28-02-2014
عمر صلاح العبدالجادر
ذكر الدكتور عبدالله النفيسي في معرض نقده لمعاهدة السلام مع اسرائيل، أن الانتفاضة الفلسطينية إنما هي اعادة محاكمة للسادات، و على ذات النسق فإني أعتقد أن الثورات العربية إنما تمثل إعادة محاكمة لـ جمال عبدالناصر.
فبعيداً عن الرمزية أو الكاريزما التي أسرت الجماهير العربية في ستينيات القرن الماضي، أسئلة كبرى تحتاج لإجابة:
من جمال عبدالناصر؟
وما طبيعة النظام الذي رسخه في مصر خاصة و بالعالم العربي بشكل عام؟
ماذا قدّم، و ماذا هدّم؟
كم من الهتاف كسب و كم من الأرض أضاع؟
هذا المقال سيمثل عرض لحقائق عن الرجل الذي بنى جمهورية العسكر على أنقاض الملكية.
قبل أن يصل الضباط الأحرار إلى حكم مصر، كانت في مصر حكومة منتخبة من حزب الوفد، و قد كان رئيس الوزراء حينها مصطفى النحاس باشا.
في 8 أكتوبر 1951 (أي قبل انقلاب يوليو 52)، قدم النحاس باشا ثلاثة مشاريع بقوانين إلى البرلمان المصري، الأول يقضي بإلغاء المعاهدة البريطانية-المصرية لعام 1936، والثاني إلغاء اتفاقية 1899 الخاصة بالسودان من جانب الحكومة المصرية، والثالث وحدة مصر و السودان.
و كان ذلك بمثابة المواجهة المباشرة مع بريطانيا العظمى، فقد أعلنت حكومة بريطانيا على لسان الملك قوله في نوفمبر 1951 "إن حكومتي تعتبر إلغاء الحكومة المصرية لمعاهدة التحالف و اتفاقية السودان قرار غير قانوني و بلا فاعلية".
وكما هو معروف فقد استهل عبدالناصر حكمه ببتر السودان عن مصر، و التي كانت أيام الملكية جسداً واحدًا يحوي بلاد وادي النيل كما كان يعرف حينها.
وجدير بالذكر هنا، أن نذكر ما كتبه سلوين لويد وزير الخارجية البريطاني في مذكراته عن حكم ثورة يوليو : "أعلن حكام مصر الجدد تنازلاً لم تقدمه حكومة من قبل، و هو حق السودانيين في تقرير المصير".
و قال عبداللطيف بغدادي في مذكراته: "انجلترا كان يهمها دائماً إبعاد السودان عن مصر، و تعمل على أن ينال استقلاله الذاتي؛ لأن ذلك يحقق مصالحها".
اجتهد مجلس قيادة الثورة بقيادة اللواء محمد نجيب (النصف سوداني) و المحبوب جداً لدى السودانيين، أن يجمعوا رأي الساسة في السودان و مناشدتهم على عدم الانفصال، و لكن ما جرى لم يكن في الحسبان، حيث قرر عبدالناصر التخلص من نجيب في فبراير 1954، و يتولى هو و صحبه زمام الأمور، فلما وصل الخبر إلى الخرطوم أن نجيب قد تمت إقالته، خرجت مظاهرات عارمة بهتاف "لا وحدة بلا نجيب" و سرى خبر بأن نجيب ستتم محاكمته لارتباطه بالإخوان المسلمين!! تهمة معلبة لتصفية الخصم. فسارع وفد من قيادات السودان لإنقاذ نجيب من المحاكمة، واتفقوا مع جمال عبدالناصر على أن لا تتم محاكمة نجيب و الاكتفاء بالإقامة الجبرية.
و تزامناً مع تنحية نجيب، بدأ عبدالناصر الحاكم الجديد حملة تصفية لجماعة الإخوان المسلمين و الشيوعيين، و قد كان لهذين الفصيلين قبول واسع بين عموم الشعب السوداني، مما بدد حينها احتمالية بقاء السودان، و أحس السودانيون أن الانفصال صار أدعى و أنفع للسودانيين. و فعلاً تم الاستفتاء، و انفصلت مصر عن السودان، فكان ثمن تنحية نجيب السودان كاملة!
بدأ عبدالناصر عهده بالتضحية بنصف الوطن، و لكن العرش أثمن عنده من مصر. و كذلك بدأ عبدالناصر عهده بتوجيه ضربة موجعة للسلطة القضائية، و التي كانت قبل انقلاب يوليو في أوج قوتها من ناحية استقلالها و بروز رجالها.
فقد حظي القضاء المصري بقانون استقلاله عام 1943، مما جعل السلطة القضائية من أقوى السلطات، و لكن مشروع عبدالناصر كان يقتضي منه أن يهدم هذا الصرح.
يوم 29 مارس 1954 كان عبدالناصر حينها وزيراً للداخلية، تم تسيير مظاهرة من العمال و أفراد الشرطة المتنكرين بالزي المدني، إلى مقر مجلس الدولة، الذي كان يرأسه د.عبدالرزاق السنهوري القانوني الشهير، والسنهوري كان الذراع القانوني لانقلاب الجيش، فإنه كان يرى أن البيئة السياسية لم تكن جيدة و أنها تحتاج لإصلاح، خصوصاً و أن دستور 1923 يطلق يد الملك في حل البرلمان، و هو ما تعسف الملك باستخدامه، فتارة يحل المجلس، و تارة يوقف العمل بالدستور، فوجود سلطة فوق القانون و تتلاعب به أمر لم يكن يعجب السنهوري، و كان يأمل بتغييره عندما تنتقل مصر نحو ديموقراطية حقيقية، فقد كان السنهوري من ضمن من صاغ خطاب تنازل الملك فاروق، و هو من صاغ قانون الإصلاح الزراعي الذي صدر في سبتمبر 1952، و الذي يعتبر من أكبر منجزات ثورة يوليو من بين ركام اخفاقاتها.
في 29 مارس 1954 تم الاعتداء على السنهوري باشا في مظاهرة مدبرة اقتحمت مكتبه، و تم ضربه حتى كاد يموت.
في اليوم التالي للاعتداء، أدلى السنهوري بأقواله إلى النيابة العامة من على سريره في المستشفى موجهاً الاتهام صراحة إلى جمال عبدالناصر بتدبير الاعتداء عليه، ثم طلب من زوجته عدم السماح بدخول عبدالناصر عليه الغرفة عندما قدم الأخير لزيارته.
ثم ما هي إلا أيام قلائل حتى تم عزل السنهوري من منصبه بقرار من عبدالناصر، و وضعه تحت الإقامة الجبرية فلم يغادر هذا القانوني الكبير إلا أشهر قلائل قضاها في الكويت، ثم عاد لمصر حتى مات رحمه الله. و هكذا بدأ عبدالناصر عهده بتوجيه طعنة نافذة إلى من كان يرجو دولة يسود فيها القانون و الديموقراطية.
أفذاذ القانون في تلك الحقبة كانوا على وشك إصدار دستور عام 1954 الذي صيغت مسودته و لم يرى النور وهلك مع هلاك رجاله الذي كان السنهوري واحداً منهم.
و قد كان دستور 54 ديموقراطياً متكاملاً، و قد نص في المادة 91 منه على أن يتم انتخاب رئيس الجمهورية من هيئة مكونة من أعضاء البرلمان المنتخبين.
نعم كانت مصر في 1954 قريبةً جداً من تحقيق نظام ديموقراطي متكامل لولا انقلاب عبدالناصر على كل تلك المكتسبات، ووضعه دستور 1956 الذي يعين فيه رئيس الجمهورية بالاستفتاء، و بدأت رحلة الأربع تسعات التي كان دائماً يحصل عليها عبدالناصر!
هكذا وجه عبدالناصر ضربته للقانون و رجاله بدأ بضرب السنهوري و عزله، و من ثم إعدام المستشار عبدالقادر عودة الذي كان ايضاً عضواً في لجنة الخمسين التي صاغت دستور 54، والذي يحمل بين طياته حلم رجال أرادوا لوطنهم أن يكون حراً فدفعوا الثمن باهظاً لمطامع رجل اشتهى السلطة!
لم ينتهي عام 1954 حتى بسط عبدالناصر يده على السلطة السياسة، فالسجون ممتلئة بالإخوان المسلمين و الشيوعيين (الغرماء السياسيين)، و رجال الساسة إما في السجن، أو تعلقت رقابهم في المشانق، أو يرزحون تحت الإقامة الجبرية.
أما السلطة العسكرية، فقد كان على رأسها رفيقه عبدالحكيم عامر الذي ترقى أربع رتب عسكرية في ليلة واحدة حتى يستطيع أن يقود الجيش.
ففي أشهر معدودة و باستعمال أسلوب القمع، استطاع عبدالناصر أن يكبت كل صوت يعلو على صوته، فالسجن و التعذيب كان الرد على من ينطق بشيء، بغض النظر عن انتماؤه السياسي أو تاريخه أو مكانته الاجتماعية، فالسجن الحربي سكنه الكاتب إحسان عبدالقدوس، كما اودع فيه د.كمال أبوالمجد، كما استقر فيه الهضيبي و سيد قطب، و كأن السجن الحربي صار صالوناً ثقافياً يضاهي صالون العقاد من كثرة النخب التي سكنته.
الاختبار الحقيقي لـ فرعون مصر الجديد كان في 1956 و ما عرف بالعدوان الثلاثي، ففي يوليو 1956 أعلن جون دالاس وزير الخارجية الأمريكي سحب بلاده تمويل السد العالي، و قد كان رد عبدالناصر أن سحب التمويل الأمريكي يمثل إهانة لمصر، فقرر بعدها تأميم قناة السويس بالقوة، أي بأن تقوم القوات المصرية بإخلاء مكاتب الشركة البريطانية بالقوة. و كان هذا الفعل يمثل إعلان حرب. فشنت إسرائيل مع فرنسا و بريطانيا هجوماً عسكرياً على قناة السويس. حينها، بدأ اختبار هذا الرجل العسكري و تعلق أفئدة العرب به كي يرد العدوان، فما كان منه سوى أن قام بالناس خطيباً على منبر الأزهر يخطب فينال التصفيق و الهتاف، بينما القوات المصرية تذوق من الهزيمة ألواناً.
هنا بدأت رحلة عبدالناصر مع الحروب الكلامية، بينما كانت الدول الكبرى تشن حروباً حقيقية كان عبدالناصر يخوض حرباً على المنابر و على مانشيتات جريدة الأهرام.
كانت قرارات عبدالناصر ارتجالية تماماً كخطاباته، حيث أمر في 56 فتح مخازن السلاح لكافة الشعب المصري من دون تقييد و لا إشراف من الجيش! طبعاً في ظل هذا النوع من قيادة المعركة سقطت قناة السويس و مدينة بورسعيد بسهولة بأيدي المعتدين، و ظلوا يسيطرون على القناة سيطرة كاملة، و قد كان يزعجهم المقاومة الشعبية من أهالي بورسعيد أما الجيش المصري انسحب و تقهقر.
بعد أشهر قليلة و تعرض الحكومة البريطانية لضغوط هائلة في لندن، تم الاتفاق تحت إشراف الأمم المتحدة على أن ينسحب البريطانيون، ويأتي مكانهم في إدارة القناة قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، بل أكثر من ذلك قدّم عبدالناصر التنازل الأكبر لـ إسرائيل حين منحها خليج العقبة، أو ما يسمى مضيق الثيران كممر بحري لها و لبضائعها.
أي مكسب هذا لإسرائيل البلد المحاصر حينها!!
و قد صوّر هذا الاتفاق المذل في ظل إعلام الرأي الواحد، و حكم الرجل الواحد الذي كان يسود مصر و العالم العربي، على أنه نصر مظفر تحقق على يد عبدالناصر، و دخل ناصر بورسعيد كالفاتح المنتصر رغم أنه حقق نصراً موهوماً، و لكنه كان يحتاج لهذا الهيلمان كي يثبت أركان حكمه، فلم يكن مشروع عبدالناصر سوى عبدالناصر ذاته. هو جنون عظمة أو عشق الزعامة ربما، و لكن الدارس لحياة عبدالناصر و المحلل لتصرفاته يدرك هذه الحقيقة جلية. كم من تضحية قدمها كرئيس و حتى قبل أن يصبح رئيساً فقط لبيقى هو على رأس الهرم، و كي تبقى قبضته المسيطرة لا ينافسه أحد على مائدة السلطة؟
بدأت إذاعة صوت العرب تبث صباح مساء على أسماع المصريين اأغنية يا جمال يا حبيب الملايين، و تقتطع من خطاباته الكلام المزلزل لتستثير عواطف المساكين الذين يضحون بحرياتهم مقابل هذا الزعيم الملهم، الذي مال للفقير و أنقذ الوطن من المحتل، بينما في الحقيقة هو لم يجتر إلى الوطن سوى مزيداً من المحتلين!
منذ 56 بالتحديد بدأ المد الناصري يجتاح الوطن العربي، الذي كان يفتقر لزعيم ينطق بلغة الوحدة العربية الحاضرة في وجدان المواطن العربي و الغائبة في واقعه، و قد ظن العرب أن هذا الرجل صاحب الخطابات و البزة العسكرية هو محرر فلسطين و موحد العرب، و عاش العرب و عاش عبدالناصر دور مهدي العرب المنتظر، و تعلق العرب من المحيط إلى الخليج بـ عبدالناصر، و خرج جيل يهتف باسمه متغاضياً عن كل سلبياته التي لم تكن تبدو لغير المصريين؛ لأن منافذ الآراء محكمة الإغلاق من قِبل النظام العسكري الذي يترأسه عبدالناصر.
فمثلاً مرَّ إعدام سيد قطب في 1966 مروراً عابراً على العرب؛ لأنهم صدقوا الرواية أن قطب كان يخطط لاغتيال أم كلثوم و عبدالحليم، و أنه سينقلب عسكرياً على عبدالناصر!
صدّق الناس سلسلة الأكاذيب التي كان يقوم عليها عبدالناصر؛ لتبرير تصرفاته أمام الجماهير العريضة، و التي ما فتأت حتى اكتشف زيفها عند هزيمة 67، و التي سميت تلطيفاً لها بالنكسة.
عندما قرر عبدالناصر مواجهة اسرائيل، كانت النخبة من الجيش المصري تقاتل في اليمن، فأصدر عبدالناصر أوامره بتعبئة الجيش فتم استدعاء جنود الاحتياط، و كان مستوى تدريب هؤلاء متواضعاً جداً، حتى أنهم جاؤوا بالجلابيب التي يرتدونها.
بدأ عبدالناصر بأخذ المبادرة لإشعال فتيل الحرب المنتظرة، بطلبه من قوات حفظ السلام المستقرة في السويس منذ معاهدة 56 بمغادرة القناة.
يقول جون هايدن ضابط في الـ CIA حينها أنه عندما تلقى خبر سحب قوات السلام و عزم عبدالناصر على مواجهة اسرائيل: "عبدالناصر كالصبي الصغير الذي أمسكه والده عن ضرب الكبار و هو يقاوم ثم تركه فجأة يواجه قوى لا يستطيع مواجهتها".
لم يكتفي عبدالناصر باتخاذ خطوة تصعيدية بسحب قوات حفظ السلام، بل أغلق المضيق المائي الوحيد لإسرائيل الذي سلمه لها في 56 و هو مضيق الثيران، و كانت قد أعلنت اسرائيل سابقاً أنه لو أغلق المضيق فإنها ستلجأ للحرب.
اتخذ عبدالناصر كل الأسباب لدعوة اسرائيل نحو الحرب، و من المنطقي أن من يبدأ حرباً يكون على أتم الاستعداد لها، و أنه يملك زمام القوة فيها، و لكن يبدو أن حروب عبدالناصر تماماً كخطاباته تبدأ ارتجالاً و تنتهي بالتصفيق.
كان عبدالناصر يخوض حرباً إعلامية شرسة على إسرائيل، مقابل جيش مترهل و خطة مواجهة معدومة! حتى أدولف هتلر الذي كان يتميز أيضاً في الحروب الإعلامية، كان يخوض على الأرض حروباً حقيقية، فحتى سقوط برلين كانت أسلحة ألمانيا هتلر هي الأكثر تطوراً. وقد اضطر الحلفاء لسرقة التكنولجيا الألمانية لتطوير أسلحتهم فيما بعد.
لم تكن هذه حالة عبدالناصر، فلم يستغرق تدمير مدارج الطائرات المصرية سوى ثلاث ساعات، أدى إلى شلل كامل لسلاح الجو المصري الذي كان يحتوي على 280 طيارة.
وفي أيام قليلة استطاعت اسرائيل أن تجتاح براً كل من سيناء المصرية و الضفة الغربية و غزة التي كانت تحت السيادة المصرية، و دخل موشي ديان (وزير الدفاع الإسرائيلي) القدس القديمة، و دنس المسجد الأقصى الذي كان حينها تحت السيادة الأردنية.
يوم 5 يونيو 1967 أذاعت ال BBC أنه بعد أقل من 15 ساعة من البدء بالقتال ربحت اسرائيل الحرب، لم تعد مصر قادرة على القتال..إنه أسرع انتصار عرفه العالم الحديث.
هزيمة 1967 كشفت للعرب كافة حقيقة عبدالناصر، و أن طريق النصر ليس ممهداً بالقمع! عبدالناصر الرمز قبل 67 غدا رجلاً مهزوماً من المنطقي أن يعتزل العمل العام،أو على الأقل يدرك أن استبداده لم يأتي بالأمن و لا القوة. ضاعت فلسطين كاملة معها هضبة الجولان بالإضافة إلى سيناء المصرية.
و نطق نزار قباني بصوت العرب المكبوت في قصيدته هوامش على دفتر النكسة بقوله:
إذا خسرنا الحربَ لا غرابهْ
لأننا ندخُلها..
بكلِّ ما يملكُ الشرقيُّ من مواهبِ الخطابهْ
بالعنترياتِ التي ما قتلت ذبابهْ
لأننا ندخلها..
بمنطقِ الطبلةِ والربابهْ
الحقيقة التي أؤكد عليها، أن مشروع عبدالناصر كان عبدالناصر ذاته، و الدليل أنه استغل الهزيمة في تصفية قائد الأركان عبدالحكيم عامر، و الذي مات في سجن عبدالناصر مسموماً، و الذي كان ينازع عبدالناصر على السلطة حينها.
عبدالناصر دعم انقلابات عدة في المنطقة العربية؛ كي ينشئ أنظمة موالية له كنظام معمر القذافي مثلاً، الذي دعمه ناصر بكل قوة و جاء الربيع العربي كي يجرفه كما جرف النظام المصري القائم على العسكرة.
لم ينكفئ عبدالناصر على ذاته أو يراجع أسلوبه في إدارة الدولة، بل تمادى أكثر من خلال ما عُرف في التاريخ المصري بمذبحة القضاة. ذكرت آنفاً موقف عبدالناصر من مجلس الدولة متمثلاً في السنهوري باشا، الذي ضُرب حتى كاد يموت باعتداء مدبّر من عبدالناصر.
حب السيطرة و بسط النفوذ طال القضاء في 1968، عندما قرر مجموعة من القضاة خوض انتخابات نادي القضاة، فشكلوا قائمة برئاسة المستشار ممتاز نصار، و قد كانوا يمثلون توجهاً رافضاً لسياسات ناصر، خاضت مجموعة أخرى محسوبة على النظام هذه الانتخابات. جاءت النتيجة بغير ما يشتهي عبدالناصر، حيث فازت قائمة ممتاز نصار بالكامل، فلما رُفعت المذكرة التي حوت النتيجة كتب عليها عبدالناصر بالقلم الأحمر "الكل برّا" كما يروي المستشار رفعت السعيد.
و بالفعل بدأ تنفيذ قرار عبدالناصر حيث فُصل 189 قاضياً من ضمنهم من فاز بانتخابات نادي القضاة، و الأدهى من فصل القضاة بلا تبرير هو إصدار عبدالناصر لقانون بضم كل الهيئات القضائية، و عيّن نفسه رئيساً لمجلس القضاء!
لم يكتفي ناصر بتضييع أراضي مصر، بل دأب على هدم أكبر و أعرق مؤسسة فيها ألا و هي القضاء. بجرة قلم جعل السلطة القضائية تابعة مباشرة للسلطة التنفيذية المتمثلة بشخصه!
ما فعله عبدالناصر في 1968 لم يكن وليد اللحظة، بل كان منذ أن سيطر على السلطة يحاول اختراق مؤسسة القضاء، فلما تمت مواجهته بتيار الاستقلال المتمثل في المستشار ممتاز نصار قرر طرده؛ حتى تكن المؤسسة تحت قبضته وحده.
محاكمة عبدالناصر قد لا يتسع لها مقال، و لكن يكفينا أن ندرك حقيقة واحدة أن عبدالناصر لم يكن سوى بطل من ورق، معاركه كانت في المنابر و على المانشيتات، و بطولته تجلت على العُزّل من أبناء شعبه. هذه حقيقة محاكمة التاريخ له. علينا الاقرار بهذا و أن لا ننخدع ثانية بأمثاله، و لا نحاول أبداً أن نستدعي نموذجه، ما علينا حقاً إزالة آثاره التي ما تزال موجودة من منهجية استبداد و جمهورية عسكر.
عبدالناصر وهمٌ تعلق به العرب يوماً، و لم يعرف التاريخ شر حراسة من أن يكون المرء حارس وهمه، كما قال الشاعر جاسم الصحيح.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق