يزيد بن معاوية.. من أهل الجنة أم من أهل النار؟
محمد غزلي
هوية بريس - الإثنين 23 مارس 2015
هذا السؤال يطرحه فريقان من الناس، ولكل فريق مرماه الذي يرمي إليه من وراء طرحه، الفريق الأول هم الشيعة، ويريدون بطرحه التوصل إلى الطعن فيمن هو فوقه، وهو أبوه معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، والفريق الثاني هم بعض الجماعات السنية، في الغالب تكون جماعات سياسية أو صوفية أو متأثرة بهما.
أما أنا فلا أطرح هذا السؤال لأجل الجواب المباشر عنه، ولكني أطرحه لأجل الجواب عما وراء طرحه من كثبان الضلال وكتائب الباطل، وليس المهم عندي شخص يزيد بن معاوية فالبحث في الشخوص أحيانا يكون مضيعة للوقت، ولكن إذا كان الدفاع عن الشخص يسدُّ ذريعة الطعن في الفكرة الجمعية للأمة الإسلامية، وكان حماية لها من استغلالٍ عاطل لخطأ وقعت فيه هذه الشخصية، واستثمارٍ وضيعٍ من قبل هذه الكتائب وهاتيك الكثبان، فسيكون الدفاع واجبا، بإنصاف لا بتعصب، لأجل الفكرة لا لأجل الشخصية فحسب، وإلا فإن شخصية يزيد رحمه الله قد قال فيها بعض الأفاضل من أهل العلم: «نقول في يزيد ولا نزيد؛ يزيد لا يحَب ولا يُسب».
أقول: هذا مقبول في زمان ذاك الفاضل الذي كان فيه السابّ ليزيد يطعن في شخصه ولا يزيد على مجرد السبّ، أما اليوم فقد زاد السب ليزيد ليشمل أباه وجده ومن والاه حتى انتهى به الطعن بالصديق الأكبر رضي الله عنه، وكما قال الربيع بن نافع الحلبي رحمه الله: «معاوية ستر لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فإذا كشف الرجل الستر اجترأ على ما وراءه» (البداية والنهاية 8/139)، وكذلك نقول في أي شخصية إسلامية تنتمي إلى تاريخ أمتنا العظيمة وأريدَ بطعنها ما وراء هذا الطعن من ضرب الهوية العربية الإسلامية.
الشيعة سؤالهم مشروع ويتماشى مع أصولهم الباطلة التي توصلهم إلى هدم الإسلام بالطعن فيمن عيَّن يزيد خليفة وهو معاوية، ثم بالطعن في معاوية يُطعن فيمن عينه أيضا وهو عمر ثم عثمان، ثم يطعن فيمن عيَّن عمر وهو الصديق رضي الله عن الجميع، لكن هل هذا السؤال مشروع إذا طرحه سني، بغض النظر عن انتماءه السياسي والحزبي؟ ما هي الفائدة التي يتغياها السني من وراء طرح هذا السؤال؟ ما هي النتيجة التي يريد أن يتوصل إليها بهذا البحث التاريخي؟
قبل الجواب على هذا السؤال المتعلق بالملك الأموي يزيد بن معاوية رحمه الله تعالى لابد من التعريج على بعض الأمور التي يتعين على دارس التاريخ أن يتأملها:
1- أن التاريخ ليس كتاب عقيدة، وأن المسلم لا يأخذ دينه من التاريخ، فالتاريخ أحداث بشرية، من صنع الناس، والناس يعتريهم ما يعتري جميع الأشياء من النقص والضعف والخطأ والتغير، بحسب الأسباب والمؤثرات.
2- أن علماء الإسلام رضي الله عنهم لم ينشغلوا بكتابة التاريخ وتنقيحه وتصحيحه، بسبب ما ذكرته في النقطة الأولى، وبسبب أنهم كانوا منشغلين بما هو أعظم من التاريخ ألا وهو البحث في السبل الكفيلة بحفظ «الوحي»، فقد كانوا منشغلين بذلك، لأن الدين/الوحي، وهو المهم والأهم عند المسلمين، هو مصدر العقيدة والعبادة عندهم، أما التاريخ فليس مصدر عقيدة ولا عبادة ولذلك فلا عليك إذا لم تنشغل به، وهذا ما فسح المجال أمام المندسين ليملأوا هذا الفراغ، فكتب المشوشون ما كتبوا من الأكاذيب، ودسوا من الدسائس.
3- أن التاريخ وقائعه وأحداثه لا تنتهي، ويحتاج أعمارا بقرون وأجيال لتدوينه فضلا عن تنقيحه وغربلته، بل لو ذهبت في كثير من الأحيان تريد غربلة التاريخ لما سلم في يديك إلا الغربال كما يقول المغاربة في مثلهم السائر.
خذ مثلا لو أن مؤرخا أراد أن يكتب تاريخ مدينة الجديدة فقط ولمدة أسبوع، فسيخرج في مجلدات، فكيف لو أراد أن يكتب تاريخ دكالة كلها، ثم نواحيها، ثم كتابة تاريخ المدن الأخرى، فكم من المجلدات تكفي لكتابة هذا التاريخ المليء؟ وكيف لو أردت أن تكتب تاريخها الممتد على الشهر والسنة والعقد والقرن؟ فحوادث الناس لا حصر لها ولا حدود ولا نهاية، والمنشغل بها سيفني عمره فيما لا يعود عليه بكبير فائدة في مقابل النفع العظيم للأمة الذي يحصل بتصنيف كتب العلوم الشرعية، وهذا ما جعل علماءنا ينصرفون عن كتابة التاريخ.
4- من صنَّف من أهل العلم قديما في التاريخ فقد كتب على قاعدة «إذا جاءنا الخبر في الحلال والحرام تشددنا، وإذا جاءنا في السير والتواريخ والفضائل تساهلنا»، وهذه النظرية لا تعطي الناظر في التاريخ حجة يستدل بها على أمور جديدة، أو أن يبني عليها فكرة أو عقيدة، لماذا؟
لأن هذا التساهل لابد أن يُشترط له بعض الشروط، خصوصا ونحن نعلم أن التساهل قد يجر بعض المشوشين على تاريخنا الناصع أن يزيدوا فيه زيادات بطريقة لبقة وفنية تنطلي على صغار الباحثين والمبتدئين في علم التاريخ. من هذه الشروط:
- الشرط الأول: أن ينظر في هذه الرواية التاريخية هل هي تدخل في باب الخصومات أم لا؟ فإن كان الأمر كذلك فإن الخصومات لا تُحكى ولا يُبث فيها إلا بوجود المتخاصمين جميعا، ولا يقبل كلام الخصم في خصمه إلا بشهود ودلائل وحدود شديدة وقيود مشددة، وكل هذا ينافي التساهل.
- الشرط الثاني: أن يكون هذا التساهل داخلا في باب الفضائل والمناقب، لا في باب المثالب والزلات، لأن ذكر الزلات باب يدخل منه الحاقدون في صورة الناصحين.
- الشرط الثالث: أن يكون التساهل في قبول هذه الأخبار التاريخية لا تعلق له بحكم على شخص أو فرقة أو طائفة أو دولة أو قبيلة أو أي كيان سياسي وديني، فإن كان الأمر كذلك فلا معنى للتساهل هنا، بل يجب الاحتياط في الأحكام جدا، لأن الأعراض لا يتكلم فيها بالظنون والاحتمالات والتساهلات.
5- إن التاريخ القديم لا ينبغي أن يكتب بعقلية تتحكم فيها الأهواء الجديدة والتقلبات الحديثة، فبينك وبين الحوادث القديمة مفاوز تاريخية، وأخلاق وطبائع ونفسيات وعقليات وتصورات، وسياسات ونظم اجتماعية وبيئية، يقول الباحث وليد نويهض: «هناك معضلة معرفية مستعصية على الحل، وذلك بسبب تدخل المؤرخ في سرد الوقائع، مستخدما أدوات الحاضر في وصف الماضي. وهذه المعضلة الناجمة عن دمج الآفاق الزمنية ومد الجسور لربط الماضي بالحاضر دفعت الفيلسوف فريديريك نيتش إلى التشكيك في وجود حقائق تاريخية مطلقة حين قال: لا يوجد حقائق قائمة بنفسها» مجلة «تبيّن» ع. 217، ص. 158. وعلى هذا فكيف تجزم بالحكم على واقعة حكما يقينيا مع وجود هذه المسافات؟
6- إن التاريخ الذي كتب عن المرحلة الأموية لم يكتب إلا في الفترة العباسية، مع بداية تدوين العلوم في العصر العباسي، وهذا يطرح أكثر من تساؤل حول مصداقية ما كتب عن يزيد بن معاوية وأبيه ومن فوقهما؛ فما يكتب في هذه المرحلة لا يجوز أن يخرج عن خط التوجه الرسمي للدولة، وهذه نقطة غاية في الأهمية، نحن نعلم أن أي نظام سياسي في العالم انقلب على نظام آخر قبله لا يمكن أن يأتي المؤرخون الجدد ليكتبوا في محاسن النظام السابق، فهذا يعتبر عملية انتحارية يقوم بها هذا المؤرخ، وخذ مثالا على ذلك من واقعنا اليوم في زمن الثورات العربية المعاصرة، فلو ذهب أحد المؤرخين الليبيين اليوم، في ليبيا ما بعد معمر القذافي، يكتب في «فضائل نظام القذافي وما قدمه للشعب الليبي من خدمات عظيمة»، ولو كانت فعلا عنده بعض الأعمال النافعة كبنائه النهر الصناعي العظيم، فهل تظن أن الثوار سيتركون هذا الذي جاء يمدح القذافي على حاله دون أن يقدموا رقبته للإعدام بحجة أنه خائن للثورة والوطن وأنه من بقايا النظام السابق، أو بتعبير المصريين: هو من الفلول؟
إلى ذلك، فسيأتي من كُتاب التاريخ الحاقدين والحانقين على النظام السابق من يكتب، وبكل صفاقة وكذب، في كل مخازي وزلات ومظالم النظام السابق ويزيد وينقص، ويفتري ويكذب، يريد بذلك التقربَ إلى النظام الحاكم الجديد، ولن يكون هناك من هذا النظام من يقول له: لا تكذب على خصومنا السابقين، فالإنصاف يغيب في حال الخصومات فكيف في حالة الحرب والانقلاب والثورة؟
هذا الذي حصل بالضبط في كتابة التاريخ الأموي بشكل عام، وكتابة السيرة السياسية للملك يزيد بن معاوية رحمه الله تعالى بشكل خاص، فلا تتصور أن يأتي في زمان العباسيين الذين أسقطوا النظام الأموي القائم، وأوغلوا في قتل أتباعه وذبحهم، من يكتب في مناقب الأمويين ويزيد بن معاوية، هذا من سابع المستحيلات.
أمر آخر لا يقل أهمية، وهو أن التدوين بشكل عام (تدوين الحديث والتفسير واللغة والفلسفة والتاريخ وغيره) لم يبدأ إلا في العهد العباسي، ولذلك لم يتسن للأمويين أن يكتبوا تاريخهم بأيديهم حتى يكون عند الباحث الناقد أو المنتقد الذي يريد الحكم على شخصيات تلك الفترة بإنصاف، أن يكون عنده هذه الآلية للحكم، ففقْدُ هذه الكتابات التاريخية، التي يجب أن يكتبها الأُمويون أنفسُهم عن أنفسهم، يحدث في الأحكام التاريخية التي جاءت من بعدهم شرخا كبيرا بين الحقيقة وبين ما كتبه خصوم الأمويين عنهم، لا يمكن جمعُه. فالتاريخ يصنعه المؤرخ (صاحب الحدث) ويكتبه بنفسه لا يكتبه غيره عنه، سواء أكان هذا الغير من المؤيدين أم كان من المعارضين، لأجل العوارض التي تتدخل دائما في الكتابة لتحرفها عن الحيادية. فبهذا يكون ما كتبه صاحب الحدث وثيقة ومستندا وشهادة، أما ما كتبه غير صاحب الحدث عنه فيكون تأويلا ومساءلة، لذلك قال من قال من مفكرينا المعاصرين: «نحن صنعنا التاريخ لكن كتبه غيرنا، واليوم نحن نصنع التاريخ ونحن نكتبه» (د. طه الدليمي).
يقول البروفيسور «أوكشت»: «التاريخ هو تجربة المؤرخ، إنه ليس من صنع أحد سوى المؤرخ، وكتابة التاريخ هي الطريقة الوحيدة لصنعه» الباحث المغربي خالد طحطح، «الكتابة التاريخية» ص. 75. المقصود بالمؤرخ هنا ليس من ينقل من هنا أو هناك بواسطة أو بغير واسطة، فهذا سيدخلنا في سجالات البحث والتحقق من النقل والرواية، وهل هذا التأريخ شهادة أم تحليل يعتمد التأويل والاستنباط، ولكن المؤرخ هو من يصنع الحدث/التاريخ بنفسه ويكتبه بنفسه، كما هو متداول اليوم ومعروف باسم «المذكرات السياسية» للقادة والزعماء وغيرهم من صناع القرار وصناع التاريخ.
قد يقول قائل: أين هم العلماء الذين لا يخافون في الله لومة لائم، الذين يقولون كلمة الحق عند سلطان جائر؟ ألم يكونوا يرون الكذب يكتب على الأمويين (ويزيد بن معاوية) ثم هم يسكتون خوفا من الإعدام من قبل النظام السياسي الجديد؟
الجواب: نعم العلماء رحمهم الله لا يخافون في الله لومة لائم، إن تعرض الوحي لغمزة من جهول أو حقود فإنهم لا يسكتون أبدا ولو كان في ذلك هلاكهم وحتفهم، لكن أحداث التاريخ ووقائع الناس لا يمكن أن يضحي المرء بنفسه لأجلها وقد ذهبت وانتهت، خصوصا وأن علماءنا رحمهم الله يعيشون بالعقلية الأبوية الجمعية التي تؤلف بين القلوب وتدفن المآسي وتنسى الأحقاد، خلافا للطائفة الشيعية التي لا تحسن العيش دون أن تنقب في فجوات التاريخ المزور لتخرج قيحا وصديدا ودما فاسدا لتشويه أجدادنا وعظمائنا وقادتنا، لأن أجدادنا ليسوا أجدادا لهم وعظماءنا ليسوا هم عندهم كذلك، فعظماؤهم كسرى يزدجرد وأنوشروان وكياسرة الفرس الذين زلزل الأرض من تحت أقدامهم سيدنا عمر والصحابة رضي الله عنهم، هذا هو سبب ما يمكن أن يكون منسوبا لعلمائنا من سكوت عن الذب عن حسنات النظام السابق لنظام العباسيين.
فخلاصة القول إذن، أنه من الشطط في الحكم أن يحكم باحث أو ناقد على شخصية تاريخية، تمثل وجها من وجوه دولة بنت حضارة، ونشرت الدين في الأندلس وإفريقيا، أعني دولة بني أمية، (يحكم عليها) وبينه وبينها كل هذه المفاوز العلمية والتاريخية وغيرها، من خلال منتوج مصنع صناعة عدائية، اشتغلت على مواضع الصراع، ومواضيع القلق والأزمة في الدولة الأموية، ومتى كانت الدول تخلو من الأزمات والمشكلات؟
محمد غزلي
هوية بريس - الإثنين 23 مارس 2015
هذا السؤال يطرحه فريقان من الناس، ولكل فريق مرماه الذي يرمي إليه من وراء طرحه، الفريق الأول هم الشيعة، ويريدون بطرحه التوصل إلى الطعن فيمن هو فوقه، وهو أبوه معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، والفريق الثاني هم بعض الجماعات السنية، في الغالب تكون جماعات سياسية أو صوفية أو متأثرة بهما.
أما أنا فلا أطرح هذا السؤال لأجل الجواب المباشر عنه، ولكني أطرحه لأجل الجواب عما وراء طرحه من كثبان الضلال وكتائب الباطل، وليس المهم عندي شخص يزيد بن معاوية فالبحث في الشخوص أحيانا يكون مضيعة للوقت، ولكن إذا كان الدفاع عن الشخص يسدُّ ذريعة الطعن في الفكرة الجمعية للأمة الإسلامية، وكان حماية لها من استغلالٍ عاطل لخطأ وقعت فيه هذه الشخصية، واستثمارٍ وضيعٍ من قبل هذه الكتائب وهاتيك الكثبان، فسيكون الدفاع واجبا، بإنصاف لا بتعصب، لأجل الفكرة لا لأجل الشخصية فحسب، وإلا فإن شخصية يزيد رحمه الله قد قال فيها بعض الأفاضل من أهل العلم: «نقول في يزيد ولا نزيد؛ يزيد لا يحَب ولا يُسب».
أقول: هذا مقبول في زمان ذاك الفاضل الذي كان فيه السابّ ليزيد يطعن في شخصه ولا يزيد على مجرد السبّ، أما اليوم فقد زاد السب ليزيد ليشمل أباه وجده ومن والاه حتى انتهى به الطعن بالصديق الأكبر رضي الله عنه، وكما قال الربيع بن نافع الحلبي رحمه الله: «معاوية ستر لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فإذا كشف الرجل الستر اجترأ على ما وراءه» (البداية والنهاية 8/139)، وكذلك نقول في أي شخصية إسلامية تنتمي إلى تاريخ أمتنا العظيمة وأريدَ بطعنها ما وراء هذا الطعن من ضرب الهوية العربية الإسلامية.
الشيعة سؤالهم مشروع ويتماشى مع أصولهم الباطلة التي توصلهم إلى هدم الإسلام بالطعن فيمن عيَّن يزيد خليفة وهو معاوية، ثم بالطعن في معاوية يُطعن فيمن عينه أيضا وهو عمر ثم عثمان، ثم يطعن فيمن عيَّن عمر وهو الصديق رضي الله عن الجميع، لكن هل هذا السؤال مشروع إذا طرحه سني، بغض النظر عن انتماءه السياسي والحزبي؟ ما هي الفائدة التي يتغياها السني من وراء طرح هذا السؤال؟ ما هي النتيجة التي يريد أن يتوصل إليها بهذا البحث التاريخي؟
قبل الجواب على هذا السؤال المتعلق بالملك الأموي يزيد بن معاوية رحمه الله تعالى لابد من التعريج على بعض الأمور التي يتعين على دارس التاريخ أن يتأملها:
1- أن التاريخ ليس كتاب عقيدة، وأن المسلم لا يأخذ دينه من التاريخ، فالتاريخ أحداث بشرية، من صنع الناس، والناس يعتريهم ما يعتري جميع الأشياء من النقص والضعف والخطأ والتغير، بحسب الأسباب والمؤثرات.
2- أن علماء الإسلام رضي الله عنهم لم ينشغلوا بكتابة التاريخ وتنقيحه وتصحيحه، بسبب ما ذكرته في النقطة الأولى، وبسبب أنهم كانوا منشغلين بما هو أعظم من التاريخ ألا وهو البحث في السبل الكفيلة بحفظ «الوحي»، فقد كانوا منشغلين بذلك، لأن الدين/الوحي، وهو المهم والأهم عند المسلمين، هو مصدر العقيدة والعبادة عندهم، أما التاريخ فليس مصدر عقيدة ولا عبادة ولذلك فلا عليك إذا لم تنشغل به، وهذا ما فسح المجال أمام المندسين ليملأوا هذا الفراغ، فكتب المشوشون ما كتبوا من الأكاذيب، ودسوا من الدسائس.
3- أن التاريخ وقائعه وأحداثه لا تنتهي، ويحتاج أعمارا بقرون وأجيال لتدوينه فضلا عن تنقيحه وغربلته، بل لو ذهبت في كثير من الأحيان تريد غربلة التاريخ لما سلم في يديك إلا الغربال كما يقول المغاربة في مثلهم السائر.
خذ مثلا لو أن مؤرخا أراد أن يكتب تاريخ مدينة الجديدة فقط ولمدة أسبوع، فسيخرج في مجلدات، فكيف لو أراد أن يكتب تاريخ دكالة كلها، ثم نواحيها، ثم كتابة تاريخ المدن الأخرى، فكم من المجلدات تكفي لكتابة هذا التاريخ المليء؟ وكيف لو أردت أن تكتب تاريخها الممتد على الشهر والسنة والعقد والقرن؟ فحوادث الناس لا حصر لها ولا حدود ولا نهاية، والمنشغل بها سيفني عمره فيما لا يعود عليه بكبير فائدة في مقابل النفع العظيم للأمة الذي يحصل بتصنيف كتب العلوم الشرعية، وهذا ما جعل علماءنا ينصرفون عن كتابة التاريخ.
4- من صنَّف من أهل العلم قديما في التاريخ فقد كتب على قاعدة «إذا جاءنا الخبر في الحلال والحرام تشددنا، وإذا جاءنا في السير والتواريخ والفضائل تساهلنا»، وهذه النظرية لا تعطي الناظر في التاريخ حجة يستدل بها على أمور جديدة، أو أن يبني عليها فكرة أو عقيدة، لماذا؟
لأن هذا التساهل لابد أن يُشترط له بعض الشروط، خصوصا ونحن نعلم أن التساهل قد يجر بعض المشوشين على تاريخنا الناصع أن يزيدوا فيه زيادات بطريقة لبقة وفنية تنطلي على صغار الباحثين والمبتدئين في علم التاريخ. من هذه الشروط:
- الشرط الأول: أن ينظر في هذه الرواية التاريخية هل هي تدخل في باب الخصومات أم لا؟ فإن كان الأمر كذلك فإن الخصومات لا تُحكى ولا يُبث فيها إلا بوجود المتخاصمين جميعا، ولا يقبل كلام الخصم في خصمه إلا بشهود ودلائل وحدود شديدة وقيود مشددة، وكل هذا ينافي التساهل.
- الشرط الثاني: أن يكون هذا التساهل داخلا في باب الفضائل والمناقب، لا في باب المثالب والزلات، لأن ذكر الزلات باب يدخل منه الحاقدون في صورة الناصحين.
- الشرط الثالث: أن يكون التساهل في قبول هذه الأخبار التاريخية لا تعلق له بحكم على شخص أو فرقة أو طائفة أو دولة أو قبيلة أو أي كيان سياسي وديني، فإن كان الأمر كذلك فلا معنى للتساهل هنا، بل يجب الاحتياط في الأحكام جدا، لأن الأعراض لا يتكلم فيها بالظنون والاحتمالات والتساهلات.
5- إن التاريخ القديم لا ينبغي أن يكتب بعقلية تتحكم فيها الأهواء الجديدة والتقلبات الحديثة، فبينك وبين الحوادث القديمة مفاوز تاريخية، وأخلاق وطبائع ونفسيات وعقليات وتصورات، وسياسات ونظم اجتماعية وبيئية، يقول الباحث وليد نويهض: «هناك معضلة معرفية مستعصية على الحل، وذلك بسبب تدخل المؤرخ في سرد الوقائع، مستخدما أدوات الحاضر في وصف الماضي. وهذه المعضلة الناجمة عن دمج الآفاق الزمنية ومد الجسور لربط الماضي بالحاضر دفعت الفيلسوف فريديريك نيتش إلى التشكيك في وجود حقائق تاريخية مطلقة حين قال: لا يوجد حقائق قائمة بنفسها» مجلة «تبيّن» ع. 217، ص. 158. وعلى هذا فكيف تجزم بالحكم على واقعة حكما يقينيا مع وجود هذه المسافات؟
6- إن التاريخ الذي كتب عن المرحلة الأموية لم يكتب إلا في الفترة العباسية، مع بداية تدوين العلوم في العصر العباسي، وهذا يطرح أكثر من تساؤل حول مصداقية ما كتب عن يزيد بن معاوية وأبيه ومن فوقهما؛ فما يكتب في هذه المرحلة لا يجوز أن يخرج عن خط التوجه الرسمي للدولة، وهذه نقطة غاية في الأهمية، نحن نعلم أن أي نظام سياسي في العالم انقلب على نظام آخر قبله لا يمكن أن يأتي المؤرخون الجدد ليكتبوا في محاسن النظام السابق، فهذا يعتبر عملية انتحارية يقوم بها هذا المؤرخ، وخذ مثالا على ذلك من واقعنا اليوم في زمن الثورات العربية المعاصرة، فلو ذهب أحد المؤرخين الليبيين اليوم، في ليبيا ما بعد معمر القذافي، يكتب في «فضائل نظام القذافي وما قدمه للشعب الليبي من خدمات عظيمة»، ولو كانت فعلا عنده بعض الأعمال النافعة كبنائه النهر الصناعي العظيم، فهل تظن أن الثوار سيتركون هذا الذي جاء يمدح القذافي على حاله دون أن يقدموا رقبته للإعدام بحجة أنه خائن للثورة والوطن وأنه من بقايا النظام السابق، أو بتعبير المصريين: هو من الفلول؟
إلى ذلك، فسيأتي من كُتاب التاريخ الحاقدين والحانقين على النظام السابق من يكتب، وبكل صفاقة وكذب، في كل مخازي وزلات ومظالم النظام السابق ويزيد وينقص، ويفتري ويكذب، يريد بذلك التقربَ إلى النظام الحاكم الجديد، ولن يكون هناك من هذا النظام من يقول له: لا تكذب على خصومنا السابقين، فالإنصاف يغيب في حال الخصومات فكيف في حالة الحرب والانقلاب والثورة؟
هذا الذي حصل بالضبط في كتابة التاريخ الأموي بشكل عام، وكتابة السيرة السياسية للملك يزيد بن معاوية رحمه الله تعالى بشكل خاص، فلا تتصور أن يأتي في زمان العباسيين الذين أسقطوا النظام الأموي القائم، وأوغلوا في قتل أتباعه وذبحهم، من يكتب في مناقب الأمويين ويزيد بن معاوية، هذا من سابع المستحيلات.
أمر آخر لا يقل أهمية، وهو أن التدوين بشكل عام (تدوين الحديث والتفسير واللغة والفلسفة والتاريخ وغيره) لم يبدأ إلا في العهد العباسي، ولذلك لم يتسن للأمويين أن يكتبوا تاريخهم بأيديهم حتى يكون عند الباحث الناقد أو المنتقد الذي يريد الحكم على شخصيات تلك الفترة بإنصاف، أن يكون عنده هذه الآلية للحكم، ففقْدُ هذه الكتابات التاريخية، التي يجب أن يكتبها الأُمويون أنفسُهم عن أنفسهم، يحدث في الأحكام التاريخية التي جاءت من بعدهم شرخا كبيرا بين الحقيقة وبين ما كتبه خصوم الأمويين عنهم، لا يمكن جمعُه. فالتاريخ يصنعه المؤرخ (صاحب الحدث) ويكتبه بنفسه لا يكتبه غيره عنه، سواء أكان هذا الغير من المؤيدين أم كان من المعارضين، لأجل العوارض التي تتدخل دائما في الكتابة لتحرفها عن الحيادية. فبهذا يكون ما كتبه صاحب الحدث وثيقة ومستندا وشهادة، أما ما كتبه غير صاحب الحدث عنه فيكون تأويلا ومساءلة، لذلك قال من قال من مفكرينا المعاصرين: «نحن صنعنا التاريخ لكن كتبه غيرنا، واليوم نحن نصنع التاريخ ونحن نكتبه» (د. طه الدليمي).
يقول البروفيسور «أوكشت»: «التاريخ هو تجربة المؤرخ، إنه ليس من صنع أحد سوى المؤرخ، وكتابة التاريخ هي الطريقة الوحيدة لصنعه» الباحث المغربي خالد طحطح، «الكتابة التاريخية» ص. 75. المقصود بالمؤرخ هنا ليس من ينقل من هنا أو هناك بواسطة أو بغير واسطة، فهذا سيدخلنا في سجالات البحث والتحقق من النقل والرواية، وهل هذا التأريخ شهادة أم تحليل يعتمد التأويل والاستنباط، ولكن المؤرخ هو من يصنع الحدث/التاريخ بنفسه ويكتبه بنفسه، كما هو متداول اليوم ومعروف باسم «المذكرات السياسية» للقادة والزعماء وغيرهم من صناع القرار وصناع التاريخ.
قد يقول قائل: أين هم العلماء الذين لا يخافون في الله لومة لائم، الذين يقولون كلمة الحق عند سلطان جائر؟ ألم يكونوا يرون الكذب يكتب على الأمويين (ويزيد بن معاوية) ثم هم يسكتون خوفا من الإعدام من قبل النظام السياسي الجديد؟
الجواب: نعم العلماء رحمهم الله لا يخافون في الله لومة لائم، إن تعرض الوحي لغمزة من جهول أو حقود فإنهم لا يسكتون أبدا ولو كان في ذلك هلاكهم وحتفهم، لكن أحداث التاريخ ووقائع الناس لا يمكن أن يضحي المرء بنفسه لأجلها وقد ذهبت وانتهت، خصوصا وأن علماءنا رحمهم الله يعيشون بالعقلية الأبوية الجمعية التي تؤلف بين القلوب وتدفن المآسي وتنسى الأحقاد، خلافا للطائفة الشيعية التي لا تحسن العيش دون أن تنقب في فجوات التاريخ المزور لتخرج قيحا وصديدا ودما فاسدا لتشويه أجدادنا وعظمائنا وقادتنا، لأن أجدادنا ليسوا أجدادا لهم وعظماءنا ليسوا هم عندهم كذلك، فعظماؤهم كسرى يزدجرد وأنوشروان وكياسرة الفرس الذين زلزل الأرض من تحت أقدامهم سيدنا عمر والصحابة رضي الله عنهم، هذا هو سبب ما يمكن أن يكون منسوبا لعلمائنا من سكوت عن الذب عن حسنات النظام السابق لنظام العباسيين.
فخلاصة القول إذن، أنه من الشطط في الحكم أن يحكم باحث أو ناقد على شخصية تاريخية، تمثل وجها من وجوه دولة بنت حضارة، ونشرت الدين في الأندلس وإفريقيا، أعني دولة بني أمية، (يحكم عليها) وبينه وبينها كل هذه المفاوز العلمية والتاريخية وغيرها، من خلال منتوج مصنع صناعة عدائية، اشتغلت على مواضع الصراع، ومواضيع القلق والأزمة في الدولة الأموية، ومتى كانت الدول تخلو من الأزمات والمشكلات؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق