قال أبو عبدالرحمن: تناول العلـماء مسيرة الزنادقة في نسبة الأكاذيب إلى شرع الله الـمطهر، وسأتناول في هذه التبريحة بعض نصوص العلـماء، وفي حديث قادم -إن شاء الله تعالى- أتناول تلك النصوص فكراً دراية ورواية. وأبدأ بنص الشيرازي - رحمه الله تعالى، قال أبو إسحاق الشيرازي (- 674هـ) عن البراهين التي يرد بها خبر الواحد: إذا روى الثقة الخبر رده بأمور منها: أن يكون مخالفاً لـموجبات (الأفصح: موجبات بلا لام قبلها) العقول مثل الأخبار التي تروى في التشبيه؛ فيعلم بذلك بطلانه، وأنه لا أصل لــه؛ لأن الشرع إنما يرد بمجوزات العقول؛ وأما بمستحيلات العقول فلا. وإذا ورد شيء من ذلك ولم يمكن تأويله يعلم أنه موضوع وكذب. يروى أن حماداً كان له ربيب زنديق؛ فكان يضع الأخبار، ويدخلها في أجزائه بخط يشبه خطه؛ فكانت تروى عنه، ويقال: إن أكثر ما يروى من التشبيه هو الذي وضعه.
قال أبو عبدالرحمن: هكذا تحدث عن هذه الظاهرة الشيخ علي القاري في كتابه (الـمصنوع في معرفة الحديث الـموضوع) ص 352-252؛ فقال: (ومنهم زنادقة وضعوا (أي وضعوا الأكاذيب) قصداً إلى إفساد الشريعة، وإيقاع الشك والتلاعب بالدين، وقد كان بعض الزنادقة يتغفل الشيخ، فيدس في كتابه ما ليس من حديثه). وعلق شيخي عبدالفتاح أبو غدة -رحمه الله تعالى بقوله: (تمام عبارة السيوطي في (اللآلئ) 864/2، وابن الجوزي في (الـموضوعات) 73/1: وذلك كفعل الزنديق (أي الـملحد عبدالكريم بن أبي العوجاء) ربيب حماد بن سلمة، وكان يدس الأحاديث في كتب حمادٍ زوج أمه. قال ابن عدي: لـما أخِذ عبدالكريم بن أبي العوجاء في عهد الخليفة الـمهدي العباسي؛ أتِي به لأمير البصرة محمد بن سليمان بن علي العباسي؛ فأمر بضرب عنقه؛ فقال: لقد وضعت فيكم أربعة آلاف حديث، أحرم فيها الحلال، وأحلل فيها الحرام) انتهى بزيادة يسيرة. قلت: وقد تكرر مثل هذا الصنيع من الزنادقة في عهد الخليفة هارون الرشيد ابن الخليفة الـمهدي؛ فقد ذكر الحافظ الذهبي في (تذكرة الحفاظ) 372/1 في ترجمة أبي إسحاق الفزاري 372/1، والحافظ ابن حجر في ترجمته أيضاً في (تهذيب التهذيب) 251/1، والحافظ السيوطي في (تاريخ الخلفاء) ص 491، والـمؤلف الشيخ علي القاري في أول (الـموضوعات الكبرى) في الفصل السادس منها: (عن ابن علية، وإسحاق بن إبراهيم قالا: أخذ هارون الرشيد زنديقاً فأمر بضرب عنقه، فقال له الزنديق: لم تضرب عنقي؟ قال: لأريح العباد منك؛ فقال: يا أمير الـمؤمنين: أين أنت من ألف حديث -وعند القاري: من أربعة آلاف حديث- وضعتها فيكم، أحرم فيها الحلال، وأحلل فيها الحرام ما قال النبي ص (الـمشروع: صلى الله عليه وسلم) منها حرفاً؟ فقال له الرشيد: أين أنت عدو الله من أبي إسحاق الفزاري، وعبدالله بن الـمبارك؟ ينخلانها؛ فيخرجانها حرفاً حرفاً؟). وقال ابن حجر في تهذيب التهذيب 41-31/3 : (وقال الدولابي: حدثنا محمد بن شجاع البلخي: حدثني إبراهيم بن عبدالرحمن بن مهدي قال: كان حماد بن سلمة لا يعترف بهذه الأحاديث التي في الصفات حتى خرج مرة إلى عبادان؛ فجاء وهو يرويها؛ فسمعت عباد بن صهيب يقول: إن حماداً كان لا يحفظ، وكانوا يقولون: إنها دست في كتبه، وقد قيل: إن ابن أبي العوجاء كان ربيبه؛ فكان يدس في كتبه. قرأت بخط الذهبي: ابن البلخي ليس بمصدقٍ على حماد وأمثاله؛ وقد اتهم (بل اعترف بأكثر مما اتهم به). قلت: وعباد أيضاً ليس بشيءٍ، وقد قال أبو داود: لم يكن لحماد بن سلمة كتاب غير كتاب قيس بن سعد؛ يعني كان يحفظ علمه (يعني علم قيس)، وقال عبدالله بن أحمد: عن أبيه: ضاع كتاب حمادٍ عن قيس بن سعد، وكان يحدثهم من حفظه (في هذا إشارة إلى أن تحديثه من حفظه مظنة للخطأ). وأورد له ابن عدي في (الكامل) عدة أحاديث مما ينفرد به متناً أو إسناداً. قال: وحماد من أجلة الـمسلمين، وهو مفتي البصرة، وقد حدث عنه من هو أكبر منه سناً، وله أحاديث كثيرة، وأصناف كثيرة، ومشايخ، وهو كما قال ابن الـمديني: من تكلم في حماد بن سلمة فاتهموه في الدين). وقال جمال الدين أبو الحجاج المزي في (تهذيب الكمال) 762/7: (قال أبو حاتم بن حبان: حماد بن سلمة بن دينار الخزاز كنيته أبو سلمة، وكنية سلمة: أبو صخرة، مولى حميد بن كراثة، ويقال: مولى قريش، وقد قيل: إنه حميري؛ وكان من العباد الـمجابين الدعوة في الأوقات (أي التي هي مضنة قبول الدعاء كالثلث الآخر من الليل)، ولم ينصف من جانب حديثه، (قال الدكتور بشار عواد معروف في تحشيته على (تهذيب الكمال): (يعرض ابن حبان هنا بمحمد بن إسماعيل البخاري صاحب (الصحيح)، وقد رد (عليه) ابن حبان رداً قوياً في مقدمة صحيحه 711- 411 بسبب عدم تخريجه له)، ثم قال المزي بعد قوله: (ولم ينصف من جانب حديثه واحتج بأبي بكر بن عياش في كتابه، وبابن أخي الزهري، وبعبدالرحمن بن عبدالله بن دينار (أي ترك الاحتجاج بحديث أبي سلمة في حين احتجاجه بأولئك)؛ فإن كان تركه إياه لـما -اللام في (لـما) للتعليل- كان يخطئ: فغيره من أقرانه مثل الثوري، وشعبة، وذويهما: كانوا يخطئون؛ فإن زعم أن خطأه قد كثر من تغير حفظه؛ فقد كان ذلك في أبي بكر بن عياش موجوداً، وأنى يبلغ أبو بكر حماد بن سلمة؟! -قال أبو عبدالرحمن: العبارة قلقة؛ لأن فيها حذفاً تقديره (فأنى يبلغ أبو بكر بن عياش ورفاقه مبلغ حماد-)، ولم يكن من أقران حماد بن سلمة بالبصرة مثله في الفضل، والدين، والنسك، والعلم، والكتبة، والجمع، والصلابة في السنة، والقمع لأهل البدع، ولم يكن يثلبه في أيامه إلا معتزلي قدري، أو مبتدع جهمي؛ لـما كان يظهر من السنن الصحيحة التي ينكرها الـمعتزلة، وأنى يبلغ أبو بكر بن عياش (التقدير كما مر: مبلغ) حماد بن سلمة في إتقانه، أم في جمعه، أم في علمه، أم في ضبطه؟!). وقال أبو الحسن بن عراق في (تنزيه الشريعة) 61 - 51 / 1 عن الصنف السابع ممن يرد عندهم الـموضوع: (قوم وقع الـموضوع في حديثهم، ولم يتعمدوا الوضع كمن يغلط فيضيف إلى النبي ص (الـمشروع: صلى الله عليه وسلم) كلام بعض الصحابة أو غيرهم، وكمن ابتلي بمن يدس في حديثه ما ليس منه كما وقع ذلك لحماد بن سلمة مع ربيبه عبدالكريم بن أبي العوجاء، وكما وقع لسفيان بن وكيع مع وراقه قرطمة، ولعبدالله بن صالح كاتب الليث مع جاره، وكمن تدخل عليه آفة في حفظه، أو في بصره، أو في كتابه؛ فيروي ما ليس من حديثه غالطاً. قال ابن الصلاح: وأشد هذه الأصناف ضرراً أهل الزهد؛ لأنهم للثقة بهم، وتوسم الخير فيهم: يقبل موضوعاتهم كثير ممن هو على نمطهم في الجهل، ورقة في الدين. قال الحافظ ابن حجر: (ويلتحق بالزهاد في ذلك الـمتفقهة الذين استجازوا نسبة ما دل عليه القياس إلى النبي ص.. ( بل: صلى الله عليه وسلم). قال: وأخفى (الصوب: وأشدهم خفاءً) الأصناف الصنف الأخير الذين لم يتعمدوا (أي وضع الأكاذيب) مع وصفهم بالصدق.. وأما بقية الأصناف فالأمر فيهم أسهل؛ لأن كون تلك الأحاديث كذباً لا تخفى إلا على الأغبياء). وذكر ابن الجوزي في مقدمة كتابه (الـموضوعات): (أن زيد بن حماد بن سلمة كان يدس الأحاديث في كتب أبيه على ما قيل)، وتابعه الذهبي في ميزان الاعتدال 201/2، وابن عراق في (تنزيه الشريعة) 16/1، إلا أن ابن حجر أنكر هذه الشخصية، قال في (لسان الـميزان) 326/2 : (وهذا شيء لا أصل له، ولا وجود لهذا الرجل، وما أدري هذه الحكاية لابن الجوزي من أين؟! فقد قال الإمام أحمد رضي الله عنه: (من علامة الأبدال (الأبدال والغوث من اصطلاحات الصوفية أهل الحلول والاتحاد)؛ أنه لا يولد لهم، وكان حماد بن سلمة من الأبدال (حاشا أن يكون حماد من أبدال الحلول والاتحاد؛ فلعل الإمام رحمه الله تعالى: إنما أخبر عن كون حماد لم يولد له؛ ليظهر للقارئ أن ذلك هو سبب وصف بعض الناس أنه من أبدال الصوفية)؛ وذلك بقوله: ولم يولد له). وقال ابن حبان في كتاب الـمجروحين ص77 - 87: (قال أبو هاشم: ومنهم من امتحن بابن سوءٍ، أو وراق سوءٍ كانوا يضعون له الحديث، وقد أمن الشيخ ناصيتهم، فكانوا يقرؤون عليه، ويقولون له: هذا من حديثك؛ فيحدث به؛ فالشيخ في نفسه ثقة إلا أنه لا يجوز الاحتجاج بأخباره، ولا الرواية عنه؛ لما خالط أخباره الصحيحة الأحاديث الـموضوعة، وجماعة من أهل الـمدينة امتحنوا حبيب بن أبي حبيب الوراق؛ كان يدخل عليهم الحديث؛ فمن سمع (أي سمع حبيباً) بقراءته عليهم فسماعه لا شيء؛ وكذلك كان عبدالله بن ربيعة القدامي بالـمصيصة؛ كان له ابن سوءٍ يدخل عليه الحديث عن مالك، وإبراهيم بن سعد، وذويهم، وكان منهم سفيان بن وكيع بن الجراح، وكان له وراق يقال له: قرطمة يدخل عليه الحديث في جماعةٍ مثل هؤلاء بكثير عددهم. أخبرني محمد بن عبدالله بن عبدالسلام ببيروت: حدثنا جعفر بن أبان الحافظ قال: سألت ابن نمير عن قيس بن الربيع؛ فقال: كان له ابن هوايته نظر أصحاب الحديث في كتبه؛ فأنكروا حديثه، وظنوا أن ابنه قد غيرها). وأما أن ابن العوجاء ربيب حماد فيبدو أنها من إشاعة ابن شجاع، وقد ذكر الـمحققون ابن أبي العوجاء، ولم يذكروا علاقته بحماد، قال الذهبي في ميزان الاعتدال 446/2 : (عبدالكريم بن أبي العوجاء خال معن بن زائدة زنديق معثر، قال أبو أحمد ابن عدي: لـما أخذ لتضرب عنقه قال: لقد وضعت فيكم أربعة آلاف حديث أحرم فيها الحلال، وأحلل الحرام، قتله محمد بن سليمان العباسي الأمير بالبصرة). وأضاف ابن حجر في لسان الـميزان 26 - 16/4: (وذكر أبو الفرج الأصفهاني في كتاب الأغاني عن جرير بن حازم: كان بالبصرة ستة من أصحاب الكلام: واصل بن عطاء، وعمرو بن عبيد، وبشار بن برد، وصالح بن عبدالقدوس، وعبدالكريم بن أبي العوجاء، ورجل من الأزد؛ فكانوا يجتمعون في منزل الأزدي؛ فأما عمرو، وواصل فصارا إلى الاعتزال، وأما عبدالكريم، وصالح فصححا التنويه، وأما بشار فبقي متحيراً، قال: وكان عبدالكريم يفسد الأحداث؛ فتهدده عمرو بن عبيد؛ فلحق بالكوفة؛ فدل عليه محمد بن سليمان؛ فقتله وصلبه؛ وذلك في زمن الـمهدي، وفيه يقول بشار بن برد:
قل لعبد الكــريـم يابن أبي العــــو (م)
جـاء بعت الإسلام بالكفـر مـوقـــا
(كلمة (موقا) اسم الفاعل فيها (مائق)؛ وهي كلمة قلقة غير موفقةٍ من شاعر فحل).
لا تصلي ولا تصوم فــــإن صمت (م)
صمت بعـض النهـار صومــاً رقيقــــا
(لا في تصلي ولا تصوم نافية، وليست ناهيةً؛ لهذا لا تجزم كلمة: تصوم).
ما تبالي إذا شربت مـــن الخمـــر
عتيقــــاً أو لا يــكــــون عتيقـــــا
وله ذكر في ترجمة صالح بن عبدالقدوس؛ وكان قتله في خلافة الـمهدي بعد الستين -الصواب: بعد ستين؛ لأنه لا معهود لـ (ال) لا حضورياً، ولا ذكرياً، ولا علمياً- ومئة، وأما ابن شجاع فقال عنه الذهبي في ميزان الاعتدال975-775/3 : (محمد بن شجاع بن الثلجي الفقيه البغدادي الحنفي أبو عبدالله صاحب التصانيف: قرأ على اليزيدي، وروى عن ابن علـية، ووكيع، وتفقه على الحسن بن زياد اللؤلؤي وغيره، وآخر من حدث عنه محمد بن أحمد بن يعقوب بن شيبة، قال ابن عدي: كان يضع الأحاديث في التشبيه ينسبها إلى أصحاب الحديث يسابهم بذلك. قلت: جاء من غير وجهٍ أنه كان ينال من أحمد وأصحابه، ويقول: إيش قام به أحمد؟! قال الـمروزي: أتيته ولمته؛ فقال: إنما أقول كلام الله كما أقول: سماء الله، وأرض الله (يعني مذهبه أن القرآن مخلوق كما أن سماء الله مخلوقة). وكان الـمتوكل هم بتوليته القضاء؛ فقيل له: هو من أصحاب بشرٍ الـمريسي؛ فقال: (نحن بعد في بشرٍ) (أي لا نزال في بشر الـمريسي ذي الضلال الشنيع)؛ فقطع الكتاب جذاذاتٍ؛ فسمعت علي بن الجهم يقول لأبي عبدالله ونحن بالعسكر: أمر ابن الثلجي أن إسحاق بن إبراهيم (يعني متولى بغداد) كلم الـمتوكل أن يوليه القضاء؛ فدخلت وبين يديه ثلاثة كتبٍ يريد أن يختمها، وبين يديه بطيخ كثير؛ فجاء رسول إسحاق ينجز الكتب (أي يريد إنجازه)؛ فقال لي الـمتوكل: يا علي: من محمد بن شجاع هذا؟ فقد ألح على إسحاق في سببه!؟ فقلت: يا أمير الـمؤمنين: هذا من أصحاب بشر الـمريسي؛ فقال: ذلك! (أي ما دام هذا هو الشأن)، وقطع الكتاب، فانصرف الرسول، فجاء إسحاق؛ فنمت إليه (أي نُمَّ إلى الـمتوكل اقتراحي (والـمقترح والي بغداد إسحاق بن إبراهيم) تولية ابن الثلجي القضاء)؛ فرأيت الكراهية في وجهه؛ فكان ذاك سبب تسييري إلى استيجاب؛ وجعل ابن الثلجي يقول: أصحاب أحمد بن حنبل يحتاجون أن يذبحوا، وقال لي حسن بن البزاز: قال لي عبدالسلام القاضي: سمعت ابن الثلجي يقول: عند أحمد بن حنبلٍ كتب الزندقة (قال أبو عبدالرحمن: حسبنا الله ونعم الوكيل)، وروى الـمروزي: حدثنا أبو إسحاق الهاشمي: سمعت الزيادي يقول: أشهدنا ابن الثلاج وصيته؛ وكان فيها: ولا يعطى من ثلثي إلا من قال: القرآن مخلوق، وروى ابن عدي: عن موسى بن القاسم بن الأشيب قال: كان ابن الثلجي يقول: ومن كان الشافعي؟! إنما كان يصحب بربراً الـمغني؛ فلـما حضرته الوفاة قال: رحم الله الشافعي، وذكر علمه، وقال: قد رجعت عما كنت أقول فيه. وقال الحاكم: رأيت عند محمد بن أحمد بن موسى القمي: عن أبيه: عن محمد بن شجاع كتاب الـمناسك في نيف وستين جزءاً كباراً دقاقاً، قلت: وكان مع هناته ذا تلاوة وتعبدٍ، ومات ساجداً في صلاة العصر، ويرحم إن شاء الله.
قال أبو عبدالرحمن: عجيب قول الحاكم رحمه الله تعالى: (ويرحم إن شاء الله تعالى؟!)؛ لأنه ذو تلاوة وتعبدٍ!! وما تلاوته وتعبده إلا كتلاوة وتعبد من قال الله عنهم: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ، وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ، عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ، تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً، تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ، لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِن ضَرِيعٍ، لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِن جُوعٍ) (الغاشية7-1/). ومرتزقة الصوفية من أهل التغبير والحلول والاتحاد والإلهام (وهو إيحاء الشياطين)، تبعهم فريقان: قوم حلوليون مخدوعون ظنوا أن وحي الشياطين إيحاء من الله؛ فجعلوا ذلك الوحي فوق وحي الله بمقولاتٍ كثيرة عن الحقيقة والطريقة؛ ولكل شيخٍ حلولي اتحادي طريق؛. والفريق الثاني: حلوليون اتحاديون مرتزقة يعلمون ضلال من جعلوهم شيوخها، ولكن أرادوا مشاركتهم في الغنيمة من كرم الـمريدين، ومن السيادة بين قومهم؛ وقد تقصيت ذلك في كتيبي الصغير حجمه العظيم نفعه (ملاعب الوثنية). وابن شجاعٍ مات سنة ست وستين ومئتين عن ست وثمانين سنة، وقال أبو زكريا الساجي: محمد بن شجاع كذاب احتال في إبطال الحديث نصرةً للرأي (بل نصرةً لكفره وشعوبيته؛ ليقتنص من الـمسلمين من يخرج عن دينه، وينسب إلى دين الله الكفر البواح)، وقال أحمد بن كامل: كان فقيه العراق في وقته، وقال أبو الحسين بن الـمنادى: كان يتفقه ويقرئ الناس القرآن، مات فجأة في ذي الحجة. وقال ابن عدي: روى ابن الثلجي: عن حبان بن هلال (وحبان ثقة): عن حماد بن سلمة: عن أبي الـمهزم: عن أبي هريرة (رضي الله عنه): عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله خلق الفرس؛ فأجراها؛ فعرقت، ثم خلق نفسه منها، قلت: هذا مع كونه من أبين الكذب هو من وضع الجهمية؛ ليذكروه في معرض الاحتجاج به على أن نفسه اسم لشيءٍ من مخلوقاته؛ فكذلك إضافة كلامه إليه من هذا القبيل إضافة ملكٍ وتشريف كبيت الله وناقة الله، ثم يقولون: إذا كان نفسه تعالى إضافة ملك فكلامه إضافة ملكٍ بالأولى، وعلى كل حال فما عد مسلم هذا في أحاديث الصفات تعالى الله عن ذلك، وإنما أثبتوا النفس بقوله: ولا أعلم ما في نفسك).
قال أبو عبدالرحمن: قبح الله هذا الكفر الأرعن، ولعن قائله لعناً لا نهاية له؛ فكيف يجري الفرس عند خلقه إياه حتى عرقت، ثم يخلق نفسه منها؟! ألم يكن هو الذي خلق الفرس بدءاً؛ فكيف خلق فيما بعد من هو خالق موجود بدءاً. إن الـمحالات من كفر أعداء الله الشعوبيين ذوي الذحول من الأمم الـمغلوبة؛ برهان قاطع على أن الأتباع من غير ذوي الذحول تحرروا من دين ربهم الحق بعد ما تبين لهم أنه الحق؛ فكانوا من أصحاب الغاشية، وكانوا ممن قال الله عنهم: (وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ) (سورة يونس/100) بعد ما بين لهم أنه لا مشيئة إلا بإذن الله؛ وذلك يعني الأخذ بالأسباب التي تعصم من الكفر كما أخذوا بأسباب العلاج من الأمراض، وتحصيل الرزق.
وإلى لقاء فـي الشهر القادم إن شاء الله تعالى، والله المستعان.
قال أبو عبدالرحمن: هكذا تحدث عن هذه الظاهرة الشيخ علي القاري في كتابه (الـمصنوع في معرفة الحديث الـموضوع) ص 352-252؛ فقال: (ومنهم زنادقة وضعوا (أي وضعوا الأكاذيب) قصداً إلى إفساد الشريعة، وإيقاع الشك والتلاعب بالدين، وقد كان بعض الزنادقة يتغفل الشيخ، فيدس في كتابه ما ليس من حديثه). وعلق شيخي عبدالفتاح أبو غدة -رحمه الله تعالى بقوله: (تمام عبارة السيوطي في (اللآلئ) 864/2، وابن الجوزي في (الـموضوعات) 73/1: وذلك كفعل الزنديق (أي الـملحد عبدالكريم بن أبي العوجاء) ربيب حماد بن سلمة، وكان يدس الأحاديث في كتب حمادٍ زوج أمه. قال ابن عدي: لـما أخِذ عبدالكريم بن أبي العوجاء في عهد الخليفة الـمهدي العباسي؛ أتِي به لأمير البصرة محمد بن سليمان بن علي العباسي؛ فأمر بضرب عنقه؛ فقال: لقد وضعت فيكم أربعة آلاف حديث، أحرم فيها الحلال، وأحلل فيها الحرام) انتهى بزيادة يسيرة. قلت: وقد تكرر مثل هذا الصنيع من الزنادقة في عهد الخليفة هارون الرشيد ابن الخليفة الـمهدي؛ فقد ذكر الحافظ الذهبي في (تذكرة الحفاظ) 372/1 في ترجمة أبي إسحاق الفزاري 372/1، والحافظ ابن حجر في ترجمته أيضاً في (تهذيب التهذيب) 251/1، والحافظ السيوطي في (تاريخ الخلفاء) ص 491، والـمؤلف الشيخ علي القاري في أول (الـموضوعات الكبرى) في الفصل السادس منها: (عن ابن علية، وإسحاق بن إبراهيم قالا: أخذ هارون الرشيد زنديقاً فأمر بضرب عنقه، فقال له الزنديق: لم تضرب عنقي؟ قال: لأريح العباد منك؛ فقال: يا أمير الـمؤمنين: أين أنت من ألف حديث -وعند القاري: من أربعة آلاف حديث- وضعتها فيكم، أحرم فيها الحلال، وأحلل فيها الحرام ما قال النبي ص (الـمشروع: صلى الله عليه وسلم) منها حرفاً؟ فقال له الرشيد: أين أنت عدو الله من أبي إسحاق الفزاري، وعبدالله بن الـمبارك؟ ينخلانها؛ فيخرجانها حرفاً حرفاً؟). وقال ابن حجر في تهذيب التهذيب 41-31/3 : (وقال الدولابي: حدثنا محمد بن شجاع البلخي: حدثني إبراهيم بن عبدالرحمن بن مهدي قال: كان حماد بن سلمة لا يعترف بهذه الأحاديث التي في الصفات حتى خرج مرة إلى عبادان؛ فجاء وهو يرويها؛ فسمعت عباد بن صهيب يقول: إن حماداً كان لا يحفظ، وكانوا يقولون: إنها دست في كتبه، وقد قيل: إن ابن أبي العوجاء كان ربيبه؛ فكان يدس في كتبه. قرأت بخط الذهبي: ابن البلخي ليس بمصدقٍ على حماد وأمثاله؛ وقد اتهم (بل اعترف بأكثر مما اتهم به). قلت: وعباد أيضاً ليس بشيءٍ، وقد قال أبو داود: لم يكن لحماد بن سلمة كتاب غير كتاب قيس بن سعد؛ يعني كان يحفظ علمه (يعني علم قيس)، وقال عبدالله بن أحمد: عن أبيه: ضاع كتاب حمادٍ عن قيس بن سعد، وكان يحدثهم من حفظه (في هذا إشارة إلى أن تحديثه من حفظه مظنة للخطأ). وأورد له ابن عدي في (الكامل) عدة أحاديث مما ينفرد به متناً أو إسناداً. قال: وحماد من أجلة الـمسلمين، وهو مفتي البصرة، وقد حدث عنه من هو أكبر منه سناً، وله أحاديث كثيرة، وأصناف كثيرة، ومشايخ، وهو كما قال ابن الـمديني: من تكلم في حماد بن سلمة فاتهموه في الدين). وقال جمال الدين أبو الحجاج المزي في (تهذيب الكمال) 762/7: (قال أبو حاتم بن حبان: حماد بن سلمة بن دينار الخزاز كنيته أبو سلمة، وكنية سلمة: أبو صخرة، مولى حميد بن كراثة، ويقال: مولى قريش، وقد قيل: إنه حميري؛ وكان من العباد الـمجابين الدعوة في الأوقات (أي التي هي مضنة قبول الدعاء كالثلث الآخر من الليل)، ولم ينصف من جانب حديثه، (قال الدكتور بشار عواد معروف في تحشيته على (تهذيب الكمال): (يعرض ابن حبان هنا بمحمد بن إسماعيل البخاري صاحب (الصحيح)، وقد رد (عليه) ابن حبان رداً قوياً في مقدمة صحيحه 711- 411 بسبب عدم تخريجه له)، ثم قال المزي بعد قوله: (ولم ينصف من جانب حديثه واحتج بأبي بكر بن عياش في كتابه، وبابن أخي الزهري، وبعبدالرحمن بن عبدالله بن دينار (أي ترك الاحتجاج بحديث أبي سلمة في حين احتجاجه بأولئك)؛ فإن كان تركه إياه لـما -اللام في (لـما) للتعليل- كان يخطئ: فغيره من أقرانه مثل الثوري، وشعبة، وذويهما: كانوا يخطئون؛ فإن زعم أن خطأه قد كثر من تغير حفظه؛ فقد كان ذلك في أبي بكر بن عياش موجوداً، وأنى يبلغ أبو بكر حماد بن سلمة؟! -قال أبو عبدالرحمن: العبارة قلقة؛ لأن فيها حذفاً تقديره (فأنى يبلغ أبو بكر بن عياش ورفاقه مبلغ حماد-)، ولم يكن من أقران حماد بن سلمة بالبصرة مثله في الفضل، والدين، والنسك، والعلم، والكتبة، والجمع، والصلابة في السنة، والقمع لأهل البدع، ولم يكن يثلبه في أيامه إلا معتزلي قدري، أو مبتدع جهمي؛ لـما كان يظهر من السنن الصحيحة التي ينكرها الـمعتزلة، وأنى يبلغ أبو بكر بن عياش (التقدير كما مر: مبلغ) حماد بن سلمة في إتقانه، أم في جمعه، أم في علمه، أم في ضبطه؟!). وقال أبو الحسن بن عراق في (تنزيه الشريعة) 61 - 51 / 1 عن الصنف السابع ممن يرد عندهم الـموضوع: (قوم وقع الـموضوع في حديثهم، ولم يتعمدوا الوضع كمن يغلط فيضيف إلى النبي ص (الـمشروع: صلى الله عليه وسلم) كلام بعض الصحابة أو غيرهم، وكمن ابتلي بمن يدس في حديثه ما ليس منه كما وقع ذلك لحماد بن سلمة مع ربيبه عبدالكريم بن أبي العوجاء، وكما وقع لسفيان بن وكيع مع وراقه قرطمة، ولعبدالله بن صالح كاتب الليث مع جاره، وكمن تدخل عليه آفة في حفظه، أو في بصره، أو في كتابه؛ فيروي ما ليس من حديثه غالطاً. قال ابن الصلاح: وأشد هذه الأصناف ضرراً أهل الزهد؛ لأنهم للثقة بهم، وتوسم الخير فيهم: يقبل موضوعاتهم كثير ممن هو على نمطهم في الجهل، ورقة في الدين. قال الحافظ ابن حجر: (ويلتحق بالزهاد في ذلك الـمتفقهة الذين استجازوا نسبة ما دل عليه القياس إلى النبي ص.. ( بل: صلى الله عليه وسلم). قال: وأخفى (الصوب: وأشدهم خفاءً) الأصناف الصنف الأخير الذين لم يتعمدوا (أي وضع الأكاذيب) مع وصفهم بالصدق.. وأما بقية الأصناف فالأمر فيهم أسهل؛ لأن كون تلك الأحاديث كذباً لا تخفى إلا على الأغبياء). وذكر ابن الجوزي في مقدمة كتابه (الـموضوعات): (أن زيد بن حماد بن سلمة كان يدس الأحاديث في كتب أبيه على ما قيل)، وتابعه الذهبي في ميزان الاعتدال 201/2، وابن عراق في (تنزيه الشريعة) 16/1، إلا أن ابن حجر أنكر هذه الشخصية، قال في (لسان الـميزان) 326/2 : (وهذا شيء لا أصل له، ولا وجود لهذا الرجل، وما أدري هذه الحكاية لابن الجوزي من أين؟! فقد قال الإمام أحمد رضي الله عنه: (من علامة الأبدال (الأبدال والغوث من اصطلاحات الصوفية أهل الحلول والاتحاد)؛ أنه لا يولد لهم، وكان حماد بن سلمة من الأبدال (حاشا أن يكون حماد من أبدال الحلول والاتحاد؛ فلعل الإمام رحمه الله تعالى: إنما أخبر عن كون حماد لم يولد له؛ ليظهر للقارئ أن ذلك هو سبب وصف بعض الناس أنه من أبدال الصوفية)؛ وذلك بقوله: ولم يولد له). وقال ابن حبان في كتاب الـمجروحين ص77 - 87: (قال أبو هاشم: ومنهم من امتحن بابن سوءٍ، أو وراق سوءٍ كانوا يضعون له الحديث، وقد أمن الشيخ ناصيتهم، فكانوا يقرؤون عليه، ويقولون له: هذا من حديثك؛ فيحدث به؛ فالشيخ في نفسه ثقة إلا أنه لا يجوز الاحتجاج بأخباره، ولا الرواية عنه؛ لما خالط أخباره الصحيحة الأحاديث الـموضوعة، وجماعة من أهل الـمدينة امتحنوا حبيب بن أبي حبيب الوراق؛ كان يدخل عليهم الحديث؛ فمن سمع (أي سمع حبيباً) بقراءته عليهم فسماعه لا شيء؛ وكذلك كان عبدالله بن ربيعة القدامي بالـمصيصة؛ كان له ابن سوءٍ يدخل عليه الحديث عن مالك، وإبراهيم بن سعد، وذويهم، وكان منهم سفيان بن وكيع بن الجراح، وكان له وراق يقال له: قرطمة يدخل عليه الحديث في جماعةٍ مثل هؤلاء بكثير عددهم. أخبرني محمد بن عبدالله بن عبدالسلام ببيروت: حدثنا جعفر بن أبان الحافظ قال: سألت ابن نمير عن قيس بن الربيع؛ فقال: كان له ابن هوايته نظر أصحاب الحديث في كتبه؛ فأنكروا حديثه، وظنوا أن ابنه قد غيرها). وأما أن ابن العوجاء ربيب حماد فيبدو أنها من إشاعة ابن شجاع، وقد ذكر الـمحققون ابن أبي العوجاء، ولم يذكروا علاقته بحماد، قال الذهبي في ميزان الاعتدال 446/2 : (عبدالكريم بن أبي العوجاء خال معن بن زائدة زنديق معثر، قال أبو أحمد ابن عدي: لـما أخذ لتضرب عنقه قال: لقد وضعت فيكم أربعة آلاف حديث أحرم فيها الحلال، وأحلل الحرام، قتله محمد بن سليمان العباسي الأمير بالبصرة). وأضاف ابن حجر في لسان الـميزان 26 - 16/4: (وذكر أبو الفرج الأصفهاني في كتاب الأغاني عن جرير بن حازم: كان بالبصرة ستة من أصحاب الكلام: واصل بن عطاء، وعمرو بن عبيد، وبشار بن برد، وصالح بن عبدالقدوس، وعبدالكريم بن أبي العوجاء، ورجل من الأزد؛ فكانوا يجتمعون في منزل الأزدي؛ فأما عمرو، وواصل فصارا إلى الاعتزال، وأما عبدالكريم، وصالح فصححا التنويه، وأما بشار فبقي متحيراً، قال: وكان عبدالكريم يفسد الأحداث؛ فتهدده عمرو بن عبيد؛ فلحق بالكوفة؛ فدل عليه محمد بن سليمان؛ فقتله وصلبه؛ وذلك في زمن الـمهدي، وفيه يقول بشار بن برد:
قل لعبد الكــريـم يابن أبي العــــو (م)
جـاء بعت الإسلام بالكفـر مـوقـــا
(كلمة (موقا) اسم الفاعل فيها (مائق)؛ وهي كلمة قلقة غير موفقةٍ من شاعر فحل).
لا تصلي ولا تصوم فــــإن صمت (م)
صمت بعـض النهـار صومــاً رقيقــــا
(لا في تصلي ولا تصوم نافية، وليست ناهيةً؛ لهذا لا تجزم كلمة: تصوم).
ما تبالي إذا شربت مـــن الخمـــر
عتيقــــاً أو لا يــكــــون عتيقـــــا
وله ذكر في ترجمة صالح بن عبدالقدوس؛ وكان قتله في خلافة الـمهدي بعد الستين -الصواب: بعد ستين؛ لأنه لا معهود لـ (ال) لا حضورياً، ولا ذكرياً، ولا علمياً- ومئة، وأما ابن شجاع فقال عنه الذهبي في ميزان الاعتدال975-775/3 : (محمد بن شجاع بن الثلجي الفقيه البغدادي الحنفي أبو عبدالله صاحب التصانيف: قرأ على اليزيدي، وروى عن ابن علـية، ووكيع، وتفقه على الحسن بن زياد اللؤلؤي وغيره، وآخر من حدث عنه محمد بن أحمد بن يعقوب بن شيبة، قال ابن عدي: كان يضع الأحاديث في التشبيه ينسبها إلى أصحاب الحديث يسابهم بذلك. قلت: جاء من غير وجهٍ أنه كان ينال من أحمد وأصحابه، ويقول: إيش قام به أحمد؟! قال الـمروزي: أتيته ولمته؛ فقال: إنما أقول كلام الله كما أقول: سماء الله، وأرض الله (يعني مذهبه أن القرآن مخلوق كما أن سماء الله مخلوقة). وكان الـمتوكل هم بتوليته القضاء؛ فقيل له: هو من أصحاب بشرٍ الـمريسي؛ فقال: (نحن بعد في بشرٍ) (أي لا نزال في بشر الـمريسي ذي الضلال الشنيع)؛ فقطع الكتاب جذاذاتٍ؛ فسمعت علي بن الجهم يقول لأبي عبدالله ونحن بالعسكر: أمر ابن الثلجي أن إسحاق بن إبراهيم (يعني متولى بغداد) كلم الـمتوكل أن يوليه القضاء؛ فدخلت وبين يديه ثلاثة كتبٍ يريد أن يختمها، وبين يديه بطيخ كثير؛ فجاء رسول إسحاق ينجز الكتب (أي يريد إنجازه)؛ فقال لي الـمتوكل: يا علي: من محمد بن شجاع هذا؟ فقد ألح على إسحاق في سببه!؟ فقلت: يا أمير الـمؤمنين: هذا من أصحاب بشر الـمريسي؛ فقال: ذلك! (أي ما دام هذا هو الشأن)، وقطع الكتاب، فانصرف الرسول، فجاء إسحاق؛ فنمت إليه (أي نُمَّ إلى الـمتوكل اقتراحي (والـمقترح والي بغداد إسحاق بن إبراهيم) تولية ابن الثلجي القضاء)؛ فرأيت الكراهية في وجهه؛ فكان ذاك سبب تسييري إلى استيجاب؛ وجعل ابن الثلجي يقول: أصحاب أحمد بن حنبل يحتاجون أن يذبحوا، وقال لي حسن بن البزاز: قال لي عبدالسلام القاضي: سمعت ابن الثلجي يقول: عند أحمد بن حنبلٍ كتب الزندقة (قال أبو عبدالرحمن: حسبنا الله ونعم الوكيل)، وروى الـمروزي: حدثنا أبو إسحاق الهاشمي: سمعت الزيادي يقول: أشهدنا ابن الثلاج وصيته؛ وكان فيها: ولا يعطى من ثلثي إلا من قال: القرآن مخلوق، وروى ابن عدي: عن موسى بن القاسم بن الأشيب قال: كان ابن الثلجي يقول: ومن كان الشافعي؟! إنما كان يصحب بربراً الـمغني؛ فلـما حضرته الوفاة قال: رحم الله الشافعي، وذكر علمه، وقال: قد رجعت عما كنت أقول فيه. وقال الحاكم: رأيت عند محمد بن أحمد بن موسى القمي: عن أبيه: عن محمد بن شجاع كتاب الـمناسك في نيف وستين جزءاً كباراً دقاقاً، قلت: وكان مع هناته ذا تلاوة وتعبدٍ، ومات ساجداً في صلاة العصر، ويرحم إن شاء الله.
قال أبو عبدالرحمن: عجيب قول الحاكم رحمه الله تعالى: (ويرحم إن شاء الله تعالى؟!)؛ لأنه ذو تلاوة وتعبدٍ!! وما تلاوته وتعبده إلا كتلاوة وتعبد من قال الله عنهم: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ، وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ، عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ، تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً، تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ، لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِن ضَرِيعٍ، لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِن جُوعٍ) (الغاشية7-1/). ومرتزقة الصوفية من أهل التغبير والحلول والاتحاد والإلهام (وهو إيحاء الشياطين)، تبعهم فريقان: قوم حلوليون مخدوعون ظنوا أن وحي الشياطين إيحاء من الله؛ فجعلوا ذلك الوحي فوق وحي الله بمقولاتٍ كثيرة عن الحقيقة والطريقة؛ ولكل شيخٍ حلولي اتحادي طريق؛. والفريق الثاني: حلوليون اتحاديون مرتزقة يعلمون ضلال من جعلوهم شيوخها، ولكن أرادوا مشاركتهم في الغنيمة من كرم الـمريدين، ومن السيادة بين قومهم؛ وقد تقصيت ذلك في كتيبي الصغير حجمه العظيم نفعه (ملاعب الوثنية). وابن شجاعٍ مات سنة ست وستين ومئتين عن ست وثمانين سنة، وقال أبو زكريا الساجي: محمد بن شجاع كذاب احتال في إبطال الحديث نصرةً للرأي (بل نصرةً لكفره وشعوبيته؛ ليقتنص من الـمسلمين من يخرج عن دينه، وينسب إلى دين الله الكفر البواح)، وقال أحمد بن كامل: كان فقيه العراق في وقته، وقال أبو الحسين بن الـمنادى: كان يتفقه ويقرئ الناس القرآن، مات فجأة في ذي الحجة. وقال ابن عدي: روى ابن الثلجي: عن حبان بن هلال (وحبان ثقة): عن حماد بن سلمة: عن أبي الـمهزم: عن أبي هريرة (رضي الله عنه): عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله خلق الفرس؛ فأجراها؛ فعرقت، ثم خلق نفسه منها، قلت: هذا مع كونه من أبين الكذب هو من وضع الجهمية؛ ليذكروه في معرض الاحتجاج به على أن نفسه اسم لشيءٍ من مخلوقاته؛ فكذلك إضافة كلامه إليه من هذا القبيل إضافة ملكٍ وتشريف كبيت الله وناقة الله، ثم يقولون: إذا كان نفسه تعالى إضافة ملك فكلامه إضافة ملكٍ بالأولى، وعلى كل حال فما عد مسلم هذا في أحاديث الصفات تعالى الله عن ذلك، وإنما أثبتوا النفس بقوله: ولا أعلم ما في نفسك).
قال أبو عبدالرحمن: قبح الله هذا الكفر الأرعن، ولعن قائله لعناً لا نهاية له؛ فكيف يجري الفرس عند خلقه إياه حتى عرقت، ثم يخلق نفسه منها؟! ألم يكن هو الذي خلق الفرس بدءاً؛ فكيف خلق فيما بعد من هو خالق موجود بدءاً. إن الـمحالات من كفر أعداء الله الشعوبيين ذوي الذحول من الأمم الـمغلوبة؛ برهان قاطع على أن الأتباع من غير ذوي الذحول تحرروا من دين ربهم الحق بعد ما تبين لهم أنه الحق؛ فكانوا من أصحاب الغاشية، وكانوا ممن قال الله عنهم: (وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ) (سورة يونس/100) بعد ما بين لهم أنه لا مشيئة إلا بإذن الله؛ وذلك يعني الأخذ بالأسباب التي تعصم من الكفر كما أخذوا بأسباب العلاج من الأمراض، وتحصيل الرزق.
وإلى لقاء فـي الشهر القادم إن شاء الله تعالى، والله المستعان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق