رشيد الخيّون
تاريخ النشر: الأربعاء 28 أكتوبر 2015
تناولت وسائل الإعلام أخبار مسجد ضريح رأس الحسين بالقاهرة، والمناسبة غلقه في التاسع والعاشر من محرم (تاسوعاء وعاشوراء)، وتباينت الآراء بين ناقل للخبر ومعارض له ومؤيد، إلا أنني سمعت تصريحاً لوزير الأوقاف المصري جاء فيه: إن المسجد لم يُغلق إنما أُغلق الضريح فقط خشية مِن أعمال إرهابية أو سلوكيات غير لائقة بصاحبه.
إلا أن ما يُنتبه إليه في مثل هذا الحدث، أن الدولة المصرية، التي تراجع فيها الإسلام السياسي، بعد تجربته في السلطة، ممثلاً في «الإخوان المسلمين»، وفشل حزب «النُّور» السلفي في الانتخابات العامة، اتخذت إجراءات مشددة تخص الواقع الديني، كالعمل على تعديل المناهج، ومنع فوضى الإفتاء، وغلق المساجد التي لا يلتزم أئمتها بالقرار، ومراقبة الخطب الدينية، ومنع دخول كتب أساطين الإسلام السياسي إلى المساجد، كحسن البنا (اغتيل 1949)، وسيد قطب (أُعدم 1966) ويوسف القرضاوي وغيرهم. إزاء هذا الوضع لا يؤخذ قرار غلق الضريح في هذين اليومين بأنه موجه ضد طائفة، ومَن أدراك فربَّما جاء هذا الإغلاق لمصلحة زواره، فمَن يضمن عدم تفجيره مثلاً؟!
ونأتي إلى قصة رأس الإمام الحسين، إنها حيرت الألباب، أن يُحتفل في كربلاء سنوياً، في العشرين مِن صفر بزيارة كبرى عُرفت بـ«مرد الرؤوس»، على أن الأسرة الشريفة عادت من الشَّام ومعها الرؤوس لتُلحق بالأبدان، وبين أن يكون الرأس بالقاهرة وبكربلاء وأماكن أُخر، فما قصة ذلك؟ هل تحول الرأس إلى تجارة سياسية ومحلاً يدر رزقاً على مَن يبنى ضريحاً لها؟ بعلبك تحتفل، بعد تأسيس «حزب الله»، بمرور الرأس عليها، ولم يُعرف هذا مِن قبل، ويُشيد ضريح على أنه ضريح ابنة الحسين التي أجهضت بها أمها، وبالقاهرة يكون للرأس مسجد ومزار، ولو أن الأمر يتحدد بطقس أو زيارة لهان، لكنه يوظف سياسياً وحزبياً، قديماً وحديثاً.
نقرأ لابن أياس (ت 1523 ميلادية) عن بناء مسجد الحسين وسط القاهرة، ناقلاً، على ما يبدو عن سبط ابن الجوزي (ت 654هـ): في 549هـ «نُقلت رأس الحُسين (رض) إلى مصر، وبنى لها الظَّافر المشهد الموجود الآن، وكانت رأس الحسين أولاً بكربلاء، مكان قتله، ثم نُقلت من كربلاء إلى دمشق، ثم نُقلت مِن دمشق إلى عسقلان، فلما استولى الفرنج (هكذا) على عسقلان خاف المسلمون على رأس الحُسين مِن الفرنج. فرسم الظَّافر بنقلها إلى مصر، فنقلت في تلك السَّنة. قيل: إن رأس الحُسين لما نُقلت مِن عسقلان إلى القاهرة أُحضرت في عِلبة مغلفة بجلد، فأنزلوها أولاً في مسجد موسى، الذي يُعرف بالركن المخلق، فأقامت به مدة حتى بني لها المشهد الموجود الآن» (بدائع الزُّهور في وقائع الدُّهور).
أما محسن الأمين (ت 1952) في «لواعج الأشجان في مقتل الحسين»، فينقل عن آخرين سبعة أماكن لمدفن الرأس: عند ضريح أبيه، مع جسده بكربلاء، في ظهر الكوفة، في البقيع عند والدته، بدمشق في مقبرة الباب الصغير مع بقية رؤوس قتلى كربلاء، نقله الفاطميون كما أتى في رواية ابن أياس. وشكك أن تكون الرأس المنقولة مِن عسقلان رأس الحُسين لا غيرها، قائلاً: «وأخذ العلويين لذلك الرأس مِن عسقلان ودفنه بمصر كأنه لا ريب فيه، لكن الشَّأن في كونه رأس الحسين»! بمعنى أن الأمين، أحد كبار علماء عصره، يسأل: هل ما نُقلت هي رأس الحُسين أم رأس غيره، وفبركت القصة لشأن ما. هذا، ولابن تيمية (ت 728هـ) كُتيب بعنوان «رأس الحسين» ينفي وجوده بعسقلان، بما لا يبتعد عنه تشكيك الأمين في نقلها إلى القاهرة.
بعد هذا، أقص رواية أخرى تاريخها (أكتوبر 2004) اعتبرها من محبطات العقول، تختصر واقعنا وشرودنا في المقدس والماضي بهذا الاندفاع الذي نسخر له مخترعات ومكتشفات العلم، الذي هو ليس علمنا، من وسائل التواصل إلى الفضائيات، سمعتها مِن أحد سدنة رأس الحُسين وسط القاهرة، لما سألته هل هذا المسجد والقبة للرأس فقط، فأجابني ممتعضاً، هنا جسد الحسين ورأسه، وأضاف: لما أتت الست زينب بالرأس، لأنها تحب أهل مصر، قامت الملائكة بجلب الجسد كاملاً إلى هنا، فقلتُ: «الآن قد أقنعتني»، وشكرته وخرجت من المسجد بحجة أقنعت ملايين الزائرين قبلي.
أقول: إنها حَيرة، ونحن في متاهة لا مدى لها، فإما أن تكون الرأس بكربلاء وينتهي أمرها بالقاهرة، وإما أن يُتفق أنها بالقاهرة وينتهي أمر زيارة مرد الروؤس بكربلاء. فليس من المعقول أن تبقى الملايين غائبة عن الوعي إلى هذا الحد، وإلى متى ستبقى الأوهام تعبث بعقولنا وتوجهها؟
تاريخ النشر: الأربعاء 28 أكتوبر 2015
تناولت وسائل الإعلام أخبار مسجد ضريح رأس الحسين بالقاهرة، والمناسبة غلقه في التاسع والعاشر من محرم (تاسوعاء وعاشوراء)، وتباينت الآراء بين ناقل للخبر ومعارض له ومؤيد، إلا أنني سمعت تصريحاً لوزير الأوقاف المصري جاء فيه: إن المسجد لم يُغلق إنما أُغلق الضريح فقط خشية مِن أعمال إرهابية أو سلوكيات غير لائقة بصاحبه.
إلا أن ما يُنتبه إليه في مثل هذا الحدث، أن الدولة المصرية، التي تراجع فيها الإسلام السياسي، بعد تجربته في السلطة، ممثلاً في «الإخوان المسلمين»، وفشل حزب «النُّور» السلفي في الانتخابات العامة، اتخذت إجراءات مشددة تخص الواقع الديني، كالعمل على تعديل المناهج، ومنع فوضى الإفتاء، وغلق المساجد التي لا يلتزم أئمتها بالقرار، ومراقبة الخطب الدينية، ومنع دخول كتب أساطين الإسلام السياسي إلى المساجد، كحسن البنا (اغتيل 1949)، وسيد قطب (أُعدم 1966) ويوسف القرضاوي وغيرهم. إزاء هذا الوضع لا يؤخذ قرار غلق الضريح في هذين اليومين بأنه موجه ضد طائفة، ومَن أدراك فربَّما جاء هذا الإغلاق لمصلحة زواره، فمَن يضمن عدم تفجيره مثلاً؟!
ونأتي إلى قصة رأس الإمام الحسين، إنها حيرت الألباب، أن يُحتفل في كربلاء سنوياً، في العشرين مِن صفر بزيارة كبرى عُرفت بـ«مرد الرؤوس»، على أن الأسرة الشريفة عادت من الشَّام ومعها الرؤوس لتُلحق بالأبدان، وبين أن يكون الرأس بالقاهرة وبكربلاء وأماكن أُخر، فما قصة ذلك؟ هل تحول الرأس إلى تجارة سياسية ومحلاً يدر رزقاً على مَن يبنى ضريحاً لها؟ بعلبك تحتفل، بعد تأسيس «حزب الله»، بمرور الرأس عليها، ولم يُعرف هذا مِن قبل، ويُشيد ضريح على أنه ضريح ابنة الحسين التي أجهضت بها أمها، وبالقاهرة يكون للرأس مسجد ومزار، ولو أن الأمر يتحدد بطقس أو زيارة لهان، لكنه يوظف سياسياً وحزبياً، قديماً وحديثاً.
نقرأ لابن أياس (ت 1523 ميلادية) عن بناء مسجد الحسين وسط القاهرة، ناقلاً، على ما يبدو عن سبط ابن الجوزي (ت 654هـ): في 549هـ «نُقلت رأس الحُسين (رض) إلى مصر، وبنى لها الظَّافر المشهد الموجود الآن، وكانت رأس الحسين أولاً بكربلاء، مكان قتله، ثم نُقلت من كربلاء إلى دمشق، ثم نُقلت مِن دمشق إلى عسقلان، فلما استولى الفرنج (هكذا) على عسقلان خاف المسلمون على رأس الحُسين مِن الفرنج. فرسم الظَّافر بنقلها إلى مصر، فنقلت في تلك السَّنة. قيل: إن رأس الحُسين لما نُقلت مِن عسقلان إلى القاهرة أُحضرت في عِلبة مغلفة بجلد، فأنزلوها أولاً في مسجد موسى، الذي يُعرف بالركن المخلق، فأقامت به مدة حتى بني لها المشهد الموجود الآن» (بدائع الزُّهور في وقائع الدُّهور).
أما محسن الأمين (ت 1952) في «لواعج الأشجان في مقتل الحسين»، فينقل عن آخرين سبعة أماكن لمدفن الرأس: عند ضريح أبيه، مع جسده بكربلاء، في ظهر الكوفة، في البقيع عند والدته، بدمشق في مقبرة الباب الصغير مع بقية رؤوس قتلى كربلاء، نقله الفاطميون كما أتى في رواية ابن أياس. وشكك أن تكون الرأس المنقولة مِن عسقلان رأس الحُسين لا غيرها، قائلاً: «وأخذ العلويين لذلك الرأس مِن عسقلان ودفنه بمصر كأنه لا ريب فيه، لكن الشَّأن في كونه رأس الحسين»! بمعنى أن الأمين، أحد كبار علماء عصره، يسأل: هل ما نُقلت هي رأس الحُسين أم رأس غيره، وفبركت القصة لشأن ما. هذا، ولابن تيمية (ت 728هـ) كُتيب بعنوان «رأس الحسين» ينفي وجوده بعسقلان، بما لا يبتعد عنه تشكيك الأمين في نقلها إلى القاهرة.
بعد هذا، أقص رواية أخرى تاريخها (أكتوبر 2004) اعتبرها من محبطات العقول، تختصر واقعنا وشرودنا في المقدس والماضي بهذا الاندفاع الذي نسخر له مخترعات ومكتشفات العلم، الذي هو ليس علمنا، من وسائل التواصل إلى الفضائيات، سمعتها مِن أحد سدنة رأس الحُسين وسط القاهرة، لما سألته هل هذا المسجد والقبة للرأس فقط، فأجابني ممتعضاً، هنا جسد الحسين ورأسه، وأضاف: لما أتت الست زينب بالرأس، لأنها تحب أهل مصر، قامت الملائكة بجلب الجسد كاملاً إلى هنا، فقلتُ: «الآن قد أقنعتني»، وشكرته وخرجت من المسجد بحجة أقنعت ملايين الزائرين قبلي.
أقول: إنها حَيرة، ونحن في متاهة لا مدى لها، فإما أن تكون الرأس بكربلاء وينتهي أمرها بالقاهرة، وإما أن يُتفق أنها بالقاهرة وينتهي أمر زيارة مرد الروؤس بكربلاء. فليس من المعقول أن تبقى الملايين غائبة عن الوعي إلى هذا الحد، وإلى متى ستبقى الأوهام تعبث بعقولنا وتوجهها؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق