احسان الفقيه
إحدى أشهر العبارات في الأدب العالمي، جسّد بها وليم شكسبير في روايته "يوليوس قيصر"، مشهد الاغتيال التاريخي لقيصر روما، الذي تآمر عليه الساسة وقتلوه في اجتماع مجلس الشيوخ.
كان من بين هؤلاء المتآمرين ماركوس جونيوس بروتس، الذي أحسن إليه القيصر، فكان اشتراكه في الاغتيال أكبر صدمة ليوليوس قيصر، حتى أنه غطى وجهه بثيابه في استسلام بعد أن قال: "حتى أنت يا بروتس".
*تذكرتُ هذا المشهد لدى رغبتي في الحديث عن حجم المؤامرات التي تحاك ضد المملكة العربية السعودية، حيث بات من المشاهد أن قوى أجنبية متعددة تستهدف المملكة وتشنّ عليها هجوما غير مسبوق، وأخرى شقيقة تطعن في ظهر السعودية بدلا من دعمها.
ولا أجدّني الا إُردّد ما قال طرفة بن العبد في معلقته:
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على النفس من وقع الحسام المهندِ
فليس العجب أن تكون أرض الحرمين مُستهدفة من الغرب، ولكن العجب كل العجب أن تكون مستهدفة من قوى وكيانات ودول تنتسب للأمة العربية الإسلامية.. ويا حيف..
*في سياق الهجوم الإعلامي الأمريكي على السعودية، نشرت صحيفة نيويورك تايمز السبت، مقالا لأحد الأبواق العربية المأجورة ادّعى فيها أن السعودية هي الأب الشرعي لتنظيم داعش، ورأى أن حرب الغرب على الإرهاب قصيرة النظر لأنها تستهدف التأثير (وهو داعش) بدلا من السبب الذي يتمثل في الوهابية السعودية.
*والسيناتور الأمريكي ريتشارد بلاك يؤكد للتلفزيون السوري أن تمويل الإرهاب في العالم يأتي من السعودية وقطر.
هكذا فجأة يقوم الإعلام الأمريكي بشيطنة السعودية، كيف لا والسعودية لم تعُد تلتزم بالمسارات التي حدّدتها أمريكا، فقد بات واضحا أن المملكة تقود مشروعا لا يحظى بالمباركة الأمريكية، وأنها تتحرك إزاء القضايا الساخنة في المنطقة برؤية جديدة تحافظ بها على أمنها القومي، وتحقق بها الاستقرار في المنطقة، وتقف في وجه المشاريع التوسعية التي تريد أن ترتع فيها.
*أما روسيا التي تبحث عن موطئ قدم في منطقتنا، وتتبادل الأدوار مع أمريكا، تشنّ هجوما لاذعا على السعودية، باعتبارها أبرز القوى التي تعارض روسيا في ضرورة الإبقاء على الأسد الحليف الاستراتيجي لموسكو.
ومن جهة أخرى يشكل التحالف السعودي التركي الذي يتفق على رؤية موحدة تجاه القضية السورية مصدر إزعاج لروسيا، والتي لا ترضى بأن تلعب تركيا دورا فاعلا في الأزمة السورية يزيد من قوتها الإقليمية.
ومن جهة ثالثة، تتمدّد السعودية كسكين في بلعوم بوتين، بدعمها للمقاومة السورية المعتدلة التي تقف ضد التدخل العسكري الروسي، وتثير مخاوف موسكو من انتقال الحرب إلى الداخل الروسي.
*بالنسبة لإيران فهجومها الضاري على المملكة ليس إلا حلقة في الصراع بين قيادة العالم السني المُتمثّل في السعودية، وبين المشروع القومي الفارسي الإيراني المُحمّل على رأس طائفي شيعي.
السعودية تقف كحائط صد أمام هذا المشروع الذي يسعى الى الهيمنة على سوريا التي تُعدّ قاعدته في الانطلاق لالتهام المنطقة..
السعودية التي تحُول بين إيران وابتلاع اليمن عن طريق عملائها الهمجيين الحوثيين لتنطلق منه إلى دول الخليج.
ناهيك عمّا تقوم به السعودية عبر مؤسساتها الدينية ودُعاتها وعُلمائها بمواجهة القوة الناعمة الإيرانية التي تغزو ثقافة المسلمين وتبثُّ سموم التشيّع وصناعة الجيوب الشيعية داخل بلدان العالم الإسلامي السني.
*أما الاحتلال الصهيوني (الإسرائيلي) فهجومه على السعودية في الآونة الأخيرة ينبع من تولّي زمام الأمور في المملكة قيادة جديدة، قامت باحتواء حركة المقاومة الإسلامية حماس، وطوّرت العلاقة معها.
بل وشهدت الفترة الحالية إجراءات سعودية حازمة في التعامل مع الاحتلال، فالهيئة العامة للطيران المدني في السعودية، أعلنت في 16 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، أن المملكة لن تسمح لأي طائرة مسجلة بإسرائيل بالطيران في أجوائها.
والمنتخب السعودي ينسحب من مباراة يفترض إقامتها في فلسطين المحتلة، حتى لا يُدنّس جواز السفر السعودي بختم إسرائيلي.
ومجلس الوزراء السعودي يستنكر خلال اجتماعه الاثنين الماضي برئاسة خادم الحرمين، مواصلة سلطات الاحتلال للإجراءات التعسّفية ضد أبناء الشعب الفلسطيني وعمليات الاعتقال للفلسطينيين في عدد من المحافظات.
والمندوب الدائم للمملكة لدى الأمم المتحدة "عبد الله المعلمي" يفتح النار على الاحتلال، ويطالب بإدانة الأعمال الإرهابية المتزايدة التي تقوم بها سلطات الاحتلال والمستوطنون الإسرائيليون، مُحمّلا الحكومة الإسرائيلية المسؤولية القانونية والجنائية الكاملة عنها، ومحاسبة مرتكبيها وتقديمهم للعدالة الدولية دون إبطاء.
*كل هذه الأطراف لها أيديولوجيات تُبرّر مسلكها المعادي للسعودية، أما المنتسبون للأُمّة الإسلامية (فرادى وجماعات ودول) ، فعداوتهم للسعودية أمر يندى له الجبين، فبدلا من الوقوف معها في خندق واحد، يُناصبونها العداء، رغم إلمام هذه الأطراف بالمؤامرة الكبرى التي تستهدف بلاد الحرمين.
*النظام الانقلابي في مصر يطلق إعلام مسيلمة للنيل من السعودية قيادة وشعبا، بعد أن يئس زعيم الانقلاب من الحصول على المزيد من (الرز) السعودي، ولاتجاه المملكة لفتح صفحة جديدة مع الإخوان (بعبع السيسي)، ومن ثم اتجه الانقلابي إلى دعم بقاء نظام الأسد مُتناغما مع الرؤية الإيرانية الروسية، إضافة إلى تأييده الضربات الروسية في سوريا، واللهث لاسترضاء موسكو ونيل دعمها.
لقد وصل الهجوم إلى حد دخول الإفتاء المصرية على خط المواجهة مع الرموز السعودية وتصيّد الأخطاء لها، وعمدت إلى مقطع للشيخ العلامة ابن عثيمين (طيب الله ذكره ومقامه)، وانتزعت من سياق كلامه ما أسمته دعوة للعنف والقتل ومخالفة مبادئ الإسلام السمحة، ليتلقّفها الإعلاميون المأجورون ويدُقّوا حولها الطبول، مع اتّهام أئمة العلم من أهل الحجاز بالتكريس للتطرف والإرهاب أمثال الإمامين: ابن باز وابن العثيمين رحمهما الله.
وصار حديث الساعة لإعلاميي مصر هو ما يُسمّى (الوهابية) التي قامت عليها الدولة السعودية، وأنها محضن الإرهاب والتطرف.. حسب زعمهم ..
*ومع الأسف الشديد، حتى البيت الخليجي، هناك من تخلّى فيه عن السعودية في هذه الظروف التي تواجه فيه المملكة مشاريع الهيمنة على المنطقة، فرأينا هناك من يُحجم عن المشاركة في العمليات العسكرية ضد الحوثيين في اليمن، ويتماهى مع الموقف الإيراني تجاه الأزمات على حساب السعودية.
ورأينا من يُحمّل القوات السعودية مزيدا من الأعباء عندما يأمر بسحب قواته من إحدى المناطق باليمن، ويقوم بتصفية حسابات خاصة مع بعض فصائل المقاومة في الداخل اليمنيّ ضاربا بعرض الحائط استحقاقات المرحلة وواجب الوقت ..
*من الواضح أن بلاد الحرمين تتعرض لمؤامرة تشترك فيها بعض الدول العربية، لشيطنة السعودية، وتحميلها مسؤولية الإرهاب، وإدخالها في عزلة عربية، حيث باتت كثير من دول المنطقة تتجه إلى الارتماء في أحضان إيران وروسيا، وإقصاء السعودية عن قيادة العالم السني.
*ولم تسلم المملكة من المحاولات المُستميتة من ليبراليي الداخل في الاستنجاد بالغرب ضد ما أسموه بالدولة الدينية والحكم الثيوقراطي، والتشغيب المستمر على القيادة السعودية، مُستغلين عدة ملفات ساخنة (بالطنطنة) حولها لتمييع الهوية، فحدث ولا حرج عن الجهود (الليبرالية والعلمانية) المُضنية التي يبذلها (من يظنّون أنفسهم نُخبا مُتنوّرة مثقفة) لتشويه هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتضخيم أخطائها بهدف إلغائها، والذي يعني غياب تبنّي الدولة لشعيرة عُظمى من شعائر الإسلام، كفلت حفظ وحماية مجتمع بلاد الحرمين (المُسلم) من هجمات الإلحاد والاستشراق والتغريب التي لم تنجُ منها بقيّة بلاد العرب والمسلمين.
وحدث ولا حرج عن جهودهم في ملف المرأة ومحاولة تغريبها تحت ستار حقوق المرأة، وهو الملف الذي يستهوي الغرب للتدخل في الشؤون الداخلية لأي دولة إسلامية.
*لقد ساء هؤلاء الليبراليين التأكيداتُ المتكررة من القيادة السعودية على هوية الدولة، ومخاطبة الإعلاميين صراحة، بأنها دولة (الإسلام) تنطلق من الكتاب والسنة ولا يسع أحد الخروج عن ذلك.
*أما تنظيم الدولة (داعش)، فمن العجب أن يدرك حجم المؤامرة الإيرانية التي تُحاك ضد المملكة، وخطّتها لاحتلال بلاد الحرمين، ثم يوجه التنظيم نيرانه إلى الداخل السعودي، دون ضرب المصالح الإيرانية.. دون الضرب في العمق الإيراني.. دون الإنتقام من حزب نصر اللات الذي أوغل بدم السوريين .. دون قيامهم بعملية واحدة ضد قوات الاحتلال الإسرائيلي.. (كترضية) .. لكني ومن حقي أن أتساءل:
لماذا سلِم كل هؤلاء منكم ولم تسلم منكم بلاد الحرمين وهي تخوض حربا حقيقية (إعلامية وعسكرية ، محلية وإقليمية، داخلية وخارجية) ضدّ أكثر من عدوّ وعلى عدّة جبهات وحدها .. يا تنظيم داعش؟ ..
أيّها التنظيم الذي اغترّ به الأحداث والغلمان الذين رأوا في شعارات القوّة والعزّة واللامُبالاة .. ما يصبو إليه الخيال من إقامة خلافة إسلامية تنشر العدل والخير تحت راية (لا إله الا الله) ، فهرولوا وراء السراب، واعتبروها خلافة دون مبايعة الأُمة أو أهل الحل والعقد.
للأسف.. هو قدرُ الله أني كنتُ من أولئك المُنخدعين بتلك الدعايات التي خلبت لُبّ الفاشلين والمُحبطين، ممن اندفعوا إلى الالتحاق بالتنظيم من أجل إحداث نكاية في الغرب وعملاء الغرب وحسب، أو هروبا من الواقع الأليم دون رويّة أو نظرة مُتفحّصة في منهج التنظيم .
بعد التغرير بالشباب المسلم الباحث عن العدل والمساواة، تكوّنت لدى كثير منهم النزعة التكفيرية، بل وأصبح العبث في مسائل دقيقة تتعلق بالإيمان والكفر مما ( لا يحقّ لأحد أن ينهض لها سوى العلماء)، تحوّلت تلك المسائل الى دُمية بين أصابع الجهلاء والغوغاء، يتحدّثون عن مُقتضيات (لا إله الا الله) وهم أنفسهم لا يعرفونها، فوزّعوا أحكام التكفير والردّة بسخاء على المُخالفين، بعدما عزلوا أنفسهم عن المرجعيات العلمية المُعتبرة في الأمة.. بل واعتبروا كل العلماء ممن أشاروا الى شذوذ نهجهم (إما شيوخ سلاطين او مأجورين لأموال الدول وقصور الحُكّام)..
لقد وقعت السعودية بين هجوم هذا التنظيم الذي يُكفّر آل سعود ومن يُوالي آل سعود، وبين هجوم المُغرضين الذين يتّهمونها بدعم التنظيم واحتضانه.. ولو دقّق المُسلم فيما تواجه بلاد الحرمين من ضغوط ومؤامرات ومحاولات تشويه وتخريب ـ بمُنتهى الدناءة والخُبث ـ لراجع نفسه ألف مرّة قبل أن يُشارك العدوّ حربه ضدّ أطهر بلاد الدنيا.
*وأعودُ وأؤكد على دعمي للسعودية في مرحلتها الراهنة، بل وأعتبر أن التشغيب عليها في ظل هذا الاستهداف المحلي والإقليمي والدولي خيانة للأمة.
أقولها غير مُكترثة بالاتهامات التي تنتظرني بالعمالة لآل سعود وغيرهم، وغير مُهتمة بقواعد المهنية التي لا ولن تُحدّد لقلمي يوما مسلكا او مسارا، فقد كفرتُ بالقوالب، وأعلنت تحيّزي الكامل للشرفاء، وعاهدتُّ الله على أن أكتب ما أراه في صالح أمتي، وأن أترجع في انسيابية ودون تعقيد عن كل قول أو رأي أو تحليل تبيّن لي خطؤه وقصوره.
*السعودية باتت مُستهدفة على جميع الأصعدة ومن أطراف عديدة يا بني ديني وقومي، ألا يثير ذلك في حسّكم أنه دليل على صحة مسلكها؟
ألا ترون أن السعودية في عهد سلمان اجتمع عليها من الهجوم والتشويش ما لم يجتمع لأي قيادة سابقة؟
هي بلاد الحرمين يا أبناء ديني ودمي، فيها مقدساتكم، ومهبط وحي رسالتكم، تجاوزوا أي خلافات معها وغَلِّبوا المصالح الكُلية العليا للأمة.
ونقولها للعالم أجمع.... دماء الملايين فداء لأرض الحرمين، وأخُصّ بالذكر المتآمرين من هذه الأمة، الذين يقومون بدور "بروتُس" ولو كانوا ألف مليون بروتُس، السعودية لن تتلقى الضربات وهي تُغطي وجهها بثيابها مثل قيصر، بل ستُردّ الصاع صاعين، ومن ورائها ملايين المُسلمين من كل قُطرٍ في الأمة الإسلامية.
====
الكاتبة الأردنية احسان الفقيه
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق