الثلاثاء، ٢٢ سبتمبر/ أيلول ٢٠١٥)
< من بين الأشكال المتعددة للقتل، تبرز العمليات الانتحارية باعتبارها الأكثر استحواذاً على الاهتمام والتركيز. إذ فقط عند الحديث عن هذه العمليات، نجد التفسيرات الدينية والثقافية تتركز بقوة، ونجد الحديث عن (ثقافة موت) خاصة بالعرب والمسلمين يتعاظم بطريقة تنقل الحديث إلى مشكلة استثنائية بثقافة العرب أو بالإسلام كدين.
إلا أن هذا التعاطي الصحافي والمنتشر، سواء في الغرب أم عند العلمانيين والليبراليين العرب، مع العمليات الانتحارية باعتبارها غرائبية، تم تجاوزها في الأبحاث الأكاديمية في العلوم الاجتماعية منذ فترة طويلة، حيث يتم التعامل مع هذه الظاهرة باعتبارها ظاهرة عادية، قدم العديد من الباحثين في العلوم الاجتماعية والأنثروبولوجيا والعلوم السياسية تفسيرات لها.
لعل مقالة الدكتور في جامعة شيكاجو روبرت بابي تعتبر من أهم المقالات التي تناولت بشكل منهجي هذه الظاهرة، إذ لاحظ أنه ابتداء من الثمانينات الميلادية، وهناك تزايد مطرد في العمليات الانتحارية، وأن الدراسات السابقة لم تركّز إلا على عدم عقلانية فعل الانتحار نفسه ومحاولة تفسيره ثقافياً (بربطه بالإسلام مثلاً) أو نفسياً. يقول بابي: (من المحتمل أن هناك أهمية للدوافع الدينية، لكن العمليات الإرهابية الانتحارية ليست محصورة بالحركات الإسلامية... فقائدة العالم في العمليات الإرهابية الانتحارية هي منظمة نمور تحرير التاميل-إيلام التي تجند أتباعها من التاميليين في شمال وشرق سيريلانكا وتتبنى آيديولوجية ذات عناصر ماركسية-لينينية)، إذ أشار أنها نفذت ٧٥ من الـ١٨٦ عملية (أي٤٠٪) التي نفذت في الفترة بين ١٩٨٠و٢٠٠١. لفهم الظاهرة، يقترح بابي الانتقال من التفسيرات التي تركز على شخصية الانتحاري ودوافعه إلى التركيز على المنظمة نفسها التي تنفذ هذه العمليات، ويقترح التعامل معها باعتبارها منظمة عقلانية تستخدم العمليات الانتحارية استخداماً استراتيجياً لتحقيق أهداف سياسية، كالضغط على الحكومة المستهدفة؛ لتنفيذ سياسات محددة، أو من أجل التجنيد، أو من أجل الدعم المالي، أو كل ما سبق. أي أنه مثلما أن الدول تستخدم العقوبات الاقتصادية والضربات الجوية أداةً لتحقيق أهداف سياسية، فإن الأداة التي تستخدمها الميليشيات العسكرية لهذه الأهداف هي العمليات الانتحارية.
الجانب الآخر الذي لاحظه بابي في العمليات الانتحارية هو ارتباطها الوثيق بالتحرر القومي؛ فالغالبية الساحقة من العمليات الانتحارية في لبنان وفلسطين والشيشان وكشمير وسيريلانكا وغيرها كانت مرتبطة بمطالبة الحكومة المستهدفة بسحب قواتها من أرض تعتبرها المنظمة التي قامت بالتفجير تابعة للأمة التي تدافع عنها. أما الجانب الآخر الذي يفسر نمو هذه الظاهرة هو أنها وسيلة فعّالة؛ فعن طريقها استطاع اللبنانيون طرد الفرنسيين والأميركيين والإسرائيليين من لبنان، وطرد الإسرائيليين من غزة، وخضوع السيريلانكيين للتاميليين، والأتراك للأكراد. العمليات الانتحارية تمثل ٣٪ من مجموع العمليات العسكرية لهذه التنظيمات، لكنها مسؤولة عن نصف القتلى.
أخيراً، اعتبر بابي العمليات الانتحارية -وإن كانت ناجحة في تحقيق تنازلات معينة- فاشلة في تحقيق تنازلات كبيرة من الدول، وأن مصيرها غالباً الفشل.
في عام ٢٠١٤، نشرت مجموعة من الباحثين من جامعة كولومبيا مقالة رصدوا فيها كل العمليات الانتحارية من ١٩٨٠ إلى ٢٠٠٨، ووجدوا أن العمليات الانتحارية تتزايد في الحالات التي يكون هناك فيها احتلال أجنبي. والتفسير الذي طرحوه لهذه الظاهرة هو أن المحتل عادة يكون أكثر تقدماً من الناحية العسكرية، ومن ثم يصبح التفجير الانتحاري أكثر الوسائل فاعلية للوصول إلى قرب الأهداف العسكرية.
يعلّق الآنثروبولوجي طلال أسد على هذه الدراسات التي تركز على المنظمة العسكرية عوضاً عن أشخاص الانتحاريين، بأنها (لا تجيب عن السؤال الذي يشغل الكثيرين: لماذا يوافق الأفراد على القيام بذلك؟ وهو سؤال يتضمن بحثاً عن تفسير يتناول الدافع...). ثم يعلّق بأن التفسير المحبب حتى الآن هو ذلك الذي يؤكد الدافع ذا البعد الديني والثقافي غير الليبرالي؛ لأن مثل هذه التفسيرات تساعد خطاب حماية الحضارة أي الحرص على الحياة) من ثقافة البرابرة التي تتميز بحب الموت.
يقترح أسد تعديلاً للإشكالية، يسأل سؤالاً مختلفاً، فيقول: لماذا من بين كل أعمال العنف- المجازر، التطهير العرقي، القمع، القصف...إلخ- نجد اهتماماً كبيراً عند المعلقين الغربيين بالعمليات الانتحارية؟ ما السر الذي يجعلها مميزة عن غيرها من أعمال العنف؟ يجيب بكلمة واحدة: الهلع. إن التفجير الانتحاري يثير الهلع، والهلع هنا لا يعني الخوف، بل يعني حالة عامة من الشعور بالتهديد الوجودي، إن كان الخوف عكسه الشجاعة، فإن الهلع نقيض الطمأنينة. لكن لماذا يسبب التفجير الانتحاري الهلع؟
إن الجواب معقّد لكن يمكن اختصاره بالقول إن الدول الديموقراطية الليبرالية ترفض الحريّة التي تتم خارج القانون، والقانون يتم فرضه بالعنف الذي انتزعت الدولة احتكاره من الأفراد في مقابل التعهد بحمايتهم. إن الهلع الذي تقدمه العملية الانتحارية يكمن في كونه حريّة خارج القانون، حريّة عنيفة يمكن أن تحدث في أي مكان، في قدرته على تجاوز هذا الفصل الذي يفرضه النظام الدولي بين أماكن للحرب والظلم والفقر وأماكن للسلم والعدل والرفاه؛ بجعل من الممكن لأي مكان أن يتحول إلى مكان حرب بمشاهدها المروعة من أشلاء ودمار ، هذا ما يجعل الإحساس بالهلع خاصاً بالتفكير في العملية الانتحارية.
المواطن في دولة أوروبية قوية لا يخشى أن تقصفه طائرة؛ لأن دولته قوية، لا يخشى من قنبلة نووية؛ لأن دوله تحتكرها، لكن دولته لا تستطيع منع أي شخص من الواقفين حوله من أن يفجِّر نفسه في أي لحظة. هذا ما يجعل هذا النوع من القتل يثير الهلع.
* كاتب سعودي.
sultaan_1@
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق