الجمعة، 10 أغسطس 2018

لمسات بيانية في سورة الفاتحة للدكتور فاضل صالح السامرائي،


لمسات بيانية في سورة الفاتحة

لمسات بيانية في سورة الفاتحة  للدكتور فاضل صالح السامرائي، استاذ النحو في جامعة الشارقة


الحمد لله:

معنى الحمد الثناء على الجميل من النعمة او غيرها مع المحبة والاجلال. فالحمد ان تذكر محاسن الغير سواء كان ذلك الثناء على صفة من صفاته الذاتية كالعلم والصبر والرحمة ام على عطائه وتفضله على الآخرين. ولا يكون الحمد الا للحي العاقل.

وهذا اشهر ما فرق بينه وبين المدح فقد تمدح جمادا ولكن لا تحمده وقد ثبت ان المدح اعم من الحمد. فالمدح قد يكون قبل الاحسان وبعده اما الحمد فلا يكون الا بعد الاحسان. فالحمد يكون لما هو حاصل من المحاسن في الصفات او الفعل فلا يحمد من ليس في صفاته ما يستحق الحمد اما المدح فقد يكون قبل ذلك فقد تمدح انسانا ولم يفعل شيئا من المحاسن والجميل ولذا كان المدح منهياً عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”احثوا التراب في وجه المداحين” بخلاف الحمد فإنه مأمور به فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”من لم يحمد الناس لم يحمد الله”

وبذا علمنا من قوله: الحمد لله” ان الله حي له الصفات الحسنى والفعل الجميل فحمدناه على صفاته وعلى فعله وانعامه ولو قال المدح لله لم يفد شيئا من ذلك، فكان اختيار الحمد اولى من اختيار المدح.

ولم يقل سبحانه الشكر لله لان الشكر لا يكون الا على النعمة ولا يكون على صفاته الذاتية فانك لا تشكر الشخص على علمه او قدرته وقد تحمده على ذلك وقد جاء في لسان العرب “والحمد والشكر متقاربان والحمد اعمهما لانك تحمد الانسان على صفاته الذاتية وعلى عطائه ولا تشكره على صفاته.فكان اختيار الحمد اولى ايضا من الشكر لانه اعم فانك تثني عليه بنعمه الواصلة اليك والى الخلق جميعا وتثني عليه بصفاته الحسنى الذاتية وان لم يتعلق شيئ منها بك. فكان اختيار الحمد اولى من المدح والشكر.

هذا من ناحية ومن ناحية أخرى أنه قال: الحمد لله ولم يقل أحمد الله أو نحمد الله وما قاله اولى من وجوه عدة: ان القول أحمد الله او نحمد الله مختص بفاعل معين ففاعل أحمد هو المتكلم وفاعل نحمد هم المتكلمون في حين أن عبارة “الحمد لله” مطلقة لا تختص بفاعل معين وهذا اولى فانك اذا قلت أحمد الله اخبرت عن حمدك انت وحدك ولم تفد ان غيرك حمده واذا قلت نحمد الله اخبرت عن المتكلمين ولم تفد ان غيركم حمده في حين ان عبارة “الحمد لله” لا تختص بفاعل معين فهو المحمود على وجه الاطلاق منك ومن غيرك.

وقول “احمد الله” تخبر عن فعلك انت ولا يعني ذلك ان من تحمده يستحق الحمد في حين اذا قلت ” الحمد لله” افاد ذلك استحقاق الحمد لله وليس مرتبط بفاعل معين.

وقول احمد الله او نحمد الله مرتبط بزمن معين لان الفعل له دلالة زمنية معينة. فالفعل المضارع يدل على الحال او الاستقبال ومعنى ذلك ان الحمد لا يحدث في غير الزمان الذي تحمده فيه. ولا شك ان الزمن الذي يستطيع الشخص او الاشخاص الحمد فيه محدود وهكذا كل فعل يقوم به الشخص محدود الزمن فان اقصى ما يستطيع ان يفعله ان يكون مرتبطا بعمره ولا يكون قبل ذلك وبعده فعل فيكون الحمد اقل مما ينبغي فان حمد الله لا ينبغي ان ينقطع ولا يحد بفاعل او بزمان في حين ان عبارة “الحمد لله” مطلقة غير مقيدة بزمن معين ولا بفاعل معين فالحمد فيها مستمر غير منقطع.

جاء في تفسير الرازي أنه لو قال “احمد الله” افاد ذلك كون القائل قادرا على حمده اما لما قال “الحمد لله” فقد افاد ذلك، انه كان محمودا قبل حمد الحامدين وقبل شكر الشاكرين فهؤلاء سواء حمدوا ام لم يحمدوا فهو تعالى محمود من الازل الى الابد بحمده القديم وكلامه القديم.

وقول “احمد الله” جملة فعلية و”الحمد لله” جملة اسمية والجملة الفعلية تدل على الحدوث والتجدد في حين ان الجملة الاسمية دالة على الثبوت وهي اقوى وادوم من الجملة الفعلية. فاختيار الجملة الاسمية اولى من اختيار الجملة الفعلية ههنا اذ هو ادل على ثبات الحمد واستمراره.

وقول “الحمد لله” معناه ان الحمد والثناء حق لله وملكه فانه تعالى هو المستحق للحمد بسبب كثرة اياديه وانواع آلآئه على العباد. فقولنا “الحمد لله” معناه أن الحمد لله حق يستحقه لذاته ولو قال “احمد الله” لم يدل ذلك على كونه مستحقا للحمد بذاته ومعلوم ان اللفظ الدال على كونه مستحقا للحمد اولى من اللفظ الدال على ان شخصا واحدا حمده.

والحمد عبارة عن صفة القلب وهي اعتقاد كون ذلك المحمود متفضلا منعما مستحقا للتعظيم والاجلال. فاذا تلفظ الانسان بقوله : “احمد الله” مع انه كان قلبه غافلا عن معنى التعظيم اللائق بجلال الله كان كاذبا لانه اخبر عن نفسه بكونه حامدا مع انه ليس كذلك. اما اذا قال “الحمد لله” سواء كان غافلا او مستحضرا لمعنى التعظيم فإنه يكون صادقا لان معناه: ان الحمد حق لله وملكه وهذا المعنى حاصل سواء كان العبد مشتغلا بمعنى التعظيم والاجلال او لم يكن. فثبت ان قوله “الحمد لله” اولى من قوله أحمد الله او من نحمد الله. ونظيره قولنا “لا اله الا الله” فانه لا يدخل في التكذيب بخلاف قولنا “اشهد ان لا اله الا الله” لانه قد يكون كاذبا في قوله “اشهد” ولهذا قال تعالى في تكذيب المنافقين: “والله يشهد إن المنافقين لكاذبون” (المنافقون، آية 1)

فلماذا لم يقل الحمدَ لله بالنصب؟ الجواب ان قراءة الرفع اولى من قراءة النصب ذلك ان قراءة الرفع تدل على ان الجملة اسمية في حين ان قراءة النصب تدل على ان الجملة فعلية بتقدير نحمد او احمد اواحمدوا بالامر. والجملة الاسمية اقوى واثبت من الجملة الفعلية لانها دالة على الثبوت.

وقد يقال أليس تقدير فعل الامر في قراءة النصب اقوى من الرفع بمعنى “احمدوا الحمد لله” كما تقول “الاسراع في الامر” بمعنى أسرعوا؟ والجواب لا فان قراءة الرفع اولى ايضا ذلك لان الامر بالشيئ لا يعني ان المأمور به مستحق للفعل. وقد يكون المأمور غير مقتنع بما أمر به فكان الحمد لله اولى من الحمد لله بالنصب في الاخبار والامر.

ولماذا لم يقل “حمداً لله“؟ الحمد لله معرفة بأل وحمداً نكرة والتعريف هنا يفيد ما لا يفيده التنكير ذلك ان “أل” قد تكون لتعريف العهد فيكون المعنى: أن الحمد المعروف بينكم هو لله، وقد يكون لتعريف الجنس على سبيل الاستغراق فيدل على استغراق الاحمدة كلها. ورجح بعضهم المعتى الاول ورجح بعضهم المعنى الثاني بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: “اللهم لك الحمد كله” فدل على استغراق الحمد كله فعلى هذا يكون المعنى: ان الحمد المعروف بينكم هو لله على سبيل الاستغراق والاحاطة فلا يخرج عنه شيئ من أفراد الحمد ولا أجناسه.

“الحمد لله” أهي خبر أم انشاء؟ الخبر هو ما يحتمل الصدق او الكذب والانشاء هو ما لا يحتمل الصدق او الكذب.

قال اكثر النحات والمفسرين ان الحمد لله اخبار كأنه يخبر ان الحمد لله سبحانه وتعالى وقسم قال انها انشاء لان فيها استشعار المحبة وقسم قال انها خبر يتضمن انشاء.

أحيانا يحتمل ان تكون التعبيرات خبرا او انشاء بحسب ما يقتضيه المقام الذي يقال فيه.فعلى سبيل المثال قد نقول (رزقك الله) ونقصد بها الدعاء وهذا انشاء وقد نقول (رزقك الله وعافاك) والقصد منها افلا تشكره على ذلك؟ وهذا خبر.

والحمد لله هي من العبارات التي يمكن ان تستعمل خبرا وانشاء بمعنى الحمد لله خبر ونستشعر نعمة الله علينا ونستشعر التقدير كان نقولها عندما نستشعر عظمة الله سبحانه في امر ما فنقول الحمد لله.

فلماذا لم يقل سبحانه إن الحمد لله؟ لا شك ان الحمد لله لكن هناك فرق بين التعبيرين ان نجعل الجملة خبرا محضا في قول الحمد لله (ستعمل للخبر او الانشاء) ولكن عندما تدخل عليه إن لا يمكن الا ان يكون انشاء لذا فقول الحمد لله اولى لما فيه من الاجلال والتعظيم والشعور بذلك. لذا جمعت الحمد لله بين الخبر والانشاء ومعناهما. مثلا نقول رحمة الله عليك (هذا دعاء) وعندما نقول إن رحمة الله عليك فهذا خبر وليس دعاء

من المعلوم انه في اللغة قد تدخل بعض الادوات على عبارات فتغير معناها مثال: رحمه الله (دعاء)، قد رحمه الله (اخبار) رزقك الله (دعاء) قد رزقك الله (اخبار)

الان لماذا لم يقل سبحانه لله الحمد؟
الحمد الله تقال اذا كان هناك كلام يراد تخصيصه (مثال لفلان الكتاب) تقال للتخصيص والحصر فاذا قدم الجار والمجرور على اسم العلم يكون بقصد الاختصاص والحصر (لازالة الشك ان الحمد سيكون لغير الله)

الحمد لله في الدنيا ليست مختصة لله سبحانه وتعالى الحمد في الدنيا قد تقال لاستاذ او سلطان عادل اما العبادة فهي قاصرة على الله سبحانه وتعالى المقام في الفاتحة ليس مقام اختصاص اصلا وليست مثل اياك نعبد او اياك نستعين. فقد وردت في القران الكريم (فلله الحمد رب السموات ورب الارض رب العالمين) الجاثية (لآية 36)

لا احد يمنع التقديم لكن التقديم والتأخير في القران الكريم يكون حسب ما يقتضيه السياق. المقام في سورة الفاتحة هو مقام مؤمنين يقرون بالعبادة ويطلبون الاستعانة والهداية أما في سورة الجاثية فالمقام في الكافرين وعقائدهم وقد نسبوا الحياة والموت لغير الله سبحانه لذا اقتضى ذكر تفضله سبحانه بانه خلق السموات والارض واثبت لهم ان الحمد الاول لله سبحانه على كل ما خلق لنا فهو المحمود الاول لذا جاءت فلله الحمد مقدمة حسب ما اقتضاه السياق العام للآيات في السورة.

فلماذا التفضيل في الجاثية (رب السموات والارض) ولم ترد في الفاتحة؟ في الجاثية تردد ذكر السموات والارض وما فيهن وذكر ربوبية الله تعالى لهما فقد جاء في اول السورة (ان في السموات والارض لآيات للمؤمنين) فلو نظرنا في جو سورة الجاثية نلاحظ ربوبية الله تعالى للسموات والارض والخلق والعالمين مستمرة في السورة كلها. (ولله ملك السوات والارض) يعني هو ربهما ( ويوم تقوم الساعة يخسر المبطلون) اذن هو رب العالمين ( وخلق الله السموات والارض بالحق) فهو ربهما ( لتجزى كل نفس..) فهو رب العالمين. (فلله الحمد رب السموات ورب الارض رب العالمين) جمع الربوبية في السموات والارض والعالمين في آية واحدة أما في الكلام في الفاتحة فهو عن العالمين فقط وذكر اصناف الخلق من العالمين (المؤمنين، الضالين..) لذا ناسب التخصيص في الجاثية وليس في الفاتحة.

(وله الكبرياء في السموات والارض وهو العزيز الحكيم)(الجاثية الآية 37) ولم يذكر الكبرياء في الفاتحة لانه جاء في الجاثية ذكر المستكبرين بغير حق (ويل لكل افاك اثيم يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعهافبشره بعذاب أليم.واذا علم من آياتنا شيئا اتخذها هزوا اولئك لهم عذاب مهين) (الجاثية الأيات 7-9) دل على مظهر من مظاهر الاستكبار لذا ناسب ان يرد ذكر الكبرياء في السموات والارض. فسبحانه تعالى يضع الكلام بميزان دقيق بما يتناسب مع السياق العام للآيات.

الحمد لله: جاء سبحانه وتعالى باسمه العلم (الله) لم يقل الحمد للخالق أو القدير او اي اسم آخر من اسمائه الحسنى فلماذا جاء باسمه العلم؟ لانه اذا جاء باي اسم آخر غير العلم لدل على انه تعالى استحق الحمد فقط بالنسبة لهذا الاسم خاصة فلو قال الحمد للقادر لفهمت على انه يستحق الحمد للقدرة فقط لكن عند ذكر الذات (الله) فانها تعني انه سبحانه يستحق الحمد لذاته لا لوصفه.

من ناحية اخرى الحمد لله مناسبة لما جاء بعدها (اياك نعبد) لان العبادة كثيرا ما تختلط بلفظ الله. فلفظ الجلاله (الله) يعنى الإله المعبود مأخوذة من أله (بكسر اللام) ومعناها عبد ولفظ الله مناسب للعبادة واكثر اسم اقترن بالعبادة هو لفظ الله تعالى (اكثر من 50 مرة اقترن لفظ الله بالعبادة في القران) لذا فالحمد لله مناسب لاكثر من جهة.

الحمد’ لله اولى من قول الحمد للسميع او العليم او غيرها من اسماء الله الحسنى. وقول الحمد لله أولى من قول أحمد الله أو الحمدَ لله او حمدا لله او ان الحمد لله او الحمد للحي او القادر او السميع او البصير. جلُت حكمة الله سبحانه وتعالى وجل قوله العزيز.

رب العالمين:

الرب هو المالك والسيد والمربي والمنعم والقيم فاذن رب العالمين هو ربهم ومالكهم وسيدهم ومربيهم والمنعم عليهم وقيُمهم لذا فهو اولى بالحمد من غيره وذكر (رب العالمين) هي انسب ما يمكن وضعه بعد (الحمد لله)

رب العالمين يقتضي كل صفات الله تعالى ويشمل كل اسماء الله الحسنى. العالمين جمع عالم والعالم هو كل موجود سوى الله تعالى والعالم يجمع على العوالم وعلى العالمين لكن اختيار العالمين على العوالم امر بلاغي يعني ذلك ان العالمين خاص للمكلفين واولي العقل (لا تشمل غير العقلاء) بدليل قوله تعالى (تبارك الذي نزل على عبده الفرقان ليكون للعالمين نذيرا) (الفرقان آية 1) ومن المؤكد انه ليس نذيرا للبهائم والجماد. وبهذا استدلوا على ان المقصود بالعالمين اولي العقل واولي العلم او المكلفون.

والعالمين جمع العالم بكل اصنافه لكن يغلُب العقلاء على غيرهم فيقال لهم العالمين لا يقال لعالم الحشرات او الجماد او البهائم العالمين وعليه فلا تستعمل كلمة العالمين الا اذا اجتمع العقلاء مع غيرهم وغلبوا عليهم.

أما العوالم قد يطلق على اصناف من الموجودات ليس منهم البشر او العقلاء او المكلفون (تقال للحيوانات والحشرات والجمادات)

اختيار كلمة العالمين له سببه في سورة الفاتحة فالعالمين تشمل جيلا واحدا وقد تشمل كل المكلفين او قسما من جيل (قالوا اولم ننهك عن العالمين) (الحجر آية 70) في قصة سيدنا لوط جاءت هنا بمعنى قسم من الرجال.

واختيار العالمين ايضا لان السورة كلها في المكلفين وفيها طلب الهداية واظهار العبودية لله وتقسيم الخلق كله خاص باولي العقل والعلم لذا كان من المناسب اختيار العالمين على غيرها من المفردات او الكلمات. وقد ورد في آخر الفاتحة ذكر المغضوب عليهم وهم اليهود، والعالمين رد على اليهود الذين ادعوا ان الله تعالى هو رب اليهود فقط فجاءت رب العالمين لتشمل كل العالمين لا بعضهم.

اما اختيار كلمة رب فلانها تناسب ما بعدها (اهدنا الصراط المستقيم) لان من معاني الرب المربي وهي اشهر معانيه واولى مهام الرب الهداية لذا اقترنت الهداية كثيرا بلفظ الرب كما اقترنت العبادة بلفظ الله تعالى (قال فمن ربكما يا موسى قال ربنا الذي اعطى كل شيئ خلقه ثم هدى) (طه آية 49-50) (فاجتباه ربه فتاب عليه وهدى) (طه آية 122) (سبح اسم ربك الاعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى) (الأعلى آية 1-3) (قل انني هداني ربي الى صراط مستقيم) (الانعام آية 161) (وقل عسى ان يهدين ربي لاقرب من هذا رشدا) (الكهف آية 24) (قال كلا ان معي ربي سيهدين) (الشعراء آية 62) (وقال اني ذاهب الى ربي سيهدين) (الصافات آية 99) (ولما توجه تلقاء مدين قال عسى ربي ان يهديني سواء السبيل) (القصص آية 22) لذا ناسب لفظ رب مع اهدنا الصراط المستقيم وفيها طلب الهداية.

الرحمن الرحيم:

الرحمن على وزن فعلان والرحيم على وزن فعيل ومن المقرر في علم التصريف في اللغة العربية ان الصفة فعلان تمثل الحدوث والتجدد والامتلاء والاتصاف بالوصف الى حده الاقصى فيقال غضبان بمعنى امتلأ غضبا (فرجع موسى الى قومه غضبان اسفا) لكن الغضب زال (فلما سكت عن موسى الغضب) ومثل ذلك عطشان، ريان، جوعان يكون عطشان فيشرب فيذهب العطش

اما صيغة فعيل فهي تدل على الثبوت سواء كان خلقة ويسمى تحول في الصفات مثل طويل، جميل، قبيح فلا يقال خطيب لمن ألقى خطبة واحدة وانما تقال لمن يمارس الخطابة وكذلك الفقيه.

هذا الاحساس اللغوي بصفات فعلان وفعيل لا يزال في لغتنا الدارجة الى الآن فنقول بدا عليه الطول (طولان) فيرد هو طويل (صفة ثابتة) فلان ضعفان (حدث فيه شيئ جديد لم يكن) فيرد هو ضعيف (هذه صفته الثابتة فهو اصلا ضعيف)

ولذا جاء سبحانه وتعالى بصفتين تدلان على التجدد والثبوت معا فلو قال الرحمن فقط لتوهم السامع ان هذه الصفة طارئة قد تزول كما يزول الجوع من الجوعان والغضب من الغضبان وغيره. ولو قال رحيم وحدها لفهم منها ان صفة رحيم مع انها ثابتة لكنها ليست بالضرورة على الدوام ظاهرة انما قد تنفك مثلا عندما يقال فلان كريم فهذا لا يعني انه لا ينفك عن الكرم لحظة واحدة انما الصفة الغالبة عليه هي الكرم.

وجاء سبحانه بالصفتين مجتمعتين ليدل على ان صفاته الثابتة والمتجددة هي الرحمة ويدل على ان رحمته لا تنقطع وهذا ياتي من باب الاحتياط للمعنى وجاء بالصفتين الثابتة والمتجددة لا ينفك عن احداهما انما هذه الصفات مستمرة ثابتة لا تنفك البتة غير منقطعة.

فلماذا اذن قدم سبحانه الرحمن على الرحيم؟ قدم صيغة الرحمن والتي هي الصفة المتجددة وفيها الامتلاء بالرحمة لابعد حدودها لان الانسان في طبيعته عجول وكثيرا ما يؤثر الانسان الشيئ الآتي السريع وان قل على الشيئ الذي سيأتي لاحقا وان كثر (بل تحبون العاجلة) لذا جاء سبحانه بالصفة المتجددة ورحمته قريبة ومتجددة وحادثة اليه ولا تنفك لان رحمته ثابتة. ووقوع كلمة الرحيم بعد كلمة الرب يدلنا على أن الرحمة هي من صفات الله تعالى العليا وفيها اشارة الى ان المربي يجب ان يتحلى بالرحمة وتكون من ابرز صفاته وليست القسوة والرب بكل معانيه ينبغي ان يتصف بالرحمة سواء كان مربيا او سيدا او قيما وقد وصف الله تعالى رسوله بالرحمة.

مالك يوم الدين:

هناك قراءة متواترة (ملك يوم الدين) بعض المفسرين يحاولون تحديد اي القراءتين اولى وتحديد صفة كل منهما لكن في الحقيقة ليس هناك قراءة اولى من قراءة فكلتا القراءتين متواترة نزل بهما الروح الامين ليجمع بين معنى المالك والملك.

المالك من التملك والملك بكسر الميم (بمعنى الذي يملك الملك)

وملك بكسر اللام من الملك بضم الميم والحكم (اليس لي ملك مصر) الملك هنا بمعنى الحكم والحاكم الاعلى هو الله تعالى.

المالك قد يكون ملكا وقد لا يكون والملك قد يكون مالكا وقد لا يكون. المالك يتصرف في ملكه كما لا يتصرف الملك (بكسر اللام) والمالك عليه ان يتولى امر مملوكه من الكسوة والطعام والملك ينظر للحكم والعدل والانصاف. المالك اوسع لشموله العقلاء وغيرهم والملك هو المتصرف الاكبر وله الامر والادارة العامة في المصلحة العامة فنزلت القراءتين لتجمع بين معنى المالك والملك وتدل على انه سبحانه هو المالك وهو الملك (قل اللهم مالك الملك) الملك ملكه سبحانه وتعالى فجمع بين معنى الملكية والملك

مالك يوم الدين، لم لم يذكر الدنيا؟ سواء كان مالكا او ملكا فلماذا لم يقل مالك يوم الدين والدنيا؟

اولا قال الحمد لله رب العالمين فهو مالكهم وملكهم في الدنيا وهذا شمل الدنيا. مالك يوم الدين هو مالك يوم الجزاء يعني ملك ما قبله من ايام العمل والعمل يكون في الدنيا فقد جمع في التعبير يوم الدين والدنيا وبقوله يوم الدين شمل فيه الدنيا ايضا.

لم قال يوم الدين ولم يقل يوم القيامة؟ الدين بمعنى الجزاء وهو يشمل جميع انواع القيامة من اولها الى آخرها ويشمل الجزاء والحساب والطاعة والقهر وكلها من معاني الدين وكلمة الدين انسب للفظ رب العالمين وانسب للمكلفين (الدين يكون لهؤلاء المكلفين) فهو انسب من يوم القيامة لان القيامة فيها اشياء لا تتعلق بالجزاء اما الدين فمعناه الجزاء وكل معانيه تتعلق بالمكلفين لان الكلام من اوله لآخره عن المكلفين لذا ناسب اختيار كلمة الدين عن القيامة.

لماذا قال مالك يوم واليوم لا يملك انما ما فيه يملك والسبب لقصد العموم ومالك اليوم هو ملك لكل ما فيه وكل من فيه فهو اوسع وهو ملكية كل ما يجري وما يحدث في اليوم وكل ما فيه ومن فيه فهي اضافة عامة شاملة جمع فيها ما في ذلك اليوم ومن فيه واحداثه وكل ما فيه من باب الملكية (بكسر الميم) والملكية (بضم الميم)

اقتران الحمد بهذه الصفات احسن واجمل اقتران. الحمد لله فالله محمود بذاته وصفاته على العموم والله هو الاسم العلم) ثم محمود بكل معاني الربوبية (رب العالمين) لان من الارباب من لا تحمد عبوديته وهو محمود في كونه رحمن رحيم، محمود في رحمته لان الرحمة لو وضعت في غير موضعها تكون غير محمودة فالرحمة اذا لم توضع في موضعها لم تكن مدحا لصاحبها، محمود في رحمته يضعها حيث يجب ان توضع وهو محمود يوم الدين محمود في تملكه وفي مالكيته (مالك يوم الدين) محمود في ملكه ذلك اليوم (في قراءة ملك يوم الدين)

استغرق الحمد كل الازمنة لم يترك سبحانه زمنا لم يدخل فيه الحمد ابدا من الازل الى الابد فهو حمده قبل الخلق (الحمد لله) حين كان تعالى ولم يكن معه شيئ قبل حمد الحامدين وقبل وجود الخلق والكائنات استغرق الحمد هنا الزمن الاول وعند خلق العالم (رب العالمين) واستغرق الحمد وقت كانت الرحمة تنزل ولا تنقطع (الرحمن الرحيم) واستغرق الحمد يوم الجزاء كله ويوم الجزاء لا ينتهي لان الجزاء لا ينتهي فاهل النار خالدين فيها واهل الجنة خالدين فيها لا ينقضي جزاؤهم فاستغرق الحمد كل الازمنة من الازل الى الابد كقوله تعالى له الحمد في الاولى والاخرة هذه الآيات جمعت اعجب الوصف.

اياك نعبد واياك نستعين:

قدم المفعولين لنعبد ونستعين وهذا التقديم للاختصاص لانه سبحانه وتعالى وحده له العبادة لذا لم يقل نعبدك ونستعينك لانها لا تدل على التخصيص بالعبادة لله تعالى اما قول اياك نعبد فتعني تخصيص العبادة لله تعالى وحده وكذلك في الاستعانة (اياك نستعين) تكون بالله حصرا (ربنا عليك توكلنا واليك انبنا واليك المصير) (الممتحنة آية 4) كلها مخصوصة لله وحده حصرا فالتوكل والانابة والمرجع كله اليه سبحانه (وعلى الله فليتوكل المتوكلون)(ابراهيم 12)

(قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا) (الملك آية 29) تقديم الايمان على الجار والمجرور هنا لان الايمان ليس محصورا بالله وحده فقط بل علينا الايمان بالله ورسله وكتبه وملائكته واليوم الآخر والقضاء والقدر لذا لم تأت به آمنا. أما في التوكل فجاءت وعليه توكلنا لا توكلنا عليه لان التوكل محصور بالله تعالى.

الآن لماذا كررت اياك مع فعل الاستعانة ولم يقل اياك نعبد ونستعين؟

التكرار يفيد التنصيص على حصر المستعان به لو اقتصرنا على ضمير واحد (اياك نعبد ونستعين) لم يعني المستعان انما عني المعبود فقط ولو اقتصرنا على ضمير واحد لفهم من ذلك انه لا يتقرب اليه الا بالجمع بين العبادة والاستعانة بمعنى انه لا يعبد بدون استعانة ولا يستعان به بدون عبادة. يفهم من الاستعانة مع العبادة مجموعة تربط الاستعانة بالعبادة وهذا غير وارد وانما هو سبحانه نعبده على وجه الاستقلال ونستعين به على وجه الاستقلال وقد يجتمعان لذا وجب التكرار في الضمير اياك نعبد واياك نستعين. التكرار توكيد في اللغة، في التكرار من القوة والتوكيد للاستعانة فيما ليس في الحذف.

اياك نعبد واياك نستعين: اطلق سبحانه فعل الاستعانة ولم يحدد نستعين على شئ او نستعين على طاعة او غيره انما اطلقها لتشمل كل شئ وليست محددة بامر واحد من امور الدنيا. وتشمل كل شئ يريد الانسان ان يستعين بربه لان الاستعانة غير مقيدة بامر محدد. وقد عبر سبحانه عن الاستعانة والعبادة بلفظ ضمير الجمع (نعبد ونستعين) وليس بالتعبير المفرد أعبد وأستعين وفي هذا اشارة الى أهمية الجماعة في الاسلام لذا تلزم قراءة هذه السورة في الصلاة وتلزم ان صلاة الجماعة افضل من صلاة الفرد بسبع وعشرين مرة وفيها دليل على اهمية الجماعة عامة في الاسلام مثل الحج وصلاة الجماعة، الزكاة، الجهاد،الاعياد والصيام. اضافة الى ان المؤمنين اخوة فلو قال اياك اعبد لأغفل عبادة اخوته المؤمنين وانما عندما نقول اياك نعبد نذكر كل المؤمنين ويدخل القائل في زمرة المؤمنين ايضاً.

لماذا قرن العبادة بالاستعانة؟ اولاً ليدل على ان الانسان لا يستطيع ان يقوم بعبادة الله الا بإعانة الله له وتوفيقه فهو اذن شعار واعلان ان الانسان لا يستطيع ان يعمل شيئاً الا بعون الله وهو اقرار بعجز الانسان عن القيام بالعبادات وعن حمل الامانة الثقيلة اذا لم يعنه الله تعالى على ذلك، الاستعانة بالله علاج لغرور الانسان وكبريائه عن الاستعانة بالله واعتراف الانسان بضعفه.

لماذا قدم العبادة على الاستعانة؟

العبادة هي علة خلق الانس والجن (وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون)(الذاريات 56) والاستعانة انما هي وسيلة للعبادة فالعبادة اولى بالتقديم.

العبادة هي حق الله والاستعانة هي مطلب من مطالبه وحق الله اولى من مطالبه.

تبدأ السورة بالحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين وهذه كلها من اسلوب الغيبة اي كلها للغائب ثم انتقل الى الخطاب المباشر بقوله اياك نعبد واياك نستعين. فلو قسنا على سياق الآيات الاولى لكان اولى القول اياه نعبد واياه نستعين. فلماذا لم يقل سبحانه هذا؟

في البلاغة يسمى هذا الانتقال من الغائب للمخاطب أو المتكلم او العكس الإلتفات. للالتفات فائدة عامة وفائدة في المقام، اما الفائدة العامة فهي تطرية لنشاط السامع وتحريك الذهن للاصغاء والانتباه. اما الفائدة  التي يقتضيها المقام فهي اذا التفت المتكلم البليغ يكون لهذه الالتفاتة فائدة غير العامة مثال: (هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى اذا كنتم في الفلك وجرين بهم) (يونس آية 22) لم يقل وجرين بكم فيها التفات لانهم عندما ركبوا في البحر وجرت بهم الفلك اصبحوا غائبين وليسوا مخاطبين.

وعندما قال سبحانه الحمد لله رب العالمين فهو حاضر دائما فنودي بنداء الحاضر المخاطب. الكلام من اول الفاتحة الى مالك يوم الين كله ثناء على الله تعالى والثناء يكون في الحضور والغيبة والثناء في الغيبة اصدق واولى أما اياك نعبد واياك نستعين فهو دعاء والدعاء في الحضور اولى واجدى اذن الثناء في الغيبة اولى والدعاء في الحضور اولى والعبادة تؤدى في الحاضر وهي اولى.

إهدنا الصراط المستقيم
هذا دعاء ولا دعاء مفروض على المسلم قوله غير هذا الدعاء فيتوجب على المسلم قوله عدة مرات في اليوم وهذا بدوره يدل على اهمية الطلب وهذا الدعاء لان له اثره في الدنيا والآخرة ويدل على ان الانسان لا يمكن ان يهتدي للصراط المستقيم بنفسه الا اذا هداه الله تعالى لذلك. اذا ترك الناس لانفسهم لذهب كل الى مذهبه ولم يهتدوا الى الصراط المستقيم وبما ان هذا الدعاء في الفاتحة ولا صلاة بدون فاتحة فلذا يجب الدعاء به في الصلاة الفريضة وهذا غير دعاء السنة في (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة) (البقرة آية 201)

والهداية هي الالهام والدلالة. وفعل الهداية هدى يهدي في العربية قد يتعدى بنفسه دون حرف جر مثل اهدنا الصراط المستقيم (تعدى الفعل بنفسه) وقد يتعدى بإلى (وانك لتهدي الى صراط مستقيم) (الشورى آية 52) (واهديك الى ربك فتخشى) (النازعات آية 19) وقد يتعدى باللام (الحمد لله الذي هدانا لهذا ) (الاعراف 43) (بل الله يمن عليكم ان هداكم للايمان) (الحجرات آية 17)

ذكر اهل اللغة ان الفرق بين التعدية بالحرف والتعدية بالفعل نفسه ان التعدية بالحرف تستعمل عندما لا تكون الهداية فيه بمعنى ان المهدي كان خارج الصراط فهداه الله له فيصل بالهداية اليه. والتعدية بدون حرف تقال لمن يكون فيه ولمن لا يكون فيه كقولنا هديته الطريق قد يكون هو في الطريق فنعرفه به وقد لا يكون في الطريق فنوصله اليه. (فاتبعني اهدك صراطا سويا) (مريم آية 43) ابو سيدنا ابراهيم لم يكن في الطريق، (ولهديناهم صراطا مستقيما) (النساء آية 68) والمنافقون ليسوا في الطريق. واستعملت لمن هم في الصراط (وقد هدانا سبلنا) (ابراهيم آية 12) قيلت في رسل الله تعالى وقال تعالى مخاطبا رسوله (ويهديك صراطا مستقيما) (الفتح آية 2) والرسول مالك للصراط. استعمل الفعل المعدى بنفسه في الحالتين.

التعدية باللام والى لمن لم يكن في الصراط (فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا الى سواء الصراط) (ص آية 22) (هل من شركائكم من يهدي الى الحق) (يونس آية 35)

وتستعمل هداه له بمعنى بينه له والهداية على مراحل وليست هداية واحدة فالبعيد عن الطريق، الضال، يحتاج من يوصله اليه ويدله عليه (نستعمل هداه اليه) والذي يصل الى الطريق يحتاج الى هاد يعرفه باحوال الطريق واماكن الامن والنجاة والهلاك للثقة بالنفس ثم اذا سلك الطريق في الاخير يحتاج الى من يريه غايته واستعمل سبحانه اللام (الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا ان هدانا الله) (الاعراف آية 43) وهذه خاتمة الهدايات.

ونلخص ما سبق على النحو التالي:

-انسان بعيد يحتاج من يوصله الى الطريق نستعمل الفعل المتعدي بإلى

-اذا وصل ويحتاج من يعرفه بالطريق واحواله نستعمل الفعل المتعدي بنفسه

-اذا سلك الطريق ويحتاج الى من يبلغه مراده نستعمل الفعل المتعدي باللام

الهداية مع اللام لم تستعمل مع السبيل او الصراط ابدا في القرآن لان الصراط ليست غاية انما وسيلة توصل للغاية واللام انما تستعمل عند الغاية. وقد اختص سبحانه الهداية باللام له وحده او للقرآن لأنها خاتمة الهدايات كقوله (ان هذا القرآن يهدي للتي هي اقوم) (الاسراء آية 9) وقوله (يهدي الله لنوره من يشاء) (النور آية 35)

قد نقول جاءت الهدايات كلها بمعنى واحد مع اختلاف الحروف.

§ (قل هل من شركائكم من يهدي الى الحق قل الله يهدي للحق أفمن يهدي الى الحق احق ان يتبع امن لا يهدي الا ان يهدى) (يونس آية 35)

جاءت يهدي للحق المقترنة بالله تعالى لان معنى الآيات تفيد هل من شركائكم من يوصل الى الحق قل الله يهدي للحق الله وحده يرشدك ويوصلك الى خاتمة الهدايات، يعني ان الشركاء لا يعرفون اين الحق ولا كيف يرشدون اليه ويدلون عليه.

§ (يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات الى النور باذنه ويهديهم الى صراط مستقيم) (المائدة آية 16)

استعمل الهداية معداة بنفسها بدون حرف واستعملها في سياق واحد مع الفعل المعدى بالى ومعنى الآيات انه من اتبع رضوان الله وليس بعيدا ولا ضالا استعمل له الفعل المعدى بنفسه والذي في الظلمات هو بعيد عن الصراط ويحتاج الى من يوصله الى الصراط لذا قال يهديهم الى صراط مستقيم (استعمل الفعل المعدى بإلى)

نعود الى الآية اهدنا الصراط المستقيم (الفعل معدى بنفسه) وهنا استعمل هذا الفعل المعدى بنفسه لجمع عدة معاني فالذي انحرف عن الطريق نطلب من الله تعالى ان يوصله اليه والذي في الطريق نطلب من الله تعالى ان يبصره باحوال الطريق والثبات والتثبيت على الطريق.

وهنا يبرز تساؤل آخر ونقول كما سبق وقدم سبحانه مفعولي العبادة والاستعانة في (اياك نعبد واياك نستعين) فلماذا لم يقل سبحانه ايانا اهدي؟ هذا المعنى لا يصح فالتقديم باياك نعبد واياك نستعين تقيد الاختصاص ولا يجوز ان نقول ايانا اهدي بمعنى خصنا بالهداية ولا تهدي احدا غيرنا فهذا لا يجوز لذلك لا يصح التقديم هنا. المعنى تطلب التقديم في المعونة والاستعانة ولم يتطلبه في الهداية لذا قال اهدنا الصراط المستقيم.

فلم قال اهدنا ولم يقل اهدني؟

لانه مناسب لسياق الآيات السابقة وكما في ايات الاستعانة والعبادة  اقتضى الجمع في الهداية ايضا.

فيه اشاعة لروح الجماعة وقتل لروح الاثرة والانانية وفيه نزع الاثرة والاستئثار من النفس بان ندعو للآخرين بما ندعو به لانفسنا.

الاجتماع على الهدى وسير المجموعة على الصراط دليل قوة فاذا كثر السالكون يزيد الانس ويقوى الثبات فالسالك وحده قد يضعف وقد يمل او يسقط او تأكله الذئاب. فكلما كثر السالكون كان ادعى للاطمئنان والاستئناس.

والاجتماع رحمة والفرقة عذاب يشير لله تعالى الى امر الاجتماع والانس بالاجتماع وطبيعة حب النفس للاجتماع كما ورد في قوله الكريم (ومن يطع الله ورسوله ندخله جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها) (النساء آية 13) خالدين جاءت بصيغة الجمع لان المؤمنين في الجنة يستمتعون بالانس ببعضهم وقوله (ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين) (النساء آية 14) في العذاب فيزيد على عذاب الكافر عذاب الوحدة فكأنما عذبه الله تعالى بشيئين النار والوحدة.

لذا فعندما قال سبحانه وتعالى اهدنا الصراط المستقيم فيه شئ من التثبيت والاستئناس هذا الدعاء ارتبط باول السورة وبوسطها وآخرها. الحمد لله رب العالمين مهمة الرب هي الهداية وكثيرا ما اقترنت الهداية باسم الرب فهو مرتبط برب العالمين وارتبط بقوله الرحمن الرحيم لان من هداه الله فقد رحمه وانت الان تطلب من الرحمن الرحيم الهداية اي تطلب من الرحمن الرحيم ان لا يتركك ضالا غير مهتد ثم قال اياك نعبد واياك نستعين فلا تتحقق العبادة الا بسلوك الطريق المستقيم وكذلك الاستعانة ومن الاستعانة طلب الهداية للصراط المستقيم صراط الذين انعمت عليهم اي صراط الذين سلكوا الصراط المستقيم، ولا الضآلين، والضالون هم الذين سلكوا غير الصراط المستقيم فالهداية والضلال نقيضان والضالين نقيض الذين سلكوا الصراط المستقيم.

لماذا اختار كلمة الصراط بدلا من الطريق او السبيل؟ لو لاحظنا البناء اللغوي للصراط هو على وزن (فعال بكسر الفاء) وهو من الاوزان الدالة على الاشتمال كالحزام والشداد والسداد والخمار والغطاء والفراش، هذه الصيغة تدل على الاشتمال بخلاف كلمة الطريق التي لا تدل على نفس المعنى. الصراط يدل على انه واسع رحب يتسع لكل السالكين اما كلمة طريق فهي على وزن فعيل بمعنى مطروق اي مسلوك والسبيل على وزن فعيل ونقول اسبلت الطريق اذا كثر السالكين فيها لكن ليس في صيغتها ما يدل على الاشتمال. فكلمة الصراط تدل على الاشتمال والوسع هذا في اصل البناء اللغوي (قال الزمخشري في كتابه الكشاف الصراط من صرط كانه يبتلع السبل كلما سلك فيه السالكون وكانه يبتلعهم من سعته).

صراط الذين انعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضآلين
لماذا جاءت كلمة الصراط معرفة بأل مرة ومضافة مرة اخرى (صراط الذين انعمت عليهم)؟ جاءت كلمة الصراط مفردة ومعرفة بتعريفين: بالالف واللام والاضافة وموصوفا بالاستقامة مما يدل على انه صراط واحد (موصوف بالاستقامة لانه ليس بين نقطتين الا طريق مستقيم واحد والمستقيم هو اقصر الطرق واقربها وصولا الى الله) واي طريق آخر غير هذا الصراط المستقيم لا يوصل الى المطلوب ولا يوصل الى الله تعالى. والمقصود بالوصول الى الله تعالى هو الوصول الى مرضاته فكلنا واصل الى الله وليس هناك من طريق غير الصراط المستقيم. (ان هذه تذكرة فمن شاء اتخذ الى ربه سبيلا) (المزمل آية 19) (الانسان آية 29) (ان ربي على صراط مستقيم) (هود آية 56) (قال هذا صراط علي مستقيم) (الحجر آية 41)

وردت كلمة الصراط في القرآن مفردة ولم ترد مجتمعة ابداً بخلاف السبيل فقد وردت مفردة ووردت جمعا (سبل) لان الصراط هو الاوسع وهو الذي تفضي اليه كل السبل (فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) (الانعام 153) (يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام) (المائدة 16) (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) (العنكبوت 69) (هذه سبيلي ادعو الى الله على بصيرة ) (يوسف آية 108) الصراط هو صراط واحد مفرد لانه هو طريق الاسلام الرحب الواسع الذي تفضي اليه كل السبل واتباع غير هذا الصراط ينأى بنا عن المقصود. (انظر شرح د. أحمد الكبيسي لكلمة الصراط وغيرها من مرادفات الطريق في النهاية) أو في هذه الصفحة.

ثم زاد هذا الصراط توضيحا وبيانا بعد وصفه بالاستقامة وتعريفه بأل بقول (صراط الذين انعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضآلين) جمعت هذه الآية كل اصناف الخلق المكلفين ولم تستثني منهم احدا فذكر:

الذين انعم الله عليهم هم الذين سلكوا الصراط المستقيم وعرفوا الحق وعملوا بمقتضاه.

الذين عرفوا الحق وخالفوه (المغضوب عليهم) ويقول قسم من المفسرين انهم العصاة.

الذين لم يعرفوا الحق وهم الضآلين (قل هل انبئكم بالاخسرين اعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون انهم يحسنون صنعا) (الكهف آية 103-104) هذا الحسبان لا ينفعهم انما هم من الاخسرين.

ولا يخرج المكلفون عن هذه الاصناف الثلاثة فكل الخلق ينتمي لواحد من هذه الاصناف.

وقال تعالى (صراط الذين انعمت عليهم) ولم يقل تنعم عليهم فلماذا ذكر الفعل الماضي؟

اختار الفعل الماضي على المضارع اولاً: ليتعين زمانه ليبين صراط الذين تحققت عليهم النعمة (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن اولئك رفيقا) (النساء آية 69) صراط الذين انعمت عليهم يدخل في هؤلاء. واذا قال تنعم عليهم لاغفل كل من انعم عليهم سابقا من رسل الله والصالحين ولو قال تنعم عليهم لم يدل في النص على انه سبحانه انعم على احد ولاحتمل ان يكون صراط الاولين غير الآخرين ولا يفيد التواصل بين زمر المؤمنين من آدم عليه السلام إلى ان تقوم الساعة. مثال: اذا قلنا أعطني ما اعطيت امثالي فمعناه أعطني مثل ما اعطيت سابقا، ولو قلنا اعطني ما تعطي امثالي فهي لا تدل على أنه اعطى احدا قبلي.

ولو قال تنعم عليهم لكان صراط هؤلاء اقل شأنا من صراط الذين انعم عليهم فصراط الذين انعم عليهم من اولي العزم من الرسل والانبياء والصديقين اما الذين تنعم عليهم لا تشمل هؤلاء. فالاتيان بالفعل الماضي يدل على انه بمرور الزمن يكثر عدد الذين انعم الله عليهم فمن ينعم عليهم الآن يلتحق بالسابقين من الذين انعم الله عليهم فيشمل كل من سبق وانعم الله عليهم فهم زمرة كبيرة من اولي العزم والرسل واتباعهم والصديقين وغيرهم وهكذا تتسع دائرة المنعم عليهم اما الذين تنعم عليهم تختص بوقت دون وقت ويكون عدد المنعم عليهم قليل لذا كان قوله سبحانه انعمت عليهم اوسع واشمل واعم من الذين تنعم عليهم.

لماذا قال صراط الذين انعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضآلين؟ اي لماذا عبر عن الذين انعم عليهم باستخدام الفعل (انعمت) والمغضوب عليهم والضآلين بالاسم؟

الاسم يدل على الشمول ويشمل سائر الازمنة من المغضوب عليهم والدلالة على الثبوت. أما الفعل فيدل على التجدد والحدوث فوصفه انهم مغضوب عليهم وضالون دليل على الثبوت والدوام.

اذن فلماذا لم يقل المنعم عليهم للدلالة على الثبوت؟
لو قال صراط المنعم عليهم بالاسم لم يتبين المعنى اي من الذي أنعم انما بين المنعم (بكسر العين) في قوله أنعمت عليهم لان معرفة المنعم مهمة  فالنعم تقدر بمقدار المنعم (بكسر العين) لذا اراد سبحانه وتعالى ان يبين المنعم ليبين قدرة النعمة وعظيمها ومن عادة القرآن ان ينسب الخير إلى الله تعالى وكذلك النعم والتفضل وينزه نسبة السوء اليه سبحانه (وانا لا ندري اشر اريد بمن في الارض ام اراد بهم ربهم رشدا) (الجن آية 10) والله سبحانه لا ينسب السوء لنفسه فقد يقول (ان الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم اعمالهم فهم يعمهون) (النمل آية 4) لكن لا يقول زينا لهم سوء اعمالهم (زين لهم سوء أعمالهم) (التوبة آية 37) (زين للناس حب الشهوات ) (آل عمران آية 14) (وزين لفرعون سوء عمله). (غافر آية 37) (أفمن زين له سوء عمله) (فاطر آية 8) (واذ زين لهم الشيطان اعمالهم) (الانفال آية 48) اما النعمة فينسبها الله تعالى الى نفسه لان النعمة كلها خير (ربي بما انعمت علي) (القصص آية 17) (ان هو الا عبد انعمنا عليه) (الزخرف آية 59) (واذا انعمنا على الانسان أعرض ونئا بجانبه واذا مسه الشر كان يؤوسا) (الاسراء آية 83) ولم ينسب سبحانه النعمة لغيره الا في آية واحدة (واذ تقول للذي انعم الله عليه وانعمت عليه امسك عليك زوجك) (الاحزاب آية 37) فهي نعمة خاصة بعد نعمة الله تعالى عليه.

لماذا قال المغضوب عليهم ولم يقل أغضبت عليهم؟ جاء باسم المفعول واسنده للمجهول ولذا ليعم الغضب عليهم من الله والملائكة وكل الناس حتى اصدقاؤهم يتبرأ بعضهم من بعض حتى جلودهم تتبرأ منهم ولذا جاءت المغضوب عليهم لتشمل غضب الله وغضب الغاضبين.

غير المغضوب عليهم ولا الضآلين: لم كرر لا؟  وقال غير المغضوب عليهم والضالين؟ اذا حذفت (لا) يمكن ان يفهم ان المباينة والابتعاد هو فقط للذين جمعوا الغضب والضلالة فقط اما من لم يجمعها (غير المغضوب عليهم ولا الضآلين) فلا يدخل في الاستثناء. فاذا قلنا مثلا لا تشرب الحليب واللبن الرائب (اي لا تجمعهما) اما اذا قلنا لا تشرب الحليب ولا تشرب اللبن الرائب كان النهي عن كليهما ان اجتمعا او انفردا.

فلماذا قدم اذن المغضوب عليهم على الضآلين؟ المغضوب عليهم الذين عرفوا ربهم ثم انحرفوا عن الحق وهم اشد بعدا لان ليس من علم كمن جهل لذا بدأ بالمغضوب عليهم وفي الحديث الصحيح ان المغضوب عليهم هم اليهود واما النصارى فهم الضالون. واليهود اسبق من النصارى ولذا بدأ بهم واقتضى التقديم.

وصفة المغضوب عليهم هي اول معصية ظهرت في الوجود وهي صفة ابليس عندما امر بالسجود لآدم عليه السلام وهو يعرف الحق ومع ذلك عصى الله تعالى وهي اول معصية ظهرت على الارض ايضا عندما قتل ابن آدم اخاه فهي اذن اول معصية في الملأ الأعلى وعلى الأرض (ومن يقتل مؤمنا متعمدا.فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه) (النساء آية 93) ولذا بدأ بها.

أما جعل المغضوب عليهم بجانب المنعم عليهم فلان المغضوب عليهم مناقض للمنعم عليهم والغضب مناقض للنعم.

خاتمة سورة الفاتحة هي مناسبة لكل ما ورد في السورة من اولها الى آخرها فمن لم يحمد الله تعالى فهو مغضوب عليه وضال ومن لم يؤمن بيوم الدين وان الله سبحانه وتعالى مالك يوم الدين وملكه ومن لم يخص الله تعالى بالعبادة والاستعانة ومن لم يهتد الى الصراط المستقيم فهم جميعا مغضوب عليهم وضالون.

ولقد تضمنت السورة الايمان والعمل الصالح، الايمان بالله (الحمد لله رب العالمين) واليوم الآخر (مالك يوم الدين) والملائكة والرسل والكتب (اهدنا الصراط المستقيم) لما تقتضيه من ارسال الرسل والكتب. وقد جمعت هذه السورة توحيد الربوبية (رب العالمين) وتوحيد الالوهية (اياك نعبد واياك نستعين) ولذا فهي حقاً أم الكتاب.



انتهى بحمد الله وفضله سائلة الله عز وجل ان اكون قد وفقت لنقل ما ورد عن الدكتور فاضل السامرائي بصدق وأمانة قاصدة وجه الله تعالى وما توفيقي الا بالله العليم العظيم. أسأل الله تعالى أن يعيننا على نشر هذا العلم وان يبارك بالدكتور الفاضل فاضل السامرائي وبعلمه زاده الله علما وفهما وجزاه عن المسلمين جميعا خير الجزاء.وسأحاول بعون الله نشر ما سمعته من الدكتور في شرح بعض اللمسات البيانية في نصوص من التنزيل كما عرضت على قناة الشارقة الفضائية في برنامج قول معروف. وقد اعانني الله تعالى وقدر لي ان اطبع هذه المعلومات التي سمعتها من هذا البرنامج لحسن الاثر الذي تركه في نفسي واحساس الإيمان الذي استشعر به وانا استمع الى هذه اللمسات البيانية التي قد نغفل عنها مع قراءتنا المتكررة لآيات الله وكتابه الكريم. وربما استوقفتنا هذه اللمسات لتجعلنا نمعن النظر والفهم في الآيات القرآنية لنذوق حلاوتها ونستشعر المعاني الراقية السامية التي تحملها آيات القرآن العطرة بين ثناياها فالحمد لله وسبحان الله ولا قوة الا بالله. إن هذا القرآن لا تنقضي عجائبه حقاً فبارك الله لنا بالقرآن العظيم وبهدي سيد المرسلين محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم ونفعنا جميعا بما نسمع ونتعلم وقل رب زدني علما واجعل اللهم القرآن العظيم ربيع قلوبنا ونور صدورنا وسابقنا ودليلنا إليك وإلى جناتك جنات النعيم.  كما ارجو من كل من تصله هذه الصفحات ان يعين على نشرها وان يدعو لمن اوصلها ونشرها ولنتذكر ان من الدعاء المستجاب دعاء المسلم لأخيه المسلم في ظهر الغيب، أرسل لكم هذه الصفحات فادعو لي من خالص قلوبكم ثم أعيدوا إرسالها للآخرين ليدعوا لكم، و هكذا كل يرسله للآخر، و لندعوا لبعضنا البعض

“اللهم وفق الأستاذ الفاضل الدكتور السامرائي وكل من ساهم في عرض المادة العلمية لهذه الصفحات ونشرها، و أعنه على ذكرك و شكرك و حسن عبادتك، اللهم وفقه لما تحب و ترضى، اللهم أحسن خاتمته، و أجعل قبره روضة من رياض الجنات، اللهم ارحمه و ارضى عنه، وارزقه الجنة التي وعدت عبادك الصالحين، اللهم انصر الإسلام و المسلمين، و أذل الشرك و المشركين، و دمر أعداء الدين و أجعل تدبيرهم تدميرهم يا ذا الجلال و الإكرام،اللهم انصر اخواننا في فلسطين على اليهود الغاصبين وحرر الاقصى وارزقنا فية صلاة قبل الممات، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات الاحياء منهم والاموات انك سميع قريب مجيب الدعوات، اللهم ارحمنا اذا ما صرنا الى ما صاروا اليه تحت الجنادل والتراب وحدنا برحمتك يا ارحم الراحمين. الهم وثبت قلوبنا على دينك وتوفنا وانت عنا راض اللهم آمين.

تم بحمد الله تعالى وتوفيقه بتاريخ:

الاثنين, 28 كانون الثاني, 2002م الموافق 15 ذو القعدة 1422هـ

اعداد و طباعة: سمر محمد الأرناؤوط (طبع محتوى النص بصدق وأمانة كما جاء على لسان الدكتور فاضل السامرائي في الحلقات التلفزيونية
 لمسات بيانية في سورة الفاتحة  أسأل الله تعالى ان اكون قد أصبت وأسأله العفو والعافية والمعافاة وان ينفعنا بما علمنا وما كانت هذه 
الصفحات لتبصر النور الا بتوفيق من الله تعالى فله الحمد والمنة)
===================
=================



البسملة



بسم الله الرحمن الرحيم: ما هي وما معناها وما تفسيرها؟

نحن في الحلقة الماضية وقفنا عند الإستعاذة وبيّنا كل ما يتعلق بها إن شاء الله بقدر وسعنا. الآن ننتقل إلى سورة الفاتحة. وسورة الفاتحة تبدأ بقوله تعالى: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3)) إلى آخر السورة. نحن هنا نريد أن ننبه إلى مسألة لعلها تتعلق بأصول الفكر الإسلامي والفهم الإسلامي كيف ينبغي أن يكون وماذا ينبغي أن يكون عليه المسلم في علاقته بالآخرين. البسملة فيها كلام لكن الذي أخذ به المصحف المتداول الآن الذي هو مصحف المدينة النبوية وما أُخِذ عنه ومطبوع بالملايين وهو بين أيدي المسلمين هو أن تكون البسملة هي الآية الأولى من سورة الفاتحة. الآن إذا فتحنا المصحف سنجد بسم الله الرحمن الرحيم في الفاتحة أمامها رقم 1 معناه هي الآية الأولى وهذا الذي أخذ به المصحف هو ما كان عليه جمهور عظيم من أصحاب النبي r وقد نبّه المشرفون على تدقيق المصحف في آخره إلى أنهم أخذوا من هذا وغيره في عدّ الآيات بما ورد أو بما رواه عبد الرحمن السُلَمي عن أمير المؤمنين علي إبن أبي طالب كرّم الله وجهه. قد يكون هناك آراء أخرى أو لا شك هناك آراء أخرى وروايات أخرى لكننا نقول حينما تكون هناك أكثر من رواية في قضية معينة ويقتنع المسلم بإحدى هذه الروايات بناء على ما يراه من دليل .عند ذلك هذا هو الأصل الذي أريد أن أقرره هنا: ينبغي أن يعتقد أن ما أخذ به هو لصاحب الأجرين وما أخذ به مُخالِفه أخذ بما قال به صاحب الأجر الواحد في إعتقاده هذا نصف الإعتقاد. والنصف الثاني أن يُقرّ في نفسه أن يكون إحتمال أن يكون ما أخذ به هو للأجر الواحد وما أخذ به مخالِفه هو صاحب الأجرين حتى لا نبقى في شد وفي تعصب. أنا مقتنع الآن تماماً بأن ما أخذ به هذا المطبوع ،أخذ به هذا المصحف، من عدّه آية واحدة نقلاً عن الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أخذ به وسائر الصحابة إذن أعتقد أن الأخذ بهذا أخذٌ برأي صاحب الأجرين من المجتهدين وما أخذ به غيري الذي لا يعدّها آية من الفاتحة هو صاحب الأجر الواحد لكن في الوقت نفسه أنا معتقد قد أكون أنا صاحب الأجر الواحد وهو صاحب الأجرين حتى نتخلص من فكرة المشاحّة والمجادلة وإضاعة الوقت فيما لا فائدة من ورائه لأن هذا أخذ به جمع من الصحابة وهذا أخذ به جمع من الصحابة ولسنا خيراً من خير القرون لأن الرسول r قال: خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم. ومن هنا نحن سنقف عند قوله بسم الله الرحمن الرحيم بوصفها الآية الأولى من سورة الفاتحة.

يقولون أن البسملة وردت 114 مرة كعدد سور القرآن فهل في هذا إيجاز؟ هذه الآية وردت في سورة النمل في داخلها (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30)) ولم توضع في البراءة أو سورة التوبة فجاءت على عدد سور القرآن الكريم 114 مرة.

بسم الله:

هذه اللفظة حينما نقول بسم الله في أول المصحف الشريف، الله سبحانه وتعالى يعلّمنا يعني هذا من فضله جلّت قدرته أنه يُجري على أنفسنا ما ينبغي أن نقوله كما أن آدم u لما عصى ربه لم يعرف كيف يتوب وكيف يستعغفر فأوحى إليه الله سبحانه وتعالى كلمات فتلقى آدم من ربه كلمات فرددها فتاب عليه, هذه الفاء التي في (فتاب عليه) تسمى الفاء الفصيحة لأنها تفصح عن كلام محذوف يعني فرددها فتاب الله عليه. فمن فضل الله تعالى على هذه الأمة أن علّمها كيف تقول وكيف تدعو وكيف تناجي ربها؟ فتبدأ بكلمة بسم الله. والعلماء يقدّرون محذوفاً يقولون لأن الجار والمجرور في الكلام لا يقويان على الوقوف لوحدهما ينبغي أن يتعلقا أي أن يرتبطا بفعل أو ما يقوم قيام الفعل من أسماء الفاعلين والمفعولين فيقدّرون : بسم الله أبتدئ أو بسم الله إبتدائي، بسم الله أبتدئ في القرآءة أو بسم الله أبتدئ القرآءة، بسم الله أبتدئ الأكل، بسم الله أابتدئ اللبس، بسم الله أبتدئ حياتي وأنا خارج من منزلي، بسم الله أبتدئ وأنا داخل إلى أهلي إلى منزلي. بحسب ما تفعله تقول: بسم الله. وقدّروا هذا المحذوف من فعل أو غيره بعد كلمة بسم الله حتى لا يبتدئ الإنسان في ذهنه بغير إسم الله يعني أن تكون كلمة بسم الله هي البداية. أنت تبدأ بها في كل شأن من شؤون حياتك وعند ذلك تكون مطمئناً أنك مع الرحمن الرحيم، مع اللطيف الخبير، مع الذي يراك حين تقوم وتقلّبك في الساجدين، مع الله سبحانه وتعالى فتبدأ بسم الله.

كلمة (الله) هي في الحقيقة إسم للذات التي هي كما يقولون في الفلسفة واجب الوجود. هي إسم له يعني هي لفظ يشير إلى خالق السموات والأرض إلى الذي ليس كمثله شيء. هذه لفظة(الله). الله هي إسم أيضاً نحن نبدأ بإسم الإسم كيف يكون هذا؟ أثار بعض المفسرين كيف نقول بسم الإسم؟ ثم جمهور العلماء وبعض العلماء قالوا هذه اللفظة هي تشير إلى الذات الإلهية. أنت يمكن أن تقول أنا أحدّثك الآن بإسم فلان وليس بإسمي الشخصي. بإسم زيد حينما تذكر كلمة زيد هذه الأصوات الزاي والياء والدال مع المصوتات التي فيها يحضر في ذهنك ذلك الإنسان. وعندما تقول يوسف، المخرج يوسف تحضر في ذهننا صورة الشخص يوسف. فكلمة (الله) عندما نقولها الله سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء كل ما خطر في ذهنك فالله عز وجل بخلافه لكن يحضر في ذهننا هذا المسمّى كما وصف نفسه سبحانه وتعالى. أنت عندما نقول بسم الله يعني بسم هذا المسمى الذي لفظه الله تشير إليه.

لماذا لفظة الله؟ قد يقول قائل لماذا لم يقل القادر، القهار، أو أي إسم من أسماء الله الحسنى؟ لعلنا تطرقنا إلى ذلك في المرة الماضية. كلمة الله حينما يقولها الإنسان هذه خاصة بالذات، بالذي وصف نفسه ليس كمثله شيء. حتى في الجاهلية خصصوا كلمة الله لخالق السموات الأرض وما بينهما المهيمن المسيطر على أمور الدنيا وذكروا لأصنامهم أسماءً. حتى إذا قالوا الإله أو الآلهة يعنون بها الأصنام لكن لم يطلقوا كلمة الله على صنم من الأصنام أو معبود من المعبودات فالله في أ ذهان العرب مميز، هذا اللفظ مميز له خصوصية لا يشاركه فيه أحد.

كلمة الله خاصة ليست كلمة رب مثلاً. أيضاً يمكن أن يقولوا مع الإضافة يقولون: رب الإبل يضيفونها (أنا رب الإبل وللبيت رب يحميه) الإله الآلهة إلخ.. لكن لفظة الله مخصوصة خاصة بالعليم الخبير، بخالق الكون، بالموجِد للموجودات جميعاً. من هنا جاء بعض القول أن هذه اللفظة إذن مرتجلة إرتجلت هكذا غير مشتقة كلمة الله لكن الذي يرجحه جمهور العلماء أنها مشتقة يعني مأخوذة في الأصل القديم من فِعل كأنما في تصورهم في القديم وهو يوافق اللفظ كما سنأتي أنها أُخِذت من فعل إلِه يأله وعندنا الباب الآخر إلَه يألَه بمعنيين متقاربين. إلِه يأله بمعنى عبَد أو أحب حباً عظيماً إلى درجة العبادة وبعض العرب أبدل الهمزة واواً فقال ولِه يوله ويله ومنها الولهان العاشق المغرم فهي في الأصل إذن بمعنى المحبة العظيمة إلى درجة العبادة أو العبادة مخلوطة بالحب الغامر. فأصل اللفظة إذن هي عبادة وحب أوعبادة بحُبّ ألِه يأله. ثم دخلت الألف واللام فصارت الإله وهي أصلها إلِه (إلِه يأله إلهاً) بوزن كتاب. كتاب وزنها فعلان لكن معناها مفعول. تقول هذا كتابنا أي هذا مكتوبنا هذا الشيء الذي كتبناه فهي فعال بمعنى مفعول. إله بمعنى مألوه مثلها يعني معبود محبوب مألوه. ثم دخلت (أل) على ألِه فصارت الإله. الهمزة التي تقابل فاء الكلمة (الإله) لكثرة إلاستعمال حذفتها العرب. والعرب تحذف لكثرة الإستعمال: (لم تكون) يقولونها (لم تك) عندها الحذف لكثرة الإستعمال فصارت الله بفتح اللام ووزنها العال لأن الفاء حذفت. العرب بجمهورهم فخّموا اللام فما يقولوا (اللَه) بالترقيق وإنما قالوا (اللَه) بالتفخيم. وليست هناك قبيلة عربية حينما تنطق إسم الجلالة تقول الله بالترقيق وإنما تقول الله بالتفخيم وهذا أيضاً في إجماعهم. بعض العرب في لغاتهم الأخرى يفخمون فمنهم من يقول الصلاة بترقيق اللام ومنهم من يقولها مفخّمة ومظلوم مرققة ومظلوم مفخمة، القدامى. نحن الآن لا نصلح شاهداً لكن هكذا كانوا بعض العرب يرقق اللام ووبعضهم يفخّم اللام في مواصع لكن العرب جميعاً كما روى علماؤنا المشافهون لقبائل العرب قالوا: أجمع العرب على تفخيم هذا الإسم إلا إذا كان ما قبله كسرة أو ياء عند ذلك يرقق إستثناءً فنقول (بالله) أو (أفي الله شك). لكن بخلاف ذلك (وعلى الله فليتوكل المتوكلون) فيكون مفخماً. إذن هي لفظة الله هي توصف الله الرحمن ، الله الرحيم لكن لا تأتي وصفاً.لا نقول الرب الله نصفه ولذلك حتى بعضهم يقول هو الإسم الأعظم لله سبحانه وتعالى لأنه يوصف ولا يصف غيره ولأنه يحمل كل سمات الأسماء الأخرى (ولله الأسماء الحسنى) كل إسم من تلك الأسماء موجود تحت مظلة لفظة الله وهذه الخصوصية في التفخيم التي فيها وهذا المعنى الذي فيها من عبودية ومحبة يعني حب الله سبحانه وتعالى والإنسان يعني هؤلاء المتصوفة الذين عرفوا الشريعة يعني كانوا على منهج الشرع كانوا مغرمين فعلاً بالله سبحانه وتعالى لأنهم في إطار فهمهم للشريعة وليس في إطار الخروج على الشريع,. هم الذين قالوا الحقيقة والشريعة واحدة ما عندنا هذه حقيقة وهذه شريعةكالشيخ عبد القادر الجيلاني قدّس الله سرّه ومعروف الكرخي وغيرهم كانوا علماء شريعة. الشيخ الجيلاني كان حنبلياً ودرّس المذهب الحنبلي 30 سنة في مدرسته. كانوا علماء ومان فيهم رقة في قلوبهم فاتّصلوا بالله سبحانه وتعالى بهذا النوع من الشفافية في الروح فهو حبٌ إذن. هذا لفظ الله.

المستمع يفكر أن اللفظ مر بمراحل من إلِه بأله ثم حذفت الهمزة ثم إلى أن وصل إلى اللفظ الله فكيف تفسر هذا؟ هذا نحن نقوله ولا ندري المدة التس إستغرقها هذا التحول في لغة العرب لما كانت هكذا ممكن أن يكونبوقت قصير وممكن أن يكون وٌضِع ابتداء وضعاً هكذا (الله) لكن هذا التأويل مستساغ. التأويل يعني أن جاءت الكلمة (الله). كلمة رحمن عندنا الفعل رحم وعندنا رحمن ورحيم وسنأتي إليها. إذن فهذه كلمة بسم الله أنه نبدأ هكذا مع هذا التصور للفظ الله سبحانه وتعالى.

الرحمن الرحيم:

ننتقل إلى كلمة الرحمن الرحيم: كلتا الكلمتين مشتقة من ر-ح-م رحم ومن هنا جاءت الرحمة وفيها معنى الإنعطاف والعطف أو الضمّ والإحتضان. هذا فيه رحمة فيها عاطفة وفي الحديث الصحيح: شققت الرحم من إسمي الرحمن فهي معلقة بالعرش تقول اللهم صِل من وصلني واقطع من قطعني. في صلة الرحم بين الناس يعني الإسلام حريص على الروح الإجتماعية . ما عندنا في الإلاسم أب يعيش في معزل عن أبنائه يطردونه أو يضعونه في ملجأ أو الأم لا تدري من أولادها وأين أولادها وهذا الذي نراه في الغرب. والإسلام دين تراحم، جين تعاطف، دين توادّ تبحث عن جارك وتسأل عنه. الناس الآن لا يعرفون مَنْ جارهم؟ ماذا يشتغل؟ بات جوعان أو شبعان؟ ليس هذا ديننا. فهذه هي الرحمة وكلمة رحمن لاحظ التدرج من العام إلى الخاص الآن. والتدرج قد يكون من الخاص إلى العام ومن العام إلى الخاص. نحن قلنا أن كلمة الله هيلا تضم تحت لوائها كل الأسماء الحسنى أنت تستحضرها. لما ننتقل إلى الرحمن نجد أن صيغتها صيغة فعلان مثل عطشان وظمآن. يسميها العلماء صيغة تكثير أو صيغة مبالغة يعني فلان عطِش أو يعطش غير عطشان. عطشان كثير العطش وعطشه شديد. رحمن معناه كثير الرحمة ذو الرحمة العامة الشاملة ولذلك يقولون كلمة الرحمن معتاها هو رحمن في الدنيا والآخرة هو رحمن بكل خلقه مؤمنهم وكافرهم لأن الله سبحانه وتعالى لا يحرم الكافر من رحمته وفي الحديث: لو كانت هذه الدنيا تعدل جناح بعوضة عند ربكم ما سقى كافراً فيها شربة ماء. لكن يسقي الكافر ويعطيه الصحة ويعطيه النظر ويعطيه السمع ويعطيه الإستقامة وهو يكفر بالرحمن ومع ذلك يرحمه الله في هذه الدنيا ولكن سيأتي الوقت الذي يحاسبه عليه. فهو رحمن في الدنيا والآخرة للجميع.

الرحيم:

أما الرحيم فهي مرتبة ثالثة: الله، الرحمن، وتأتي الرحيم. يقول علماؤنا الرحيم بالمؤمنين لذلك لاحظ كلمة الرحمن لأنها المرحلة الثانية بعد لفظ الله جاءت الرحمن كما أن لفظة الله لا يُسمّى بها مخلوق كذلك كلمة الرحمن لا يسمى بها مخلوق ولا حتى بالإضافة لذلك لما مسيلمة سمي رحمن اليمامة أخزاه الله سبحانه وتعالى لايسمى الرحمن. لكن كلمة الرحيم يمكن أن يوصف بها البشر أيضاً لأنها رحمة قليلة بالقياس إلى الرحمن ولا تقارن برحمة الله سبحانه وتعالى ووصِف محمد r بالرحيم (قد جاءكم رسول من أنفسكم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم). أنت ممكن أن تقول هذا إنسان رحيم لكن لا يمكن أن تقول هذا إنسان رحمن. هذا التدرج يفيد الإنتقال من الكل إلى الجزئيات.

هنا نقف عند شيء آخر في (بسم الله الرحمن الرحيم) يتعلق بالرسم. كلمة إسم ينبغي أن يكون فيها ألف وكلمة الله ينبغي أن يكون فيها ألف وكلمة الرحمن ينبغي أن يكون فيها ألف. هذه الإلأِفات غير موجودة هنا. في هذا المجال نقول خط المصحف توقيف. وقولنا خط المصحف توقيف هو نقل لما قاله القدماء لكن ماذا يعنون بالتوقيف؟ فيها قولان: بعضهم يرى أن الرسول r قال لهم إرسموا هذه الكلمة هكذا مع أنه كان أمياً لكن كان هذا بإلهام من الله تعالى فجاء رسم الكلمات هكذا. وفريق آخر من العلماء يقولون لا، ما عندنا نص ثابت يقول أن الرسول r قال إرسموا كلمة رحمة هنا هكذا وارسموها هنا هكذا، لا يوجد. فإذن هذا رسم الصحابة الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم. وكان الإسم يمر بمراحل تطور الخط العربي كان يمر بمراحل فهذه مرحلة من مراحل تطور الخط العربي. وعقلاً كان يمكن أن يُغيّر رسم المصحف إلى الكتابة الحديثة لكن المسلمون وأول من أفتى بعدم جواز تغيير خط المصحف هو الإمام مالك رحمه الله. لما سُئل بعد أن إنتشر التعليم وتطور الخط العربي فسُئل: أنكتب المصحف على كتبة اليوم؟ نغيّر؟ هو رحمه الله رأى أن هذا قد يكون سبباً للتحريف وقد يُحرّف المصحف بحجة كتابته على الإملاء الحالي فقال لا إلا على الكتبة الأولى التي أقرّها صحابة رسول الله r جميعاً في عهد عثمان عندما بعث المصاحف إلى الآفاق. قال هذا الذي أجمع عليه صحابة رسول الله r يثبت كما هو أما التعليم للصبيان أو إقتطاع الآيات لغرض علمي تعلميم فعل كتبة اليوم. لهذا إلى اليوم إذا أردت أن تكتب مصحفاً تضع نسخة من المصحف القديم وتنقش عليه حرفاً حرفاً فما رسمه القدماء ترسمه وما تركوا رسمه لا ترسمه. بحيث أن رسم المصحف كما هو معلوم: الحروف لم تكن منقوطة ولا مشكّلة فلما أنتشر الإسلام وصار الناس لا يقرأون من الشيوخ وصاروا يريدون أن يقرأوا من الكتاب، من المرسوم، من الورق بدأ الناس يحفظونه من غير شيخ كما هو الحال الآن وهذا من أخطر ما يكون الذي يريد أن يحفظ سورة ينبغي أن يقرأها على مقرئ على شخص حتى لا تحفظ كلمة خطأ وتعلق به. فبدأوا يخطئون في المرفوع والمنصوب إلى أن تنبّه زياد بن أبيه وحاول مع أبو الأسود الدؤلي الذي هو من التابعين فقال له ضع للناس شيئاً يعصم ألسنتهم من اللحن، من الخطأ في القرآن. قال كيف أضع شيئاً ما وضعه صحابة رسول الله؟ فقال: هو والله خير. فلم يقتنع إلى أن وضع زياد إبن أبيه على مدرجته (على الطريق) قارئاً بصوت جميل قال إذا جاء أبو الأسود الدؤلي فاقرأ قوله تعالى (وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) وإقرأها (ورسولِه) وهذا طبعاً يقلب المعنى. فلما سمعها أبو الأسود الدؤلي جاء هو إلى زياد فقال: إبغني كاتباً وقال له إذا ضممت فمي في الحرف فضع نقطة بين يديه (نقطه مطموسة) هذا حديث قد يطول.

هكذا تُرسم (بسم الله الرحمن الرحيم) رُسمت من غير ألف. ولفظة الرحمن حيثما وردت في القرآن هي من غير ألف ولفظة الله حيثما وردت في القرآن هي من غير ألف. لفظة إسم أحياناً تأتي بألف وأحياناً تأتي من غير ألف. قد يكون في ذلك سر وقد يكون هذا الذي كان عليه الكُتّاب. لو نظرنا في الآيات التي بين أيدينا من سورة الفاتحة الآية الأولى (بسم الله الرحمن الرحيم) نجد أن كلمة إسم أضيفت إلى لفظة الله ودخلت عليها الباء . في سورة النمل الآية 30-31 (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31)) نجد أيضا أن الباء إتصلت بكلمة إسم وأضيفت إلى إسم الجلالة (الله). في سورة هود الآية 41 (وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41)) أيضاً أضيفت إلى لفظ الجلالة الله وابتدأت بالباء. إذا كانت الآين بهذا الشكل: إذا إتصلت بالباء اللفظة (إسم) وأضيفت إلى إسم الجلالة (الله) فعند ذلك ينبغي أن تحذف الألف. إذن عندنا شرطان لحذف الألف مع إسم. نحن نسميها ألف وهي في الحقيقة رمز لهمزة الوصل وهمزة الوصل كما هو معلوم تسقط في الدرج وتثبت في البداية. يعني عندما نقول: ما اسمك؟ (حذفت الألف في اللفظ ولكن هي ثابتة في الرسم) الرسوم يكون على الإبتداء أو الوقف ولكن إذا قال: إسمي فلان بدأ بهمزة قطع. فإذن بهذين الشرطين تحذف ألف إسم وإذا إختل أحد هذين الشرطين أو كلاهما عند ذلك تثبت الألف.

عندنا نماذج: في سورة الواقعة (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)) الباء إتصلت بلفظة إسم لكن أضيفت إلى لفظة رب ولم تضف إلى لفظة الله. فنجد في المصحف رسمت بالألف في الواقعي في الآيات 74 و 96 (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)) (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)) وفي الحاقة الآية 52 (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)) وفي العلق الآية الأولى (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)). ولو قال نسبح بحمد الله لحذف الألف. (واذكروا اسم الله) المائدة أضيفت إلى لفظة الله لكن لفظة إسم غير مرتبطة بالباء. فكلمة إسم أضيفت إلى لفظ الله لكنها في الوقت نفسه خلت من الباء فعند ذلك ذكرت الألف مع أنها مضافة في آية المائدة وفي الأتعام في عدة مواطن وفي الحج في عدة مواطن. (تبارك اسم ربك) هنا لا الباء موجودة ولا أضيفت إلى إسم الله.فالألف أيضاً موجودة وكذلك (بئس الإسم الفسوق بعد الإيمان) في الحجرالكلمة الإسم فيها الألف. إذن الخلاصة نقول: تحذف الألف بوجود هذين الشرطين: مضافاً إلى لفظ الجلالة ومتصلة بالباء. إذا إختل أحد الشرطين أو كلاهما فعند ذلك تثبت الألف وعلى هذا رسم المصحف.

سؤال: لماذا جاءت لزاماً منصوبة وأجل مرفوعة مع أنها معطوفة على منصوب في قوله تعالى في سورة طه (وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129))؟

هذه مسألة نحوية: لزاماً خبر كان. وأجلٌ: الواو عطفت جملة ولم تعطف مفرداً يعني والأمر أجلٌ مسمى كأنه خبر لمبتدأ محذوف ويكون من قبيل عطف الجمل وليس من عطف المفردات.

سؤال: لماذا النهي ضعيف في قوله تعالى في سورة النور (وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) النور)؟

سبب نزول الآية أن فلاناً من كفار مكة كان يبعث بخادماته إلى فعل الفاحشة حتى يأخذ منها المال. فالقرآن الكريم أراد أن يشنّع به وهو كان من كبراء قريش ومات كافراً. ومنهم من يقول أنه المقصود كان أحد المنافقين في المدينة. أياً كان الذات غير مهمة بقدر أهمية الواقعة أن الذي يفعل هذا كان منافقاً أو من الكافرين مات على كفره أو مات على نفاقه كان يفعل هذا. فكما أن القرآن أرّخ لنا في القرآن الكريم (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) التكوير) وهذا لم يكن شائعاً في العرب وإنما لعِظم الجُرم أرّخه مع أنه قليل كان ومع ذلك سجّله لعِظمه. وهذا أيضاً كان لِعِظمه: أنت وجه من وجوه قومك كيف تفعل هذا؟ فأراد القرآن الكريم أن يثبّت أنه كان في العرب من أمثال هؤلاء من غير المسلمين. فهذا ليس نهياً للمسلمين أن لا تفعلوا هكذا. هذا أمر والأمر الآخر أن بعض المفسرين يذهب إلى أنه (ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء) بمعنى أنه -ويكون عامّاً عند ذلك وخصوص السبب لا يمنع أحدكم من عموم الحكم- إنه إذا منعت إبنتك من الزواج وحرمتها من ذلك قد يكون هذا سبباً في بغائها يعني قد لا تصبر فلا تكرهها على البغاء بعدم تزويجك إياها. هذا قول رأي لا ينسجم مع سبب النزول لكن أيضاً يمكن أن يفهم هكذا لأن الكلام كان على الزواج والتزويج فجاءت هذه الآية (ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء). هو يريد أن يبقي ابنته حتى يستفيد منها حتى قيام الساعة ويمكن الآن يريد أن يستفيد منها من راتبها ولا يزوجها. قد يكون هذا لكن أصل الرواية كما قدّمناه.

سؤال: ما هو الفرق بين الريح والرياح في القرآن؟

الفرق بين ريح ورياح تكلم فيه بعض العلماء وقالوا أن الرياح تكون للخير وريح تكون للشر. لكن التدقيق في الآيات جميعاً وعندما نستعرض نحن نستفيد مما جمعه محمد فؤاد عبد الباقي في المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم نجد أن كلمة الرياح مرسومة بالألف لم ترد إلا في موضع واحد وهي للخير فعلاً (وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) (الروم)) هذه للخير. في جميع المصحف الرياح لم ترسم بالألف وإنما من غير ألف. كونها من غير ألف في 13 موضعاً أجمع القرّاء السبعة على قراءتها ريح . وفي 15 موضعاً رسمت الريح ولكنها فيها قراءة الرياح. عندما نعود للفظ نجد أن أصل الريح هو الهواء المتحرك وهو إسم جنس مثل كلمة ماء جنس وكما قالت العرب ماء ومياه وأمواه جمعت قالت ريح ورياح فهي تأتي للجمع.

بُثّت الحلقة بتاريخ 29/1/2006م

أسئلة المشاهدين خلال حلقة 29/1/2006م:

ما تفسير قوله تعالى في سورة البقرة (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29))؟

إذا كانت الوقفة على كلمة الراسخون في آية سورة آل عمران (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)) فكيف يكون تفسير الآية؟

قال تعالى في سورة القصص (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14)) كيف يقتل موسى رجلاً يعد أن يؤتى العلم والحكم
=============

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق