May 4, 2015
احتاج الكاتب والروائي يوسف زيدان أن يعود إلى المنطق التقليدي لبعض مثقفي العرب فيما يخص نظرتهم للخليج وأهله، عندما أراد أن يمتدح الصورة الإيجابية لسلطنة عمان التي أذهلته خلال زيارته الأخيرة لها كما يبدو وأجبرته على التراجع عن فكرته السلبية السابقة عنها، والتي كانت قد أثارت نقمة معظم متابعيه من العمانيين والخليجيين. فقد سأل زيدان مرافقه العماني تعليقًا على تفاعل المشهد الثقافي مع الندوة التي حاضر فيها عن “دور التراث في صياغة الوعي المعاصر”؛ هل أنتم دولة نفطية فعلًا؟، قالها زيدان بإعجاب فضح رؤيته القاصرة لما يسميها بالدول النفطية! وبالتأكيد فإن زيدان لا يعني الدول التي تنتج النفط في البلاد العربية فهي كثيرة، ولكنه يعني الخليجية منها، وكأن من الغريب والمثير للعجب أن يجد في دول خليجية مثقفين يمكنهم مجاراته في ثقافته ومناقشته في أفكاره. ففي هذه الدول لا يفعل الناس شيئًا سوى استئجار من يستخرج لهم النفط، للتنعم بخيراته العميمة التي لا يستحقونها؛ لأنهم لا يعرفون كيف يتصرفون بها، فمتعة الخليجيين هي العيش في الصحراء بجانب خيامهم وأغنامهم؛ ولذلك لم يتورع زيدان من التعليق على من طالبه بتمديد وقت الندوة بالقول: “خلاص.. نفرد خيمة، ونجيب شوية معيز، ونسهر على ضوء القمر”!
منذ اكتشاف النفط في البلدان الخليجية، ونحن الخليجيين نعيش عقدة النفط التي أقنعنا بها إخوتنا العرب من خارج النطاق الخليجي. عقود طويلة ونحن نحمل تلك العقدة على ظهورنا بخجل ونتسلل كاللصوص إلى محافل الثقافة والكتابة والفنون العربية من النوافذ وأحيانًا من الأبواب الخلفية وكأننا لا نستحق الدخول من الأبواب الرئيسة.
وهكذا سادت نظرية المركز والأطراف في الثقافة العربية ما يقرب من القرن من دون أي تغيير يذكر؛ حيث عاش الأدباء والكتاب والمثقفون الخليجيون تحت وطأة هذا المفهوم الذي زرعه في نفوسهم مثقفون عرب رأوا في النفط الذي تدفق فجأة على الشواطئ الخليجية مثلبة تنتقص من قدر الإنسان العربي في الخليج.
وإذا كنا قد تقبلنا سيادة هذه النظرية في وقت من الأوقات جزئيًا ولأسباب عديدة، أهمها عدم انتشار وسائل الإعلام بما يكفي للترويج عن منجزات العرب الخليجيين مقارنة بأشقائهم في البلاد الأخرى مع اختلاف متوقع لطبيعة تلك المنجزات، فإن من الغريب إصرار الكثيرين حتى الآن على التعامل مع مثقفي الخليج بنفس النظرة السابقة، وغالبًا متكئين على مقارنات براقة في الشكل ولكنها خاوية في المضمون، فللتدليل على التفوق الثقافي العربي غير الخليجي على العربي الخليجي تنتشر صور تقليدية للثقافة بتراكمها الحضاري في البلدان غير الخليجية، ومع أهمية تلك الصور في المحصلة النهائية؛ إلا أنها ليست كل شيء في التقييم الحضاري تاريخيًا، وهي لا تصمد كثيرًا لو حاولنا رصد منتجاتها الحديثة أو الراهنة وأثرها على الناس. فماذا نفعل بحضارة عمرها آلاف السنين إن لم تستطع تلك الحضارة وتلك السنين إنتاج واقع ثقافي أو حضاري راهن قادر على المنافسة العالمية مثلًا؟ كيف يمكننا احترام معطيات تلك الحضارة في البشر ما دام هؤلاء البشر ما زالوا أسرى أوهامهم المكرسة ضد بلاد لا ذنب لها سوى أنها تنتج النفط؟
لقد نجحت، إلى حد ما ، معظم البلاد الخليجية في استثمار ثرواتها النفطية لصالح الثقافة والمثقفين، ولا نتحدث الآن عن أشياء أخرى، شكلًا وموضوعًا، ولكنها رغم كل اجتهاداتها المستمرة والدؤوبة على هذا الصعيد ما زالت متهمة، وما زال مثقفون عرب كثيرون ينظرون لها تلك النظرة “الاستشراقية” القاصرة والظالمة.
نعم ما زالت البلاد الخليجية، وفقًا لتلك النظرة، مجرد بلاد تنظم مهرجانات ثقافية وفنية ليحضرها ويحاضر فيها إخوتنا العرب فقط، وتنشئ جوائز أدبية بأرقام فلكية ليفوز فيها إخوتنا العرب فقط، وتنشر سلاسل محترمة للكتب لينشر فيها إخوتنا العرب فقط، وتصدر مجلات ومطبوعات راقية يحتل صفحاتها إخوتنا العرب فقط، وتبني مسارح راقية ليمثل ويغني عليها إخوتناالعرب فقط، و…و… وطبعًا كل هذا بأموال النفط الذي يستمر إخوتنا العرب باعتباره لعنة أصابت الخليج والخليجيين!
لقد “اقتنعنا” نحن الخليجيين عقودًا من الزمن بهذه اللعنة فعلًا للدرجة التي خجلنا فيها من نفطنا، وتمنى بعضنا لو أنه لم يكتشف أو لو كان باستطاعتنا إرجاعه إلى آباره حتى يرضى علينا إخوتنا العرب، ويعترفوا بنا وبأننا بشر قبل النفط والحجر، وبأن ما نملكه من عقول ومنجزات ثقافية يوازي ما يملكون في القياسات الراهنة، وبأن ما نكتبه يستحق أن ينشر ويقرأ ويفوز بالجوائز، وما نغنيه يستحق أن يسمع، وما نمثله يستحق أن يشاهد، وما نقوله يستحق أن يسمع!
في ندوة يوسف زيدان الأخيرة في الكويت، وكانت قبل ندوته في عمان بيومين فقط، حاولتُ التعليق على إحدى القضايا التي أثارها أثناء الحديث وسؤاله عنها، ورغم أنني لم أستنفد وقتي المخصص لي من قبل مدير الندوة بعد ولم أكمل تعليقي ولا سؤالي، إلا أن زيدان قاطعني بالقول: “طيب طيب يا سعدية.. فهمت فهمت”، قبل أن يجيب على سؤالي بشكل يدل على أنه لم يفهمني أبدًا، وربما لم يسمعني؛ لأنه لا يريد أن يفهمني ولا أن يسمعني، ذلك أنه اعتاد على أن يأخذ الخليجيين “على قد عقلهم” بقياساته هو لهذا العقل وحسب!
حسنًا.. يستطيع يوسف زيدان وزملاؤه من المثقفين العرب الذين ما زالوا يظنون أننا في الخليج مجرد “خيمة وشوية معيز” نسهر تحت ضوء القمر ونهرع لسماعهم ونشر نصوصهم وتقديم الجوائز لهم ونحن نبتسم لهم بلا كلام، أن يستمروا في تصويرنا بهذه الصورة المشوهة، رغم شاعريتها، لكن عليهم أن يعرفوا أن العالم قد تغير فعلًا، وأن الخليجيين قد أصبحوا أكثر ثقة بأنفسهم وأنهم في طريقهم إلى التخلص من عقدة النفط!
لقد آن الأوان الآن أن يتلفت الجميع حول نفسه ليعرف حجمه وموقعه من خريطة العالم كله قبل أن يقرر كيف سينظر لمن حوله. لم تعد الظروف الجديدة تسمح بسيادة الترهات العربية القديمة تجاه العرب الخليجيين، وعلى المثقفين العرب ممن يؤمنون بتلك الترهات ويعتبرونها ما زالت أساس العلاقة بينهم وبين أهل الخليج أن يعيدوا النظر بسرعة، وإذا كان الكاتب الكويتي د.محمد الرميحي قد أكد قبل أربعة عقود بأن “الخليج ليس نفطًا” في كتابه الذي يحمل هذا العنوان، فإنني أضيف الآن: والنفط ليس عارًا.
المصدر-التقرير
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق