع من الأحاديث وأهملوه، انطلاقاً من عدم انسجامه مع العقل تارةً، ومع القرآن الكريم أخرى. ولمّا ظهر ابن عربي وتنامى التصوّف منذ القرن الذي سقطت فيه الخلافة العباسية (القرن السابع الهجري)، تأثر بعض الشيعة المتأخّرين بالتصوّف تأثراً كبيراً يشبه تأثر بعض السابقين به من الغلاة، وعندما يلتقي التصوّف بالتمذهب تظهر المذاهب الباطنيّة، ولهذا حاول الغزالي أن ينفي تهمة الباطنية عن الصوفيّة، وميّز بين التصوّف والباطنية في مشروعه الصوفي والكلامي معاً، فالذي حصل هو أنّ بعض علماء الشيعة ـ وغالبيّتهم من الإيرانيين ـ تشرّبوا الثقافة العرفانية والفلسفية الميّالة للتصوّف، وآمنوا بها أشدّ الإيمان، اتباعاً منهم لابن عربي ومدرسته، وكانوا أفراداً قليلة كمثل سيد حيدر الآملي والسهروردي وغيرهما، وفي العصر الصفوي قوي هذا التيار لأنّ الصفويين هم في الأساس جماعة صوفيّة كانت تعيش في الشمال الغربي لإيران، فتحوّل العصر الصفوي إلى عصر حاضن للتصوّف والعرفان، وظهرت الكتب المنحولة غير المعلوم تاريخها، فوظّفها هؤلاء للجمع بين التصوّف والتشيّع، وذلك لهدفين: أحدهما: حفظ نزعتهم الصوفيّة في المناخ المذهبي الشيعي الذي يرفض التصوّف منذ الطوسي والمفيد، فجعلوا التصوّف في خدمة المذهب، لاسيما وأنّه كانت بينهم وبين الإخباريين منازعات في إصفهان. وثانيهما: حفظ نزعتهم المذهبيّة من خلال تعظيمها وعملقتها عبر الأدوات الصوفيّة في نظرية الإنسان الكامل لابن عربي، وبهذا التقى التمذهب مع التصوّف في العصر الصفوي في إيران؛ لأنّ الإيراني هو الذي نشّط هذا اللقاء. ومن هنا يتهم هؤلاء الإيرانيين بأنّهم المسؤولون ـ بحسب نزعاتهم الباطنيّة التاريخية الموروثة ـ عن صوفنة التشيّع وعرفنته وعملقته، وإدخاله في غنوصيّة وباطنية مخيفة، موظّفين بعض الأحاديث الآحادية (وهم أساساً لا يرون حجية لمثل هذه الظنون) لخدمة أفكارهم في المناخ الشيعي. ولهذا يقولون بأنّ السهروردي في (الحكمة الإشراقية ونظرية النور) إنّما صاغ حكمته الإشراقية على أساس الكتب الفارسية القديمة التي حصل على نُسخ منها وروّجها بصيغة إسلاميّة في المناخ الإسلامي، ولهذا نجد منذ عصره حديثاً عن نظريات من يسمَّون بالفهلويين الإيرانيين، وهم حكماء فارس القدماء، ونظريّاتهم ما تزال تثار إلى اليوم في بعض الكتب الفلسفية والعرفانيّة بين الشيعة وتنسب أيضاً إليهم، وهناك دراسات حول هذا الموضوع المتعلّق بالسهروردي يمكن مراجعتها في كتب المختصّين. وخلاصة القول: إنّ الصورة الثانية ترى أنّ التشيّع لم تكن له علاقة بكلّ هذه المنظومة الغالية، وإنّما هو مفاهيم أبسط من هذا بكثير، لكنّ بعض التراث الحديثي القليل أضيف إلى تراث مجعول غير معلوم النسبة في العصر الصفوي، وهو العصر الذي شهد نموّ التصوّف والفلسفة المتعالية عند الإيرانيين الميّالين بذاتهم لمثل هذا المزاج، فالتقت هذه العناصر لتنتج تشيّعاً جديداً، ليس هو إلا الغلوّ الذي كان في العصور السابقة، فغلوّ العصور السابقة ـ من وجهة النظر هذه ـ هو التشيّع الرسمي الصفوي بهذا الفهم للإمامة، وهو الفهم الذي لعب أمثال العلامة المجلسي وصدر الدين الشيرازي دوراً كبيراً فيه، كلّ من موقعه. هاتان قراءتان للموضوع تختلفان أشدّ الاختلاف في فهم تطوّرات نظرية الإمامة عند الشيعة، ففيما يرى الفهم الأوّل أنّنا شهدنا منذ العصر الصفوي يقظةً أعادتنا إلى تراثنا الحديثي وأفهمتنا المعنى الحقيقي للولاية والإمامة، وأنّ متكلّمي القرون الأولى قد بخسوا الإمامة حقّها، أو فرضت عليهم الظروف ذلك. يرى الفهم الثاني أنّ التشيّع هو ذلك الذي كان يعيش في مناخه المتقدّمون، وأنّ بعض بقايا الغلو ظلّت موجودة في التراث الحديثي ، وما لبث العصر الصفوي بنزعته الصوفية والعرفانية أن استعان بهذا التراث الحديثي وبما أضيف إليه من كتب وروايات غير معلومة النسبة، فنتج تشيّع جديد آخر، لعب الإيرانيّون الدور الأكبر في صياغته منذ دخولهم أفواجاً في التشيّع في العصر الصفوي. وقراءة الباحث تختلف تبعاً لنظريّته العقدية في الإمامة. وهناك فهوم أخرى للموضوع لا حاجة للإطالة فيها.
========
أَخَلق الله الجنّة لنا نحن الشيعة فقط؟
أيذهب باستور وأديسون وأمثالهما إلى النار، ويخلّد المقدّسون العاطلون الذين أنفقوا أعمارهم في زوايا المساجد في الجنّة؟ كتب الشهيد الشيخ المطهّري في كتابه (العدل الإلهي) صفحة 257 وضمن: (أَخَلق الله الجنّة لنا نحن الشيعة فقط؟) أيذهب باستور وأديسون وأمثالهما إلى النار، ويخلّد المقدّسون العاطلون الذين أنفقوا أعمارهم في زوايا المساجد في الجنّة؟ أخلق الله الجنّة لنا نحن الشيعة فقط؟ ولا يغيب عن ذاكرتي أنّ رجلاً من أهل بلدتي جاء يوماً إلى طهران وكان إنساناً مسلماً متديّناً وعندما لقيني ناقشني بهذه المسألة. وكان هذا الرجل قد شاهد في مستشفى للمصابين بالجذام (الجذام: داء كالبرص يسبّب تساقط اللحم والأعضاء عن الجسم) في مشهد الرضا (ع) ممرّضات مسيحيات يقمن بخدمات مخلصة (على الأقل كما يعتقد هو) للمرضى فتأثّر تأثراً بالغاً وهيّجه الموضوع ودفعه نحو الشكّ والتساؤل. وكما تعلمون فإنّ تمريض الأشخاص المصابين بالجذام عمل شاق ينفر منه الطبع وهو معقّد للغاية. وبمجرّد تأسيس هذه المستشفى هناك لم يوافق أحد من الأطباء سوى القليل للعمل فيه. أمّا الممرّضات فقد أحجمن عن التمريض فيه إطلاقاً. وأعلنت الصحف عن حاجة هذه المستشفى إلى ممرّضات ولكن لم تستجب ولا ممرّضة واحدة في طول إيران وعرضها لتلك الدعوة. وبعد ذلك لبّت الدعوة شابات مسيحيات من فرنسا كنّ قد انصرفن عن الدنيا فجئن من بلادهنّ وأخذن على عاتقهنّ تمريض هؤلاء المجذومين. وقد أثّرت هذه التضحية والعمل الإنساني والرعاية المخلصة التي تقدّمها هذه الممرّضات إلى هؤلاء المصابين بالجذام والذين قد تخلّى عنهم حتى الآباء والأمهات، أثرت في نفسه آثاراً لا تنمحي. وحكى لي أنّ الممرّضات المسيحيات كنّ يلبسن ملابس طويلة وفضفاضة ولم يظهر منهن سوى الوجوه والأيادي،وتحمل كلّ واحدة منهن مسبحة طويلة لعلّ فيها ألف حبّة، وكلّما انصرفت إحداهن من أعمالها انصرفت إلى الذكر والتسبيح. ثم يتساءل هذا الرجل بفكر مبعثر ونغمة متحمّسة: أهذا القول الذي يدعي أنّ غير المسلم لا يدخل الجنّة صحيح؟
===========
السبّ المقدّس
عماد علي بو خمسين تمكّن الصفويّون من فرض سيطرتهم على إيران، وفي سنة 1501 م (907 هـ)، أعلن الشاه إسماعيل الصفوي قيام الدولة الصفوية وأنّ المذهب الشيعي الاثني عشري هو المذهب الرسمي للدولة 1. كان اختيار المذهب الشيعي مذهباً رسمياً للدولة لعدّة أسباب، أهمّها محاولة التميّز عن الدولة العثمانية المجاورة والتي كانت تتّخذ المذهب السنّي مذهباً رسمياً لها، والتي كانت أيضاً معاديةً للصفويين أشدّ العداء، وقامت بينهما فيما بعد عدد من الحروب 2. استحدث الشاه اسماعيل بعض الطقوس الغريبة وأَمَر رجال الدين بنشرها في الناس على أنّها جزء من المذهب الشيعي 3، وكان الهدف منها هو صنع هوية خاصة للدولة الجديدة وضمان ولاء الناس له، ونفورهم من الخلافة العثمانية التي كانت على المذهب السنّي كما ذكرنا 4. وما يهمّنا من تلك الطقوس أنّ الشاه اسماعيل أمرَ الناس بسبّ الخلفاء الراشدين في العلن، وبالفعل كان ذلك… يبدو أنّ هذه الأوامر قد وقعت على موضع القمع والظلم المترسّخ في قلوب بعض الشيعة والذي كانت مدّته حوالي الثمانية قرون، فلاقت قبولاً عندهم. وأما من كان لا يقبل بذلك من الشيعة والسُّنّة الموجودين آنذاك فكان هناك حلّ آخر لإقناعهم. فحسب تعليمات الشاه كان هناك منادٍ يسير في الشوارع ومعه بعض الجند، ويقول: “اللهم الْعَنْ أبا بكر وعمر وعثمان”… وكان من الواجب على كلّ مَنْ يسمع هذا النداء أن يجيب فوراً وبصوتٍ عالٍ: “اللهم أكثِر ولا تُقِل”، فَمَنْ وصله النداء ولم يُجِبْ قام الجنود بإعدامه مباشرةً 5. وكم من الضحايا ذهبوا من جرّاء ذلك. لم يَعْلَم الشاه إسماعيل، أو ربما لم يكن يهمّه أساساً، أنّه بذلك كان يزيد من تعميق الاختلاف والفرقة بين الشيعة والسُّنة، كما حدث سابقاً في زمن معاوية بن أبي سفيان، ممّا كان له الأثر البعيد على الناس، ولا يزال بالإمكان رؤية هذا الأثر حتى يومنا هذا… استمرّ ذلك اللعن العلني لسنواتٍ طويلة حتى كبرت الأجيال الجديدة وهم يظنّون أنّ هذا جزءٌ لا يتجزّأ من الدين، وأنّه ضروري لإعلان الولاء لأهل البيت والبراءة من أعدائهم، بل وظهرت بعض الأحاديث المنسوبة لأئمة الشيعة أو النبي والتي يستشهدون بها لتبرير هذا السلوك والتشجيع عليه… والنبيّ يشجّع يتركّز السبّ لدى بعض الشيعة، وليس كلّهم، على ثلاثة شخصيّات أساسية هي أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعائشة بنت أبي بكر. وباختصار، فإنّ قراءة هؤلاء الشيعة للتاريخ تقول إنّ أبا بكر قد تولّى الخلافة بغير حقٍّ بينما هناك مَن أوصى الرسول له بالخلافة من بعده، أمّا عُمَر فقد تهجّم على فاطمة الزهراء, وأمّا عائشة فقد حرَّضَتْ على حرب علي بن أبي طالب في معركة الجمل. وهكذا، فإنّهم بذلك قد تسبّبوا بفرقة بين المسلمين وإقصاء أو تأخير لعليّ بن أبي طالب عن منصب الخلافة، وهو الإمام الأول لدى الشيعة… وهذه المسائل لا زالت موضع جدل واختلاف إلى اليوم لدى المؤرخين والباحثين الشيعة وغير الشيعة بين النفي والتأويل والإثبات… وليس موضوعنا هو إثبات أو نفي هذه الأحداث التاريخية، وإنما هو كيف تَستدلّ الفئة القليلة التي تبيح سبّ أبي بكر وعمر وعائشة بالأحاديث النبوية لتبرير توجيه السبّ واللعن لهم. من ضمن ذلك، الحديث الذي رواه الكليني عن أبي عبدالله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: “إذا رأيتُم أهل الرِّيَبِ والبِدَع من بَعْدي فأظهِرُوا البَرَاءَة منهُم وأكْثِرُوا مِن سَبِّهم والقولِ فيهم والوقيعة، وباهِتُوهُم 6 كَيْلَا يطمَعُوا في الفسَادِ في الإسلام ويَحْذرَهم الناسُ ولا يتعلّمُونَ من بِدَعِهِم. يكتبُ اللهُ لكم بذلك الحَسَنات ويرفعُ لكم به الدّرَجَات في الآخِرة” 7. عند التأمّل في هذا الحديث نجد أنّه يُحَرِّضُ على الإكثار من السبّ والبهتان والافتراء وترويج الإشاعات والكذب ضِدّ من أسماهم (أهل الرِيَب والبِدَع)… ولكن ألا يعني ذلك أيضاً تحريض مَن ينتمون للمذاهب الأخرى على ظلم الشيعة والكذب عليهم… فكلّ مذهب يعتبر نفسه صحيحاً والآخر مبتَدِعاً، وهذا الحديث الذي بين أيدينا مرويٌ عن رسول الله، وبالتالي هو مُوَجَّه لكلّ المسلمين، وليس للشيعة بشكلٍ خاصّ. إذن فهذا الحديث في الواقع لا يبيح سبّ أهل البدع والريب بل هو بمثابة إعلان حرب بين كلّ مذهب إسلاميّ والمذاهب الأخرى. هل يتماشى هذا الحديث مع الخُلًق العظيم والروح النبوية التي اعتدناها في أحاديث وسيرة رسول الله؟ أين هذا الحديث من حديث الرسول: “لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ وَلَا اللَّعَّانِ، وَلَا الْفَاحِشِ وَلَا الْبَذِيء” 8، و قوله: “لا تَسُبُّوا الناسَ فتكسَبُوا العَداوَةَ منهم” 9، وقول جعفر الصادق: “إنّ اللهَ عزّ و جَلّ لمْ يَبْعَثْ نبيّاً إلا بصِدْقِ الحَدِيثِ وأدَاءِ الأمَانَةِ إلى البَرّ والفَاجِر” 10. ويقول الله تعالى: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾[المائدة: 8]. و يقول تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ﴾[النحل: 90]. ويقول رسول الله: “أيّها الناسُ ما جَاءكُم عنّي يُوَافِقُ كِتَابَ اللهِ فأنا قلتُه، وما جَاءكم يُخَالِفُ كِتابَ اللهِ فلمْ أقُلْه” 11. ولو افترضنا أيضاً أنّ الحديث صحيح، فهو لم يذكر أسماء أشخاص مُحَدَّدِين لسبّهم، وإنّما جاء هذا الفهم من محاولة إخضاع النص لتوجّهات الدولة الصفوية آنذاك، وتفسيره بطريقة توافق متطلّبات ومصالح ذلك الزمان. يَضرِبُ لنا علي شريعتي، عالم الاجتماع الإيراني المعروف، مثالاً آخر على تأويل وإخضاع النصوص على الطريقة الصفويّة، كما حدث عند ترجمة كتاب نهج البلاغة من العربية إلى الفارسية… يقول شريعتي: “عندما وصل المترجِم إلى مقولة عليّ لأصحابه: (إنّي أكْرَهُ لكُمْ أنْ تَكُونُوا سَبَّابين) ووَجَدَ أنّها لا تنسجم مع التوجّه العام لدى علماء التشيّع الصفويّ، لجأ كالعادة إلى التأويل وهي الحِرفة التي تتجلّى فيها المهارة الفائقة للتشيّع الصفوي في قلب معاني التشيع العلوي وتجريدها من مضمونها الحقيقي… فقال فضيلة المترجِم: (ليس المراد من هذه العبارة هو عدم جواز شتم المُخالِف واللعن عليه بل على العكس هذا واجبٌ وتكليف، غير أنّ المنع جاء هنا من أمير المؤمنين بخصوص سبّ بني أمية، وذلك خشية أن يسبّوا بالمقابل أمير المؤمنين، فيكون السابّ لبني أمية مُتسبّباً في سب أمير المؤمنين (ع)، وهو أمر غير جائز طبعاً)… لاحظوا هنا كيف حوّل المترجِم كلامَ أمير المؤمنين إلى قاعدة مقلوبة، ومفادها أنّه لا يجوز السبّ إلا إذا كان الطرف المقابل مؤدّباً لا يردّ بنفس الطريقة…!” 12. مشكلة اجتماعية مع مرور الوقت انتقلت هذه العادة (عادة السبّ واللعن للخلفاء) مع غيرها من العادات التي استحدثها الصفويّون، إلى مناطق الشيعة خارج إيران والتي تأثّرت بقوة الدولة الصفوية المجاوِرة لهم والمشارِكة لهم في المذهب. ومن الطبيعي أن يتأثّر الضعيف بالقويّ، بالذات إذا كانا على معتقدٍ واحد، فيأخذ عاداته حتى لو كانت سيّئة. ولا تزال مثل هذه العادات موجودة إلى اليوم عند البعض، وإن كانت حِدّتها قد خفّتْ عمّا كانت عليه. ففي السابق كان المجتمع الواحد منغلقاً على نفسه والجهل منتشراً بين عامة الناس، أما الآن فقد انتشر الوعي وصار الإعلام منفتحاً، وأدرك الناس ضرورة تعايش أبناء المجتمع الواحد من سنّة وشيعة مع بعضهم البعض. سِلاح الضعيف يتربّى الصبي على سماع هذه اللعنات والشتائم في محيطه ضدّ شخصيّات في صدر الإسلام، يشجّعه على ذلك الشعور بالغبن كردّة فعل تجاه الاضطهاد والتهميش والمعاملة العنصرية التي تعرّض لها المجتمع الشيعي ولا يزال… والضعيف ليس لديه سلاحٌ يحمله ليطالب بحقوقه أو ليدفع الأذى عن نفسه. كلّ ما لدى الضعيف هو سلاح الشتائم كوسيلة للتنفيس عن غضبه… يوجّهها لمن آذوه أو حرموه من حقوقه… أو يوجّهها لرموزهم الدينية حتى يزيد من إغاظتهم. فإذا كبر ذلك الصبي الذي اعتاد على سماع السّباب وترديده، فإنه يرفض أن يصدّق أنّ السبّ واللعن لا قيمة لهما، بل يقاوم بشدّة من يقول إنّ ذلك لن يجلب له ثواباً ولن يقرّبه من الله زلفى، فهذا السبّ واللعن قد تضخّم في ذهنه حتى صار يظنّه جزءاً لا يتجزّأ من إيمانه بالله، وشعيرة مهمة لإظهار محبّته وولائه لأهل البيت. وأما الحديث: “لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبَّاباً وَلَا فَحّاشاً، وَلَا لَعَّاناً“13، فيصبح لا قيمة له عنده… فالموروث الاجتماعي والعقل المُبَرْمَج منذ الصغر، أقوى من كلِّ حديثٍ شريف وأقوى من كلِّ آيةٍ كريمة. والواقع أنّ علماء الشيعة في وقتنا الحاضر ينكرون سبّ الصحابة، ويقولون إنّه لا أصل له في المذهب الشيعي ولا يمارسه إلا (القلّة المتعصّبة) كردّة فعل كما قلنا. ولكن يظهر أن هناك فجوة بين هؤلاء العلماء وبين البعض من عامة الناس، فلا يستمعون لهذا الإنكار ولا يتبعونه، بل يمرّون عليه مرور الكرام وكأنّه موجّهٌ لغيرهم. منطق السبّ المقدّس لم أستوعب يوماً كيف يكون السبّ عبادة… هل من الممكن أن يكون هناك دين يشجّع أبناءه على سبّ الآخرين ويَعِدُهُم بالثواب العظيم عليه؟ هل يريد الله ذلك لعباده المؤمنين؟ كنت أظنّ أنّ التقرّب إلى الله يكون بعمل المعروف وإفشاء السلام والكلمة الطيبة… لا يمكن للسُّباب وبذاءة اللسان أن يَجِدَا مكاناً بين هذه الأمور حتى لو كانا موجَّهين لأعدى الأعداء… شتّان ما بين الاثنين. فإذا قلنا لهم ذلك قالوا: “نحن لا نسبّ، نحن نلعن فقط…” كأنّهم بهذا صاروا في قِمّة الأدب والخُلُق الرفيع، وكأنّ اللعن أهون من السبّ والشتم… هل هناك أحد يقبل أن تلعنه أو تلعن رموزه الدينية ويرضى بذلك لمجرّد أنّك (لمْ تسبّه)؟ فالأذى النفسي ذاته ينتج في الحالتين ولا يقبل به أحد، بل سيردّ عليك اللعنات بمثلها وأكثر. كيف تكون ردّة الفِعْل في سنة 37 هـ كان أهل الشام يشتمون عليَّ بن أبي طالب أثناء حرب صفّين وذلك بتحريضٍ من معاوية بن أبي سفيان. فلمّا سمع بعض أصحاب عليّ ذلك، ما كان منهم إلا أن ردّوا عليهم الشتائم بمثلها… ولما سمع ذلك الإمام عليّ قال لهم: “كرهتُ لكم أن تكونوا لعّانين، شتّامين، تشتُمون وتتبرّأون، ولكن لو وصفتم مساوئ أعمالهم، فقلتم من سيرتهم كذا و كذا، ومن عملهم كذا وكذا، كان أصْوَبَ في القولِ وأبلغَ في العذر“ 14. و نرى هنا أنّ الإمام لم ينْهَ أصحابه عن السبّ وكفى، بل يقول لهم تحدّثوا بما فعلوا بكم وبما أساؤوا إليكم ولا تسكتوا، فهذا حقّ… وبمقاييس اليوم، يشبه ذلك الحرب الإعلامية بين طرفين متناقضين، يبيح كلّ طرف لنفسه من الوسائل ما يتناسب مع مبادئه وشخصيّته… ومرّةً أخرى، شتّان ما بين الأسلوبين، وشتّان ما بين المبدأين. ولكن كيف كانت ردّة فعل أصحاب عليّ بعد أن قال لهم ذلك، وهل توقّفوا عن السبّ فعلاً؟ قالوا في لحظتها: “نقبلُ عِظَتَكَ ونتأدّبُ بأدَبِك“ 15. إذن لم يحاول أصحاب الإمام علي أن يكونوا أذكى من إمامهم ولم يجادلوه، ولم يقولوا إنّ السبّ واللعن موجودان في القرآن وإن الرسول كان يسبّ ويلعن مَن تخلّف عن جيش أسامة، كما يتحجّج بذلك بعضهم اليوم… وعلى كل حال، فقد قال بعض العلماء إنّ اللعن الموجود في القرآن الكريم أو حديث الرسول هو على التعميم وليس التخصيص، فلا يجوز لعن شخص محدّد بالاسم ما لم يَرِدْ نصّ صريح في ذلك 16. كيف توقّفَ السبّ استخدم معاوية سبّ عليّ كوسيلة لتنفير أهل الشام من عليّ 17، وكذلك كوسيلة لغسل عقول الأجيال الجديدة فيضمن بذلك تعميق الاختلاف بين الفريقين فلا يتعاطف أحد من فريقه مع الفريق المضاد في يومٍ من الأيام 18. استمرّ سبّ عليّ على منابر الأمويّين حوالي الستين عاماً حتى زمن الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز، الذي أمر بوقف السبّ ونهى عنه 19. يروي لنا عمر بن عبد العزيز موقفاً من طفولته، يوضّح لنا تأثير التلقين على الأطفال وغسيل المخ المُمَنهج الذي مارسه الأمويّون، كما يوضّح كذلك أنّ التربية السليمة بمقدورها تصحيح الكثير من المفاهيم قبل فوات الأوان… يقول عمر بن عبد العزيز: “كنتُ غلاماً أقرأ القرآن على بعض ولد عتبة بن مسعود، فمرّ بي مُعَلِّمي يوماً وأنا ألعب مع الصبيان ونحن نلعن عليّاً، فكَرِهَ ذلك ودخل المسجد، فتركت الصبيان وجئت إليه… فلمّا رآني قام فصلّى وأطال في الصلاة شِبهَ المُعرِض عنّي حتّى أحسستُ منه ذلك فلمّا انفتل من صلاته كَلَحَ في وجهي. فقلتُ له: ما بال الشيخ؟ فقال لي: يا بُنيّ أنت اللّاعنُ عليّاً منذ اليوم؟ قلت: نعم. قال: فمتى علمتَ أنّ اللّه سخط على أهل بدرٍ بعد أن رضيَ عنهم؟ فقلت: يا أبتِ، وهل كان عليّ من أهل بدر؟ فقال: ويحك! وهل كانت بدرٌ كلّها إلاّ له؟ فقلت: لا أعود… فلم ألعنه بعدها” 20. ولكنّ ذاك السبّ الذي أوقفه عمر بن عبد العزيز كان للأسف قد ترك بالفعل جرحاً غائراً لا يندمل في وجدان الأمة، أضف لذلك الكثير من الحروب والأحداث السياسية التي حدثت في ذلك الزمن… فحتى بعد ذهاب الأمويّين، ظلّ هناك مَن يعادي أهل البيت ومن شايعهم… وكردّة فعل طبيعية، ظهر كذلك مَنْ يبغضون كلّ مَنْ يمثّل السلطة المضادّة التي قمعتهم، أو من أسّسَ لها. اليوم يعلمنا التاريخ دروساً مهمّة: القمع الفكري لن يولّد إلا مجتمعات مشوّهة، احتكار الحقيقة لن يولّد إلا مجتمعات متناحرة، امتلاك السياسي للدين في يده لن يولّد إلا المآسي. بَيْنَ معاوية الأموي وإسماعيل الصفوي، لعبت السياسة ألاعيبها، واختلط الدهاء السياسي بمحاولات استغلال الدين لخدمة مصالح الدولة وحاكمها المطلق ومن يَرِثُ المُلك بعده من أبنائه. وبَقِي السبّ المقدّس إلى يومنا هذا، يدعمه في ذلك تأثيرات وضغوط وموروثات اجتماعية كثيرة كما ذكرنا. الأمويّون سبّوا عليَّ بن أبي طالب، والصفويّون سبّوا أبا بكر وعمر، والآن بعض الشيعة يسبّون رموز السنّة في السرّ أحياناً وفي العلن أحياناً أخرى (كما فعل المقيم في لندن، والذي أساء لعائشة زوج الرسول على قناته الفضائيّة). ثم يقوم بعض المتطوّعين من السنّة بسبّ الشيعة واختراع الأوصاف لهم، إذ يبدو أنّ مبدأ (باهِتوهُم) الذي تحدّثنا عنه هو مبدأ له شعبيّة كبيرة هذه الأيام لدى الجميع… ولكن هنا تظهر مشكلة بسيطة وهي أنّ رموز الشيعة من أهل البيت هم رموز مشتركة بين الفريقين، فلا يمكن للسنّي أن يسبَّ علي بن أبي طالب أو جعفر الصادق… فما العمل في هذه الحالة؟ هنا تتمّ الاستعاضة عن ذلك عن طريق سبّ الشيعة من عامة الناس ووصفهم بأنّهم أحفاد المجوس وأحفاد الصفويّين وأبناء المتعة، فيردّ الشيعة بأنَّ السنّة هم أحفاد الأمويين وأبناء المسيار… دوّامة لا تنتهي من الفعل وردّة الفعل، يُلقي فيها كلّ طرف اللوم على الطرف الآخر… وبمجرّد إلقاء نظرة على تعليقات القرّاء في مواقع الانترنت المختلفة تحت أيّ موضوع يتعلّق بالشأن السنّي الشيعي، تُظهِر القلوب مكنوناتها مستعينةً بالتخفّي خلف الأسماء المستعارة أحياناً، والصريحة أحياناً أخرى… هذا السُّباب المتبادل يعكس وجود أزمة ثقة وحالة حنق عامة على الآخر… تُصَمُّ فيها الآذان عن قول الله تعالى: ﴿وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ﴾[الحجرات: 11]. ***** الهوامش 1 علي أحمد رشيد، الصفوية التاريخ والصراع والرواسب (أسباب وبواعث قيام الدولة الصفوية) ص 50. وانظر: د. مشتاق عبد مناف الحلو، الصفوية التاريخ والصراع والرواسب (الصفوية والعثمانية، تطاحن الأيدولوجيات الطائفية) ص 66. 2 د. علي شريعتي، التشيع العلوي والتشيع الصفوي، ص 76. وانظر: د. علي الشيخ، الصفوية التاريخ والصراع والرواسب (الدولة الصفوية وأتباع الأديان والمذاهب الأخرى) ص 99. 3 د. علي الوردي، لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث، ج 1، ص 59. وانظر: د. علي الشيخ، الصفوية التاريخ والصراع والرواسب (الدولة الصفوية وأتباع الأديان والمذاهب الأخرى) ص 96– 98. 4 بعد رحيل الشاه إسماعيل، تولى ابنه الشاه طهماسب الحكم، وبرز في عهده اسم الشيخ علي بن عبد العالي الكركي، الذي صار شيخ الإسلام والمسؤول عن الشؤون الدينية في الدولة، وقد وضع الكركي رسالة لا تزال مخطوطة بعنوان: “نفحات اللاهوت في لعن الجبت والطاغوت” في تجويز لعن الخلفاء (د. كامل مصطفى الشيبي، الصلة بين التصوّف والتشيع، ج 2 ، ص 373), ولا يخفى معنى عنوان هذه الرسالة على أحد. 5 د. علي شريعتي، التشيّع العلوي والتشيع الصفوي، ص 75. وانظر: د. علي الوردي، لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث، ج 1، ص 58. وانظر: د. علي الشيخ، الصفوية التاريخ والصراع والرواسب (الدولة الصفوية وأتباع الأديان والمذاهب الأخرى) ص 103. 6 يقول محقّق كتاب الكافي في الهامش في معنى باهِتوهم: “والظاهر أنّ المراد بالمُبَاهَتة إلزامهم بالحجج القاطعة وجعلهم متحيّرين لا يَحيرون جواباً، كما قال تعالى: ﴿فبُهِتَ الذى كفر﴾، ويحتمل أن يكون من البهتان للمصلحة فإنّ كثيراً من المساوئ يعدّها الناس محاسن خصوصاً العقائد الباطلة، والأول أظهر“… بينما يرى ابن منظور في معجم لسان العرب أنّ معنى بَاهَتَ يختلف عن معنى بُهِتَ المذكورة في الآية، يقول ابن منظور: “بَاهَتَهُ: اسْتقْبله بأَمرٍ يَقْذِفُه به، وهو منه بريء، لا يعلمه فَيَبْهَتُ منه، والاسم البُهْتانُ. وبَهَتُّ الرجلَ أَبْهَتُهُ بَهْتاً إِذا قابلتُه بالكذب“… ثم يضيف ابن منظور: “وفي التنزيل العزيز: ﴿فبُهِتَ الذي كَفَر﴾, تأْويلُه: انْقَطَع وسكتَ مُتحيّراً عنها“. (ابن منظور، لسان العرب، مادة: بهت). 7 الكليني، أصول الكافي، باب مجالسة أهل المعاصي، ج2، ص 375. وهذا الحديث صححه المجلسي في مرآة العقول ج 11 ص 7، وصحّحه الخوئي في مصباح الفقاهة ج1 ص 362، وعقّب عليه الخوئي بتفصيل مهم ممّا يستحقّ الاطلاع عليه. 8 الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحيحين، كتاب الإيمان، ج 1، ص 52 و 53. ونقله محمد مهدي النراقي، جامع السعادات، ج 1، ص 301. 9 محمد مهدي النراقي، جامع السعادات، ج 1، ص 301. 10 الكليني، أصول الكافي، باب الصدق وأداء الامانة، ج 2، ص 104. وكذلك: المجلسي، بحار الأنوار، ج 75، ص 116. 11 الكليني، أصول الكافي، باب الأخذ بالسنة وشواهد الكتاب، ج 1، ص 69. 12 د. علي شريعتي، التشيع العلوي والتشيع الصفوي، ص 77 – 78. 13 صحيح البخاري، كتاب الأدب، حديث رقم 5684. 14 نصر بن مزاحم المنقري، وقعة صفّين، ص 103. وكذلك: نهج البلاغة، الشريف الرضي، ص 492 رقم 204، بإيجاز واختلافٍ يسير، واللفظ هنا للمنقري. 15 المصدر السابق. 16 محمد مهدي النراقي، جامع السعادات، ج 1، ص 304-305. وكذلك انظر: الشيخ حسين علي الراضي، النبي الأعظم وثقافة اللعن، مقال بتاريخ 8/3/2012 م على موقعه www.alradhy.com. 17 صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل علي بن أبي طالب، ج 7، ص 120. وكذلك: الطبري، تاريخ الأمم والملوك (تاريخ الطبري)، أحداث السنة الأربعين، ص 900. وكذلك: ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج 3، ص 273. وكذلك في العديد من المصادر المتفرّقة مثل تاريخ الطبري و بغية الطلب في تاريخ حلب وغيرها. 18 جاءَ في كتاب شرح نهج البلاغة: “أنّ قوماً من بني أمية جاءوا إلى معاوية، فقالوا له: إنّك بلغتَ ما أمِلتَ، فلو كففتَ عن لعن هذا الرجل..!. فقال: لا والله حتى يَرْبُو عليها الصغير ويهرم عليها الكبير، ولا يذكر له ذاكرٌ فضلاً” (ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج 4 ص 57). 19 سير أعلام النبلاء للذهبي ج 5، ص 147. وكذلك في العديد من المصادر التي ترجمت لعمر بن عبد العزيز. 20 شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ج 4 ص 58 – 59.
=========
الغلوّ
الشيخ المفيد الغلو في اللغة: مجاوزة الحدّ والخروج عن القصد وهو الإفراط في حقّ الأنبياء أو الأئمة (عليهم السلام) بالأخص (تصحيح الاعتقاد للشيخ المفيد ص109). ومن علاماته: ادعاء الألوهية في البشر، أنبياء أو أئمّة أو ادّعاء حلول الإله فيهم، أو إضفاء صفة من صفاته تعالى عليهم، أو إخراجهم عن حدّ البشرية بأيِّ نحو كان. (الملل والنحل للشهرستاني ج1 ص288، مصر 1948). ونجد عند الشيخ المفيد- رحمه الله- أنّه كان متابعاً لموقف أئمة أهل البيت(ع) في التصدّي لهذه الظاهرة الخطيرة ولما أعلنوه (ع) مراراً من البراءة من الغلاة والجهر بلعنهم وأمر شيعتهم بالابتعاد عنهم والتبرّؤ منهم (الإمام الصادق والمذاهب الأربعة ج2 ص234). لقد تصدّى الشيخ المفيد لمعالجة هذه الظاهرة الخطيرة، والوقوف بحزم وجرأة في وجهها، والدفاع عن المذهب وبيان الاعتقادات الصحيحة، ثم ذكر أيضاً: "إنّ الإمامية لم يكتفوا بالبراءة منهم، بل جرّدوا الحجج من الردّ على القائلين بمقالاتهم، وباينوهم في الظاهر والباطن". (المسائل الصاغانية في الرد على أبي حنيفة: ص251 مطبوعة ضمن مجموعة رسائل، ط1، منشورات مكتبة المفيد، قم، إيران). الاعتقادات التي تجعل الإنسان مغالياً يحدّد الشيخ المفيد الأمور الاعتقادية التي يصير بها الإنسان مغالياً، أي الأمور التي تخرجه عن الاعتقاد الصحيح، ويمكن تثبيتها كما يأتي: أولاً: ادّعاء الألوهية في النبيّ أو الإمام أو ادّعاء النبوّة في الإمام، قال الشيخ المفيد في هذه المسألة: "ويكفي في علامة الغلوّ نفي القائل به عن الأئمة سمات الحدوث وحكمه لهم بالإلهيّة والقدم.." (راجع: بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج25 ص346). وقال في مكان آخر: "والغلاة من المتظاهرين بالإسلام هم الذين نسبوا أمير المؤمنين والأئمة من ذرّيته عليهم السلام إلى الألوهية والنبوّة..."(تصحيح الاعتقاد ص111) ثم قال: "وهم ضلاّل كفّار، حكم فيهم أمير المؤمنين صلوات الله عليه بالقتل والتحريق بالنار، وقضت الأئمة عليهم السلام عليهم بالإكفار والخروج عن الإسلام..". (بحار الأنوار: ج25 ث265، ط2، بيروت، مؤسسة الوفاء). ثمّ بيّن بعد ذلك الرأي الصحيح والاعتقاد السليم فقال: " إنّ رسل الله تعالى من البشر وأنبيائه والأئمة من خلفائه محدثون مصنوعون تلحقهم الآلام، وتحدث لهم اللذات، وتنمو أجسامهم بالأغذية، وتنقص على مرور الزمان، ويحلّ بهم الموت ويجوز عليهم الفناء، وعلى هذا القول إجماع أهل التوحيد. وقد خالفنا فيه المنتمون إلى التفويض وطبقات الغلاة". (أوائل المقالات: ص84). جاء في بحار الأنوار عن الأئمة (ع): "احذروا على شبابكم الغلاة لا يفسدونهم!.. فإنَّ الغلاة شرّ الخلق؛ يصغِّرون عظمة الله، ويدعون الربوبيّة لعباد الله" (بحار الأنوار ج25 ص265، راجع الإمام الصادق لأسد حيدر ج1 ص234، دار الكتاب الإسلامي، بيروت، ط2، 1390ه). وصف الإمام أو النبي ببعض الصفات الإلهية إنّ من علامات الغلوّ التي يحدّدها الشيخ المفيد هي: إضافة صفة من صفات الله تعالى على النبيّ أو الإمام، أو أيّ شخص آخر وهذا، بدون شكّ، تجاوزٌ للحدّ، ولعلّ أهمّ ما يتّصل بذلك ممّا ذكره أمران: أوّلهما: إضفاء صفة الخلق أو الرزق إلى الأئمة(عليهم السلام). وثانيهما: ادعاء علمهم بالغيب على نحو المطلق، ونورد ما ذكره الشيخ المفيد في هذا المقام كما يلي: ذكر الشيخ المفيد، أنّ المفوّضة صنف من الغلاة، وعلّل ذلك بأنّهم أضافوا الخَلْق والرِّزق إلى الأئمة (عليهم السلام) وأنّهم ادّعوا أنّ الله تعالى تفرّد بخلقهم خاصة وأنّه فوّض إليهم خلق العالم" (تصحيح الاعتقاد ص109). وقد جاء في القرآن الكريم قوله: {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ}[الأعراف: 54]، وقوله تعالى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ}[فاطر: 3]. ادّعاء علم الغيب للأئمة قال الشيخ المفيد: "فأما إطلاق القول على الأئمة بأنّهم يعلمون الغيب فهو منكر بين الفساد؛ لأنّ الوصف بذلك إنّما يستحقّه من علم الأشياء بنفسه لا بعلم مستفاد، وهذا لا يكون إلاّ لله عزَّ وجلَّ، وعلى قولي هذا جماعة أهل الإمامة، إلاّ من شذ عنهم من المفوضة ومن انتمى إليهم من الغلاة". (أوائل المقالات: 77). والشيخ المفيد يعالج هذه المسألة من زاوية أخرى فيقول: "أما ما ورد من الأخبار التي يفيد ظاهرها بأنّهم- عليهم السلام- يعرفون ما في ضمائر بعض العباد، ويعرفون ما يكون فتأويل ذلك عنده: أنّه ليس ذلك بواجب في صفاتهم، ولا شرطاً في إمامتهم، وإنّما أكرمهم الله تعالى به، وأعلمهم إيّاه للطف في طاعتهم والتمسّك بإمامتهم، وليس ذلك بواجب عقلاً، ولكنّه وجب لهم من جهة السماع.."(أوائل المقالات، ص77). وفي آمالي المفيد روى عن ابن مغيرة قال: "كنت أنا ويحيى بن عبد الله بن الحسن عند أبي الحسن(ع) فقال له يحيى: جعلت فداك إنّهم يزعمون أنّك تعلم الغيب؟ فقال: سبحان الله، ضع يدك على رأسي فوالله ما بقيت شعرة في جسدي ولا في رأسي إلاّ قامت، ثم قال: لا والله ما هي إلاّ وراثة عن رسول الله صلى الله عليه وآله.." (آمال المفيد، منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية، قم المقدسة، المطبعة الإسلامية، 1403 ه، ص23). وفي هذا المعنى ورد عن أمير المؤمنين (ع) أنّه قال: "إنّه تعلّم من ذي علم" (نهج البلاغة، خطبة رقم 128)، إشارة إلى ما رُوِيَ عنه (ع): "علّمني رسول الله (ص) ألف باب من العلم، يفتح لي من كلّ باب ألف باب". (الإرشاد، الشيخ المفيد، ص22، رواية ينتهي سندها إلى عبدالله بن مسعود).
=========
الفقيه والمثقف
العلامة السيد محمد حسين فضل الله للحديث عن “الفقيه” و “المثقف” دائرتان تتصلان بالخط الذي يتحرك فيه الفقيه الإسلامي في مسؤولياته الذاتية والرسالية. الفقيه في الدائرة الذاتية والرسالية فهناك الدائرة الذاتية في علم الفقه، كاختصاص في مفردات الشرع الإسلامي في النطاق الفقهي، من خلال الدراسة المنهجية التي ترتكز على توثيق النص في سنده وألفاظه، وتحقيق المضمون في مدلوله وأبعاده، للوصول إلى مرحلة الاستنتاج في استخراج الحكم الشرعي من مصادره الموثوقة. وهناك الدائرة الرسالية لامتداد الإسلام في حركة الإنسان في الواقع، من حيث هو منهج للحياة، وحلّ لمشاكلها، وانفتاح على آفاقها، ومواجهة لتحدياتها، من أجل تحقيق الصيغة المثلى، والأنموذج الذي يستطيع الوقوف بقوةٍ وصلابة أمام التيارات الأخرى في ساحة الصراع، على مستوى المفاهيم والوسائل والأساليب، بحيث يملك الموقف الحركي المتنوع الألوان والمتعدّد الأبعاد، فيكون الفقيه رسولاً مرحلياً في معنى الرسالة في دائرة الامتداد لحركية الرسول. ففي الدائرة الأولى، قد يرى البعض أن ثقافة الفقيه تتمحور حول القواعد التي تحدّد الطريقة لفهم النص وتوثيقه في نطاق العلوم العربية أو علم الدراية والحديث والرجال، أو فقه القرآن، مع التركيز على علم المنطق الذي يحدد الجانب الشكلي للاستدلال، وعلم الأصول الذي يزوّده العلم بالقواعد الممهدة لتحديد الوظيفة العملية من خلال تحديد الحكم الشرعي الواقعي أو الظاهري، ليكون علم الفقه الذي يتابع مناهجه ومسائله ومفرداته هو نتاج ذلك كله. فإذا تمّ له ذلك، كان قد أخذ العلم الفقهي من كل أطرافه من دون حاجةٍ إلى علوم أخرى – حتى أن التفسير القرآني لا يمثل حاجة له، خارج نطاق آيات الأحكام – لأنه ليس بحاجة إلى التخصص بالقرآن في هذه الدائرة لاتصاله بالمسألة العقيدية، مثلاً، التي هي في منأى عن دور الفقيه.. أمّا علم الكلام والفلسفة فهو ترف فكري لا علاقة له بالفقه من قريب أو من بعيد. إنّ المسألة المطروحة في هذا الجانب هي الوصول إلى جسم الشريعة لا روحها، وإلى مفرداتها لا أبعادها، وإلى فرضياتها لا وقائعها، ولهذا فلا ضرورة للتدقيق في موضوعات الأحكام، لأن وظيفة الفقيه هي تحديد الحكم الشرعي على الموضوعات المفترضة. فلا يجب عليه إحراز الموضوع – من حيث هو الفقيه المفتي – لأن الفتوى تطلق الحكم على الموضوع على أساس تقدير وجوده في الواقع الخارجي، وعلى المكلف أن يلاحق حركة الموضوع في حياته وحياة الآخرين تبعاً للحكم الشرعي الفتوائي، وربما استثنى الفقهاء من ذلك الموضوعات التي لا بد للفقيه من تحديد مفهومها من خلال النصوص، كالغناء والصعيد والوطن، وأمثالها من موضوعات الأحكام التي يختلف الرأي في طبيعة مضمونها أو في سعته أو ضيقه، من خلال المعنى اللغويّ أو العرفي أو الشرعيّ، إن كان للشارع حقيقة شرعية فيه في حجم المصطلح. بين دور الفقيه والحاكم الشرعي إن دور الفقيه في هذه الدائرة هو دور العالم بالقانون الذي يحدد مدلولات موادّه، لتكون ثقافته محدودة فيما هو القانون في ذاته لا في روحه، إلاّ بالمقدار الذي يتصل به ذاتياً. وقد نجد في بعض النظريات الفقهية في مسألة حكم الحاكم الشرعي، أنه ليس حجة في تحديد موضوعات الأحكام، بل هو مختص بباب القضاء، فلو أن الحاكم الشرعي، مثلاً، حكم بهلال شهر رمضان أو بالعيد، فلا يجب على الناس إطاعته في ذلك، حتى إذا كانوا يرجعون إليه في الفتوى، فيتوقف قبولهم به بالقناعة الشخصية بذلك بقطع النظر عن حكمه ورأيه. وقد امتدّ هذا الاتجاه الضيِّق المنغلق على الدائرة الذاتية للفقه في شخصيته، إلى الانغلاق الفقهي على الدائرة المذهبية، فلم يعد للفقيه الشيعي أيّ اهتمام ثقافي بالفقه السنّي إلا بالمقدار الذي يتصل ببعض تعقيدات الفقه المذهبي من ناحية انفتاحه على بعض تفاصيله في نطاق موضوعات “التقية” مثلاً، كما أنّ الفقيه السنّي يفكّر بالطريقة نفسها في فقدان الاهتمام الثقافي بالفقه الشيعي، إلاّ من خلال الرغبة الذاتية غير الملحّة في معنى الاختصاص. وهكذا فقدنا في مجتمعاتنا الفقهية صفة الفقيه الإسلامي الموسوعي في مسألة الاختصاص الفقهي، الأمر الذي أبعد الواقع الإسلامي الفقهي العام عن التصور الدقيق للتفكير المتنوع في هذه الدائرة المذهبية أو تلك، وهذا ما أدّى إلى توسيع المساحة الهائلة الفاصلة بين مواقع المجتمع الإسلامي، على أساس أن النماذج المتحركة فيها هي نماذج فقهاء المذاهب، لا فقهاء الإسلام، فكان الإصرار الجامد على الوقوف عند حدود المذهب في المسألة الاجتهادية، بحيث أصبح من المألوف أن يتهم فقيه شيعي بأنه أصبح قريباً من الانحراف إلى الدائرة السنّية إذا تبنى حكماً موافقاً للمذهب السنّي، أو يتهم فقيه سنّي بالخضوع للمؤثرات الشيعية إذا أفتى بما يوافق مذهب الشيعة، على أساس أنّ كل دائرة لا بد أن تبقى مغلقة عن الدائرة الأخرى على الدوام. وهناك ظاهرة سلبية نشأت في ظلِّ هذا المفهوم المحدود لدور الفقيه، وهي ابتعاده عن مسألة تبليغ الدعوة أو المفردات الفقهية على خطِّ التوعية العامة، لأن هذا لا يلتقي بمهمة العالم الفقيه، بل يلتقي بمهمة المبلّغ الذي يستهلك ثقافة الفقيه ليبلِّغها إلى الإنسان. وبذلك بدأ الفصل بين مهمة الفقيه ومهمة المبلّغ والواعظ، حتى رأينا في بعض الدوائر العلمية الفقهية، من ينكر على الناس مطالبة الفقيه بذلك، لأنه ليس دوره أو وظيفته أو مسؤوليته. إنّ خلاصة النظرة، في هذا المفهوم، هي أنّ الفقيه يملك اختصاص الفقه في مسائله تماماً كما هو الطبيب الذي يملك اختصاص المعرفة الطبية في مفرداتها، من دون أن تكون لأية ثقافة فلسفية أو علمية أو اجتماعية أو أدبية أو سياسية، مدخلية في معناه، فلا يكون افتقاده لها نقصاً في موقعه أو دوره. إنّها النظرة التي تنتج الفقيه الجامد المنغلق عن حاجات عصره، لا الفقيه الحركي في عالم التحديات.. وربما نلتقي – في هذا المجال – ببعض النماذج التي لا تملك ثقافة عقيدتها الإسلامية في الاستدلال الفكري للعقيدة على أساس القواعد العلمية، بل قد تكون خاضغة لأفكار سطحية أو لتقليد المناخ العام الذي قد تستثيره أيةّ مناقشة لبعض التفاصيل أو توجيه علامات استفهام لأيّ خط فكري في هذا المضمون العقيدي أو ذاك، تماماً كأيّ شخص جاهل يتحرك في موقع الانفعال. وفي الدائرة الرسالية، تختلف المسألة، كليّاً، عن الدائرة الذاتية، فهناك الأفق الرحب الذي ينفتح على الإسلام، وهناك الأرض الواسعة الممتدة في اتجاه الأهداف الإسلامية الكبرى، وهناك الأمة الإسلامية الكبيرة في مستوى العالم، وهناك العالِمُ في الدائرة الإنسانية الذي يتطلع إلى الإسلام في قضاياه ومشاكله، وهناك الفقه الإسلامي المنطلق من قاعدة الإيمان بالله وبرسله وباليوم الآخر، المتحرك في حاجات الإنسان وأوضاعه من أجل تفجير طاقاته على أساس الحرية والعدالة، لتكون الحياة كلها دعوةً في خط الرسالة ورسالة في حجم الحياة. وفي ضوء ذلك، ينطلق دور الفقيه ليكون دور النبي باعتباره الحامل لرسالته، الأمين عليها، على هدى الحديث الشريف المأثور: “العلماء ورثة الأنبياء” و “العلماء أمناء الرسل”، فإذا كانوا ورثة الأنبياء، فلا بُدّ لهم من أن يتحركوا على مستوى الدعوة والحكم والجهاد والحركة في خط الإنسان والحياة. وإذا كانوا الأمناء للرسل، فلا بد لهم أن يكونوا الحافظين لرسالتهم ولأمتهم، السائرين في دروبهم، الحارسين لمواقعهم، الثابتين في مواقفهم ومواقعهم. وهكذا يكون الفقه النافذة التي يطلُّ الفقهاء من خلالها على الواقع كله والإنسان كله، ولن يكون – الفقيه – مجرد مثقف في الحكم الشرعي، بل يمتد إلى أن يكون مثقف في الإسلام كله عقيدةً وشريعةً ومنهجاً وهدفاً على خطِّ النظرية، وحركة وجهاداً ودعوة وسلطة على خط التنفيذ والامتداد في الحياة. وفي هذا الاتجاه، نقف مع الفقيه ليكون الحاكم الذي يتدخل في حلّ مشاكل الساحة فيما يختلف فيه النّاس في أمورهم الخاصة والعامة، حتى لا يبقى فراغ في الحكم على مستوى الإسلام، فيفسح المجال لغيره، أو يخضع للمنحرفين عن الخط ليكونوا الحاكمين على الناس من خلال انحرافهم، وهذا ما نستوحيه من قول الإمام جعفر الصادق (ع): “انظروا إلى رجل منكم قد روى حديثنا، وعرف أحكامنا (أحكام الإسلام)، ونظر في حلالنا وحرامنا (حلال الإسلام وحرامه) فارضوا به حكماً فإني قد جعلته عليكم حاكماً...”. فإذا كانت ثقافة الحديث ومعرفة الأحكام، ووعي الحلال والحرام، هي الأساس الذي يرتكز عليه موقع الحكم للحاكم، فلا بد أن تنطلق هذه الثقافة في حركة انفتاح على واقع الناس ووعي لمشاكلهم وفهم لقضاياهم وتطلّعٍ إلى غاياتهم، للقيام بدور الحاكمية في المستوى اللائق الذي يحفظ شؤون البلاد والعباد، من خلال وعيه الشامل للخلفيات الكامنة وراء الأحداث، وللنتائج السلبية أو الإيجابية الحاصلة منها، وللتطلعات المستقبلية التي يخطط لها، ولا بُدّ أن تتفاعل الثقافة الإسلامية الفكرية والفقهية مع الأوضاع المحيطة بالواقع المتجدّد تبعاً لتجدد الأوضاع في أجواء الظروف المختلفة. دراسة حالة الرواة ونلتقي في الاتجاه نفسه بالحديث المعروف: “وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله...”. فقد نفهم من هذا النص، أن المطلوب فيه هو مواجهة “رواة الأحاديث” للحوادث الواقعة المتجددة التي لم يسبق وقوعها في زمن النصوص الإسلامية، بالاجتهاد المفتوح على كل مفرداتها من أجل استنباط أحكامها، وذلك باستيحاء القواعد العامة الثابتة في الكتاب والسنّة من أجل تطبيقها على الواقع الجديد، فلا يبقى هناك فراغ في التشريع في الموضوعات التي لم يرد فيها نصّ خاص، الأمر الذي يفرض المعرفة الميدانية للواقع، مقارنةً بالواقع المماثل، أو منفتحة على الخصائص والشروط المختزنة في داخله بالإضافة إلى المعرفة الفقهية، لتكون ثقافة الواقع في كل دقائقه وخصوصياته أساساً لفهم نوعية التشريع الإسلامي في الوقائع، لأن الفقيه إذا لم يفهم موضوع الحكم جيّداً، فلا يملك معرفة الحكم الثابت له. وربما كانت الإشارة في الحديث إلى الرجوع إلى “رواة الحديث” في توجيه الأحداث وتحريكها والإشراف عليها في منطق الولاية العامة، لتكون دليلاً على نظرية “ولاية الفقيه”، الأمر الذي يفرض الإحاطة بكل ظروف الحوادث الواقعة الصغيرة والكبيرة، حتى يملك الفقيه القدرة على الإمساك بها وإدارتها وتوجيهها إلى الوجهة التي تحمي حركة الأمة، وتنمّي طاقاتها وتحقق أهدافها. دور الثقافة في حركة الاجتهاد وفي كلا الاحتمالين، ثقف الثقافة العامة في مسائل الواقع لتكون أساساً للاجتهاد هنا، ولحركة الولاية هناك، وتدخل في هذا الجانب كل الموضوعات المستحدثة التي لم يعرفها الفقهاء القدامى، مما فرضته الحاجات الجديدة، في تطورات الواقع الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والأمني للإنسان، الذي بدأ يطرح كثيراً من علامات الاستفهام حول النظرة الإسلامية إليه، كما انطلق ليثير أكثر من مشكلة للإنسان المسلم على مستوى التحديات الكثيرة والمتنوعة. وقد نلاحظ – في هذا المجال – أن الاتجاهات الأخرى المضادَّة قد أثارت الكثير من المسائل الفكرية والعملية حول حقوق الإنسان، كما فرضت الكثير من الأوضاع مما تختلف فيه المصالح والمفاسد النوعية، التي تختلف الأحكام فيها بين موقع وآخر أو فرضية وأخرى، بحيث لا يكفي فيه جانب الفرض والتقدير، بل يتعين فيه التركيز على الواقع. وربما فرضت التطورات، على صعيد ولادة الدولة الإسلامية، كثيراً من القضايا المتصلة بفقه الدولة الذي يختلف عن فقه الفرد في غير نطاق الدولة، الأمر الذي يلتقي بأكثر من مسألة جديدة أو مشكلة حادثة، على أساس الواقع العالمي الخاضع للخطوط المطروحة لدى الناس الآخرين، من خلال طريقتهم في التفكير، باعتبار أنهم هم الذين خطَّطوا لتنظيم الواقع الإداري والاقتصادي والسياسي والأمني، فكيف يواجه الفقيه ذلك كله، إذا لم يكن واعياً للمتغيرات الفكرية والعملية في العالم في دائرة الولاية العامة أو في نطاق الاجتهاد الفقهي؟ فإنّ ذلك كله يمثل حركة ضغط متجددة دائمة في ملاحقة كل مسألة ومشكلة من خلال حاجة النّاس إلى الأجوبة التي تحدد الفكرة، والخطوط التي تحدّد خط السير، لارتباط ذلك بحياتهم اليومية الملحّة، أو بمستقبلهم المنطلق من قاعدة الواقع الحاضر. فهل يقف حائراً أمام ذلك؟ أم ينطلق في إثارة الاحتمالات والفرضيات على الطريقة القديمة ليترك للناس ملاحقة الاحتمالات، في عملية إخضاع للواقع أو عملية تفسير له، الأمر الذي قد يبتعد عن الواقعية الذاتية للأشياء ويحول دون امتلاك الناس رؤية واضحة أمام هذا الواقع المستجدّ؟ إننا أمام هاتين الدائرتين لا نجد مجالاً للاكتفاء بالدائرة الأولى، لأنها تبقي الفقيه في النطاق الضيّق، أي الإطار النظري، وفي آفاق الاحتمالات التي تبعده – كما تبعد الناس – عن حركة الفقه في الواقع، وحركة الإسلام في الحياة في كثير من الحالات، بعيداً عن أي فرصة لقيادة المجتمع بالمعنى الواسع للكلمة، بحيث يكون الفقيه مجرّد حالة ثقافية محدودة، كأي حالة ثقافية في مجالات أخرى لا علاقة لها بالموقع القيادي. إن طروحات "المرجعية العامة" أو "الولاية العامة" تفرض الانفتاح على الواقع كله في كلّ مفرداته الثقافية التي لا بُدّ له من أن يعيها بشكلٍ مباشرٍ في تجربته الخاصة، أو بشكل غير مباشر من خلال استشارة الخبراء، ليستطيع بذلك تحريك الطاقات الحية المتنوعة على مستوى الفرد أو المجتمع أو الأمة كلها، من موقع القيادة الفكرية والعملية التي تملأ الفراغ الكبير في حياة الناس، حتى لا يحتاجوا إلى البحث عن تساؤلاتهم ومشاكلهم في موقعٍ آخر، ما قد يؤدي بهم إلى الانحراف. وهكذا نقف في خطِّ الدعوة والتبليغ والإنذار، لنلاحظ أنّ القرآن قد طرح مسألة التفرّغ الفقهي الإسلامي للطائفة المنفتحة على حاجات التوعية الشاملة للأمّة، فلا تخرج للجهاد فيمن يخرج من المسلمين، وذلك لتحقيق الهدف الكبير في إنذار الأمة بالمستوى الذي يحقق لها الانضباط في خطوط الإسلام العامة، وهذا هو ما جاء في قوله: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾[التوبة:122]. ومن اللافت في هذه الآية، أنها ركزت على التفقه في الدين الذي يشمل مسألة العقيدة والشريعة وحركة المنهج في الواقع، بحيث يعيش المؤمنون الاكتفاء الذاتي في كل ما يحتاجون إليه من المعرفة الإسلامية في خطِّ النظرية والتطبيق؛ الأمر الذي يفرض على هؤلاء المتفقهين في الدين أن يواجهوا كل علامات الاستفهام التي تثيرها التطورات الحياتية في أفكار الناس، وكل التحديات التي تطلقها حركة الصراع في ساحة الواقع، فلا يبقى هناك أيّ فراغ يعطّل حركة الحذر الواعي في ذهنية الأمة وفي تطلعاتها المستقبلية. إنّ الآية تخطِّط للمراحل القادمة التي تمثل الامتداد الحضاري للإسلام في واقع الأمة، ليبقى لها. في كل جيل ـ طلائع متقدمة تقود الحياة على أساس الإسلام في مواجهة كل المتغيرات وكل التحديات. إنّ الفقهاء ورثة الأنبياء في العلم والدعوة، كما يقول البعض في تفسير الحديث، فلا بد أن تقوم بهم الحجة على الناس من خلال ما يريد الله لهم أن يكونوا في مستوى إقامة الحجة عليهم من قبله، تماماً كما هو النبي الذي تقوم به الحجة على الناس من قبل الله. وهم ورثة الأنبياء، وأمناء الرسل في قيادة المسيرة، فلا بد لهم من الارتفاع إلى المستوى الرفيع من وعي الحياة بالإضافة إلى وعي الإسلام، لأنه لا معنى لقيادة لا تعرف كيف تخطط لحركتها، أو تواجه جمهورها بالتوعية الشاملة. إنّ الفقيه شاهد عصره، وقائد أمته، ورسول ربه، من دون وحي أو نبوّة، ونذير للناس في كل ما يواجههم من قضايا ومشاكل في الحاضر والمستقبل. إنه الذي يملأ فراغ الحياة من النبوّة ليكون دوره دور الرسالة المتحركة في أكثر من اتجاه وعلى أكثر من صعيد. إن العصر يتطور بسرعة، فلا بد للذين يضعون أنفسهم في موقع القيادة أن يلاحقوا كل خطوات التطور بالسرعة نفسها، ليواكبوا الحياة في قضاياها المتحركة المتجددة بالحلول الإسلامية الواقعية التي تمنح الإنسان جواباً عن كل سؤال وحلاً لكلّ مشكلة، لأن أيّ تأخر عن الاندفاع في هذه المواكبة الفكرية والعملية قد يدفع الناس إلى الانكفاء والجمود، أو البحث عن قيادة أخرى لمسيرةٍ بعيدة عن خط الإسلام، وهذا مما لا يرضاه الله ورسوله في كل زمان ومكان...
======
آية الله المطهري والاكاذيب التي تروى في الحسينية في عاشوراء
http://www.dd-sunnah.net/forum/showthread.php?t=38819
محرم موسم لعن الصحابة ونشر الأكاذيب في الحسينية / آية الله مطهري
http://www.dd-sunnah.net/forum/showthread.php?t=59374
عاشوراء الحسين مطهري وجدان الثأر / رشيد خيون
https://alwatan.wordpress.com/2012/03/02/%D8%B9%D8%A7%D8%B4%D9%88%D8%B1%D8%A7%D8%A1-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B3%D9%8A%D9%86-%D9%85%D8%B7%D9%87%D8%B1%D9%8A-%D9%88%D8%AC%D8%AF%D8%A7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AB%D8%A3%D8%B1-%D8%B1%D8%B4%D9%8A%D8%AF/
=============
روايات الشيعة مضروبة ضعيفة
http://aljazeeraalarabiamodwana.blogspot.com/2016/10/blog-post_23.html
الشيخ مطهري: محاولة لتشذيب عاشوراء
http://aljazeeraalarabiamodwana.blogspot.com/2016/10/blog-post_70.html
أساطير كربلاء! فمتى يستيقظون؟
http://aljazeeraalarabiamodwana.blogspot.com/2016/10/blog-post_47.html
جولة في أفكار الشهيد المطهري حول الملحمة الحسينية
http://aljazeeraalarabiamodwana.blogspot.com/2016/10/blog-post_72.html
الدين بين مطرقة الخطباء الخرافيين وسندان العلماء الساكتين
http://aljazeeraalarabiamodwana.blogspot.com/2016/10/blog-post_10.html
بنات النبي (ص) لا ربائبه / منقول من موقع شيعي
http://aljazeeraalarabiamodwana.blogspot.com/2016/10/blog-post_84.html
هل هناك مصطلح اسمه مرجع أعلى؟!
http://aljazeeraalarabiamodwana.blogspot.com/2016/10/blog-post_48.html
فتنة الشعائر الجديدة
http://aljazeeraalarabiamodwana.blogspot.com/2016/10/blog-post_43.html
تصويب منهجي: الشيرازيون و«الطقسنة»... مرة أخرى
http://aljazeeraalarabiamodwana.blogspot.com/2016/10/blog-post_71.html
أدوات الفتنـة في الواقع الإسلامي
http://aljazeeraalarabiamodwana.blogspot.com/2016/10/blog-post_99.html
ماذا يقصد علي شريعتي من (التشيّع العلوي والتشيّع الصفوي)؟
http://aljazeeraalarabiamodwana.blogspot.com/2016/10/blog-post_94.html
نظافة الأساليب
http://aljazeeraalarabiamodwana.blogspot.com/2016/10/blog-post_67.html
هل حدثت زيارة الأربعين؟
http://aljazeeraalarabiamodwana.blogspot.com/2016/10/blog-post_90.html
الدين بين مطرقة الخطباء الخرافيين وسندان العلماء الساكتين
http://aljazeeraalarabiamodwana.blogspot.com/2016/10/blog-post_10.html
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق