صور الملك عبدالعزيز والمملكة في بعض كتابات الإصلاحيين الجزائريين
د.محمد عبدالكريم مراح
د.محمد عبدالكريم مراح
لقد كان لنشأة الدولة السعودية الحديثة (1319هـ/ 1902م) على يد الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود صدى واسع في الدول والأقاليم العربية الدانية منها والقاصية. فما تم إنجازه من هذا التأسيس على يد الملك عبدالعزيز حدث جليل بكل المقاييس: بمقياس العدد من الرجال الذين استرجع بهم ملك آبائه وأجداده، والإمكانات المادية المتاحة له آنذاك، وبمقاييس التخطيط العسكري، وأساليب التنفيذ، وبمقياس الزمن في الإعلان عن ميلاد دولة حديثة على مساحة نصف قارة، تقوم على أساس حضارة ذات شقين: شق روحي أخلاقي قوامه الشريعة الإسلامية، وشق مدني عمراني أُحسن أخذه من مدنية الغرب الحديثة. ومن بين الأصقاع التي تتفاعل مع هذه الأحداث تفاعلاً حيًا إيجابيًا منطقة المغرب العربي، ومنها الجزائر التي كانت ترزح تحت نير استعمار استيطاني بغيض. فالذي يبحث في تراث هذه القطعة المهمة من وطن العروبة والإسلام يقف على نصوص كثيرة تفاعل أصحابها مع ما أنجزه الملك عبدالعزيز آل سعود – كتفاعلهم مع كل قضايا الأمة – على درجة عالية من الشعور بالانتماء الحضاري لأمة ذات مصير مشترك، وآصرة أخوة عقدها الإسلام الخالد. والحقيقة أن الاهتمام عندي بموضوع “الملك عبدالعزيز في التراث الثقافي الفكري والأدبي الجزائري” كان يراودني منذ زمن بعيد، وكنت قد أخذت أجمع له النصوص، وأقيد مواضعها في مضانها، إلى أن تجمع لي ما يصلح أن يأتلف منها بحث، فلما واتت الفرصة اهتبلتها مستعينا بالله تعالى على إنجاز هذا البحث. وفضلا عن السبب المذكور أسجل بين يدي البحث الملحوظات/ الأسباب الآتية الذكر: – وفرة المادة التي يأتلف منها البحث؛ مما يضفي عليه الصبغة العلمية، من حيث الدقة ومساءلة النصوص، والتحليل، وسلامة الاستنتاج. – يتوفر التراث الفكري والثقافي في كل بلد من بلاد المغرب العربي في الفترة المشار إليها أو بعدها من مسار التأسيس على قدر من النصوص التي ينبغي درسها واستقراؤها؛ لإبراز صورة الملك عبدالعزيز والمملكة. – التناغم الملحوظ مع إنجازات الملك عبدالعزيز والحركة الإصلاحية في الجزائر، ولهذا تفسيراته التي ربما وقفنا عليها في طيات البحث. – اخترت الفترة الزمنية المشار إليها بالنظر إلى الكتابات التي اعتمدتها في البحث مما توصلت إليه تقع في تلك الفترة. ونظرا لصعوبة الحصول على نصوص ووثائق أخرى – بسبب عوامل موضوعية وتاريخية تتعلق بالوثائق – وقفنا عند سنة 1957م (1376هـ). وننوه في هذا المقام بالمقال الذي نشرناه بمجلة الحرس الوطني عنوانه “الملك عبدالعزيز في قلوب الجزائريين”، وقد غلبت على شواهده النصوص الأدبية الشعرية(ü). الملك عبدالعزيز في التراث الثقافي الجزائري بين سنوات (8331-6731هـ/ 1920 – 1957م): الشخصية: في فترة مبكرة من القرن العشرين الميلادي كانت تسري في أوصال المجتمع الجزائري دماء جديدة لحياة جديدة يبعثها في تؤدة وخفوت إمام النهضة والبناء الحضاري الإسلامي الشيخ عبدالحميد بن باديس (8031-9531هـ/ 1889 – 1940)(üü) بعد أن خُيل للمستعمر الفرنسي أن الجزائر غدت قطعة من فرنسا. فلربط هذا الجزء المهم بجسده الإسلامي الكبير كان الإمام ابن باديس يلتمس من الأحداث الماضية والحاضرة ما يساعده على تحقيق تلك الغاية الجليلة. ولما كان للأحداث الهائلة التي عرفتها شبه الجزيرة العربية بقيادة الملك عبدالعزيز ما كان، كتب ابن باديس سلسلة مقالات في الجرائد والمجلات التي كان يصدرها معرفا بالقائد ومذهبه ومنجزاته. وقد برهن فيما كتب على إلمام واسع وعميق بكل ذلك، وتصوير دقيق مطابق للحقيقة والواقع، مع إصابة للهدف الإصلاحي التغييري الذي كان يرمي إليه. فبصدد تعريف الجزائريين بشخصية الملك عبدالعزيز يقول: “السلطان عبدالعزيز هو المباشر حقيقة للسلطة والإدارة، وصف هذا السلطان الأستاذ الريحاني بقوله: طويل القامة… له من السنين سبع وأربعون، وله في التاريخ – تاريخ نجد الحديث – مجد إذا قيس بالأعوام تجاوز السبع والأربعين والمئة. كبير القلب والنفس والوجدان، خلو من الادعاء والتصلف، خلو من التظاهر الكاذب. ووصفه مستر (أرنست برنيك) في جريدة نيويورك بقوله: بطل من أشد الأبطال الذين أنجبتهم الأمة العربية، صلب العود في مكافحة الأعداء، وكريم الأخلاق متى قهرهم، شديد التمسك بأهداب الدين، وفي مقدمة الذابين عن عقائد الإسلام الأصيلة، فكان له من ذلك رياضة جسدية جعلته قوي البنية، وهو جامع بين جلال وجمال أمير شرقي”(1). ثم يسرد كلاما عن حسن تدبيره في إعادة أسرته إلى ملكها قائلا: “أسلافه كلهم ذوو شهرة عظيمة في جزيرة العرب، وبيته عريق في إمارة نجد حتى سقط في القرن الماضي وحلت محله أسرة آل رشيد، ونفي هذا الأمير إلى الكويت، لكنه بهمته وعزيمته وشجاعته، وحسن تدبيره تفلت من قيود الأسر وجمع حوله جندا فتح بهم الرياض عاصمة ملكه، وأعاد عائلته إلى ملكها القديم…، وامتدت مملكته بعد أن كانت محصورة في نجد من حدود الحجاز إلى الخليج العربي ومن الربع الخالي إلى الجوف”(2). إن الإمام ابن باديس الذي لم يعرف الملك معاينة يتكئ على وصف عارفيه؛ ليستقيم له أداء الصورة لقرائه الجزائريين آنذاك كاملة صحيحة عنه؛ من جهة ملامحه الجسمانية، وخصائصه النفسية، ومسالكه الأخلاقية. ومما يؤكد ما ذهبنا إليه آنفا من استهداف التغيير والإصلاح في ما كتب الإمام عن الملك ونهضته، قوله: “وإن في نهضة هذا الملك العظيم وفي حياته وصفاته درسًا عميقا ومجالا واسعا للعبرة والتفكير”(3). والنصوص الآتية ستكشف لنا فحوى هذا الدرس، ومنتهى تلك العبرة والتفكير. صفاته: لقد تواتر وصف الدارسين للملك عبدالعزيز – رحمه الله تعالى – بصفات لا تجتمع إلا لعظيم ادخره الله تعالى لحدث خطير هائل في عالم البناء الحضاري، وإقامة الدول والممالك. وبصيرة ابن باديس الثاقبة تستجمع هذه الصفات على نحو بارع في التقويم والتقديم على النحو الآتي: 1 – شجاعته وعفوه: الفارق بين شجاعة بانية هادفة وشجاعة مدمرة، ارتباط هذه بالانتقام والمحق، وارتباط تلك بالعفو والتجاوز، وهذه الأخيرة يجسدها مسلك الملك عبدالعزيز في استعادة ملك آبائه، وظفره بأعدائه(4). إن دلائل إعجاب وتقدير ابن باديس للملك عبدالعزيز حدت به وهو ينير الأمة الجزائرية آنذاك بأسلوب القصة التربوي الهادف تأسيا بالقصص القرآني والنبوي الشريف، إلى أن ينشر مقالا رائعا بعنوان “ملك العرب” للمستشرق الألماني (ليوبولد فايس) الذي تسمى بعد إسلامه بمحمد أسد، وقدم الإمام لهذا المقال بكلمة وجيزة رائعة حول الهدف من نشره فقال: “كان لقصة بناء الكعبة التي نشرناها بالجزء الماضي [من مجلة الشهاب](ü) بمناسبة أشهر الحج أحسن موقع عند القراء؛ فرأينا أن نتبعها بقصة من نوعها لمثل مناسبتها، هي صفحة من تاريخ الملك العربي السلفي عبدالعزيز آل سعود الذي شرفه الله بخدمة ذلك البيت المعظم في هذا العهد، ومد الله تعالى بملكه رواق الأمن والعدل والتهذيب والدين الخالص على ربوع الحجاز أرض الحرمين الشريفين، وإن في نهضة هذا الملك العظيم وفي حياته، وصفاته درسًا عميقا ومجالا واسعا للعبرة والتفكير”(5). ولكن قبل الاسترسال مع الموضوع، فإن منهجية البحث والانسجام مع الموضوع يقضيان علي بتوضيح أسباب اختياري هذا المقال بصفته من تراث الجزائر الثقافي الذي يصح الاستدلال به على مكانة الملك عبدالعزيز ضمن كتابات الجزائريين الإصلاحيين: 1 – لقد أعاد ابن باديس نشر هذا المقال في سياق سلسلة من القصص الديني بالذات، ولم يدرجها ضمن تراجم الأعلام، للهدف الذي أعلن عنه، وهو العبرة والدرس. 2 – إن الإمام يرى في هذا المقال ما يريد قوله في الملك عبدالعزيز، والدليل سلسلة المقالات التي كتبها الإمام في جريدة النجاح وغيرها حول السعوديين ودولتهم بقيادة الملك عبدالعزيز، فيمكن – إذن – عدّ هذا المقال تبعا لها وجزءا منها، واستيفاء لرؤيته حقها في الموضوع. 3 – إن هذا المقال جُمع مع آثار ابن باديس وتراثه الذي نستلهمه في أي أمر أو مسألة تتصل بمواقفه وفكره، فصار بمقتضى التبني جزءا من هذا التراث الفكري. لقد جاء هذا المقال الطويل غنيا دقيق التعبير عن صفات الملك عبدالعزيز وإنجازاته التي خبرها صاحبه عن قرب ومعايشة. 2 – طيبة الملك عبدالعزيز: قد تُحمد للرجل صفة طيبة القلب، فتذهب عنوانا له يُعرف بها، لكن أن تُصبح الطيبة عنوانا على جملة محاسنه وخلقه، فتلك – إذن – صفة جامعة لمعاني الطيبة ودرجاتها، وعلى هذا المذهب يصف محمد أسد الملك عبدالعزيز فيقول: “لا أزعم أن عبدالعزيز يدعوني صديقه، ولكني أعده صديقي، أو يغريني بذلك أمر بسيط وهو طيبة الرجل، ولست أقصد أنه طيب القلب، فهذا شيء رخيص، ولكنه يُوصف بالطيبة كما يُوصف بها مثلا سلاح من صنع (وُلف) [نسبة إلى بلدة بالأندلس مشهورة قديما بصنع أجود سلاح] بأنه سلاح طيب يُعجب به؛ لأنه جمع كل الصفات التي تُنشد في مثله؛ وعلى هذا المعنى أقول: إن ابن سعود رجل طيب”(6). فالملك عبدالعزيز – وفقا لهذا الوصف – طيب القلب، وطيب القول، وطيب المعشر، وطيب المؤاخاة، وطيب الإحسان، وطيب الحكم، وطيب المجازاة إلى ما هنالك من وجوه المعاملة، ويصدّق هذا الوصف الروايات المتواترة عن خلائقه. 3 – ملك نفسه وملك الجميع: من كانت تلك شمائله فلا فائدة من البحث عما يقصر دُون سؤدد الشرف، وهمة الملك النبيل؛ لذا فالملك عبدالعزيز نصّب نفسه ملكا على الجميع: “وهو عميق الغور يميل للوحدة، ولا يتبع في أعماله سوى الدوافع المنبعثة من أعماق نفسه، وقد يُخطئ فيما يفعله، ولكنه لا يخطئ قط الرغبة في الشرف أمام ضميره، فهو ملك على نفسه قبل أن يكون ملكا على العرب”(7). فنفس الملك عبدالعزيز من معدن نفيس ينعكس ألقها وصفاؤها على ممارسات المُلك والسياسة. 4 – عظمته في بساطته: قد يرتبط مفهوم العظمة بمظاهر باهرة محددة تُنبئ عنها، لكن أن تتخلف هذه لتتجلى العظمة بوصفها قيمة من القيم الإيجابية التي تحف شتى أنواع السلوك والعمل، فذاك هو المدهش: “لا شك أن الأجنبي الذي يرى ابن سعود لأول مرة يبتسم لبساطة هذا الملك وعدم تمدنه؛ إذ يبصره في ثوب عادي في غرفة ذات أثاث غير أنيق، وإذ يشهده يقوم لكل قادم، ويمد يده لتحيته، وإن كان بدويا من أفقر البدو، ويأكل طعامه في حضرة وزرائه وكتابه وسائق سيارته. ولكن الابتسامة لا تلبث حتى تفارق ثغر الأجنبي حين يدرس رأس هذا الرجل، ويدرك العظمة الحقة الماثلة في تلك البساطة”(8). الحق إن هذه العظمة المقرونة بتلك الصفات والأخلاق ليست بالنكرة في تراثنا الإسلامي؛ فإن عظماء الخلفاء لدينا ما تزال الأمة إلى يومنا هذا تشعر إزاءهم بالإكبار والإجلال بل تعدهم خلفاءها الحقيقيين الـراشدين، امتــازوا بمـثـــل هذه الصفـات والأخـلاق، فهــي – إذن – باعث من بواعث عظمة عبدالعزيز المُشاد بها. 5 – طول نفسه وكرمه: إن من يسره الله تعالى لتولي مهمة كالتي تولاها الملك عبدالعزيز لابد له من اقتران الصفتين معا، فطول النفس في إدارة شؤون الملك لا تصرفه عن أداء حق الضيف، في مجتمع توارث القِرى عبر تراخي الأزمنة والقرون؛ لهذا فهو: “يشتغل طول اليوم من باكورة الصباح إلى قسط من الليل ما عدا فترات يقضيها في الصلاة، وبرهات قصيرة يرتاح فيها بين أهله، وهو يتلقى كل يوم مئات الخطابات والتقارير ويقرأها بنفسه، ويملي مئات من أمثالها على كتابه. ويفد عليه كل يوم كثير من البدو والوفود من أنحاء الدولة يعرضون عليه شكاواهم ورغباتهم، ويتلقون منه أوامره، وجميعهم ينزلون ضيوفا عليه طول مكثهم بالرياض، وهو يولم الولائم لنحو ألف نفس كل يوم، ويعطي كلا منهم عند رحيله ثوبا تبعا لعادة العرب، وكذلك قطعة من النقود حسب مكانته. ونفقات الملك الشخصية جد قليلة؛ لأنه لا يعرف الترف في حياته الخاصة، وإنما له عدد من السيارات لابد منها لحسن القيام بشؤون الحـكم في هذه المملــكة المتــرامية الأطــراف”(9). فهــو – إذن – الملك المتقلل جدا في نفقته الخاصة الموسع على غيره من كرم ضيافته وجوده. 6 – الملك المحبوب: إذا كانت خصائص الإنسان النفسية العالية هي السر وراء انجذاب النفوس إليه، فكثيرا ما تهدى بعض الملامح الفزيولوجية إليها، وفي هذا المعنى يقول محمد أسد: “ابن سعود طويل القامة جدا، ذو جمال رجولي، وله جبهة عالية، وأنف قليل الانحناء، وثغر صغير، عليه شفتان ممتلئتان تدلان على الحماسة والذكاء في آن واحد، وكل من يراه دون فكرة سابقة عنه، ويشهد ابتسامته العذبة لابد أن يحبه، وقليل جدا من الناس في مملكته الكبيرة لا يحبونه”(10). فإذا تآزر كل من الصنفين الخصائص النفسية والملامح الفزيولوجية مع الأخلاق الرفيعة أعطت نموذجا إنسانيا رائعا، وكذلك كان الملك عبدالعزيز يرحمه الله تعالى. 7 – وحدة العظماء: إذا كنت إزاء إنسان شعرت أنه قريب إليك، لكنه يتميز عنك وعمن حوله، فينجذب نحو أغواره العميقة، لتبرق قريحته المتقدة بالجديد الوثاب الباهر، فاعلم أنك أمام عظيم تُملي عليه عظمته الوحدة الباعثة على التفكير المبتكر؛ “إن ابن سعود في وحدة عميقة، وإن كان حوله أناس كثيرون؛ لأنه ليس منهم أحد يستطيع أن يستشف ما وراء ابتساماته الساحرة، أو ما وراء حركات يديه حين يتحدث في شؤون الدولة أو في مسائل الدين. ولا يدري أحد ماذا سيفعل غدا بل يحيط الظلام والإبهام بنواها في المستقبل، وإن كان يومه وأمسه شفافين لا سر فيهما. وتلك وحدة العظماء الذين لا يقودهم في سبيلهم غير أذهانهم المتوقدة”(11). وما تفتق ذاك الذهن إلا عن كل خير لإقامة دولة الإسلام الحديثة. 8 – بصيرة ثاقبة واطلاع بعيد: من وجوه عبقرية الملك عبدالعزيز استيعابه لأحوال الأمة الإسلامية، واستيعاب منجزات العصر التي كانت في حكم الخرافة آنذاك مع تواضع حصيلته المعرفية بمقياس العصر؛ “وقد عرف كيف ينمو في داخل نفسه مع نمو سلطانه. ولكنه رغم ذلك يمتد بصره إلى مدى لم يماثله فيه ملك عربي من قبل، فهو يعرف أحوال البلاد الإسلامية في العصر الحاضر خير معرفة، يعرف مثلا الأحزاب السياسية في مصر أو (جاوه) أو الهند، كما يقف على شؤونها والرجال المشتغلين بالسياسة في هذه البلاد. وهو يفهم المستحدثات الهندسية في الغرب كالطيران أو البرقية كما يفهمها الغربيون ويستحسنها كذلك، وإن كان كثير من العرب والمتعلمين فيهم يعدونها من السحر”(12). يمكن عدُّ إدراك الملك منجزات عصره على هذا النحو مدخلا مناسبا لفهم شخصيته في بعدها المتصل بالاستعداد للتفاعل مع المعاصرة. المذهـب: كان يُعرف الملك عبدالعزيز ودولته في الجزائر أثناء الفترة التي هي مجال البحث بالوهابيين، بسبب التلاحم الكبير بين دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب والدولة السعودية، منذ تعاهد الأمير محمد بن سعود بن محمد في أواسط القرن الثاني عشر الهجري/الثامن عشر الميلادي مع المصلح الكبير محمد بن عبدالوهاب على النصرة والتأييد في سبيل الإصلاح والتجديد، واستمرت هذه اللُحمة بقيام الدولة السعودية الحديثة على يد الملك عبدالعزيز آل سعود رحمه الله تعالى. وهكذا جاءت مقالات الإمام عبدالحميد بن باديس في صيغة أسئلة(ü) تصدى لها بالإجابات الواعية الشاملة، والمُصححة للخطأ الذي نشأ حول تلك الأحوال الناشئة بالحجاز؛ قال: “هذه أسئلة طرقت أسماعنا في هاته الأيام كثيرا، وسمعنا الخطأ والصواب عنها كثيرا، ولا عجب في كثرة السؤال عنهم، وقد تواترت أعمالهم السريعة المدهشة، هاجموا الأردن، وأخضعوا الحجاز، وأجلوا الحسين وأتباعه بعد ما ثلوا عرشه غير مبالين بأحلافه [كذا في النص] الإنجليز، كل هذا في مدة قصيرة من الزمن مع بُعد المسافة وصعوبة الطريق”(13). بهذه الصياغة الإعلامية البارعة المعهودة في إثارة ابن باديس للقضايا الساخنة بنت الساعة، يضعنا مباشرة في مواجهة الإجابة المنهجية عن الأسئلة المطروحة من طرف جزائريين وصفهم الإمام بقوله: “رغب مني بعض من يجـري في عروقهم دم العروبة، وبعض من يهتمون بأمـر الأمــة العربيــة ذات التاريخ المـاجد العظيم، أن أجيب عن هذه الأسئــلة خدمــة للعلـم، وإظهــارا للحقيقــة”(14). ومعلوم أن تمجيد العروبة بالجزائر في ذلك الزمان تمجيد للعروبة التي لا تنفصل ولا تختلف في شيء عن الإسلام؛ لأنها بهذا التصور جوهر الصراع بين الحضارة الغربية الغازية وحركة الإحياء الإسلامي، كما لا يفوتنا التنويه عند هذا الموضع بأن اهتمام الجزائريين وابن باديس خصوصا بما يجري في الأراضي السعودية دليل على قوة تأثير أعمال الملك عبدالعزيز في الأحداث الكبرى آنذاك. أما ابن باديس فقد نذر قلمه فيما كتب أن ينتصف للحقيقة بكل ما أُوتي من قوة وجهد، لهذا نرى أنه بدأ أولا بالآتي: 1 – تقويم ما كتب عن السعوديين: فقال: “وصار من يريد معرفتهم لا يجد لها موردا إلا ما كتب خصومهم الذين ما كتب أكثرهم إلا تحت تأثير السياسة التركية التي تخشى من نجاح الوهابيين نهضة العرب كافة. وأقلهم من كتب عن حسن قصد من غير استقلال في الفهم، ولا تثبت في النقل؛ فلم تسلم كتابته في الغالب من الخطأ والتحريف. وأنى تُعرف الحقائق من مثل هاته الكتب أو تلك، أم كيف تُؤخذ حقيقة قوم من كتب خصومهم، ولا سيما إذا كانوا مثل الصنفين المذكورين”(15). إذن ينبغي أن نعلم أننا أمام كاتب استجمع لموضوعه أدواته، وانتهى فيه إلى قول له في موازين التقويم والأحكام خطره وتقديره المضبوط، من عالم محقق كابن باديس. فبعد أن صنف الكاتبين عنهم – في ذلك الوقت – إلى الصنفين المذكورين خلص بسريرته الصافية، وذهنه اللمّاح، وحسّه الإسلامي إلى موضوعه. 2 – تعريف الإمام مالك بن نبي للسعوديين: أ – مذهبا وأصلا: “أتباع محمد بن عبدالوهاب التميمي النجدي، المتوفى في سنة ستّ بعد الألف والمئتين من الهجرة، وقد ناهز المئة، وهم عرب من أصرح العرب أنسابا، وأشدهم بأسا، وأرسخهم في صفات العروبية وأنقاهم من الدخيل”(16). ب – صفات: “أهل ذكاء وسرعة خاطر، وحدّة ذهن، شنشنة آبائهم الأولين، ومن صفاتهم الممتازة إباؤهم، وشجاعتهم، وصبرهم العجيب. فكان الجريح منهم في هذه الحرب حين إجراء العمليات الجراحية لا يتوجع ولا يتألم، ولا ينقبض له وجه، كأنهم يعملون في جسم غيره. يبلغ عددهم المليونين، لا خلاف بينهم، ولا تنازع، ولا تباغض، يطيعون رؤساءهم وخصوصا سلطانهم طاعة عمياء، يستبسلون في الحرب، ويقدمون إقدام من يتيقن أن وراء الموت حياة خيرا من هذه الحياة، ولا يرجعون إلا بأمر قوادهم ولو فنوا عن آخرهم”(17). ج – علما وتدينا: “يقلّ بينهم من لا يحسن القراءة والكتابة، ويكثر فيهم جدا حفظة القرآن، وكلّهم على علم بالضروري من عقائد الإسلام، وأصول مبادئه وآدابه، شديدو التمسّك بأهداب الدين، وتباعد عن كل ما أُحدث فيه”(18). بهذا الاستعراض المرتب الدقيق تتم الإجابة عن طبيعة التركيبة البشرية لمن قامت على كواهلهم دولة ابن سعود. ولكن الوهابيين ليسوا جنسا وسلالة قبلية معينة، إنّما هم أتباع فكرة إصلاحية تروم الإحياء الإسلامي في تلك الأصقاع المباركة. وهي لهذا لفتت إليها انتبــاه العلمــاء والمفكرين المسلمين في الجزائر – كغيرها من بلاد الإسلام – فانفعلت معها فكرة وتجسيدا مشاعرهم(ü) وأفكارهم، لأنها ملمحٌ بارزٌ من ملامح النهضة الإسلامية الحديثة في مواجهة حركة الاستعمار والتغريب، فالمفكر الجزائري الإسلامي مالك بن نبي(üü) يصنف الوهابية، ضمن “تيار الإصلاح الذي ارتبط بالضمير المسلم”(19)، هذا التيار الذي “يبدو أنّه قد خطّ طريقه في الضّمير المسلم منذ عصر ابن تيمية، كما يخطّ تيّار الماء مجراه في باطن الأرض، ثم ينبجس هنا وهناك من آن لآخر”(20)، وابن تيمية “كان مجاهدا يدعو إلى التجديد الروحي والاجتماعي في العالم الإسلامي”(21). يرى الأستاذ مالك بن نبي أن الملك عبدالعزيز امتلك حسّا صادقا في بعض الملابسات والمواقف التاريخية المتعلقة ببعض القضايا والأحداث، ولفكرته النابهة حظّ من التّأثير، خاصّة أنّ الغالب على أحكامنا “التحديد العاطفي لمواقفنا، فنحن لا نحكم وإنّما نأسى”(22)، وهو خلل في طريقة تفكيرنا فوّت على ابن باديس – رحمه الله تعالى – الفهم الحقيقي لخفايا الصراع الذي نشب بين الملك عبدالعزيز والإمام يحيى(ü)؛ يقول: “كأنّما الشيخ [ابن باديس] لم يتبين عظم النزاع الذي تقف فيه القوى الروحية والمادية في النّهضة الإسلامية متجسدة في الفكرة الوهابية، في وجه قوى الانحطاط والتدهور… ولقد أغفل هذا الحكم الجانب الناطق من الموقف، وهو سرعة المناورة التي قام بها الجيش السعودي الفتيّ، فأحبط الخطة الاستعمارية بالاستيلاء على (الحديدة) خلال أربع وعشرين ساعة”(23). الحق أن مالك بن نبي كان أحد أهمّ المفكرين الجزائريين متابعة لمسار الحركة ودولتها الفتية، ينظر إليها في ضوء تدافع الصراع الجلي والخفي بين النهضة الإصلاحية وقوى الاستعمار الجاثمة على الجسم العربي والإسلامي؛ يقول في مذكراته: “يوما أفكر في عودتي للجزائر [من فرنسا]، ويوما في انتقالي للطائف، وأصبحت عقدتنا الوهابية [أي الأمل] أنا وزوجتي، تزداد كل أسبوع يمر. وإذا بخبر يفاجئنا في صحيفة مسائية “باريس – سوار” التي نقلت خبرا غريبا، تقول فيه: إنّ أحداثا صارمة تتهيأ في الجزيرة العربية؛ فانطلقت صرخة واحدة منا: آه… إنهم يدبّرون مؤامرة ضدّ عبدالعزيز بن سعود، ويحيكون مكيدة، لقد صعقنا هذا النبأ… ذات أمسية من شهر مارس 1934م (ذي القعدة 1352هـ)”(24)؛ فلقد كان يحلم بالالتحاق بالطائف؛ ليقدّم خدماته العلمية للدولة الفتيّة، وسعى في ذلك سعيا عمليا لولا أن منعته موانع ذكرها في مذكراته. إن هذا النبأ لم يكن سوى محاولة الإمام يحيى الاستيلاء على بعض الأراضي السعودية، فيكشف مالك بن نبي بحسّه الرّاصد الخبير بأساليب الاستعمار خيوط المؤامرة فيقول: “ومنذ الغد بدأت تظهر المكيدة في الصحافة الكبرى التي تحدّثت عن (القبائل المتوحشة المتعصبة التي تعيش بنجد)، لقد اتّضح الأمر، وخصوصا أنّ نفس الصحافة نقلت أنباء عن حملة (لرد الخطر) تتهيأ بميناء الحديدة باليمن. كان فعلا الإمام يحيى يجمع في هذا الميناء كل سفينة، ويسلّحها كيفما كان؛ للهجوم على ميناء جدّة، وعزله أيام الحج بالذّات. إذا كان الأمر في منتهـى الوضوح: قـد يستطيع الإمام يحيى – غفر الله له – أن يجمع تلك السفن الشراعية المعدّة للنّقل المحلّي ولإخراج الصدف، ولكن من سلّحها بل من رسم لها الخطّة؟ كان الأمر واضحا، أو لنقل على نصف وضوح؛ إذ كيف نستطيع التبين والتمييز بين خيوط يأتي بعضها من باريس وبعضها من لندن”(25). فالأمر لم يكن في تقدير مالك بن نبي سوى تضايق الاستعمار من تولّي الملك عبدالعزيز الأراضي المقدسة، والسبب هو أن الدولة السعودية “ستصبح هكذا منارة إشعاع للفكرة الوهابية، يعني – في نظري – الفكرة الإسلامية الوحيدة التي تصلح بما فيها من طاقة متحركة؛ لتحرير العالم الإسلامي المنهار منذ عصر ما بعد خلافة بغداد”(26). إن إدراك الأستاذ مالك بن نبي لهذه القضية على هذا النحو جعلها تتحول عنده إلى مأساة، يقول: “وأصبحت فعلا هذه المأساة تملك أرجاء بيتنا الصغير، نتحدث عنها في الغداء والعشاء. تنقل زوجتي أصداء الشارع عنها، فنفسرها ونعلق عليها”(27). ويروي كيف نقلت إليه ذات يوم حديثا سمعته في الشارع من رجلين يهوديين يفيد أنه ينبغي أن تحطّم هذه القبائل البربرية، فاتسعت دائرة إدراكه للقضية، كما قال: “فقمت أصلّي ركعتين لله، متحسرا، متضرعا، شاكيا من شر الاستعمار، باكيا…، ولكنني كنت دوما على منهج الحديث (اعقلها وتوكل)، فأخذت ورقة، وبدأت أحرّر خطابا مثيرا إلى سعادة سفير اليابان بباريس، أتوسّل لحكومته أن تساند باسم التضامن الآسيوي المقدّس أمام الدول الاستعمارية، ابن السعود في المعركة، وتأييده بالسلاح”(28). ولكنّ الحلّ جاء من طريق آخر؛ يقول: “وإذا بصحف المساء تعلن في عناوين ضخمة، أن (الحديدة) سقطت في يد الوهابيين، وأن (الزرانيخ) حرقوا في مينائها الأسطول الشّراعي الذي جمعه الإمام يحيى، وأن أمير المدينة فرّ سباحة وعلى ظهره خزينة الحكومة، وأن الأمير فيصل نقل الجيش السعودي على الآلاف من السيارات المعدّة لنقل الحجاج؛ ليزحف على الساحل اليمني بينما أخوه سعود يتوجه للناحية الجبلية”(29). لقد كان لهذه الأنباء وقعان مختلفان: “فبالنسبة إلى قادة السياسة الغربية، حتى المناوئين للفاشية، كان فعلا دواء شرا من داء؛ إذ الوهابية وحدها على ما هي عليه، شرّ لا محالة، ولكن وهابية وإحباط خطة استعمارية شرّان”(30). وأما بالنسبة لمالك وزوجته، فيقول: “أما في بيتي، فلم تزغرد خديجة لإعلان ابتهاجنا؛ لأنها لا تعرف كيف تزغرد النساء الجزائريات في ظرف السعادة والسرور”(31). مهما تكن مطابقة هذه النصوص للحقيقة، والأحداث التاريخية؛ فإنها تؤكد مدى ما كانت تشكله الفكرة الإصلاحية في المملكة العربية السعودية من مخاطر على الاستعمار من جهة، ومن جهة أخرى تبدي عما كان يتحلّى به زعيم دولتها الملك عبدالعزيز من استنارة بصيرة وحدس سياسي، وحنكة في مواجهة المكائد الاستعمارية في منطقة الإشعاع الروحي للعالم الإسلامي، الذي أخذ يتلمّس طريق النهضة، والبناء الحضاري على هداه. الإنجاز: لقد تنوع إعجاب زعماء حركة الإصلاح وسُراتها في الجزائر بما كان يبلغهم من أنباء عن إنجازات الملك عبدالعزيز – رحمه الله – ودولته الفتية، فسجلوه بعناية وإعجاب وتنويه. وهذا من الأدلّة القوية على التواصل النموذجي بين أجزاء الأمة ودولها في تلك الفترة العصيبة من تاريخها الحديث. إن من يقرأ هذه النصوص اليوم يخطر بباله أن كاتبيها يكتبون عن دولتهم، وعن حاكمهم، ومليكهم لا عن دولة أخرى ولو كانت عربية مسلمة، خاصة بعد استفحال الشعور بالدولة القطرية في النفوس. ومن أهمّ الإنجازات التي رصدتها بعض كتابات الإصلاحيين الجزائريين في الميدان السياسي منهج الملك عبدالعزيز في السياسة والحكم. 1 – حكمه وسياسته: يرى الإمام ابن باديس أن سياسة الملك عبدالعزيز تقوم على ركيزتين هما أساس الملك وروح الشرع؛ وهما: العدل والشورى؛ “يسوس السلطان عبدالعزيز هذه المملكة الواسعة بسياسة العدل التّام بين القريب والبعيد، الجليل والحقير، وينفّذ أحكام الشرع بكل تدقيق بلا هوادة ولا محاباة. ومن كلماته في هذا الباب (العبد والأمير، عيننا على الاثنين حتى ننصف دائما الاثنين، ونعدل بينهما، ومن لا ينصف بعيره، لا ينصف الناس). فأنتج له ذلك في مملكته الأمن التام الذي لا تجده في البلاد المتمدّنة، وقد عجزت فرنسا بجيشها اللّهام عن إقامته اليوم في ربوع الشام. ويجري في سياسته على أصل الشورى الذي أوجبه الإسلام، فلا يفصل في الأمور العظيمة إلا باستشارة العلماء والأمراء، والأعيان، ورؤساء الأجناد”(32). لاحظ كيف قارن الشيخ بين المملكة وبعض الدول العظمى بما لها من إمكانات لاستتباب الأمن، لا شك أن السبب في ذلك كله الحكم بالشرع الذي هو كله عدل ورحمة. 2 – أخلاقيات ممارسة الشورى في مملكة عبدالعزيز: إن ابن باديس مطلع على حقيقة المجالس النيابية الغربية، ومجريات الأمور فيها؛ لهذا نراه ينوّه بالتميز الحضاري والأخلاقي في ممارسة الشورى الإسلامية في مجالس الملك عبدالعزيز الشورية، يقول مصوّرا إحداها وإنّ عبر عنها بالمؤتمر: “والواقف عليه يعلم بُعد نظر أعضائه وأدبهم الإسلامي، والمحاورة بالأدب الذي يعزّ وجوده في مجالس النّوّاب الأوروبية، التي كثيرا ما تخرج عن الكلام إلى اللّكام”(33). 3 – سياسة عمرية: لقد نوّه الكاتبون عن الملك عبدالعزيز بشمولية عدله؛ فلم يكن مقصورا على من آزروه وناصروه فحسب، بل هو عادل حتى مع خصومه بعد أن يقهرهم، وينتصر عليهم: “ولكنه في فتوحاته يكوّن دولة، وينظر إلى جميع أجزائها كأنّها أخوة متساوية الحقوق ما دامت تخلص الرغبة في التعاون. وهو يسعى دائما لأن يكسب الودّ الخالص ممن يقهرهم، وأن يرغمهم على محبته؛ إذ يريهم أنه لا يهتم بمصالحهم أقل من اهتمامه بأهل موطنه”(34). إن هذا المسلك أهّله لأن يُعد من أعظم الحكّام في التاريخ الإسلامي، و”لم يفعل ذلك حاكم عربي غيره منذ عهد الخليفة العظيم عمر بن الخطاب. وهو منذ زمن بعيد لا يُعدّ رجلا من الرياض، بل تخطى روابط القبائل الضيقة المدى، وصار رجل الجميع”(35). خلاصة منهج عبدالعزيز – حسب ما تقدم – إشاعة العدل بين رعيته، واعتماد الشورى بأخلاقيات الإسلام أسلوبا لاتخاذ القرارات. 4 – تقدير إنجازات الملك عبدالعزيز الحضارية العمرانية: لم يقف ابن باديس – يرحمه الله تعالى – عند الجوانب الأخلاقية والسياسية في بناء الملك عبدالعزيز لدولته الفتية، بل نراه يتحدث عن إنجازاته العمرانية حديث العارف المتابع المهتم. وزاد إلى هذا الاهتمام تقديره وإعجابه بما تميزت به تلك المؤسسات من مميزات أخلاقية مستمدة من مبادئ الإسلام وشريعته التي أقام عليها الملك عبدالعزيز دولته الحديثة؛ يقول: “والحكومة النجدية تسعى بكل قواها في تحضير البدو، وتثقيف عقولهم، وإدخال الإصلاح الذي يتفق مع حالتهم الاجتماعية، وتعتني اعتناء زائدا بالحالة الصحية، ففي الرياض عاصمتهم مستشفى عظيم تمتد فروعه إلى كثير من البلاد النجدية، وكذلك بالشؤون الزراعية والتجارية والمالية، فكلّها متقدّمة تقدّما حثيثا. وتحافظ كلّ المحافظة على سلامة الأخلاق والآداب، فلا سوء، ولا فحشاء، ولا منكر، مما غرقت فيه أوروبا بمدنيتها المادية”(36). إذن فالمسألة ليست تعميرا وتشييدا فحسب، وإنّما مع ذلك حرص على الانسجام مع قيم الشريعة الإسلامية السمحاء. 5 – الحضارة = إيمان + تقدم مادي: إن هذا التميز الحضاري في بناء الدولة نابع عن نظرة فلسفية للملك عبدالعزيز؛ إذ الحضارة عنده لا يكتمل مدلولها إلاّ بالجمع بين القيم الإيمانية الرفيعة والمدنية المادية؛ إذ لا خير في تقدّم مدني بعيد عن الإيمان والأخلاق، “ولا يزال ابن سعود مع ذلك مسلما قويّ الإيمان، وأساس اعتقاده أن كلّ ما يحدث من الله، ولذلك يمثّل الرأي القائل بأن كلّ تقدّم في الأمور المادية لا فائدة منه إذا لم يصحبه التعمق في العقيدة، فمن الطبيعي أن يبني حكمه على القواعد الدينية”(37). 6 – الدولة الإسلامية دافعه: إن من يتبنى هذه الفلسفة في البناء الحضاري لا ينبغي أن تأتي سائر أعماله في تأسيس الدولة والمجتمع الجديدين إلا انبثاقا لها، وانسجاما مع العقيدة التي يعتنقها، والشريعة التي يحكم بها ويحتكم إليها، فصحّ القول بأن “هذه الفكرة التي ترمي إلى تكوين دولة إسلامية صحيحة تكون الأولى من نوعها منذ عهد الصحابة هي الدافع لابن سعود في جميع أعماله”(38). 7 – مملكة عبدالعزيز جامعة عربية: لقد كان لنظرة الملك عبدالعزيز الواسعة دور في إعطاء الفرصة لكل ذي كفاءة من أبناء العرب؛ كي يشاركوه بخبراتهم المختلفة في بناء دولته الفتية، فضلا على أن فتح بلاده لأبناء العرب دليل على سعيه للوحدة؛ يقول ابن باديس: “ونشر منشورات في الموضوعات العامة بيّن فيها سياسته، ورغبته في توحيد العرب وترقيتهم، وأن بلاده مفتوحة لأهل العلم والعمل من أبناء العرب، وفعلا فقد وفد عليه العدد الكثير من الشبان المتعلمين من مصر والشام والعراق. وأصبح متصلا بالعالم الخارجي اتصالا أدبيا مكينا، بعد ذلك الانعزال التام، فبرهن بهذا على أنّه سائر بأمّته في الطّريق التي تسير عليها الأمم الراغبة في الحياة: طريق العلم والتسامح، وربط العلائق الودّية السلمية مع الناس”(39). إن المتأمل في مسلك الملك عبدالعزيز – في ضوء هذا النص – يُدرك أسس العلاقات الدولية التي خطها الملك لدولته، سواء على المستوى القومي العربي، أو على المستوى الدولي الخارجي؛ تقوم هذه السياسة على الاستفادة الذكية من الكفاءات العلمية العربية والأجنبية، والانفتاح على العالم الخارجي على أسس واضحة عادلة كالتسامح والعلائق الوديّة. ومن الواضح بقاء المملكة وفية لهذا النهج؛ مما بوأها مركزا متميزًا في السياسة المحلية، بل وحتى الدولية في كثير من القضايا. 8 – الملك عبدالعزيز رجل التخطيط: ربما احتاجت الدول الوليدة ذات الملابسات الخاصة في قيامها إلى نوع من مركزية القرار، والتخطيط، من طرف الزعيم القائد المؤسس؛ لهذا فالملك عبدالعزيز: “تنمو جميع الخطط في رأسه وعلى كتفيه مهمّة تنظيم مملكته الكبيرة، وتنحصر مساعدة أمرائه – ومنهم ذوو شخصيات كبيرة – في حسن تنفيذهم للخطط التي يضعها، فهو وحده الذي يفكر ويعمل، وكلهم أيد له، وأنه ليحمل عبئا عظيما من العمل”(40). 9 – تقديره لرجاله: إلا أنّ هذا لا يعني بحال نزوعا نحو غطرسة، أو غمط الفضل لذوي الفضل ممن يعملون معه، بل إنّه حاكم متبصّر “يعمل لمصلحة شعبه لا لنفسه، ويقدّر الرّجال حقّ قدرهم، ويقرأ ما بقرار نفوسهم قبل أن ينطقوا ببنت شفة، ويسعى دائما لإرضاء من يعملون معه؛ فيعطيهم أكثر ممّا يرتقبونه؛ إذ يمنحهم الأمن على حياتهم، والهدايا الخالصة من القلب والحب لمن يستحقه. ولكن رغم كل ذلك يبقى ابن سعود وحيدا بينهم؛ لأنّ له نفسية عالية”(41). فهذه النفسية العالية، والمبادئ الإسلامية الرفيعة التي يصطبغ بها هي باعثه على سياسته مع رجاله على النحو المذكور. 10 – عبدالعزيز رجل الحرب والبأس: إلى جانب الخصائص السياسية والأخلاقية التي كان يتمتع بها الملك عبدالعزيز- يرحمه الله تعالى – فالرجل تبيّن ممّا قام به من إنجازات غنى شخصيته بخصائص رجل الحرب من تخطيط عسكري، وبأس مع المنحرفين لاستعادة الأمن، وهو ما أثبته دارسوه، ونقلته صحف الحركة الإصلاحية بالجزائر، مصدر دراستنا هذه: أ – عبدالعزيز أركان حرب: لقد أثبت الملك عبدالعزيز في فتوحاته أنّه يصدر عن خطة عسكرية محكمة، وموهبة فذّة في إدارة الحرب، يصور ابن باديس إستراتيجية الملك فيقول: “شرع ابن سعود في فتوحاته وفق خطة منظّمة… فإن اتّساع ملكه كان يجري تبعا لنظام محدد، وكان ثمّة أركان حرب وخريطة حربية، كما في الغرب. ولكن شخص ابن سعود كان وحده أركان حرب، ثم إنّه لم يكن قد رأى أيّ خريطة حربية من قبل. وقد اتخذت فتوحاته شكل حركة حلزونية، تبدأ من مركز لا يتبدّل وهو الرياض، وكان لا يخطو خطوة إلى الأمام إلا بعد أن يؤمّن ما سبق فتحه، ويوطّد في موقفه من الوجهة الحربية”(42). ب – عبدالعزيز يعيد الأمن لنصف قارة بإقامة الحدود ونشر العلم: نلحق هذا الإنجاز بالجانب الحربي والعسكري في شخصية الملك عبدالعزيز، لأنه من بأس رجل الحرب والدولة الذي يضع السيف في موضع السيف، والدواء في موضع الجرح والألم؛ “بدأ ابن سعود في التّشديد بتوطيد الأمن العامّ في بلاده بواسطة القوانين الصارمة، وحملات التأديب القاسية. ومن قبله كانت شبه جزيرة العرب كلها في عدم استقرار، وكانت قبائل البدو يشنّ بعضها الغارة على بعض، وتنهب القوافل، وكانت الطرق غير آمنة، فلمّا جاء ابن سعود حرّم على البدو أن يتقاتلوا، وأمر بأن تُحل الخلافات بين القبائل بقضائه، أو قضاء أمرائه فيها، وجعل المجرمين يشعرون بكل ما في الشريعة من شدة”(43)، إلا أنّ تمازج البعدين العسكري والتربوي في شخصيته ألهمه أن يصحب عمله ذا الصبغة العسكرية الأمنية والتشريعية، بعمل تربوي تعليمي تغييري؛ “وقد أجدى ذلك [العمل التأديبي العسكري] بعض النفع، غير أن ابن سعود لم يلبث حتى أيقن أن الإكراه وحده لا يكفي؛ ليجعل من الوحش بشرا، فشرع يبث في نفوس شعبه أخلاق الإسلام وفضائله، وبعث بالمعلمين، وبالوعّاظ إلى مختلف القبائل؛ ليعلّموا البدو القراءة والكتابة، ويحثّوهم على التمسك بالدين وآدابه في عزم وإخلاص”(44). لقد أثمرت هذه الجهود النوعية لا أناسا متعلمين فحسب، ولكن مجتمعا يسوده الأمن الفريد من نوعه، حتى بالمقارنة مع الدول الحديثة المتمدنة: “وكانت ثمرة ذلك صغيرة في السنوات الأولى، ولكنها نمت تدريجيا، وأينعت وآتت أُكلها، وهكذا تمّت في بلاد العرب إحدى الغرائب، وأصبحت مملكة ابن سعود، ومساحتها مثل مساحة ألمانيا وفرنسا وإيطاليا معا، وفيها الأمن العام مستتبّ بشكل لا يوجد في أية دولة متمدنة من الدول الغربية. والآن يستطيع كلّ شخص أن يسافر بمفرده في الصحراوات الواسعة وسط بلاد العرب دون أن يحمل سلاحا أصلا، وإن كان يحمل الأثقال من الذّهب، فلا يصيبه ضرّ أو أذى. وقد كان الناس قبلا لا يقطعون تلك الجهات إلا جماعات مسلحين”(45). ج – التغيّر الواضح: لما استقر الأمر، واستتب الأمن نتيجة جهود الملك عبدالعزيز الجبّارة في صفوف أولئك الذين كانوا قد تخلّوا عن الإنسانية والضمير والوازع الشرعي، فدبّت فيهم حركة تغيير عجيبة حتى لكأنّما أدركوا الإسلام بعد الجاهلية، فأحسّوا أنّهم أصحاب رسالة سامية في الدولة الجديدة؛ فشرعوا – كما يقول ابن باديس – “يحسّون تدريجيا أنهم حاملو عَلَم تقدّم عظيم، وقد أثار التّعليم الدّينيّ الذي أتاهم ابن سعود به عاطفة إطلاق الدّين المتغلغلة في نفوس العرب، وأدركوا أن دولة إسلامية في دور النشوء في بلادهم، وأنّ عليهم أن يضعوا لها الأعمدة والأسس. وكذلك أصبحوا أصدق النّصراء للإسلام بعد أن كانوا لا يعلمون إلا قشورا منه، وصاروا ينظرون إلى نجد نظرتهم إلى معقل الإسلام، وإنهم لمحقّون في ذلك. وقد تركوا اعتبارات العصبية المحدودة، وسمّوا أنفسهم (إخوانا)؛ أي: إخوان كلّ من يسلم قلبه لله دون قيد أو شرط”(46). د – الإخوان دعامة جيش عبدالعزيز: من الصّور الحيّة لتفجير الطّاقات، وتأطيرها لأداء رسالة سامية كالرّسالة التي نذر الملك عبدالعزيز نفسه لها؛ بإقامة دولة العدل والتوحيد، دولة الإسلام، صورة (الإخوان)، دعامة جيشه: “فللإخوان أهميّة عظيمة بالنسبة لدولة ابن سعود؛ لأنّهم في حالة الحرب يتطوّع منهم كل رجل قادر على القتال، ويدخل في جيش ملكهم، وملء قلبه النخوة والحماسة. وإذ إنّهم يعتبرون أنفسهم الممثّلين الصّادقين للدّين الحقّ، ولا يقاتلون إلا في سبيله. لا يرهب الإخوان الموت بل يرحّبون به، ولكن دون أن يزدروا الحياة”(47). هذه الخصال الفريدة أهّلتهم – كما يقول ابن باديس – لأن يكونوا “أكثر جيوش العالم شجاعة، وصبرا، وسرعة في الحركة، ولو مُدّوا بالأسلحة الهندسية الحديثة لاستطاعوا أن يفتتحوا دولة عظيمة. وهم في وقت السّلم مشتّتون في أنحاء البلاد، ولكن إذا دعاهم الملك لم ينقض شهر واحد [بسبب بدائية وسائل المواصلات والاتصالات] حتّى يجتمعوا كلّهم في المكان المعيّن…، وهذا الجيش المتحمّس القليل الكلفة يجعل ابن سعود أقوى من أي حاكم عربيّ قبله”(48). و – من مظاهر حكمة الملك عبدالعزيز السياسية والعسكريّة: طريق الملك عبدالعزيز – يرحمه الله تعالى – إلى إقامة دولته، واستقرارها لم تكن طريقا ممهّدة دون فتن، ونكث عهود، فكان يتصرف مع كل ذلك بما عهد فيه من حكمة وكياسة في موضع الحكمة والسياسة، والبأس والشدّة – وفق أحكام الشّريعة الغرّاء – في المواضع التي تقتضي ذلك. ولقد كان لهذه السياسة أنصارها والمدافعون عنها في الجزائر بحماسة وحجة ويقين. وفي هذا الصدد انبرى الأستاذ أحمد توفيق المدني(ü) أحد أعضاء وكتاب جمعية العلماء المسلمين الجزائريين البارزين، في مقالة نشرها بمجلة الشهاب التي كان يصدرها عبدالحميد بن باديس يدافع عن العقوبة المستحقة التي أنزلها الملك عبدالعزيز على فئة من الإخوان، حين عاودت بغيها وعدوانها بعد أن عفا عنهم، فتحت عنوان “السيف في موضع السيف” كتب قائلا: “مرحى للملك العظيم ابن السعود وألف مرحى. إنّه لرجل الحزم والتبصّر، وبطل الحرب والسياسة، وساعد العرب المتين، وقائدهم الذي لا يهون ولا يلين”(49). من تكن هذه أوصافه لا يُخشى منه ظلم ولا عدوان، ولا تنطّع في إنفاذ حكم، لهذا يعيب الكاتب على من عاب عليه القصاص من المفسدين فيقول: “نقم عليه ضعفاء العقل وسفهاء الأحلام، شدّة استعملها في سبيل الله، وبطشا حطّم به معاقل الفساد والنفاق، وصلابة لولاها لشتت الله شمل الجزيرة بعد الاجتماع، ولحلّت فيها الفوضى السّالفة محلّ النّظام، ولسالت الدماء فيها، وانتُهكت الحرمات بدل الأمن والعافية والسلام. ولقام الدّليل للعالم أجمع بأنّ العرب أمة الهمجية والفوضى والفتن وسفك الدّماء، وأنّه هيهات لتلك الأمة أن تعود للمدنية بعد أن خرجت منها، وانفصم حبل الاتصال بينهما”(50)، إن تكن هذه النتيجة فما أهون الثمن، الإطاحة بالفئة الباغية التي “أعلنت ضده حربا لم تُراع فيها للعروبة ولا للإسلام إلاّ ولا ذمّة، وجمعت حولها جموع الفتك والنّهب والفوضى، أولئك الذين لا يعيشون إلا من وراء الفتك، ولا يرتاحون إلا بعد الفيء. ولم ترحم الأرحام منهم أقارب تُروّي سيوفا من دماء الأقارب ثم تجمعت جموعهم الوحشيّة، وراموا القضاء على تلك الدولة العربية الفتية، في مهدها، حتى يخلو الجوّ لكلّ طمّاع أثيم، فيعيش سائبا ناهبا، سافكا، لا تردعه قوم، ولا يناوئه مقام. أرادها أعداء الله وأعداء المدنية فتنة هوجاء وحربا عمياء، لكن ربّك أرادها للعرب غير ذلك، وإنّ ربّك لبالمرصاد”(51). أمثل هؤلاء يُلام فيهم من كفّ شرهم، وانتقم للشريعة والأخلاق والأمن والمدنية منهم؟ ورغم ذلك ألم يكن من قبل قد “ظفر بهم الملك عبدالعزيز أوّل مرّة؛ فشتّت شملهم، وفرّق جموعهم، واغتربهم، والمؤمن غرّ كريم، فعفا عنهم بعد المقدرة، وصفح عنهم بعد سقوطهم واستسلامهم، وأخذ عليهم عهد الله وميثاقه؛ ليخلدن بعدها إلى السّكينة، ولينبذن تلك الفتنة، وليرجعن إلى الجماعة، وليرضخن إلى حكم الله”(52). لكن هل أجدى ذلك معهم نفعا؟، “للأسف الشديد، فعلى الرغم من أريحيّة تلك الخلال الحسنة، والسجايا الطيّبة الرقيقة، التي أبداها الملك عبدالعزيز، وواجه بها هؤلاء القوم، مع مقدرته على القصاص منهم بالحق… إلاّ أنّهم لم يصدقوه القول، ولم يكونوا شرفاء وأصحاب كلمة وعهد”(53). 11 – توطين البدو خدمة للدين والمدنية: برهنت إنجازات الملك عبدالعزيز على أنّه رجل دولة وحضارة واجتماع إنساني؛ فاستولت على اهتمام رجال الحركة الإصلاحية بالجزائر، فقدّروها حقّ قدرها. فهي برهان عملي قاطع على اهتداء هذا الحاكم الذي لم يحتك بالمدنية الغربية، لأرقى الحلول الاجتماعية بعبقرية، لأوضاع وظواهر اجتماعية تقتضي أن يتصدّى لدراستها، ووضع تصورات لمعالجتها مراكز بحث اجتماعية وإستراتيجية كالتي ظهرت في الغرب في العصر الحديث؛ “وضع ابن سعود عمله لتحضير البلاد على أساس أكبر… فقد شرع يفكر في استيطان البدو؛ إذ اتضح له أن تنقّل البدو من جهة إلى أخرى كل حين يمنع تقدّم المدنية بينهم، ويحول دون ما هو أهمّ من ذلك عنده، وهو تمكين الدّين من نفوسهم. وعلى ذلك أخذ يبث هذه الفكرة في البدو، ولم تكن بلاد العرب تعرفها من قبل. وقد نجح في هذا نجاحا أكبر مما ارتقبه. وبدأت القبائل واحدة إثر أخرى تدرك فائدة المعيشة المستقرة في ناحية معلومة”(54). إذن فالعملية تمّت وفق خطّة محكمة: تشخيص الظاهرة، وتحديد السلبيات، ورسم أهداف المخطط وهي (التّمدين، وتمكين الدّين من النّفوس)، ثم اتّخاذ وسائل التّنفيذ الملائمة للبيئة. إنّ هذا العمل في ميزان الحضارة والرّقي السليم بالإنسان “سوف تقدّر أهميّته من وجهة الحضارة، وأن التاريخ سوف يفرد لهذا الملك صفحة بين صفحات العظماء الذين خطوا بالإنسانية خطوات إلى الأمام”(55). 12 – حيازة دولة عبدالعزيز على موجبات السيادة والتقدم: يحتكم الإمام ابن باديس إلى مقاييس اجتماعية وقيمية بصفتها مقدمات تنتج عنها نتائج هي الغاية لدى مجتمع أو دولة تطلب الرّقيّ والازدهار. فمن خلال منهج استقرائي لخصائص ما سماها بـ (الأمة النجدية) قياسا على (الأمة الجزائرية) المصطلح الذي كان سائد الاستعمال آنذاك نتيجة ملابسات الصراع الحضاري، فخلص إلى “أن الأمة النجدية لها من الصّفات النفسيّة والأدبيّة والاجتماعيّة، ما تستحقّ به السيادة والاستقلال والتقدم، والقيام بجلائل الأعمال، وأن الحكومة النجدية مرتكزة على نشر الأمن والعدالة والتّسامح وحبّ المعارف. وهذه الأربعة – كما قال الأستاذ (فلندر زيتري) العالم المؤرخ المشهور- هي أصول الحضارة والشروط اللاّزمة للتمدّن الدّائم الصحيح”(56). 13 – الملك عبدالعزيز زعيم العرب ونهضتهم: من الحكّام والأمراء من يعتقد أن الزّعامة والسيادة مما يُتوارث بالأحساب والأنساب فحسب، حتّى وإن جاءت أعمالهم في غير مصالح الأمّة التي يحكمونها، إلا أن ابن باديس رأى بعد تحليله أوضاعَ الأمّة العربيّة إثر الحرب العالمية الأولى، أنّ زعامة هذه الأمّة لا يستحقها إلا رجل له من الصفات والسيرة الحسنة، والقوة المرهوبة ما يُطوّع الأحداث لصالح تلك الأمة وجمع شملها، وهذا الرجل هو الملك عبدالعزيز، يقول: “انتهت الحرب الكبرى، وكان حظّ العرب منها بتفرّق كلمتهم، وتنازع أمرائهم في داخل الجزيرة ووفودهم تحت نير الاستعمار الجائر في سورية والعراق وفلسطين… لم يبق بعد هذا كلّه من يُرجى للنهضة العربية وزعامة العرب حقيقة إلا ابن السعود بشخصيّته البارزة، وصفاته الممتازة، وسيرته الحكيمة العادلة، وجيشه المرهوب، فقام هذا الأمير وغايته الوحيدة التي جعلها نصب عينيه هي تطهير جزيرة العرب من الأجانب، وأذنابهم… وجمع شمل الأمة العربية بعقد حلف بين أمرائها في الجزيرة وخارجها. والواقف على منشوراته العامّة ومداولاته مع أمراء الجزيرة يعلم هذا، ويتحقّقه، فأخذ يسعى لهذه الغاية العظيمة، ويهيئ لها الأسباب”(57). 14 – الملك عبدالعزيز زعيم الأمة العظيم الوحيد: لم تكن رغبة الملك عبدالعزيز إقامة دولة لها حدود معلومة تبحث لها عن مكان تحت شمس العالم المعاصر، وتقف رسالتها عند حدودها، إنّما كان الرجل يصدر عن رؤية إصلاحية سياسية شاملة للأمة العربية كلّها، على أسس من تعاليم الإسلام؛ يقول ابن باديس: “وإنّ حركة الوهّابيين اليوم حركة سياسية إصلاحية ترمي إلى توحيد العرب بربط حلف بين أمرائهم المعتبرين، وتثقيفهم بالعلوم، وتفهيمهم بالحكمة حقيقة دينهم العظيم، حتى يصبحوا – بإذن الله تعالى – أمّة حيّة تعرف ما لها من الحق في الوجود وما عليها من الواجب نحوه”(58)؛ فهذه رسالتهم التي ينبغي أن يتطلّعوا لتحقيقها اليوم، استئنافا لدورهم في الشهود الحضاري الذي أحسن أسلافهم القيام به على أحسن وجه، يقول ابن باديس: “ويمثلوا حقيقة تلك الأمّة الكريمة التي دوّخت العالم بسياستها، ونشرت في أقطاره خطّها ولسانها، وإنارته بدينها ومدنيتها. وكانت الواسطة الأمينة الفعّالة بين التمدن القديم، والتمدّن الحديث، ويرفعوا منار الإسلام بمدنيته الحقّة الرّاقية في هذا الزمان كما رفعوه كذلك في سالف الأيام، ويجب أن نعلن بأن الفضل الأول في هذا كله للرّجل الكريم، والبطل العظيم السلطان عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل فيصل آل سعود، الذي لا نشك أنه سيكون له – إن شاء الله تعالى – في تاريخ العرب ما كان لمصطفى كمال في تاريخ الترك [مع الفارق في أسس واتجاه كل منهما طبعا]؛ فالأمّة العربيّة اليوم تعتبر هذا الأمير العظيم زعيمها الحقيقي الوحيد، وتعلّق عليه الآمال الكبار والعالم الإسلامي ينظر إليه بعين العطف والاعتبار، شاكرا خدمته الجلى، وسلوكه السياسي النظيف ومقصده السامي الشريف، ومقدار منزلته العالية التي نالها في عين العالم عن جدارة واستحقاق”(59). 15 – الملك عبدالعزيز والغرب: هذه صفحة لم أرد أن أجتازها وأنا أتتبّع الحضور القويّ لشخصية الملك عبدالعزيز، وأعماله في دائرة اهتمام الحركة الإصلاحية في الجزائر. فلقد كان الإمام عبدالحميد بن باديس يتابع بعين المراقب الفطن تطلعات الغرب الاستعماري – مجسّدا في دولتيه الكبيرتين (بريطانيا وفرنسا) آنذاك – إلى النفوذ في جزيرة العرب. والمعروف عن ابن باديس أنه كان يدعو إلى حسن الاستفادة ممّا لدى هؤلاء الغربيين من علوم مدنية مفيدة، وخبرات فنيّة تعود على المسلمين بالخير، ومن هذا المنطلق عالج هذا الموضوع في مقال عنوانه (جزيرة العرب والنفوذ الإنجليزي الفرنسوي)، فوصف كنوز الجزيرة العربية الفكرية والمادية قائلا: “لا تزال جزيرة العرب إلى اليوم بلدا بكرا، في معتصم من السلطة الأجنبية، وفي عزلة عن الحضارة العصرية، لم يستخرج العلم كنوز الفكر من رؤوس أهلها ذات الذكاء الفطري المتوارث. ولم تستخرج الصناعة كنوز المعادن من أحشاء أرضها الكثيرة السهول والنجود”(60). إلا أنّها مع ذلك واقعة بين معقلين استعماريين للحضارة الأوروبية، فرنسا من الشام، وإنجلترا من العراق، لهذا رأى ابن باديس أنهما: “لا يبرحان يعملان على توسيع نفوذهما، واستدرار تلك الخيرات الطبيعية لأبنائهما. وهما لذلك متزاحمان تزاحما يتفاقم ما بينهما يوما فيوما”(61). واستنادا إلى أنباء تفيد “بسعي فرنسا إلى ربط صلات الودّ والصداقة مع سيد مكّة والرياض، وسعي إنجلترا في عقد معاهدة مع سيد صنعاء”(62)، ذهب ابن باديس إلى أن النّفوذ لا يكون ضارّا إلاّ بالنسبة للحكومة الضعيفة الجاهلة مما ينجر عنه امتيازات، وتدخلات في الشؤون الداخلية لا نهاية لها، وتحمد عقباها. أمّا “إذا كانت على رأسها حكومة قويّة عالمة تعرف كيف تستعمل مال الغرب وأبناءه استعمال العدل والإنصاف؛ يأخذ أجره من الأرض التي يخدمها، لا من روح الأمة واستقلالها، فإنّها – تلك الأمّة – ترقى في معارج الحضارة، وتستخرج كنوز أرضها التي تدرّ البركات على الأمّة، وتنقذها من الفاقة والجهل. إن الذين يعرفون الملك السلفيّ الإمام ابن السعود، يتحققون أنه يستغل من المتزاحمين ما ينفعه، ولا يقع فيما يضره”(63). سبحان الله لكأنّ ابن باديس والملك عبدالعزيز يصدران عن مشكاة واحدة؛ فالمعروف أن المملكة العربية السعودية انتهجت هذا المنهج الذكي في الاستفادة من خبرات الغرب وعلومه ومدنيته، لتمدّنها واستخراج خيرات أرضها، دون أن تسلّمه روحها، ولا منهج حكمها، ولا قيمها، كما هي حال كثير من بلاد العرب والمسلمين. 16 – من مظاهر تفاعل الحركة الإصلاحية الجزائرية مع أعمال الملك عبدالعزيز: الحقيقة أن كلّ ما مضى ذكره في ثنايا هذا البحث لا يخرج عن وصفه بتفاعل الحركة الإصلاحية بالجزائر مع الحيوية الزاخرة التي أحدثتها أعمال الملك عبدالعزيز وإنجازاته، ولكن الأحداث تتفاوت من حيث الأهمية والجسامة، إذ إنّنا سجّلنا تجاوب تلك الحركة الكبير مع التغييرات العظيمة التي أحدثها الملك عبدالعزيز، إلى جانب أحداث كان يمكن أن تمرّ دون اهتمام كبير. وسوف نقتصر – تمثيلا – على حدثين هما: أ – الإصلاحيون يستبشرون للمصالحة بين ملكين: كان رجال الحركة الإصلاحية بالجزائر يعبّرون عن ابتهاجهم بكل خطوة نحو التئام شمل الأمة وقادتها، وفي هذا الاتجاه كتبت جريدة البصائر لسان حال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، تحت عنوان (السّلم العربي) عن اللقاء الذي تم بين الملك عبدالعزيز والملك عبدالله بن الحسين في الرياض، “وبتلك الزيارة تنهار أحقاد، وتسقط إحن، وتنتهي مزاحمة دامت قرابة قرن، ويعود العرب بحمد الله كما كانوا من قبل إخوانا في السرّاء والضرّاء”(64). ويلحظ في هذا الاستبشار تثمين الحريص على ألاّ يكون بين حكّام الأمّة إلاّ المودّة والتّآزر في كلّ الأحوال، الأمر الذي ينعكس إيجابا على شعوبهم. ب – إصلاح الملك عبدالعزيز الحرم النبوي من ماله الخاص: اتّسمت المعالجة الإخبارية الإعلامية بصحف جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بميزات عدة منها: الصراحة، تحري الصدق في الخبر، شمولية المعالجة، الإشادة بالبادرة الإيجابية، الإنصاف. في ضوء هذه الخصائص نورد الخبر الذي نشرته جريدة البصائر: “كم آلمتنا الأنباء الواردة من الحجاز، والتي تخبر بأنّ بعض أعمدة الحرم النّبويّ الشّريف توشك أن تنهار، وبأن الحكومة المصريّة قد فتحت اكتتابا عامّا بجمع الإعانات للقيام بعمليات الترميم والإصلاحات اللازمة؛ فعجبنا، واستغربنا، وازددنا تألّما من عدم إنقاذ هذا التراث الإسلامي المهم، وأخيرا جاءت الأخبار فحقّقت ما كنّا نعتقده من صاحب الجلالة الملك ابن سعود من الغيرة على مقدّسات المسلمين، فأعلن رسميا قيامه بإصلاح الحرم الشريف من ماله الخاص، وإنّما طلب من الحكومة المصرية أن تمدّه بالمهندسين والفنيين اللازمين، وأعلنت حكومة النّحاس باشا بدورها إيقاف الاكتتاب، وإرجاع الأموال المقبوضة إلى أهلها”(65). فهذه العيّنة من التفاعل مع أعمال الملك عبدالعزيز، تدل على التجاوب الروحي والفكري الكبيرين، وعلى المكانة المميزة التي بقي الملك يحتلها في نفوس الإصلاحيين حتى بعد رحيل زعيمهم ابن باديس. مملكة عبدالعزيز في رحلة الغسيري: محمد منصور الغسيري(ü) أحد تلاميذ ابن باديس ورجال الإصلاح وكتّاب صحف جمعية العلماء المسلمين الجزائريين البارزين، نشر فصول رحلته (عدت من الشرق) في جريدة البصائر في حلقات عدة أطولها الجزء المخصّّص للسعودية؛ فقد امتد هذا الجزء إلى ثماني عشرة حلقة، سجّل فيها بفخر واعتزاز العربيّ المسلم التحوّل العمراني والحضاري الكبير في المملكة، فأصبحت المثل الذي ضربه الله للمسلمين؛ قال: “أما مكة المدينة فقد ظلّّت تتأرجح الحضارة الإسلامية فيها بين الرقيّ والتسكّع في أحضان الانحطاط، حتى انبثق الفجر عن ميلاد حكومة بدويّة جمعت كلّ معاني الشهامة والجرأة، والحفاظ والشمم العربي، وراء سلاسل جبال السراة، وفي أحضان جبال نجد الشامخة، هناك نشأت، وترعرعت هذه الحكومة الصالحة، وكأنّ الله أراد أن يضرب المثل الصادق للأمم الإسلامية في أنّه جلّّ وعلا يستطيع أن يحقّّق في كلّ وقت ما حققه للأمم الماضية؛ {أّلّمً تّرّ إلّى پَّذٌينّ خّرّجٍوا مٌن دٌيّارٌهٌمً $ّهٍمً أٍلٍوفِ حّذّرّ پًمّوًتٌ فّقّالّ لّهٍمٍ پلَّهٍ مٍوتٍوا ثٍمَّ أّحًيّاهٍمً إنَّ پلَّهّ لّذٍو فّضًلُ عّلّى پنَّاسٌ $ّلّكٌنَّ أّكًثّرّ پنَّاسٌ لا يّشًكٍرٍونّ} [البقرة: 243]”(66)، إنّها الحكومة التي اتخذت الإصلاح الديني والدنيوي منهجا للنهوض، ومن الإسلام دستورا للحكم، وفقها الله بأن ادّخر علما من أعلام الإسلام محمد بن عبدالوهاب؛ ليضع لها القواعد، ويرشدها إلى أقوم الطرق في النهوض الديني والدنيوي، فكان أن اتّخذت الإسلام دستورها في الحكم، وكان أن اتّخذت الإصلاح الديني شعارها في بعث همم المسلمين من جديد، وإنارة عقولهم بشعاع روحانية الإسلام، وإشاعة الحب الصادق بين قلوب المؤمنين”(67). وقيض الله الملك عبدالعزيز – بما حباه الله من مميزات – ليكون المؤسس لهذه الدولة، المجسّد لقيمها ومبادئها الكريمة: “وشاء الله تعالى أن يتزعّم هذه الدولة الفتية الملك الصالح، والمؤمن القويّ، والسياسيّ، عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل آل سعود – طيب الله ثراه – فكانت نتيجة ذلك كلّه أن رفع أمّة، وأحيا شعبا، وأدال لدين الله الحق أن يقضي بسرعة خارقة على الخرافات والأوهام في الجزيرة وخارجها، ومدّن الجمّالين ورعاة الأغنام، فأصبحوا مهندسين، وحكماء، وطيّارين. ورفع أعلام الحرية فوق أرض تجرّعت كؤوس الخيبة والظنّ السيّئ في إمكان وجود عدالة فوقها زمنا طويلا. وكما مدّن الجمّالين قهر المنافقين والمتزلفين والطمّاعين في المغانم، حتى استتبّ الأمن في البلاد العربية السعودية، وكادت الحضارة تهجم على أقاصي أوكار التوحّش في البلاد”(68). ثم يطلق الغسيري أنشودة نثرية جميلة يثني فيها على الملك الكبير دون تزيد أو مبالغة، فيقول: “إي ورب الكعبة لقد كان الملك عبدالعزيز عظيما حقّا، وصالحا مصلحا حقّا، وعربيا صريحا حقّا، ومؤمنا قويّا صادقا حقّا، كان مجدّدا يهوى الإصلاح ويتخيّر له الفرص، ويرتاح للإنشاء والتّعمير؛ فبنى القصور والمنشآت الخيرية والثّقافية، وشقّ الطّرق في كثير من المناطق الوعرة، ورصف بعضها. ونوى أن ينهي رصف طريق مكة – جدة – المدينة، في بحر سنة واحدة لو لم تعالجه المنية رحمه الله. وتعطّف؛ فأمر بترميم جزء من الحرم المدني تصدّع بنيانه أو أوشك، ثم أضاف إليه مساحة سبعة آلاف متر مربّع زيادة على آلافه الثمانية الحالية. وكانت المساحة المذكورة مبنيّة كديار للنّاس اشتراها منهم بباهض الأثمان، وكتب الله لنا أن نرى الأعمال الهندسيّة قائمة مدى وجودنا هناك، فكانت جديرة بالإعجاب والتقدير. هذه مكة وقد بُنيت حول البيت الحرام دُورها الجميلة الأنيقة، وفتحت الأسواق التجارية القارة، وانتشرت المصانع الصغيرة خلالها. وعمّت الحيويّة كل هذه المنشآت وقت الحج، وغصّت المدينة بمئات الألوف من الحجاج”(69). المملكة العربية السعودية وقضايا الأمة في كتابات بعض الإصلاحيين الجزائريين: يأتي هذا المبحث توسعة لرقعة البحث حول حضور المملكة العربية السعودية في بعض كتابات الإصلاحيين الجزائريين، فيمتد على مساحة زمنية تتجاوز فترة حكم الملك عبدالعزيز – رحمه الله – إلى بضع سنوات؛ نظرا لنوعية الأحداث التي جرت في ذاك التاريخ المرتبط بتطورات ثورة التحرير الجزائرية 1954 – 1962م (1373 – 1382هـ). والحق أن النّصوص المتّصلة بموضوعنا تتعلق بفترة عرفت العلاقات الجزائرية (ممثّلة خاصّة في ممثّلي ثورة التحرير الجزائرية) والمملكة العربية السعودية، خصوصية نوعية في نصرة القضية الجزائرية بالمال والموقف السياسي والدبلوماسي، والاحتضان العلمي والثقافي. وكتابات كهذه لا ينبغي – بأية حال – تجاوزها في بحثنا لوزنها في تاريخ العلاقات السياسية، بل إنّه يمثّل – بالنّسبة لنا نحن الجزائريين – سندا قويا في صراعنا الحضاري مع تيارات استئصال الجزائر من محيطها العربي الإسلامي، ومحاولة إلحاقها بالغرب تحت عناوين مختلفة كالبعد المتوسطي الذي لا يزيد عن كونه بعدا جوسياسيا وتاريخيا ذا صبغة استعمارية، وارتباط مصالح اقتصادية بعيدة عن الانتماء الحضاري بمفهومه الشاسع. وقد قسمت هذا المبحث إلى مستويين: مستوى الكشف عن القضايا التي حرّكت العلاقات بين البلدين على الميدانين الفكري والعملي، وأهم قضيتين تتعلقان بهذا الجانب هما: القضية الجزائرية في تجلياتها السياسية والثقافية وحتى العسكرية (الدعم المالي للثورة الجزائرية)، والقضية الفلسطينية من حيث هي قضية العرب الكبرى، وعلى وجه التحديد هنا الكشف عن بعض جهود المملكة العربية السعودية في هذه القضية، كما تناولتها بعض الصحف الجزائرية، والمثقفين الجزائريين. أما المستوى الثاني، فيتناول الرصد الإعلامي والثقافي لبعض المنجزات العمرانية بالمملكة. المملكة والقضية الجزائرية نعني بالقضية الجزائرية، نضال الجزائريين السّياسي والمسلّح، لاستقلالهم عن فرنسا. فإن تكن الثورة الجزائرية قد اندلعت عاما بعد وفاة جلالة الملك عبدالعزيز، فإن خليفته الملك سعود – رحمه الله – تبنّى القضّية الجزائرية بروح والده الملك عبدالعزيز ونصرته للحق. 1 – من وجوه دعم القضية الجزائرية: فلقد دلّت الوثائق السّياسيّة والتّاريخيّة على الدّرجة العالية المستوى لتلك المواقف؛ ففي برقية مؤرخة في 24/3/1376هـ عدد 51/1/2/689 أرسلها جلالة الملك سعود إلى الأمير محمد سعيد(ü) حفيد الأميـر عبدالقادر الجزائري، يؤكّد له فيها ما تحظى به القضيّة الجزائريّة من اهتمام ومساعدة لدى الحكومة السعودية، ورد فيها: “من سعود بن عبدالعزيز إلى صاحب السّعادة الأمير محمد سعيد الجزائري سلمه الله، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد فقد تسلّمنا رسالة سموّكم المؤرّخة في 23/1/1376هـ، وشكرنا لكم ما أعربتم عنه من عواطف طيبة، كما شكرنـا لكــم هديتــكم الثمينــة التي هي كتاب الله عز وجــل. أمــا فيما يتعلق بقضية الجزائر فنحن – والحمد لله – ما توانينا منذ البداية عن بذل الجهود في مساعدتها، كما أنّنا لن نتوانى بحول الله وتوفيقه على ذلك، فهي قضية العرب والمسلمين أجمعين. نسأل الله أن يوفّق الجميع لما فيه خير الإسلام والعروبة. والسلام”(70). من المؤكّد أن الردّ الذي تضمّنته هذه الرّسالة ليس مجرّد لباقة جرى بها العرف الدبلوماسي والسياسي في مثل هذه المراسلات والاتّصالات، إذ تتعاضد الأدلة التاريخية على تصديق الفعل للقول، في بذل الجهود والمساعي في سبيل القضية الجزائرية. والحقّ أنّ كلمة “مساعدة” تواضع من الملك وحكومته التي يعبّر عمّا فعلته تجاه تلك القضية. فلقد حملت الثورة الجزائرية في المحافل الدولية؛ لتخرج بها من مجرد صورة تمرد قام به متمرّدون على النظام – كما كان يدّعي الاستعمار – إلى قضيّة شعب يسعى لانتزاع حريته بالأساليب التي اختارها. يقول الأستاذ جميل إبراهيم الحجيلان الأمين السابق لمجلس التعاون لدول الخليج العربي، في محاضرة عنوانها (الدور القيادي للملك فيصل في العالم العربي): “وعندما انتفض الشّعب الجزائري انتفاضته الكبرى في مطلع شهر نوفمبر عام 1954م (ربيع الأول 1374هـ) بادرت المملكة العربية السعودية بعد شهرين فقط من انطلاق هذه الثورة؛ لتجعل من هذه القضية قضية دولية، لا يمكن للعالم أن يغمض عينيه عنها. وانطلق فيصل يستجمع القوى والأنصار في المحافل الدولية؛ فحوّلها إلى قضية من قضايا مجلس الأمن، ثم انتقل بها إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة التي تبنتها واحتضنتها، وتحوّلت ثورة الجزائر في العالم من تمرد يقوم به العصاة على النظام – كما طاب لفرنسا أن تقول – إلى قضية شعب مستعمر مقهور يطالب بحريته وكرامته”(71). وفقهاء السياسة الدولية وحدهم الذين يفقهون حقّ الفقه الخروج بقضية ما من دائرة العصيان والتمرّد وربّما الإرهاب، إلى قضية تقرير مصير شعب تجاه إحدى القوى العظمى وأحد أركان الحلف الأطلسي الذي أثبتت الوقائع الحيّة مشاركته الفعلية المسلّحة في إخماد تلك الثورة. وقد أكّد الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي وزير الخارجية الجزائري لسنوات عدة ونجل الشيخ محمد البشير الإبراهيمي ثاني رئيس لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، في معرض تعقيبه على المحاضرة المذكورة، دور المملكة الكبير في تسجيل القضية الجزائرية بمجلس الأمن، فقال: “من جانبي أكّدت له – أي الملك فيصل يرحمه الله تعالى – أنّنا في الجزائر لا ننسى أنّ الأمير فيصل بن عبدالعزيز أوّل من طالب بتسجيل القضية الجزائريّة في مجلس الأمن برسالة مؤرخة في 5/1/1955م (21/5/4731هـ)؛ أي: بعد شهرين فقط من اندلاع القضية الجزائرية أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 1955م (1374هـ) [بتوجيه من جلالة الملك سعود]، كما لا ننسى أنّ المملكة ساعدتنا ماديّا ومعنويّا طوال سنين الثورة، وأنّ كثيرا من المساعدات كان من ورائها الأمير فيصل بن عبدالعزيز”(72). وهذا نصّ برقية رئيس مجلس الأمن في تلك الفترة لمندوب المملكة بالهيئة الأممية: “سعادة الشيخ أسعد الفقيه مندوب المملكة العربية السعودية الدّائم لدى الأمم المتّحدة، أتشرّف بإخباركم بوصول كتابكم المؤرخ في 5/5/1955م (41/9/4731هـ)، وإفادتكم بأنه طبقا لرغبتكم سيجري تقديم كتابكم مع مرفقاته إلى أعضاء مجلس الأمن التي سيشار إليها برقم س/1/3341. وتفضّلوا بقبول فائق الاحترام. ليسلي مونرو رئيس مجلس الأمن”(73). ولقد استمرت هذه المواقف الجليلة المشرّفة من المملكة ملكا وأمراء وحكومة وشعبا على امتداد الثورة الجزائرية، وتداعيات قضيتها. فمن وجوه الدّعم الدبلوماسي أيضا ما صرّح به الدكتور الإبراهيمي قائلا: “كان هناك إخوان يعيشون في مصر، ويدافعون عن القضيّة في الأمم المتحدة، سُلّمت لهم – فعلا – بعض الجوازات السعودية لا يزالون يحتفظون بها إلى اليوم”(74). فما أروع هذه الحقائق في ميزان الأخوة والشّرف والشّجاعة، وما أنكرنا للجميل إن لم نشكر أصحابها، ونعرّف بما فعلوه للأجيال المتلاحقة. تثبت الوثائق التاريخية الاتصال المستمرّ بين الدّولة السّعودية والزّعماء الجزائريين سواء كانوا سياسيين أم رجال الإصلاح بعد أن انصهر الجميع في بوتقة العمل الثوري، وتصوّر لنا مدى الانسيابية في طرح مطالب المساعدة التي يمكن أن تقدّمها المملكة للقضيّة الجزائريّة، وكانت المملكة تتعامـل مع ممثّلي الثورة دون تحفّظ أو تحرّج؛ فلقد ذكر الملك فيصل للدكتور الإبراهيمي كيف كان والده الشّيخ الإبراهيمي(ü) على اتصال بالملك سعود داعيا لدعم الثورة الجزائريّة، بعد أن كان على اتصال بالملك عبدالعزيز معرّفا بالجزائر وبالمغرب العربي(75). وفي ضوء هذا الكلام نفهم ما ورد في مطلع البرقية التي أرسلها الشيخ الإبراهيمي بتاريخ 9/1/1955م (61/5/4731هـ) إلى الملك سعود بن عبدالعزيز يذكر له فيها مدى معرفته بالحركة الإصلاحية الجزائرية وآثارها: “يا صاحب الجلالة، ما زلنا نعتقد أن جلالتكم أعلم الناس بالحركتين الإصلاحية والسلفية والثقافية العلميّة العربيّة الإسلاميّة بالجزائر، وأعلم الناس بآثارها الطيبة في الأمّة الجزائريّة، وأنّكم أكبر أنصارهما والمقدّرين لثمراتهما والعاملين على تغذيتهما والمرجوين لاحتضانهما”(76). ثم يذكر بعد ذلك كيف برهن عمليا على هذه النصرة على نطاق عربي، حين أوصى مندوب جلالته بإثارة القضية الثقافية العربية الإسلامية بالجزائر، ثم بأمركم الكريم له بعرض قضيّة الجزائر السياسيّة على مجلس الجامعة أيضا؛ ليقرر عرضها على جمعية الأمم المتحدة باسم حكومة جلالتكم”(77). وفعلا قد أثار مندوب المملكة القضية الجزائرية بواشنطن بالقوّة والجرأة التي تليق بمستوى المملكة وملكها، ومواقفها في القضايا المصيرية للأمّة، يقول له: “تتبّعنا هذه الأطوار باهتمام مصحوب بالاغتباط والسرور، والدعاء لجلالتكم إلى أن قرأنا أن سفيركم بواشنطن تكلّم باسم جلالتكم في قضايا الجزائر الدينيّة والثقافيّة والسياسيّة، كلاما رسميا قويّا واضحا جريئا، عليه نور إيمانكم وعزيمتكم، وعليه سيماء انتصاركم للإسلام والعروبة”(78). ثم يستأذنه في أن يكلّف جلالته رجلين عالمين بجزئيات القضيّة الجزائريّة وتفاصيلها، فيتكلّمان باسم جلالته مؤازرين سفير المملكة بواشنطن في متابعة قضايا الجزائر والدّفاع عنها: “نحن على يقين أنّكم ما بدأتم إلاّ لتتمّوا، فاسمحوا لنا – يا صاحب الجلالة – أن نلفت نظر جلالتكم إلى أنّ من بين رجالات العرب رجلين متخصصين في الإلمام التّام بشؤون الجزائر من جميع نواحيها مع الإخلاص والغيرة والجراءة، ومع الصدق في خدمة جلالتكم، وهما الأستاذ أحمد بك الشقيري، والأستاذ عبدالرحمن عزام باشا، فإذا وافق نظركم السّامي على أن تكلفوهما أو أحدهما بالاستعداد من الآن لمتابعة قضايا الجزائر والدفاع عنها باسم جلالتكم كعون وتعزيز لسفارتكم بواشنطن، إن رأيتم هذا ووافقتم عليه كنتم قد وضعتم القضية في يد محام بارع عالم بأدلّتهــا وبراهينهــا، محيــط بجزئياتها وكليّاتها. ولكم النظر العالي في تفاصيل الموضوع وكيفياته”(79). ويختم الشيخ الإبراهيمي برقيته بقوله: “ونحن – على كلّ حال – نشكر جلالتكم باسم الأمة الجزائرية السّلفيّة المجاهدة، ونهنئها بما هيّأ الله لها من اهتمام جلالتكم بها وبقضاياها، ونعدّ هذا الاهتمام مفتاح سعادتها وخيرها، وآية عناية الله بها، وأُولى الخطوات لتحريرها. أيّدكم الله بنصره وتولاّكم برعايته، ونصر بكم الحق، كما نصر بكم التوحيد، وجعلنا من جنوده في الحق”(80). فالملاحظ في هذه البرقية التّنسيق الجيّد التّام بين الملك سعود ورجال القضية الجزائرية لفائدتها، فالقضية قضيتهما معا، يحملان همومها وشجونها، ويطرقان بها المحافل العربية والدولية؛ ليُسمعا صوتها في العالمين. الحقيقــة أن ما تضمّنتــه مذكّــرات بعض الســاسة الجــزائريين فيه بعض التفاصيل الضافية عن احتضان المملكة للقضيّـة الجزائريّة، ومـدّهــا بالمــال، وبفتـح اكتتـابــات لثورتهــا بمبــادرة مــن المـلك سعــود – رحمه الله – وغيرها من وجوه الدعم(ü) تستحقّ أن تُفرد ببحث مستقل. ولكن قبل الانتهاء من هذا المطلب لابدّ من الكشف عن جانب آخر من جوانب تواصل الملك سعود مع رجال الإصلاح في الجزائر، والإيواء العلمي لبعض طلاب العلم في تلك المرحلة. 2 – احتفاء المملكة برجال الإصلاح وطلاب العلم الجزائريين: لقد دأبت قيادة المملكة العربية السعودية على سياسة وضع أسسها العملية الملك عبدالعزيز – رحمه الله – وهي تقريب رجال العلم والإصلاح في العالم الإسلامي منهم، والاستفادة من خبراتهم وتجاربهم في شتّى المشاريع العلميّة، فضلا عن تيسير تحرّكاتهم لخدمة قضايا شعوبهم بتوفير الوسائل، وفي هذا يروي الأستاذ محمد منصور الغسيري في رحلته المذكورة آنفًا كيف كانت الحكومة السعودية تضع تحت تصرف الشيخ الإبراهيمي سيارة أثناء وجوده بالمملكة، يقول: “وركبنا السيّارة الأمريكية الفاخرة، وكانت متاعنا طبعا، إذ إنّ الحكومة السعودية ألفت دائما وفي أيّ أرض أن تجعل تحت تصرف الأستاذ الرئيس [الشيخ الإبراهيمي رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين] مدى وجوده في تلك الأرض سيارة من سياراتها؛ لتعينه على أداء مهمته كسفير للجزائر الإسلامية التي حرمت أوقافها وميزانية تعليم الإسلام ولغة الإسلام لأبناء المسلمين فوق ثراهـا… وكأنّ حكومة جلالة الملك الراحل عبدالعزيز آل سعود – رحمه الله – إنما أرادت بصنيعها ذلك أن تُسلّي ممثلي الجزائر الدينيين في الخارج وحراسه الكادحين الأمناء في الداخل”(81) لا يمكن الخروج بهذا الصّنيع عن وجوه العون والمساعدة التي تقدّمها المملكة العربية السعودية للقضية الجزائرية ثقافيا وعلميا ودينيا وسياسيا. ولقد كان الملك سعود – رحمه الله – حريصا على التعرّف على زعماء حركة الإصلاح الجزائريين، وموسم الحج من أهمّ المناسبات لذلك؛ فلقد كتب الأستاذ بشير كاشة(ü) أحد رجال الجمعية وكتاب صحافتها حول زيارة فضيلة الشيخ الشهيد العربي التبسي(üü) نائب رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين للبلاد المقدسة، فقال من بين ما قال: “وقبل يوم التروية من أيام الحج استدعاه جلالة الملك المعظّم سعود للتعرّف على فضيلته، ونزل من مكة المكرّمة إلى جدّة؛ فاستقبله الملك المعظّم في قصره العامر بجدّة حيث يستقبل وفود الحجيج في موسم كل حج بكل حفاوة”(82). وإلى جانب هذا كان الملك سعود – كما سبق القول – يُتيح الفرص لإسهام العلماء في المشروعات العلمية الكبيرة التي أنجزها، فلقد نشرت جريدة البصائر الخبر الآتي: “برغبة من جلالة الملك سعود بن عبدالعزيز غادر حضرة الرئيس الجليل الشيخ البشير الإبراهيمي القاهرة قاصدا الرياض، عاصمة البلاد العربية السعودية، حيث حلّ ضيفا مبجّلا على عاهل العروبة العظيم. وهذه الزيارة وثيقة الصلة بمشروع الكليّة الإسلاميّة الجامعة التي يريد جلالة الملك سعود أن يحقّقها قريبا جدا، وستدرّس بها سائر العلوم والفنون التي تدرّسها الجامعات الكبرى في العالم، إنما تكون الدراسة فيها متّسمة بالطّابع الدّيني الإسلاميّ، وضمن الإطار العربي الكريم، وسيكون لأشبال القطر الجزائري حظّ في هذه الجامعة إلى جانب أبناء العروبة الذين يؤمّونها من كلّّ قطر”(83)، مما يلحظ في هذا الخبر دقّة المتابعة لفحوى الإنجاز العلمي، والوجهة التربويّة العلميّة التي سيتّخذها. فضلا عن الإشادة بفضيلة الاقتبال العلميّ بمؤسّسات المملكة الفتيّة للطلاّب العرب والمسلمين بمؤسساتها العلمية، والاغتباط بحظّ أبناء الجزائر المستعمرة فيها. والحقّ أنّ هذا القبول العلميّ ليس بالجديد؛ فالشّيخ الإبراهيمي في محاضرة ألقاها بالقاهرة حول موضوع (مشكلة العروبة في الجزائر) بتاريخ 5/6/1955م (51/01/4731هـ) عرض فيها توجيه الطلاّب الجزائريين للتّعلم ببعض البلاد العربية كمصر وسوريا والعراق، فأعلن قائلا: “قرّرت الحكومة السعوديّة من يناير الماضي قبول خمسة طلاّب في المعهد العلمي بالرياض على نية الزيادة في العام الدراسي الآتي”(84). وعن الأحوال المالية لهؤلاء الطلبة أشاد بالتّوسعة التي كانوا ينعمون بها في السعودية، فقال: “أما أحوال هذه البعثات في كفاية المخصّصات الحكوميّة وعدم كفايتها، فبعثة الرياض موسّع عليها إلى ما فوق الكفاية، وتليها بعثة الكويت في التّوسعة، وتليها بعثة العراق، أما بعثة مصر وبعثة سوريا فأنا منها في عذاب أليم لعدم كفاية المخصّصات الرسمية”(85). ولم يكن ذلك – بالطبع – تقصيرا من الحكومتين المصرية السورية بل كلّ كان ينفق بحسب سعته المالية. نموذج عن صدى مواقف المملكة من قضية فلسطين في تراث كتابات الجزائريين هذا المحور من البحث ليس تأريخا لمواقف المملكة العربية السعودية من القضية الأمّ للعرب والمسلمين قضية فلسطين، إنّما هو رصد لمواقف المملكة من قضية فلسطين في بعض كتابات الجزائريين بالصحف الإصلاحية الجزائرية، بما يمكن عدّه سندا تاريخيا يؤكّد المواقف التاريخية المشرقة للمملكة تجاه هذه القضية. 1 – وثيقة تاريخية: وسأقوم في هذا المقام بعرض وثيقة تاريخية مهمة وتحليلها، تضمّنت وجهة نظر جلالة الملك سعود بن عبدالعزيز إلى صراعنا مع الصهيونية العالمية بدءا من قضية فلسطين، ثم أحلام التوسّع الصّهيوني في البلاد العربية؛ لإقامة دولتهم المزعومة من النيل إلى الفرات بل إلى المدينة المنورة. فالوثيقة نشرت بعنوان “جلالة الملك سعود بن عبدالعزيز يتحدّث عن المشكل الصهيوني”، أمّا عن مصدرها فكتبت صحيفة البصائر تقول: “جاءتنا هذه الرسالة من السّفارة العربيّة السعودية بباريس، فبادرنا بنشرها لأهميّة موضوعها، وتعلّقه بالحالة الحاضرة في بلاد فلسطين المعذّبة”(86). وهي عبارة عن حديث صحفي أجراه كاتب أمريكي مع جلالة الملك سعود “ففي السّاعة الرّابعة والنّصف من ضحى يوم الخميس 11/1/1374هـ الموافق 9/9/1954م تشرّف بالسّلام على حضرة صاحب الجلالة الملك المعظّم – أيّده الله – في القصر الملكي العامر بجدة (المستر ليلنتال) الكاتب الأمريكي اليهودي المشهور بمؤلفه (ثمن إسرائيل)، والذي زار مؤخّرا جميع البلدان العربيّة”(87)، وقد تمحور الحديث حول عناصر ثلاثة في القضية هي: حق العرب الشرعي في فلسطين – الحلّ الطبيعي، هو استرداد فلسطين – التعايش السلمي في ظل الإسلام. أ – فلسطين عربية: ذكر جلالته للكاتب بدء المملكة في وضع برامج التنمية والتعمير، فقال: “بدأنا الآن فقط في وضع برامج عدة تتناول نواحي مختلفة من الإصلاح والتعمير والتقدم بحياتنا العلمية والاجتماعية والاقتصادية. وقد توالت على هذه البلاد عهود مختلفة لم تُتح لها فيها أسباب النّهضة والتّقدّم والعمران. وطريقنا في سبيل برامج إصلاحنا طويلة وشاقّة، ولكنّنا عازمون – بحول الله – على القيام بهذه الأعباء الواجبة؛ لنتيح لشعبنا ولأمّتنا الحياة التقدمية التي نرجوها، ونتمنّاها لها، ونسعى إليها”(88). وردّا عن سؤاله حول بداية تفهّم الرّأي العامّ الأمريكي لعدالة القضية العربية في الصّراع مع الصهيونية، أجاب الملك سعود بوضوح رابطا هذه المسألة بالسّلم والأمن، محمّلا كلّ طرف مسؤوليته فقال: “أحبّ أن أصارحك بأنّ هذه القضيّة يتوقّف عليها السّلم والأمن في هذه الرقعة من العالم إلى حدّ كبير، ونكبة فلسطين خلقتها الصهيونيّة العالميّة بعون ونفوذ ومساعدة السياسة البريطانيّة والأمريكيّة، ثمّ بالمواقف السلبية التي وقفها بعض رجالات العرب أنفسهم، ولولا هذا لما أصبحنا فيما نحن فيه”(89). إن هذا الوضع الجديد يريد أن يوجد فلسطينا أخرى غير فلسطين العربية، قالبا الموازين، فبعد أن كان اليهود رعيّة عربيّة في فلسطين أرادت لهم الصهيونيّة العالميّة ومن وراءها أن يصبحوا حاكمين، لهم دولة وكيان دولي في هذه الأرض، بسبب هذا وجب أن يعلم الجميع “أن قضيّة العرب في حقوقهم الشرعيّة عادلة، وهي بلادهم ووطنهم، توارثها الأحفاد عن الأجداد”(90). وعن تذرّع الصهيونيّة بأحقيّة اليهود بفلسطين بمزاعم تاريخيّة قديمة، يستطرد الملك سعود مخاطبا الكاتب الأمريكي، مقارنا هذا الوضع بوضع الذين يحكمون أمريكا اليوم من غير مواطنيها الأصليين من الهنود الحمر، فيقول: “وإذا كان اليهود قد وُجدوا فيها، وكانوا أهلها في حقب من التاريخ البعيدة، فقد كان في بلادك أمريكا غير من يسيطرون اليوم عليها، ولن يمرّ اليوم بخاطر أيّ إنسان أنّهم سيطالبون في يوم من الأيام بجلاء مواطنيك عنها لا لسبب إلا أنّهم كانوا فيما مضى وحيدين في العيش بها، وهم الهنود الحمر والبريطانيون”(91). بالطبع فالمقارنة هنا ليست سليمة تماما بين الحالتين، سواء من منظور الحقيقة التاريخية الكاملة للوجود العربي بفلسطين، أم من منظور الشّرع الإسلاميّ في فقه الأراضي المفتوحة. ولكن جلالة الملك أحبّ أن يخاطب الرأي العام الغربي بمنطقهم الذي من خلاله يمكنهم استيعاب القضية، وبيان وجه الحقّ فيها. ب – استرجاع فلسطين الطّريق إلى السّلم: طرح الكاتب الأمريكي على الملك سعود السؤال الآتي: “وما الذي يراه جلالتكم لإحلال السّلام والتّفاهم بين الطرفين المتنازعين؟”(92). كأنّما أراد الكاتب من سؤاله أن يُفهم الملك بأنّ الصّراع بين طرفين متنازعين حول مسألة أحقية كلّ منهما في امتلاك شرعية حكم فلسطين، لكن إجابة الملك سعود كانت من الوضوح والصراحة بما ينفي كلّ محاولة لطرح الصراع من هذه الزاوية؛ أولا: ذكّره بوضع اليهود بفلسطين قبل الانتداب البريطاني وفي بدايته، فقال: “أحبّّ أن أذكّرك بما كان عليه العرب واليهود معا في أوائل الانتداب البريطاني في فلسطين وقبله، فقد كانوا مسالمين، كان العرب يحفظون لليهود الموجودين بينهم جميع حقوقهم، ويحترمون مقدساتهم، ويعيشون معهم كمواطنين لهم”(93)، هذا الوضع المتّسم بالسّلام الذي طرح بشأنه الكاتب السّؤال على الملك، ومن الطبيعي – إذن – أن يكون هو الوضع الذي ينبغي أن تستهدفه كلّ الجهود، فاسترجاع العرب لفلسطين هو الطريق إلى السّلام. 2 – الملك سعود ينفذ مشاريع حربية بالمملكة: من المؤكد أنّ إنفاذ هذه المشاريع كان من باب الإعداد للقوّة التي تحدّث عنها جلالته، وكانت مبعث ابتهاج ومحلّ تنويه عظيم من طرف صحافة الحركة الإصلاحية في الجزائر، التي كانت تتابع تلك المنجزات؛ فقد نشرت جريدة البصائر ما عدته أعظم عمل باشره السعوديون: “وضع خلال الأسبوع الماضي أعظم عمل باشره السعوديون؛ ممّا يبشّر بمستقبل عظيم لهذه الدّولة التي أخذت تخرج لعالم الوجود بفضل جهاد عاهلها العظيم، وأفكاره الجريئة، ألا وهو تدشين معمل عظيم لصنع الذّخيرة الحربيّة في بلاد العرب، بحيث لا يُستورد شيء منها من الخارج، أُسوة بما كان وقع في مصر. وإنّنا لنرجو أن يقع إنجاز العمل بتكوين معامل صنع نفس السلاح، حتى لا تبقى بلاد العرب عالة على الأجانب في ذلك، والعرب يعرفون ماذا كلّفهم من ثمن رهيب”(94). يلاحظ دليل هذا التّفاعل الكبير مع هذا الإنجاز والافتخار به من خلال الأوصاف التي وصف بها الإنجاز (أعظم عمل – معمل عظيم)، والمنجز الملك سعود (العاهل العظيم – أفكاره الجريئة). وتعود الجريدة نفسها بعد عددين تاليين للعدد السابق، لتبشّر الجزائريين والعرب عموما بما شرع فيه جلالة الملك سعود من “تنفيذ عدّة مشاريع عمرانية وحربية في الجزيرة العربية. وقد أصبح في حكم المقرّر أن تُعبّد طرق عديدة للمواصلات، وأن تنشأ عدة مصانع حربية، بما في ذلك مصانع الأسلحة الثقيلة في أنحاء مختلفة من الجزيرة خلال السنة المقبلة”(95). وهكذا تأتي متابعة الأحداث والإنجازات بالمملكة العربية السعودية بشعور المصير المشترك، والأمة الواحدة، والمستقبل الواحد. نخلص في الختام إلى جملة من النتائج: – تمثل شخصيّة الملك عبدالعزيز واحدة من أهمّ الشخصيات التي عرفها العصر الحديث – مثّلت شخصيّة الملك المؤسس، والدّولة الفتيّة دور الملهم للحركة الإصلاحية الجزائرية – لا يليق أبدا أن تبقى معرفة شخصية وجلائل أعمال الملك عبدالعزيز وقفا – خاصة بالنسبة للأجيال الجديدة – عند حدود بلده، وإنّما الواجب تشجيع الجهود التي يسعى أصحابها للتعريف بالملك، وتاريخه ومنجزاته، خارج المملكة في العالمين العربي والإسلامي أولا، ثمّ في العالم أجمع بعدئذ. – مما يُستفاد من البحث، ذاك الاستعداد الهائل الذي كان لدى القادة الروحيين (المصلحين) الجزائريين، لإنجاز مشروع الأمة في حلمها الكبير (الوحدة)، التكامل على أهم الأصعدة، وأقدر أن إعادة قراءة ذاك بتأنٍّ وروح متفائلة، قد يحيي الأمل مجدّدا في النفوس. – أثبتت المملكة – عمليا – إيمانها بمبدأ نصرة المسلم لأخيه المسلم المظلوم، من خلال وجوه الدعم المادي والأدبي للقضية الجزائرية، واحتضان طلبة العلم في معاهدها العلمية. – اتّسم الطّرح السياسي السعودي حول قضية فلسطين بوضوح ودقة ما ينبغي أن يأتي عليه الحل، فالتقى مع خط الحركة الإصلاحية الجزائرية المتمثل في ضرورة مقاومة كل استعمار. – أحب أن أؤكد في ختام هذا البحث ضرورة توسّعه ليشمل – بالعرض والتحليل – نصوصا، ووثائق أخرى نستوفي بها الصورة الكاملة لشخصية الملك عبدالعزيز، والمملكة في الصحافة والمؤلفات الجزائرية حتى استقلال الجزائر سنة 1962م (1382هـ)، نسأل المولى تعالى التوفيق والسداد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق