الثلاثاء، 2 أبريل 2019

تعليق على كتاب : إشكاليَّة الردّة والمرتدين للعلامة طه العلواني


بِسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه ومن اتبع هداه.

لقد طالعتُ باهتمام تأليف العلامة الفاضل الشيخ الدكتور طه جابر العلواني

بعنوان: “لا إكراه في الدين إشكاليَّة الردّة والمرتدين من صدر الإسلام إلى يومنا هذا” .



وقد راجعتُ هذا التأليف لثلاثةِ أسباب:

أولاً: أنَّ فضيلةَ الدكتورِ طلبَ مني مراجعتَه لإبداءِ الرأيِ وأنه يعزُّ عليَّ أن أُعرضَ عن طلبه لما أشعر به نحوه من الود ولما ألمسه من الإخلاص.

ثانياً: أن الدكتورَ طه ليسَ علمانياً يبحث عن هدم الدين بمعاول التشكيك والتفكيك، بل هو رجلٌ مدافعٌ عن هذا الدين قولاً وعملاً منذ نعومة أظفاره، وقد ابتُليَ في هذه السبيل ضاعف الله أجره وما صدَّه ذلكَ عنِ الدعوةِ وإقامةِ الحجَّة.

ثالثاً: أنَّ الشيخَ طهَ ليس من نوعية المفكرين أو المثقفين الذين يعالجون قضايا الإسلام والشريعة من خلال منظوماتٍ فكريةٍ خارجةٍ عن المناهج المعتمدة عند علماء المسلمين، بل هو عالمٌ أصوليٌّ ضليعٌ يتعاملُ مع موضوعاتِه بواسطةِ الأدواتِ المتعارفةِ تعضيداً وتفنيداً وجرحاً وتعديلاً وتفريعاً وتأصيلاً.

والشيخُ عالمٌ من علماءِ الشريعةِ، وكونُه عالماً من علماء الشريعة يقتضي حقَّ الحرمة ولا يقضى باستحقاق العصمة.

لهذه الأسباب أردتُ أنْ أكتبَ هذا التعليق، مع الاعتذار بأني لم أعطِ هذا الموضوع ما يستحق ؛ لكثرة الشواغل والصوارف التي لم تسمح لي بإنعام النظر والإمعان في البحث حتى يكون على مستوى ما يتوقع في قضيةٍ لها أهميةٌ . قضيَّةُ الردَّة والخروجِ عنِ الدِّين .

وسبق لي أنْ أعرضتُ عن عروضِ بعضِ وسائلِ الإعلامِ للنزولِ في حلبةِ الجدلِ الدائرِ في جملة من القضايا، ومنها هذه القضية ؛ لا نكوصاً عن إظهارِ ما اعتقدُه صحيحاً فيها، ولكنْ لأنَّ هذا الجدلَ تَعُوزه السكينةُ، ويُعْوزه الإنصاف، ويدخلُ أحياناً في دائرة الاتهام والصخب والإسفاف.

وبالله سبحانه وتعالى استعين

فأقول ما يلي:

إنَّ هذا التأليفَ الذي قدَّم هذا الموضوع من جميع جوانبه وزواياه التاريخية والحالية ومئالاته المستقبلية، وتوقَّف طويلاً مع الدليل وما يعتريه من أوجه العلل والقوادح وأقوال الفقهاء، ولهذا فقد أثار جملةً غيرَ يسيرةٍ من القضايا، وإنْ كانتِ الغايةُ التي يرمِي إليها والهدفُ الذي يتوخَّاه وهو حكم المرتد في شريعة الإسلام إلاَّ أنَّه مهَّد له بما يشبهُ تحقيقَ المناط.

وإني أتفقُ مع الكثير مما أوردَه في تلك المقدماتِ الممهداتِ، وبخاصةً في سوء استغلال الشرعِ العزيزِ في مسألة التكفير ودعوى الارتداد . وقد كنت شخصياً معنيّاً بهذا الموضوع منذُ سنواتٍ ؛ حيثُ نُشرَ لِي بحثٌ في مجلة “البحوث الفقهية المعاصرة” في نفس الموضوع، ونشرتُ أخيراً عدة مقالات في جريدة “الشرق الأوسط” ؛ تركَّزت حول خطورة ظاهرة تكفير الناس ومنافاتها للدليل ؛ وأنها في مئالاتها تؤدى إلى الفتنة والضياع، ممَّا حملَ بعضَ المعلقين على القول بأني لا أوجبُ قتلَ المرتدِّ غيرَ أني لا أجسر على قول ذلك ! وقد لا يكون الأمرُ كذلكَ ولهذا فالهمُّ مشترك.

كما أني أوافقه على سوء استغلال الطرف المقابل لفتاوى التكفير ؛ حيثُ يصبحُ ضحاياها أبطالاً في بيئةٍ عالميةٍ، انعدمتْ فيها الخصوصيةُ وغابَ فيها التسامحُ الثقافيُّ، وبخاصةً مِن قبَل أولئكَ الذينَ يدَّعون أنهم دعاةُ التسامحِ والتعايشِ.

كلُّ تلك المعاني التي أشارَ إليها فضيلتُه لا أختلف معه في دلالاتها ولا في المئالات التي تفضي إليها الفتاوى والتصرفات، والتي ينبغي أن تؤثِّر على الفتوى الفقهية في الزمان والمكان.



قدْ يكونُ من المناسب ونحن في المقدمات أن نشيرََ إلى ثلاث نقاط:

أوُّلها: ما يتعلق بمصطلح “الحد”، فقدْ لا أتِّفق مع ما ذُكر من أنه عدولٌ عن المصطلح القرآني، بل هو قصرٌ للمصطلحِ القرآني على بعضِ أفرادِه ؛ وذلك مبرَّر لسببين: السببُ اللغويُّ، وقد أشار إليه فضيلته، فإنَّ الحدَّ هو الفاصلُ بينَ شيئينِ الحاجزُ بينهما، وضرورة التعريف والتفريق بين العقوبات المحدودة بالنص وبين العقوبات المتروكة للاجتهاد تبرِّر هذا المصطلح.

السبب الثاني استعمالُ كلمةِ “الحد” في الأحاديث النبوية الشريفة الصحيحة، كقوله عليه الصلاة والسلام لأسامة: «أتشفع في حد من حدود الله». وعليه فإني أرى أنَّ الفقهاء ما عدلوا عن المصطلح القرآني بل تصرَّفوا فيه بما تقتضيه ضرورات “التقنين الفقهي”.

النقطة الثانية: ما يتعلق بالتراث اليهودي، وإني أتفق مع فضيلته في أنَّ هذا التراث حاول التسرب إلى الشريعة، ولكن علماء المسلمين انتبهوا لذلك منذ وقت ليس بالقصير ؛ فقد قرَّر أهلُ الحديث: أنَّ الصحابيَّ أو التابعي الذي ينظر في كتب أهل الكتاب لا يُعتبر كلامُه من نفسه في أمور الغيب مرفوعاً إلى النبي وقالوا: إذا عُرف الصحابيُّ بالنظر في الاسرائيليات، كعبد الله بن سلام وغيره من مسلمي أهل الكتاب، وكعبدالله بن عمرو بن العاص ؛ فإنه حصَّل في اليرموك كثيراً من كتب أهل الكتاب ؛ فكان أصحابه يقولون له حدثنا عن النبي ولا تحدثنا من الصحيفة. قال السخاوي في فتح المغيث بعدما ذكر ذلك: فمثل هذا لا يكون حكمُ ما يخبرُ به من الأمور الغيبية الرفعُ لقوَّة الاحتمال.

أما أهلُ الأصول فاشترطوا في مسألةِ كونِ شرعِ مَن قبلنا شرعاً لنا على القول به أن يكون ثبت بشرعنا، وإلا فلا يعتد به، وهو أمر مؤيد بقوله تعالى ﴿ لقد كان في قصصهم عبرة لأولى الألباب﴾ . ومع ذلك فقد بقيتْ أخبارُ هؤلاء في كتب التفسير مأخوذةً من كتبهم أو مرويَّة من أحبارهم.

وأحسبُ أنَّ تأثيرها في فروع الشريعة كان ضئيلاً وإن كانت قد أثَّرت إلى حدٍّ ما في الثقافةِ وفي المقولات الكلامية.

النقطة الثالثة: وهي مسألةُ هيمنة القرآن على السنة . وهي مسألة تحتاج إلى توضيح: فالقرآن والسنة من مشكاة واحدة هي مشكاة النبوة ﴿ من يطع الرسول فقد أطاع الله ﴾، وهذا الإشكال لم يُطرح في الصدر الأول إلا من زاوية الثبوت، فالقرآنُ متواترٌ محفوظٌ، والسنَّة قد تردُ آحاداً، وبالتالي تضعفُ الثقةُ في نسبتها إليه عليه الصلاة والسلام، ومن هنا جاءَ قولُ عمرَ رضي الله عنه في قضيةِ فاطمةَ بنتِ قيس: ”لا نترك كتاب الله لقول امرأة لا ندري أحفظت أم نسيت“، وقول عائشة رضي الله عنها وأرضاها في رد حديث ابن عمر «إن الميت ليعذب ببكاء أهل عليه» إنه عليه الصلاة والسلام لم يقلْ هكذا محتجَّة بقوله تعالى: ﴿ولا تزر وازرةٌ وزرَ أخرى﴾ .

ومن هنا اختلفتْ أنظارُ العلماءِ في التعامل مع خبر الآحاد إذا خالفَ القواعدَ أوِ القياسَ أو عملَ أهل المدينة إلى آخر ما يعلمه فضيلتكم في المباحث الأصولية. وعندما دوَّن الشافعي أصولَ الفقه ووضعَ اللبناتِ الأولى لقواعد الاستنباط وترتيبِ الأدلة ؛ جعلَ القرآنَ والسنَّةَ في مرتبةٍ واحدةٍ ؛ مستدلاً بالآيات التي جعلتْ طاعةَ رسولِ اللهِ  طاعةً للهِ، إلا أنَّه أشارَ إلى أن السنة مبيِّنةٌ للقرآن، وما إخالُ البيانَ يختلفُ كثيراً عن الإنشاء في فهم الأوائل كما سنذكره.

وقد تعاملَ العلماءُ مع نصوصِ السنَّة تعاملَهم مع القرآن إذا ثبتتْ ثبوتاً لا يرتقي إليه شكٌّ بالتواترِ أوِ الاستفاضةِ مع وضوح الدلالة، وبخاصةً السنة العملية في الصلاة والصوم والحج، إلا في حالاتٍ ليستْ بالكثيرةِ كموقفِ أحمدَ من عدمِ إمكانِ نسخِ السنَّة للقرآن، ونحوها من القضايا المبثوثة في كتب الفقه والأصول.

وإن كانت قد حصلتْ مواقفُ من بعض الطوائف الإسلامية في موضوعِ السُّنة إلاَّ أنَّ هذا هوَ المنهجُ العام والطريق اللاحب.

هذا من باب الإشارة إلى موضوعٍ لا أشكُّ أنكم أدرَى به.



وفي رأيي أنَّ نصوصَ القرآنِ والسُّنة تتضامنُ وتتكاملُ، وأنَّ كلياتِ القرآنِ هي نفسُها الكلياتُ التي أكدَّتْ عليها السُّنة وزادتها بياناً، ﴿ ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً﴾ فكلُّ ذلك مِن عندِ الله إلاَّ أنَّ بعضَ الكلياتِ يعتريهِ التخصيصُ، وأحياناً تظهر فروعٌ تتجاذبها كلياتُ فتترجَّح بينها وبعض الكليات الأخرى لا يعتريه تخصيصٌ . وقد أشار الشاطبي إلى ذلك في العام حيث يقول: :”المسألة السابعة”: العمومات إذا اتَّحد معناها، وانتشرت في أبواب الشريعة، أو تكرَّرت في مواطن بحسب الحاجة من غير تخصيص؛ فهي مُجراة على عمومها على كل حال، وإن قلنا بجواز التخصيص بالمنفصل.

والدليل على ذلك الاستقراءُ؛ فإنَّ الشريعةَ قرَّرتْ أنْ لا حرجَ علينا في الدين في مواضعَ كثيرة، ولم تستثنِ منهُ موضعاً ولا حالاً، فعدَّه علماءُ الملَّة أصلاً مطِّرداً وعموماً مرجوعاً إليه ؛ من غير استثناء، ولا طلبِ مخصِّص، ولا احتشام من إلزام الحكم به، ولا توقف في مقتضاه، وليس ذلك إلا لما فهموا بالتكرار والتأكيد من القصد إلى التعميم التام.

وأيضا قرَّرتْ ﴿أَلاَّ تَزِرُ وَٰزِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ﴾ فأعملتِ العلماءُ المعنَى في مجارى عمومه، وردّوا ما خالفه من أفراد الأدلة بالتأويل وغيره؛ وبينتْ بالتكرارِ أنْ «لا ضرر ولا ضرار»؛ فأبَي أهلُ العلمِ عَن تخصيصِه، وحملوه على عمومه، وأنَّ «من سَنّ سُنَّة حسنة أو سيئة كان له ممَّن اقتدى به حظٌّ ؛ إن حسناً وإن سيئاً». وأن «من مات مسلماً دخل الجنة ومن مات كافراً دخل النار».

وعلى الجملة؛ فكلُّ أصلٍ تكرَّر تقريرُه وتأكَّد أمرُه وفُهمَ ذلكَ مِن مجارِى الكلامِ فهوَ مأخوذٌ على حسَب عمومِه . وأكثرُ الأصولِ تكراراً الأصولُ المكِّية؛ كالأمرِ بالعدلِ والإحسان وإيتاء ذي القربى، والنهي عن الفحشاء والمنكر والبغي وأشباه ذلك.

فأما إن لم يكن العمومُ مكرَّراً ومؤكداً ولا منتشراً في أبواب الفقه؛ فالتمسكُ بمجرَّده فيه نظرٌ ؛ فلا بد من البحث عما يعارضُه أوْ يخصِّصه، وإنما حصلتْ التفرقةُ بينَ الصنفين؛ لأنَّ ما حصلَ فيه التكرارُ والتأكيدُ والانتشارُ صارَ ظاهرُه باحتفافِ القرائنِ بِه إلى منزلة النص القاطع الذي لا احتمال فيه، بخلاف ما لم يكن كذلك فإنه معرَّضٌ لاحتمالات؛ فيجب التوقفُ في القطع بمقتضاه حتَّى يُعرض على غيره ويُبحث عن وجود معارضٍ فيه.



وعلى هذا يُبنى القولُ في العمل بالعموم، وهل يصحُّ مِن غيرِ المخصص أم لا ؟

فإنه إذا عُرض على هذا التقسيم؛ أفاد أنَّ القسمَ الأول غيرُ محتاجٍ فيه إلى بحث ؛ إذْ لا يصحُّ تخصيصُه إلاَّ حيثُ تخصّص القواعدُ بعضُها بعضاً.

ولهذا فإنَّ “الظرفية” التي تتطرَّق إلى جملةٍ من الأحاديثِ والتصرفاتِ النبويَّة، والتي عبَّر عنها العلماءُ كالقرافي بتعبيراتٍ مختلفةٍ: تارةً لكونِه تصرُّفٌ بالولايةِ العامةِ للمسلمين أو بالقضاء، و تارةً باعتبارِ المسألة من قضايا الأعيان إبقاءً للكلي على كليِّته، كما يشير إليه كثيرٌ من أصوليي المالكية، ومنهم الشاطبي حيث يقول: “فإذا ثبت بالاستقراء قاعدةٌ كليةٌ، ثمَّ أتَى النصُّ على جزئيٍّ يخالف القاعدةَ بوجهٍ من وجوه المخالفة ؛ فلا بدَّ من الجمعِ في النظرِ بينهما ؛ لأنَّ الشارعَ لم ينصَّ على ذلك الجزئي إلا مع الحفاظ على تلك القواعد ؛ إذْ كلِّيَّةُ هذا معلومةٌ ضرورةً بعد الإحاطة بمقاصدِ الشريعة؛ فلا يمكنُ والحالةُ هذه أنْ تُخرمَ القواعدُ بإلغاء ما اعتبره الشارعُ، وإذا ثبتَ هذا؛ لم يمكنْ أنْ يعتبرَ الكليُّ ويُلغَى الجزئي”( ).

والقاعدةُ المقرَّرةُ في موضعها أنه إذا تعارضَ أمرٌ كُليٌّ وأمرُ جُزئيٌّ؛ فالكُليُّ مقدَّم ؛ لأنَّ الجُزئيُّ يقتضي مصلحةً جزئيةً، والكليُّ يقتضِي مصلحةً كليَّة، ولا ينخرمُ نظامٌ في العالَم بانخرامِ المصلحةِ الجزئيَّة، بخلاف ما إذا قُدّم اعتبارُ المصلحةِ الجزئية؛ فإنَّ المصلحةَ الكليَّةَ ينخرمُ نظامُ كلِّيتها ؛ فمسألتنا كذلك؛ إذْ قد عُلم أنَّ العزيمة بالنسبة إلى كل مكلَّفٍ أمرٌ كليٌّ ثابتٌ عليه، والرخصةُ إنما مشروعيتها أنْ تكون جزئية وحيث يتحقَّق الموجَب، وما فرضنا الكلامَ فيه لا يتحقَّقُ في كلِّ صورةٍ تُفرضُ إلاَّ والمعارضُ الكُليُّ ينازعُه؛ فلا يُنجي من طلب الخروج عن العُهدة إلا الرجوعُ إلى الكُليّ وهو العزيمة( ).

ولكنهم قد يعارضون العمومَ بقاعدةِ السَّبب، وهي التي تقول: إنَّ خصوص السبب يمنع عمومَ الحكم، عكسَ الشائعِ: مِن أنَّ خصوصَ السببِ لا يمنعُ عمومَ الحكم. قال المازري في شرحه للبرهان: وشذَّ بعضُ أصحابنا وهو أبو الفرج، فقال: بقصْره على سببه، وردِّه عن دلالته على العموم، وقال به أيضاً من أصحاب الشافعي المزنيُّ والدقاقُ والقفالُ، وبه قال أبو ثورٍ، وحكاه أبو حامد الإسفراييني عن مالك، وأشار ابن خويز منداد إلى اختلاف قول مالك في هذا ؛ استقراءً مِن اختلافِ قولِه في غسل الآنيةِ التي ولغَ فيها كلبٌ وفيها طعامٌ فقال مرة: أن يغسلَ في الماءِ وحدَه قصراً منه لعموم اللفظ وهو قوله عليه السلام :”إذا ولغَ الكلبُ في إناء أحدكم”.

ولهذا فإن ظرفيةَ السُّنة وإطلاقَ القرآن وهيمنتَه يمكنُ أنْ تعوَّض بهيمنةِ الكلياتِ الحاكمةِ في الشريعة، المستفادةِ من التكرارِ والتأكيدِ المعروفِ مِن القرآنِ ومِن السنةِ، على ضوء النصوص التي أشرنا إليها.

وأخيراً فإنَّ موضوعَ هيمنةِ القرآنِ على السنة موضوعٌ يحتاجُ إلى شرحٍ أطولَ وبيانٍ أوسعَ وتطبيقٍ أوضحَ، وهو موضوعٌ لمْ نصلْ فيهِ بعدُ إلى تصوُّرٍ كاملٍ شاملٍ لا يحدثُ قطيعةً مع المناهجِ المسددَّة مِن قبَلِ الأمَّةِ، ولا يحدثُ انفراطاً لعقدِ المنظومةِ الأصوليَّة.



أما بالنسبة للموضوع: عقوبة الردة فقد ركزتِ الدراسةُ على أربعِ نقاطٍ :

أولاً: أن القرآن الكريم أكَّد على قيمةِ الحريةِ، ولم يذكر عقوبة دنيوية.

ثانياً: أنه عليه الصلاة والسلام لم يطبقْ حدَّ الردة.

ثالثاً: مناقشةُ حديث «من بدل دينه فاقتلوه».

رابعاً: مذاهب الفقهاء.

ولعلي هنا أمرُّ بسرعة على هذه النقاط مكتفياً بالإشارة إلى وجهة نظري وفاقاً أو اختلافاً.



فبالنسبة للنقطة الأولى: أتفقُ مع ما ذكر فضيلته من أن القرآن أكَّد على قيمة الحرية ولم يذكرْ عقوبةً دنيويةً إلاَّ أنَّني أودُّ أنْ أشيرَ إلى أمرينِ: أوَّلهما: أنَّ النفيَ للإكراهِ وردَ في صيغةِ عمومٍ، هي النكرةُ المنفيَّةُ مركَّبةٌ مع “لا”، وهذه من صيغ العمومِ المتَّفقِ عليها بينَ الجمهورِ، بما فيهم القرافيُّ الذي خالفَ في اعتبارِ النكرةِ المنفيةِ دالةً على العمومِ إلاَّ في سياقاتٍ، هذا منها، وهو معروفٌ لا نطيلُ به لكنَّ العموم لا بدَّ أنْ يدلَّ على فردٍ مِن أفرادِه فهوَ قطعيٌّ فِيه. وهنا دلَّ على أنهُ لا يجوزُ إكراهُ شخصٍ على اعتناقِ الدين والانتقال من دين إلى دين.

ولهذا اعتبر المفسرون أن الإكراه على البقاء ليس كالإكراه على الابتداء وقد عبر عن ذلك ابن عاشور في التحرير والتنوير.

ثانياً: لو أعملنا هذا المنطقَ في عدمِ الإكراهِ على البقاءِ في الدين لكانتْ فروضُ الدين الأخرى معرَّضةً للتحلُّل منها دونَ زاجِر، كالصلاة والصوم والزكاة . وكذلكَ ارتكابُ المحرَّمات التي ليسََ فيها سِوى حقُّ الله كالخمر…. ولخرجتْ حقوقُ اللهِ من دائرةِ الزواجرِ، وأصبحَ المسلمُ وغيرُه في نفس الوضع . (معلوم أن غير المسلم لا يعاقب فيما يختصُّ بحقِّ الله تعالى عند الأحناف طرداً لقاعدة عدم الإكراه فمن لم يُكره في الأصل لا يكره في الفرع).

ثالثاً: إنَّ ذكرَ عقوبةِ الآخرةِ فقط في النصوص القرآنية ليسَ دليلاً قاطعاً على عدمها، وإنما هو من باب إشارةِ النص. كما يقول الطوفي في مسألة القتل عمداً. وإشارة النص لا عمل عليها مع وجود النص وهو الحديث وبالتالي لا يفترض وجود التعارض.

رابعاً: إن الوفاء بالعهدِ والعقدِ أمرٌ مطلوبٌ ومقصدٌ من مقاصد الشريعة، وعهدُه تعالى أحقُّ بالوفاء، والدولة في الإسلام مسئولةٌ عن المحافظة على الدين الذي يقع على رأس قائمة الضرورات في سلم المقاصد.

أما كونُه عليه الصلاة والسلام لم يطبِّقْ حدَّ الردة ؛ فهذا صحيح ؛ ولكن تطرُّق الاحتمالِ قد يمنعُ من صحة الاستدلال مع ورود حديثٍ أخرجه الدارقطني والبيهقيُّ في شأن أم مروان ارتدَّتْ فأقامََ عليها عليه الصلاة والسلام الحدَّ ولكنهُ ضعيف. وكذلك حديث عائشةَ أنَّ امرأة ارتدتْ يوم أحد … إلى آخره. وهي أحاديث ضعيفة.

وأنا أتفقُ مع فضيلته في أنه كان يعرف المنافقين، وقد عيَّنهم القرآنُ أحيانا كقوله تعالى: ﴿يقولون لئن رجعنا إلى المدينة﴾… ولا يوجدُ أدْنى شكٍّ لدى المسلمين في أنَّ ابن أبيٍّ كان المراد بذلك كما أبهمهم أحياناً أخرىٰ.

ولكن هل كان حدُّ الردة قد فُرض؟ هل تصرُّفه عليه الصلاة والسلام بالولاية في عدم إقامته نظرٌ في المئالات؟ وهل كان ذلك من قضايا الأعيان؟ أمْ أنَّ توبتهم الظاهرة كانتْ سبباً في عدم إقامته؟

إلاَّ أنْ تطبيقَ الصحابةِ له دونَ نكيرٍ كما في الأثر أنَّ الصِّديق عليه رضوان الله أقامَ الحدَّ على أم قرفة والصحابةُ متوافرونَ ولم يُنكروا عليه. أخرجه الدارَ قطني والبيهقي مما جَعل الأمرَ من السنن العملية، واستمرارُ الأمَّة على ذلك جعلَه من القضايا التي لا تكاد تُسمع للاختلاف فيها ركزاً.



ولهذا فإنَّ أكثر العلماء لم يذكروا الخلاف في موضوع الردة إلا في حالتين هما:

أولاً: هل يستتاب المرتد أو لا يستتاب؟ وحمَلوا ما ورد عن عمر رضي الله عنه دالاً على الاستتابة، وليسَ مناهضاً لأصل حدِّ الردة.

ثانياً: مسألةُ تطبيق حدِّ الردة على المرأة، ومن المعروف أنَّ الجمهورَ يقولون بتطبيقه على المرأة . وخالفهم أبو حنيفة وابن شبرمة والثوري وعطاء والحسن ؛ فقالوا: لا تقتل المرأة المرتدة ؛ واحتجوا بنهيه عليه الصلاة والسلام عن قتل النساء في الجهاد.

ولم يذكروا خلافاً آخرَ سوى ما أشار إليه فضيلتُه من ذكر بعضهم لرأي إبراهيم النخعي الذي قال: “يستتاب المرتدُّ أبداً” كما في نيل الأوطار للشوكاني وغيره.

أما ما ذُكر عن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه فالرواياتُ عنه مضطربةٌ: فتارةً تدل على الاستتابة، وتارةً تدلُّ على الحبس والسجن فلا تقوم بها حجة.

وفي رأيي أنَّ موقفه يرجع إلى حرصه على عدم تنفيذ حدِّ القتل. فقد ذكر ابن فرحون في تبصرته أنه كان يأمرُ ولاتَه بمراجعتِه قبل تنفيذ أحكام القتل.

النقطة الثالثة: حديث «من بدل دينه فاقتلوه» إنَّ الدراسةَ ذكرت طرقَ الحديث وكثيراً من شواهده ومتابعاته بقدرٍ غيرِ يسيرٍ من المناقشة الحديثية، إلا أنَّ بعضَ الشواهدِ لمْ تحظَ بقدرٍ كافٍ من النقد، وهي:

حديثُ بريدةَ في قصة معاذ وأبي موسى وفيه قول معاذ: قضاءُ الله ورسولِه .. إلى آخر الحديث. متفق عليه. وفي رواية لأحمد: ”قضى الله ورسوله أنَّ من رجعَ عن دينه فاقتلوه“.

وحديثُ عثمان وفيه: وارتدَّ بعد إسلامه فعليه القتل. أخرجه النسائي وصححه الألباني وغيره.

وحديث آخر لعثمان وفيه: كفرٌ بعد إيمان. أشارت إليه الدراسة ص116

هذه الأحاديث لم تحظَ بما تستحقُّ من النقد، وهي بالإضافة إلى ما ذكر فضيلتُه من الآثار عن الصحابة والتابعين دليلٌ قويٌّ على استفاضة الحديث إن لم نقُلْ تواتَره ؛ بحيثُ يصبح تأثيرُ العلل المشار إليها ضعيفٌ.

أما حديثُ ابن مسعود وفيه: «التاركُ لدينه المفارق للجماعة».. فهو قد يشهدُ لما ذهبَ إليه فضيلتُه منْ أنْ الجُرمَ سياسيٌّ يتعلقُ بنظام الدولة، وليسَ بسببِ تبديلِ الدين، وتُحملُ أحاديثُ الإطلاقِ عليهِ حملاً للمطلقِ على المقيَّد، ولكنه سبيلٌ لم يعرِّجْ عليهِ أحدٌ من فقهاء الأمة.

النقطة الرابعة: مذاهبُ الفقهاء وقد سردها فضيلتُه بدقةٍ واختصارٍ، وأريد هنا أنْ أؤكدَ ما أشارَ إليه فضيلتُه من أنَّ المذهبَ الحنفيَّ تعرَّض لقضية الرِّدَّة في كتاب السِّيَر، وليسَ في كتابِ الحدود.



ويمكنُ أن نستنتج عدةَ نتائجَ من موقف الأحناف ومن يوافقهم في التفرقة بين الرجل والمرأة:

أولاً: أن الأحناف قد يكونون متأثرين بمذهب إبراهيم النخعي رحمه الله تعالى في عدم وجوب حدِّ القتل على المرتد ؛ لأنه لو وجب ما كان للتفرقة بين الرجل والمرأة وجهٌ.

ثانياً: أنَّ من يقولون بالتفرقة بين الرجل والمرأة ضاقتْ بهم سبلُ التعليل حتَّى صرَّح بعضُهم بأنَّ القتل ليس للردة ؛ وقد صرَّح فخر الإسلام البزدوي بذلك كما ذكره ابن قاضى سماوة في جامع الفصولين حيث يقول: ارتدادُ الصبيِّ العاقلِ يصحُّ عند حم رحمهما الله إلا أنه لا يقتل إذ القتل يجب بالحرب لا بعين الردة ولم يوجد فأشبه ردة المرأة( ).

ولعلَّ هذا يؤيِّد ما ذهبَ إليه فضيلةُ الدكتور طه إلا أنَّ هذا التعليل يرجعُ إلى اعتبار الرجل الكافر محارباً بالقوة ولو لم يكن محارباً بالفعل . وفيه صعوبة وإشكال لا يخفى.

ويمكن اعتبارُ الإجماع منعقداً منذ أواخر القرن الثاني الهجري على حكمِ قتلِ الرجل المرتدِّ، وهو إجماعٌ يَعتمدُ على السنة القولية وعلى عمل الصحابة وأقوالهم وأقوال التابعين.



وقد اختلف العلماءُ في انعقاد الإجماع بعد الاختلاف كما هو معروف في أصول الفقه.

والذي يظهر لي:

1- أنَّ حكم قتل المرتد ثابتٌ بالسنة القولية، وأنَّ ذلك لا يعارضُ النصوصَ القطعيَّة للقرآن، بلْ يخصِّص عموماتِه، وبخاصة أنَّ السُّنة صحبها عملُ الأمَّة وإجماعُها النطقيُّ والعمليُّ، وذلك طيلةُ أربعة عشر قرناً إلاَّ تلك الأقوالُ القليلةُ أشارتْ إليها الدراسة.

2- إنَّ تصنيفَ هذِه العقوبةِ في خانة التعزيرات التي تراعَى فيها المئالاتُ والظروفُ والمتغيراتُ يُقبل أنْ يكون محلَّ اجتهاد لِمَا أشارت إليه الدراسةُ من الاختلاف، وبخاصة أنَّ تعليلَ الأحناف بالحرب لا بالردَّة أمرٌ يشيرُ إلى تأثُّرهم بمذهبِ إبراهيمََ النخعيِّ رضي الله عنه.

3- إنَّ مسألةَ العقوباتِ الشرعيةِ ليستْ من قضايا فقهِ الأقلياتِ، فكلُّ الأحكام السلطانيةِ لا يطالبونَ بها، وقد رجحنا في ذلك مذهب أبي حنيفة.

4- وفي ظلِّ العولمة فإنَّ البلدانَ الإسلاميةَ وفقهاءَ الشريعةِ مدعوُّون إلى مراجعةِ فتاواهم ومواقفهم من كثيرٍ من القضايا على ضوء التداعياتِ العالميةِ المعقَّدة. وقد ثبت عن خلفاء رسول الله  تعليقُ بعض الحدود لمقتضياتِ المصالحِ والضرورات.

5- فيما يتعلق بمنهجية هيمنة القرآن على السنة فإن هذا يشير إلى افتراض تعارض، والمفروض أنْ تكونَ نقطةُ البداية: أنه لا يوجدُ تعارضٌ بين القرآن والسنة، فكما يقول الشافعي: إنه لا تخالف له سنةٌ أبداً كتاب الله، وإنَّ سنَّته وإن لم يكن فيها نصُّ كتابٍ لازمة( ).

وقد شرح الشافعي شرحاً طويلاً قضية السنة وبيانها للقرآن تارة واستقلالها تارة( ). وأثبتَ أنَّ القرآنََ هو الحكَم عندَ اختلافِ السُّنة قائلاً: قلتُ: أنْ يكونَ أحدُ الحديثين أشبهَ بكتاب الله فإذا أشبهَ كتابَ اللهِ كانتْ فيه الحجة( ).

وقد أشرتُ إلى الهيمنة التي مردُّها إلى الثبوت أو إلى الظروفِ ولها جذورُها في أصولِ الفقهِ . وإني أخشى أن تكونَ الدعوةُ إلى هيمنة القرآن سبيلاً لانفراط سِلك الشريعة، وطريقاً لمن لا يحسن التعاملَ مع الأدلةِ، ولم يرتضْ على الجزئياتِ والكلياتِ ومقاصدِ الشريعة ؛ أنْ يدَّعِى فهماً من القرآن لا يناسب المقام، ولا تساعده القواعدُ اللغويةُ أوِ الأصولُ الكليةُ، أو يحكِّم مصالحَ ملغاةً.

ولهذا فإني حريصٌ على الاستناد على القواعد التي ضبطها العلماءُ، مع توسيعِ أوعيةِ الاستنباطِ ومولِّداتِ الأحكامِ وبخاصةٍ في القضايا المستجدة.

6- إنَّ أزمةَ الأمة في معظمها أزمةُ عجز في استيعاب الفكر الإنساني؛ من فلسفةٍ وتاريخٍ بشريٍّ وسننٍ كونيةٍ ؛ للانخراطٍ في الحضارة من جديد، وإزالةِ عُقد الفسادِ والاستبدادِ، ولا يُنكَر أنَّ ضحالةَ التفقُّهِ تشكِّلُ وجهاً من أوجه الأزمةِ التي تعرفونها جيداً.

7- إني أخشى أن تخضع مقولاتنا لعواملَ الضغطِ الحضاريِّ ؛ لنرميَ ريشَنا كلما هبَّت ريحٌ زعزعَ من الغرب أو من الشرق، ونغيرَ ثوابتنا.

وأخيراً: فإني أرجو من فضيلة الأخ العزيز أنْ لا يرى فيما كتبتُ إلا إخلاصاً لما اعتقده، ومحضاً للنصح، ووفاءً للأخوَّة، مع اعترافي بجوِّ الاستعجال الذي كتبتُ فيه الخواطرَ لتسجيلِ أفكارٍ للتذاكرِ معكم.



والله يحفظكم ويرعاكم ويسدِّد خطانا وخطاكم.

وكتب

عبدالله بن الشيخ المحفوظ بن بيــّه



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق