ليست (الهوية السنية) بدعاً من القول، ولا هي طارئاً غريباً على عقيدة الأمة وفكرها وثقافتها. بل هي - بشقيها المتلازمين: (السنة) و(الجماعة) – تمثل العنوان الآخر الذي يعبر عن أمة الإسلام تمام التعبير. فالصحابة رضي الله تعالى عنهم هم الذين أسسوا هذه الهوية. واتباع الصحابة أصل شرعي ثابت بنص قوله تعالى: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة:100). ولم يحدث أن نكلت الأمة السنية في العراق والشام وما شابهها من البلاد عن هذا العنوان الشريف (أهل السنة والجماعة) إلا في زمن العلمانية الطارئة وربيبتها (الوطنية) الساذجة.
ومن تتبع جذور هذه الهوية في تاريخ الإسلام يقف أمام علامة فارقة في تاريخ الهوية وكيف أنها مرتبطة بنوع التحدي، فهو الذي يفرضها ويظهرها، وهو الذي يمنحها عنوانها وسِمَتها.
في البدء كان الصراع بين الإسلام وخصومه خارجياً، وهذا شيء طبيعي في مسيرة الدعوات، ثم بعد فترة ليست قصيرة بدأت الدوامات بالتكون داخل التيار.
قبل حدوث الصراعات الداخلية كان الإسلام هو الهوية المعبرة عن الأمة أمام خصومها؛ لأنهم كفار واضحو الكفر والوجهة. وكان هناك فسطاطان فقط: فسطاط الإسلام وفسطاط الكفر. فكان الإسلام هو الهوية الجامعة المانعة. ثم لما تحول جزء من الصراع العقائدي إلى الداخل الإسلامي جعلت الأمة تعبر عن نفسها وتشهر في وجه تلك التحديات هوية داخلية إلى جانب تلك الهوية التي تعبر بها عن نفسها وتبرزها في وجه التحديات الخارجية.
تلخصت التحديات الداخلية بظهور فرقتين: الخوارج والروافض. وكان أجلى ما يميز الطائفتين معاً: مخالفة السنة بالبدعة، والخروج على سلطان الأمة بالفرقة. فاصطلح الصحابة رضي الله عنهم على هوية داخلية تميزهم عن المخالفين للسنة المفارقين للجماعة، فكانت الهوية المعبرة المميزة تحمل هذا الاسم العظيم (أهل السنة والجماعة). فقد ثبت من كلام ابن عباس رضي الله عنهما عند تفسـير قوله تعالى (يَوْمَ تَبْيـَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْـوَدُّ وُجُوهٌ) (آل عمران:106) قال: (يعني يومَ القيامة حين تبيضُّ وجوه أهل السنة والجماعة؛ وتَسْوَدُّ وجوه أهل البدعة والفرقة)([1]).
وروى مسلم في مقدمة (صحيحه) عن إبن سيرين قال: (لم يكونوا يسألون عن الإسناد فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم). لم يقل: (ينظر إلى المسلمين... وإلى الكافرين...)؛ فالتميز بالسنة هو المنتج أمام أهل البدع، وليس الإسلام؛ لأن هؤلاء يندرجون تحت رايته العامة وهويته الجامعة.
وعن سعيد بن جبير رحمه الله (وهو من تلاميذ ابن عباس) في تفسير قوله تعالى: (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى) (طه:82) قال: لزوم السنة والجماعة([2]).
المعنى العام والمعنى الخاص لـ( أهل السنة )
ويُراد بهذا الاسم (أهل السنة والجماعة) معنيان: معنى عام هم جميع المسلمين عدا الرافضة، ومعنى خاص هم أهل السنة المحضة.كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فلفظ أهل السنة يراد به من أثبت خلافة الخلفاء الثلاثة، فيدخل في ذلك جميع الطوائف إلا الرافضة. وقد يراد به أهل الحديث والسنة المحضة ، فلا يدخل فيه إلا من يثبت الصفات لله تعالى، ويقول: إن القرآن غير مخلوق، وإن الله يرى في الآخرة، ويثبت القدر وغير ذلك من الأصول المعروفة عند أهل الحديث والسنة)([3]).
وبهذين المعنيين نؤسس لـ(هويتنا السنية)، كما أن كلا المعنيين مقصودان عندنا كلٌّ بحسب الحاجة والموقف: فأهل السنة في العراق اليوم مستهدفون جميعاً من قبل الشيعة وإيران دون تفريق بين مذهب ومذهب؛ فهنا يكون المعنى العام الذي يشمل جميع السنة هو مقصودنا بـ(أهل السنة والجماعة) أو (أهل السنة) أو (السنة). فتكون الهوية السنية اسماً جامعاً لكل السنة بجميع مذاهبهم، مانعاً لكل الشيعة بجميع طوائفهم. فمن قال: أنا سني وعمل تحت هذا العنوان فهو السني. ولكننا عند تبني المنهج السليم اعتقاداً ودعوة وإيماناً ونصرة، وعند تربية القيادات عليه وتهيئتهم لأخذ دورهم في قيادة المجتمع، وقبولهم في خاصة مشروعنا، نقصد المعنى الخاص حصراً.
[1]- شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة،1/72. الإمام هبة الله بن الحسن بن منصور اللالكائي. ونقله عنه ابن كثير في تفسيره.
[2]- المصدر السابق، 1/71.
[3]- منهاج السنة النبوية (2/221).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق