الخميس، 8 أكتوبر 2015

أفكار وأضواء: الإسلاميون كذلك من ضحايا «ولاية الفقيه» (1) و (2) ( 3) / خليل حيدر


امتلاك الخميني قدرة قيادية فائقة وذكاء وقادا، بالإضافة إلى اهتمامه الكبير بفكرة «ولاية الفقيه» في مرحلة كان فكر الحوزات الدينية الشيعية يؤجل الإصلاح السياسي لحين خروج الإمام المهدي لتولي أمر المسلمين، واستعانته في نجاح أمره بالكتمان ومباغتة منافسيه في الساحة الإيرانية، أمور ساعدت على تمكينه من إحكام قبضته على مفاصل الدولة.

لم تكن المفاجأة في إيران آنذاك- عام 1979- الثورة ضد «النظام الشاهنشاهي»، كما كان يسمى النظام الملكي في إيران، بل المفاجأة كما يقول د. إسماعيل الشطي «كانت في اقتطاف الخميني لثمرة الثورة، فمنذ عام 1977 وإيران كانت تموج بالاحتجاجات والمظاهرات والاعتصامات بقيادة النخب المثقفة وأحزاب المعارضة، وكان على رأسها حركة مجاهدي خلق اليسارية وحزب تودة الشيوعي وحركة تحرير إيران الليبرالية».
(الإسلاميون وحكم الدولة الحديثة، الكويت 2013، ص99).
ويضيف د. الشطي أن الخميني كان قد نشأ يتيم الوالدين بعد وفاة والديه، وعاش في البيئة الفقهية منذ صغره متتلمذا على يد آية الله الشيخ عبدالكريم الحائري اليزدي، وقد ضاعف اهتمامه بالسياسة ربما مقتل والده وابنه، ويلاحظ د. الشطي «أن الخميني لم يكن الأكثر فقهاً وعلماً بين مراجع التقليد المعاصرين له»، أي كبار علماء الفقه الشيعة في المدارس الدينية المسماة بالحوزات، «لكنه بالتأكيد كانت لديه قدرة قيادية فائقة وذكاء وقاد لم تتوافر لأي مرجع في زمنه».
 ولعل من أهم جوانب ذكائه وفطنته، اهتمامه الكبير بفكرة «ولاية الفقيه» في مرحلة كان فكر الحوزات الدينية الشيعية يؤجل الإصلاح السياسي لحين خروج الإمام المهدي لتولي أمر المسلمين، وكانت المراجع الدينية تفضل عدم الاصطدام بالحكومات ما لم تتحرش بالمرجعية، وكانت فكرة ولاية الفقيه موجودة في الوسط الفقهي، لكنها «لم تأخذ حظاً كبيرا من النقاش والدراسة قبل أن يطرحها الخميني».
استعان آية الله الخميني في نجاح أمره بالكتمان ومباغتة منافسيه في الساحة الإيرانية، فيقول د. الشطي في أثناء الثورة «لم يكن يدعو إلى حكومة إسلامية، بل كان على العكس يدعو لحكومة جمهورية واقعية مستندة إلى حقوق الإنسان، كما ذكر المعارض الإيراني «أكبر غنجي»، ولم يتطرق لموضوع الحكومة الإسلامية إلا بعد ثمانية أشهر من انتصار الثورة».
 ولم تمر القضية يومذاك بسلام، إذ يضيف د. الشطي «يومها واجه معارضة صلبة من كثير من المراجع الذين آثر بعضهم الصمت أو التحفظ بعدما لقن الخميني أكبر معارضيه درسا قاسيا، حيث أرسل لآية الله شريعتمداري كبير المراجع في قم آنذاك عشرة آلاف شخص من أتباعه يحملون العصي والهراوات، ويهتفون بعمالة شريعتمداري ويشيرون إلى بيته كوكر للتجسس، وحدث قتال بين أنصار المرجعين أدى إلى مقتل اثنين من المتقاتلين، وبعدها بقي شريعتمداري في بيته تحت الإقامة الجبرية إلى أن مات، والمثال الآخر كان آية الله حسن الطباطبائي القمي في خراسان والذي عارض نظرية ولاية الفقيه بصلابة وعناد؛ مما عرضه للاضطهاد والسجن، لقد أعطى الخميني درسا لبقية المراجع الذين أرادوا الوقوف ضد ولايته ليعلموا أن مصير الإمام شريعتمداري سيكون مصيرهم إذا ما أرادوا الوقوف ضد رغبته، وهو ما خفف من نبرة المعارضة لدى بقية المراجع». (د. الشطي، ص109).
ولكن هذه التهديدات لم تغير مواقف آخرين كانوا خارج إيران، ممن انتقدوا استغلال هذا المبدأ الفقهي، وبخاصة آية الله أبو القاسم الخوئي، كبير المراجع في حوزة النجف، وكل من آية الله محمد حسين فضل الله والشيخ محمد مهدي شمس الدين، في لبنان وإلى جانب الاعتراضات الفقهية تم انتقاد المبدأ من الناحية السياسية، حيث وجد منتقدوها «أن هذه النظرية تكرس الحكم الفردي وتمنحه سلطات مطلقة باسم الدين ليصبح حاكماً بأمر الله، وتعيد السلطة الكنسية المعروفة بالقرون الوسطى في أوروبا ولكن بثوب إسلامي». (د. الشطي، ص110).
 كان تثبيت نظام ولاية الفقيه بحاجة ماسة إلى تحييد كل الخصوم المحتملين لها في تلك المرحلة الجنينية، وهنا لجأت قيادة الثورة إلى عدة مناورات، ويقول د. الشطي «كانت إزاحة شاه إيران ونظامه هي الهدف المشترك لكل فصائل الثورة الإيرانية، ولكنهم كانوا يختلفون فيما بعد ذلك اختلافا كبيرا، وهو ما دفع بذكاء الخميني إلى أن يؤجل البحث في التفصيلات -التي تفكك جبهة الثورة- حتى تحقيق الهدف المشترك، وكان يطمئن المتشككين بأن المراجع الدينية لا تتطلع للحكم، وفي الفترة التي أعقبت سقوط نظام الشاه انكشفت الخلافات بين كل التيارات الثائرة، وبدأ التنافس بينها لتفسير أهداف الثورة، منهم من كان يقول إنها إنهاء للاستبداد، ومنهم من كان يطالب بمزيد من الإسلام، ومنهم من يكتفي بالحد من التأثير الغربي الأميركي، وآخرون يطالبون بالعدالة الاجتماعية والمساواة، غير أن كل هؤلاء لم يتوافر لهم ما توافر للتيار الديني من طريق ممهد لاستلام السلطة، إذ بادر الخميني في البداية لطمأنة الآخرين بتعيينه مهدي بازركان الليبرالي الإسلامي رئيسا للوزراء، والذي سعى لإنشاء حكومة إصلاحية ديمقراطية، كان الخميني يؤسس مركزا آخر للسلطة بديلا للحكومة وهي المنظمات الثورية التي اعتمد عليها لحماية سلطته، مثل الحرس الثوري والمحكمة الثورية والخلايا الثورية المحلية التي تحولت إلى لجان محلية».(ص113).
 إن عدم الخوص في التفاصيل والبرامج العملية مناورة معروفة في التكتيك الإسلامي السياسي، ولا تزال بل ربما تلجأ إليها تيارات أخرى غير إسلامية، إلا أن الملامح الدكتاتورية للنظام سرعان ما تجلت في دستور «الجمهورية» نفسه.
ويقول د. الشطي إن الصلاحيات التي منحها الخميني لنفسه ولأي «ولي فقيه» يأتي من بعده، وفق الدستور الإيراني، «لم تتوافر لأحد سوى للأنبياء وللأئمة المعصومين في العقيدة الاثني عشرية، ولهذا يعتقد بعض المفكرين الشيعة الذين انتقدوا هذه الصلاحيات أن الخميني كان يعتقد أن منصب القائد العام للدولة أو المرشد الروحي ما هو إلا منصب نائب الإمام الغائب وليس مجرد ولاية فقيه، ويعود جذر المشكلة إلى أن الإمام الخميني لا يعتبر شرعية الفقيه في الحكم مستمدة من الأمة، وإنما هو منصوب ومجعول ومعين من قبل الإمام المهدي أو الأئمة السابقين، ولذلك فإنه ليس بحاجة إلى أخذ رضا الأمة في أية مسألة، وله الحق أن يعمل بما يتوصل إليه في اجتهاده، وعلى الأمة أن تطيعه بلا مناقشة أو تردد، وهو ما يمنحه صلاحيات مطلقة أخرى، لذلك كان يعتقد أن منصبه يمنحه السلطة على كل الشيعة في العالم، ولهذا تعجب من موقف الشيعة بالعراق إبان الحرب العراقية الإيرانية، إذ إنه أصدر في شهر يناير 1981 فتوى لشيعة العراق يحثهم فيها على الثورة ضد الحرب وعصيان الأوامر العسكرية، لكن شيعة العراق لم يتحركوا، مما جعله يتساءل باستغراب ويقول لبني صدر: عجيب أمر هؤلاء العراقيين ألا يوجد بالجيش العراقي شيعة؟». (ص121-122).
والواقع أن وحدة المذهب بين شيعة العراق العرب وشيعة إيران لم تتمكن من تجسير الفجوة بينهما. ويقول د. الشطي: «خلال لقاءاتي التي أجريتها في طهران مع أعضاء حزب الدعوة العراقيين اللاجئين إلى إيران، تحدثوا بمرارة بالغة عن النزعة الفارسية التي تطغى على تعامل الشيعة الإيرانيين مع الشيعة العرب، ولقد أكد لي ذلك في أكثر من لقاء سماحة السيد آية الله محمد باقر الحكيم رحمة الله عليه». (ص127).
وفي تقييمه لمشروع أسلمة دولة إيران أشاد الشطي رغم كل ملاحظاته على التجربة الإيرانية، بدور آية الله الخميني في أسلمة دولة معاصرة، رغم أن هذه التجربة الناجحة «جاءت على يد رجل دين يقضي معظم وقته في حوزته العلمية، ويلتقى بأقرانه أو مقلديه أو أنصاره، ومعرفته بالسياسة الدولية محدودة وخبرته بصناعة الأنظمة السياسية وإدارة الدولة قليلة».
ورغم الأخطاء والمآخذ التي رافقت الثورة، يرى د. الشطي «أن كل ذلك لا يقلل من أهمية تلك المحاولة ولا من ريادة صاحبها، فيكفي الإمام الخميني أن يكون له- على مستوى التاريخ- شرف السبق والمحاولة بغض النظر عن كل ما يذكر عنه من سلبيات أو إيجابيات». غير أن د. الشطي لا يمنح آية الله الخميني «صك غفران»، ويعتبره مسؤولا عن جريرة كبرى بحق التيار الإسلامي! فيقول: «لقد أحكم الخميني حلقاته على الشعب الإيراني ليبقيه أسيرا لنظامه، ورغم أنه نجح وحقق مبتغاه لكنه سبب خسارة فادحة لكل الإسلاميين السياسيين بالعالم، إذ لم تعد الأطياف السياسية في العالم الإسلامي تثق بالتيارات الإسلامية السياسية بعد تجربة الخميني، فقد استغل الخميني ثقة الأطياف السياسية به وبتسليمه زمام الأمور ليغدر بها ويختطف الثورة والوطن معا، إن تجربة الخميني حفرت الشك العميق في نفوس النخب السياسية ضد الإسلاميين ونواياهم ومدى جديتهم في التعايش مع الآخر، إذ أصابت صدقيتهم وموثوقيتهم لدى الآخرين بمقتل غائر، وهو ما برز خلال ثورات- ما أطلق عليه- بالربيع العربي». (ص142).

============

أفكار وأضواء: الإسلاميون كذلك من ضحايا «ولاية الفقيه» (2)

تأثر مفكرو الثورة الإيرانية وقادتها بأفكار الحركة الإسلامية العربية ومنها حركة الإخوان المسلمين وحزب التحرير والكتابات الإسلامية الباكستانية والهندية، حيث ترجمت معظم هذه الكتب خلال النصف الثاني من القرن العشرين إلى اللغة الفارسية وأثرت مضامينها في فكر الثورة الإيرانية بمختلف تياراته، كما تطورت علاقات اجتماعية وسياسية مباشرة بين الإسلاميين العرب والإيرانيين في مراحل لاحقة في العراق وسورية ولبنان ومصر والعواصم الأوروبية.
فنحن نرى سيد قطب في كتاب "معالم في الطريق" يتساءل: كيف تبدأ عملية البعث الإسلامي؟ ويجيب: "لا بد من طليعة تعزم هذه العزمة، وتمضي في الطريق. تمضي في خضم الجاهلية الضاربة الأطناب في أرجاء الأرض جميعاً. تمضي وهي تزاول نوعاً من العزلة من جانب، ونوعاً من الاتصال من الجانب الآخر بالجاهلية المحيطة". وبالمثل، يطالب د. شريعتي "بضرورة أن تكون هذه الطليعة من مثقفين إسلاميين تقدميين لا من رجال الدين ولا من العامة أو المثقفين ذوي الميول الغربية، لأن المثقفين المسلمين هم وحدهم القادرون على شرح الواقع الإسلامي بلغة مفهومة للجماهير".
وبمثالية يحسده عليها سيد قطب، يدعو د. شريعتي المثقفين المسلمين "إلى قيادة الجماهير في ثورة مزدوجة، أي ثورة وطنية لإنهاء السيطرة الأجنبية وإحياء التراث الثقافي الإسلامي، وثورة اجتماعية لإنهاء جميع أشكال الاستغلال من خلال القضاء على الرأسمالية وإنشاء المجتمع التوحيدي". إذ يرى د. شريعتي، متتبعا خطى "قطب" كذلك "أن هناك نوعين من المجتمعات، مجتمع قائم على التوحيد وآخر على الشرك". (الفكر السياسي الإيراني، د. سلطان محمد النعيمي، أبو ظبي، 2009، ص64).
بل كانت مهمة د. شريعتي أعقد في بعض جوانبها من مهمة سيد قطب، إذ كان المتوقع من د. شريعتي كذلك دمج التراث الشيعي مع هذه الأيديولوجية، وأن يجد لها مكانا في مخططه الحركي. واصطدم د. شريعتي بالمؤسسة الدينية الشيعية وبمن على رأسها من علماء فقه ومراجع تقليد، المدافعين عن الموروث المذهبي الذي كرس د. شريعتي جهده لمحاربته، ولا شك أن الكثير من آراء وأفكار د. شريعتي حول التشيع قد استفزتهم بلا شك.
والأرجح كذلك أن د. شريعتي أثار حفيظة رجال الدين والمراجع الفقهية بسبب إثارته عداء الأثرياء و"إلقاء الشبهات على الطبقات الغنية المتحدة مع رجال الدين والتي تخشى المضامين الراديكالية لأفكاره". (الفكر السياسي الإسلامي المعاصر، حميد عنايت، ترجمه عن الفارسية د. إبراهيم شتا، القاهرة، 1989، ص306).
لم يدرك الإيرانيون جيداً يومذاك مخاطر الاستبداد الديني، ولم تكن المطالبة بالعلمانية الليبرالية من المطالب الواضحة لدى أغلب قوى الثورة التي أشرنا إليها، غير أن زعامة آية الله الخميني للشعب كذلك، كما تؤكد الباحثة د. آمال السبكي، لم تكن موضع اتفاق الجميع كما شاع وانتشر، والادعاء بأن جميع رجال الدين قد أيدوا ريادته الدينية والسياسية لم يكن صحيحاً "لأن المعارضة لولاية الفقيه من داخل رجال الدين أنفسهم كانت أكبر مما تصوره الباحثون، ناهيك عن المعارضين لمبدأ ولاية الفقيه من الجماهير الإيرانية المثقفة، ولا أدل على ذلك، في رأي د.السبكي، "من وجود ستة تيارات متباينة داخل التجمع الديني وحده، رغم أن المواطنين رحبوا بالثورة، لا حباً في رجال الدين أو ثقة بقدرتهم على إدارة الدولة، بقدر ما كان ترحيباً بالقوة التي استطاعت التخلص من مفاسد الأسرة البهلوية". (تاريخ إيران، د. آمال السبكي، ص232).
وكان نجاح الخميني مدينا في جانب منه لغياب أي زعامات سياسية مناظرة بعد أن "تلوثت" سمعة السياسيين الإيرانيين بتعاونهم مع الشاه المخلوع والصراعات السياسية، وهناك من يعزو نجاح آية الله الخميني إلى المؤامرات الأميركية والإنكليزية والفرنسية، وهي اتهامات توجه عادة لكل الثورات والحركات في دول الشرق الأوسط، بما فيها الثورة المصرية عام 1952 وربما الأحداث الراهنة ضمن ثورات "الربيع العربي". (حول جوانب من اتصالات الثورة الإيرانية بالولايات المتحدة وفرنسا، انظر كتاب د. إسماعيل الشطي، هوامش ص 101- 102).
وترى د. السبكي أن آية الله الخميني وجناحه الإسلامي نجحا في حسم الأمر لخمسة أسباب:
 الأول، نجاح الشاه في سحق أو محاصرة الأحزاب السياسية بمختلف الطرق، حيث لجأ في نهاية الأمر إلى تشكيل حزب واحد للدولة أسماه "رستاخيز"، أي النهضة أو البعث! وفي الوقت نفسه "أهمل تماماً قوة رجال الدين، حيث تركهم داخل أروقة المساجد يشحنون طلابهم بما يريدونه داخل حلقات الدرس سواء في الحوزة العلمية- أي المدرسة الدينية أو كلية الشريعة- أو خارجها، كا تركهم يدعمون أواصر صلاتهم بالبازارات المنتشرة في جميع أرجاء الدولة. (ص233).
الثاني، لجوء الشاه للقوة العسكرية في إخماد التظاهرات التي بدأت مع مطلع عام 1977، وازدادت فيما عرف بمذبحة الجمعة السوداء- 8 ديسمبر 1978- فأجج الميول الثورية والعنف المضاد، بل أفقد هذا العنف تعاطف الجبهة الوطنية وبعض كبار رجال الدين مثل آية الله شريعتمداري، مما دفعهم للالتحام بالخميني، متجاوزين ما بينهم من فوارق، كما أن استخدام العنف المضاد من السلطة "هيأ للخميني فرصة نادرة ليعلن مبدأه الأساسي الرافض للحلول الوسط والداعي لردع العدوان بأشد منه تحت مظلة الجهاد الإسلامي".
الثالث، احتكار الإسلاميين لثقافة الشارع السياسية، إذ صعب في ظل مناخ الثورة الصاخب أن تعمل المجموعات الوطنية التقليدية التي كانت تضم المثقفين والنخبة الفكرية الإيرانية وسط جماهير المدينة، "وكان رجال الدين يطلقون عليهم ألقاب "ذوي ربطات العنق" أو "موظفي الحكومة الموالين للشاه"، كما كانوا ينعتونهم بأنهم أهل التقليد الأعمى للغرب، وبأن الليبراليين بصفة إجمالية معادون للإسلام تجب مقاومتهم"، ومن ثم لم يجد معارضو الإسلام السياسي والجماعات المتزمتة الفرصة للوصول إلى الناس والمناخ الصالح لتوعية الناس بمخاطر تسلط التيار الديني وانفراده بالدولة، وهكذا، "احتكر رجال الدين جميع المنابر". (السبكي، 234).
 الرابع، استفادة آية الله الخميني من فترة الاغتراب لبلورة شعاراته، ورسم أيديولوجية بسيطة تستقطب بسطاء وفقراء الشعب، في الوقت الذي انشغل فيه رجال الدين الأثرياء بعلاقاتهم المتشعبة بالبازارات، مما أبعدهم عن جمهور "المستضعفين"، ولهذا لم تجد مطالبتهم بالديمقراطية والليبرالية آذاناً صاغية لدى الفقراء والبسطاء، "بينما نادى أنصار الخميني بإعادة توزيع الثروات، ونقل السلطة من الأثرياء للفقراء، والقضاء على الفساد المستشري في كل مكان، وتسهيل تقديم قروض لصغار المزارعين، وإمداد القرى بالتيار الكهربائي، وضمان تقديم القروض بفوائد ضئيلة، علاوة على بناء المدارس والعيادات والطرق وتوفير المسكن المناسب للمستضعفين (الفقراء)، فاكتسبوا من وراء ذلك شعبية تضاءلت أمامها شعبية التيارات الأخرى".
ونلاحظ هنا أن تيار الخميني قد اختطف معظم أهداف الجماعات الوطنية والسيارية وشعاراتها، وأفرغها من مضامينها، ليطبقها بما يضمن بقاء حكومة ولاية الفقيه التي كانت الجماعة تنوي إقامتها... وافق من وافق واعترض من اعترض.
السبب الخامس في تحليل د. السبكي لنجاح هذا التيار "صفات السيد الخميني المعروفة، والتي تمثلت بالذكاء والوقار والقدرة على جذب المستمعين بحديثه الخلاب"، وكذلك إلى جانب هذا، طريقة معيشته المتقشفة التي تشبه حياة المتصوفة، والتي جمعت حوله المستضعفين، وتضيف السبكي "فقد كان نموذجاً للحدة والثبات على المبدأ ورفض كل أنواع الرشوة... لذلك أضفت صفاته القيادية عليه الزعامة المطلوبة التي أنجحت الثورة". (ص234).


=========

أفكار وأضواء: الإسلاميون كذلك من ضحايا «ولاية الفقيه» (3)
كانت المرجعية الشيعية، خاصة داخل إيران، أولى ضحايا "ولاية الفقيه"! فلا بد أن نتذكر ونلاحظ أن الكثير من الفقهاء ورجال الدين والمراجع قد فقدوا، بنجاح الثورة وهيمنة دولة ولاية الفقيه، ما كانوا يتمتعون به من حرية تعبير وحركة، وبخاصة إن اختلف اجتهادهم السياسي عما يراه الولي الفقيه ومرشد الثورة، أو إن تجرؤوا على انتقاد أي مظهر من مظاهر السياسة الرسمية في أي مجال، وبالطبع لم يكن الفقهاء ورجال الدين وحدهم الخاسرين لحريتهم.
 لقد دخل ساسة إيران ومثقفوها وقادة أحزابها ونقاباتها ومؤسسات المجتمع المدني فيها يطلبون، كما يقال، قرنين، فعادوا بلا أذنين، وقد انهار نظام الشاه واختفت أسرة بهلوي عن السلطة، ولكن حلت محلها حكومة دينية عقائدية لا علاقة لفكرها بالقرن الحادي والعشرين، تتحكم بكل صغيرة وكبيرة من مناحي حياة الشعب الإيراني وقومياته. وكان الإيرانيون دائمي الشكوى من جهاز واحد للاستخبارات في زمن الشاه، وهو جهاز "السافاك"، بينما تحولت الاستخبارات اليوم في إيران المعاصرة إلى وزارة وهيئات وأجهزة في الداخل والخارج.
نجحت الثورة حقاً في إسقاط النظام الملكي، ولكنها أقامت بدلاً منه نظاما غير واضح المعالم لا يفهمه رجل القانون ولا أستاذ العلوم السياسية ولا الباحث في الأيديولوجيات، نظاما غير قادر على كسب ثقة شبعه أو حب جيرانه أو احترام العالم، وغير مناسب لإمكانات إيران الهائلة ومكانتها على الصعيدين السياسي والاقتصادي حتى المذهبي، فقد خسر الشيعة الكثير!
فلم تتسع الفجوة المذهبية بين السنّة والشيعة في العالم العربي الحديث يوماً كما هي اليوم، ولا أصدرت دور النشر العربية كتباً ومقالات ومنشورات نقدية حول "خطر الرافضة" و"الأخطبوط الشيعي" و"جاء دور المجوس"، وغير ذلك كالذي نراه اليوم، وقد لا تكترث إيران كدولة كبرى قوية في المنطقة ولا تتأثر مصالحها في الشرق الأوسط، ولكن الشيعة في الدول الخليجية والعالم العربي يدفعون اليوم وغداً ثمن هذا الشحن الطائفي والسياسي الإيراني في عموم المنطقة، واندفاع جماعات التشيع السياسي نحو المجهول. وكم كانت النتيجة ستكون مختلفة لو أخذت إيران، بدلا من نظام ولاية الفقيه، بالنموذج الديمقراطي الوزاري أو الرئاسي، فأبعدت رجال الدين عن احتكار إدارة البلاد، وتركتها للساسة وأهل الاختصاص والفنيين ورجال الأعمال، ونساء إيران وشبابها، ضمن نظام انتخابي متعدد الأحزاب، حر الاختيار، بإدارة شفافة مثل دول كثيرة، دون قمع مختلف مظاهر الحياة والحريات، وإجبار النساء على ارتداء الحجاب ومعاقبة كل رجل يضع ربطة عنق في ياقة قميصه أو أي شاب يرتدي قميصاً أو بنطالا من نوع معين. فإيران اليوم تكاد تكون الدولة الوحيدة التي تتدخل في أدق الحريات الشخصية للنساء والرجال، في حين تهمل مصالح وطنية كبرى، حيث تتسبب تدخلاتها السياسية وتصريحاتها العسكرية، في حرمان شعبها ومصالحها الاقتصادية وبنوكها ومنتجاتها وسياحتها وثقافتها من أعظم الفرص.
انظر مثلا وبكل واقعية وموضوعية، إلى المادة 12 من الدستور الإسلامي الإيراني، ومن زاوية مصالح النظام نفسه، وهي المادة التي تنص على أن "الدين الرسمي لإيران هو الإسلام، والمذهب هو المذهب الجعفري الاثنى عشري".
الدستور الإيراني لم ينص حتى على مذاهب الشيعة المختلفة، بل اقتصر على "المذهب الجعفري الاثنى عشري". والآن، هل يعقل لدولة تريد تمثيل الشيعة أن تهمل بقية مذاهبهم؟ بل هل يعقل لدولة تريد جمع شمل المسلمين تحت زعامة وإرشاد الولي الفقيه وقائد الثورة الإسلامية أن تحصر نفسها في هذه الزاوية الطائفية المذهبية الحادة؟ فالجمهورية الإسلامية الإيرانية تقدم نفسها كقائد للعالم الإسلامي بأغلبيته الكبرى، وهم بالطبع من "أهل السنة والجماعة"، وبمذاهب غير جعفرية وغير شيعية وغير إمامية وغير اثنى عشرية! فهل في وضع مادة كهذه في الدستور أي حكمة؟
ثم إن إيران منذ سنين طويلة، موطن الدعوة الحارة إلى "التقريب بين المذاهب"، ورجال الدين فيها حتى على مستوى قادتها الدينيين ومراجع التقليد الشيعة، من دعاة توطيد العلاقة مع "الأزهر الشريف" ومع العالم الإسلامي، بل حتى مع الإخوان المسلمين والجماعات الإسلامية و"حماس" ونشطاء شمال إفريقيا.
كما تنطلق من إيران بين الفينة والأخرى الوعود بإنصاف أهل السنة في إيران ورفع الموانع المذهبية والسياسية في وجههم، ثم لا يتحقق إلا القليل في هذا المجال دون أي تفسير! بل انظر إلى المادة 115 من الدستور الإيراني نفسه:
"المادة الخامسة عشرة بعد المئة: ينتخب رئيس الجمهورية من بين الرجال المتدينين السياسيين الذين تتوافر فيهم الشروط التالية:
1- أن يكون إيراني الأصل ويحمل الجنسية الإيرانية.
2- أن يكون قديرا في مجال الإدارة والتدبير.
3- ذا ماض جيد.
4- تتوافر فيه الأمانة والتقوى.
5- مؤمنا ومعتقداً بمبادئ جمهورية إيران الإسلامية والمذهب الرسمي للبلاد". (الترجمة العربية للشيخ محمد علي التسخيري، طهران 1983، ص414).
ولنا هنا على هذه المادة عدة ملاحظات، وبخاصة أنها تتضمن الإشارة إلى مفهومين حديثين هما الوطن والجنسية، فكيف تكون شهادة الانتماء لوطن ما، بل الإقرار بمفهوم الوطن الإيراني بدلا عن "دار الإسلام" مثلا، من مؤهلات الرئاسة أو الإمامة أو الخلافة؟
ومما يجلب الانتباه عدم تبني الإسلاميين الإيرانيين للرأي الواسع الرواج في أوساط أقرانهم من المتشددين العرب، من أن "جنسية المسلم عقيدته"، كما يقول سيد قطب مثلا، وأن "هناك داراً واحدة وهي دار الإسلام التي تقوم فيها الدولة المسلمة"، أو كما يقول "وطن المسلم الذي يحنُّ إليه ويدافع عنه ليس قطعة أرض، وجنسية المسلم التي يُعرف بها ليست جنسية حكم"، كما يقر الدستور الإيراني الحدود المادية والجغرافية التي تشكلت عبر التاريخ والحروب، لا على أن "الوطن دار تحكمها عقيدة ومنهاج حياة وشريعة من الله"، حيث إن "هذا التصور الرفيع للدار وللجنسية والقرابة"- يضيف سيد قطب- "هو الذي ينبغي أن يسيطر على قلوب أصحاب الدعوة إلى الله".
ولا تحرم المادة 115 من الدستور الإيرانيين غير المسلمين فحسب كالمسيحيين والزردشتيين، دعك الآن من اليهود! من التقدم لمنصب رئاسة الجمهورية في إيران، فهذا هو موقف الإسلاميين العرب كذلك من إخوان وتحرير وسلف وجماعات، بل تخرج هذه المادة حتى النساء الإيرانيات مسيحيات أو مسلمات، ونساء الشيعة والسنّة على حد سواء، من مجال الترشح للمنصب الرئاسي الرفيع.
ويبدو هذا المنع متناقضاً بعض الشيء مع تراث الشيعة نفسه الذي يعطي للسيدتين "فاطمة الزهراء" و"زينب بنت علي بن أبي طالب" مكانة دينية ومذهبية متميزة رفيعة، فالأولى تعتبر "سيدة نساء العالمين"، وذات مكانة خاصة في كل العالم الإسلامي، وبخاصة لدى الشيعة، إذ إنها أم الإمامين الحسن والحسين، وبالتالي سائر أئمة الشيعة، والثانية تعد بطلة معركة كربلاء الصامدة، والخطيبة المفوهة في أهل الكوفة بعد مأساة مقتل الإمام الحسين، والمدافعة عن بنات أخيها الحسين في البلاط الأموي وغير ذلك، ولا ينسجم هذا" الموقف الذكوري" من حقوق المرأة المدنية، مع ما يتفاخر به كثير من الشيعة من أن المذهب الجعفري، مذهب الدولة الإسلامية بموجب الدستور، أكثر مراعاة لحقوق المرأة المادية والسياسية والقانونية، ولا حاجة بنا كذلك لأن نتحدث مطولا عن تضحيات المرأة الإيرانية في مقاومة نظام الشاه، ومساهمتها في المظاهرات وفي دعم الثورة، لتفاجأ لاحقاً أنها كذلك من ضحايا النظام الوليد، وأن ديتها في القتل غير العمد نصف دية الرجل، حتى إن كانت أكثر من هذا الرجل تديناً وحماساً للثورة الإسلامية، وأكثر إيمانا بالولي الفقيه، صائمة النهار قائمة الليل. غير أن الأخطر دلالة ربما من هذا كله في هذه المادة الدستورية، أنها تنص بصراحة على أن ما يؤهل أي مواطن إيراني لمجرد الترشح لرئاسة الجمهورية، ليس اعتناقه للدين الإسلامي فحسب، بل ولا حتى تمتعه بالجنسية الإيرانية فحسب، ولا انتماءه إلى الأصل الإيراني أباً عن جد منذ أيام كورش وداريوش.
وكذلك لا تشفع لهذا الإيراني المتقدم بأوراق الترشح لرئاسة جمهورية إيران الإسلامية، مؤهلاته الإدارية ومواهبه الزعامية وسجله الجيد الناصع، وماضيه الوطني المجيد في مختلف المهام التي أوكلت إليه، وكل تضحياته وعطائه في حياته الوظيفية أو العسكرية مثلاً، بل لا يزكيه حتى الإيمان العميق بمبادئ الثورة والاستعداد للتضحية دفاعاً عن الجمهورية الإسلامية!
إذ لا بد، مهما كانت مؤهلاته الدينية والشخصية والزعامية والوطنية أن يكون قبل هذا كله وبعده، مؤمناً ومعقتداً بالمذهب الشيعي الاثنى عشري "المذهب الرسمي للبلاد"، وينبغي الانتباه هنا كذلك، فالإيمان بنظام الجمهورية الإسلامية أو حتى بالمذهب الجعفري لا يكفيان وحدهما، بل لا بد أن تكون "معتقداً" بهما.
ولا أعرف الفرق الدقيق هنا بين الإيمان بشيء ما أو الاعتقاد به، ولا أستطيع المفاضلة بينهما، ولكن ورود المصطلحين قد يفتح كذلك أبواباً لإبعاد غير المرغوب فيهم من المرشحين الشيعة الاثنى عشرية!
والآن بعد كل هذا، كم عدد ضحايا مبدأ ولاية الفقيه في نسختها السياسية الثورية منذ عام 1979؟ وكم خسر الاسلاميون الشيعة والسنة بسببها؟ وما تأثيرها على الفقه الإسلامي والشيعي؟ وإلى متى يستمر أتباع المذهب يدفعون ثمن هذه الهيمنة داخل إيران وخارجها؟ وإلى متى تحصر الجمهورية الإسلامية الإيرانية نفسها في هذا المربع بعد كل هذه التحولات الإقليمية والدولية؟
ألا ينبغى للأفكار التي جلبت كل هذه المشاكل أن تتغير؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق