محمد حبوشة
11 أغسطس 2017
يبدو العنف حالة عامة فى سلوكيات المواطن المصرى فى حالتنا الراهنة ، فلا يخلو شارع واحد فى بقاع المحروسة من دون ملوثات سلوكية تؤدى إلى العنف، على مستوى الاحتكاك بين الناس فى وسائل المواصلات العامة أو الخاصة، مصحوبة فى العادة بألفاظ نابية أصبحت لغة رسمية فى التعامل اليومى على نحو مخيف.
نعم فالملاحظ والمعايش لهذا المجتمع يدرك ذلك بسهولة بمجرد الخروج إلى الشارع والنظر فى وجوه الناس، فسيدرك كم هم متأزمون ومتعبون وغاضبون، وتتضح الصورة أكثر إذا كان هذا الملاحظ يقارن وجوه الناس وأحوالهم بفترات سابقة، كانت الشخصية المصرية فيها تتسم بالطيبة والمرح والتفاؤل والإيثار، أما الآن فالصورة مختلفة كثيرا حيث حلت القسوة والكآبة والتشاؤم والأنانية والانتهازية والفهلوة والرغبة فى الكسب السريع بأى شكل من الأشكال .
وإذا تجاوزنا الملاحظة الميدانية ، وفتحنا الصحف أو الراديو أو التليفزيون فسوف يذهلنا استخدام كلمة "أزمة" فى كل الأحاديث والمقالات أو على الأقل معظمها، فترى الحديث عن الأزمة السياسية، والأزمة الاقتصادية، والأزمات الاجتماعية، والأزمة الثقافية، وأزمة السينما، وأزمة المسرح، وأزمة الضمير، وأزمة المؤسسات الدينية، وأزمة الفتنة الطائفية، وأزمة الفكر الدينى، وأزمة الرياضة، وأزمة الشباب، وأزمة البطالة، وكأننا مجتمع يسبح فى بحر من الأزمات .
صحيح إنه طبقا لمفهوم "سيغموند فرويد" الإنسان كائن عنيف وعدوانى بطبعه، على اعتبار أنه يتوفر على أهواء وغرائز فطرية تحتم عليه القيام بسلوكيات ذات نزعة تدميرية قصد إشباع تلك الغرائز، ورغم أن الإنسان يملك عقلا فإنه لا يقوى على كبح جماع تلك النزعة التدميرية، لكن الأمر يستوجب استخدام كل الوسائل الممكنة للتخفيف أو الحد من خطورة التهديد الذى يتوعد المجتمع والحضارة الإنسانية، ومن مظاهر هذا العنف، مايسمية "بيير بورديو" العنف الرمزي، ويقصد به كل أشكال العنف غير الفيزيائي، وهى فاعلة ومؤثرة فى الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وفى كل أشكال السلوك الإنساني.
إن هذا النوع اللطيف والمهذب من العنف، الذى بدأ يتسرب فى أنماط حياتنا الراهنة يجعل ضحاياه يتقبلونه بل ينخرطون فى الخضوع لإكراهاته دون مقاومة، بحكم إن الإنسان فى إطار الحياة الاجتماعية يتقبل عددا من القيم والمعتقدات كبديهيات ومسلمات تفرض نفسها عليه بسهولة وتلقائية، عبر اللغة والكلام وكل أشكال التواصل، أو التربية والعنف الذهني، وكل أشكال الإقناع الصامتة والسرية التى تتم بفعل النظام العادى للأشياء، وربما ساهمت الدراما بقدر كبير فى ترسيخ هذا النوع من العنف الرمزي، فى ظل انهيار منظومة القيم العائلية، باستخدام القوة المفرطة فى استرداد بعض الحقوق، أو بأفعال تأتى تحت بند الكوميديا وخفة الظل، ممثلة فى انهيار صور الأب أمام أبنائه إلى حد السخرية من أفعاله، أو النيل من الأم بألفاظ نابية يندى لها الجبين على جناح جلب الضحك الهيسترى المقيت.
والعنف من الظواهر التى انتشرت مؤخرا بشكل كبير فى المجتمع المصري، بفعل الأزمات الاقتصادية الضاغطة، لذلك تبذل جميع الجهات المختصة جهودا حثيثة للحد من هذه الظاهرة والقضاء عليها، خاصة أن العنف أصبح سلوكا اعتياديا يصدره فرد، أو جماعة، بصورة متعمدة ، صوب آخر أو آخرين، أو صوب ذاته بشكل مباشر، أو غير مباشر، مدفوعا بمواقف الغضب أو الإحباط، أو الدفاع عن الذات أو القيم الخاصة أو العامة أو الممتلكات، أو الرغبة فى الانتقام، أو الحصول على مكاسب معينة، وهو الأمر الذى يترتب عليه إلحاق أذى بدني، أو مادي، أو نفسى بالطرف الآخر، وتلك ظاهرة مستشرية فى الشارع المصرى حاليا وبشكل لافت للنظر، ما يستوجب الانتباه.
وأعمال العنف تعتبر متعددة الدوافع - كما أرى ويرى غيرى من المراقبين - فقد تسبب التوتر المفرط للشخص القائم بالاعتداء أو غضبه الشديد من سلوكيات صدرت عن الضحية نحوه، أو لاعتقاده بأن الضحية بمثابة عائق يحول دون بلوغ أهدافه، أو نظرا لشعور المعتدى بالإحباط، أو للرغبة فى الانتقام من شخص ما، وقد تكون أعمال العنف مدفوعة بأسباب أخري، منها الدفاع عن النفس، أو الممتلكات، أو الآخرين. ، ويرجع انتشار ظاهرة العنف فى الآونة الأخيرة فى المجتمع المصرى إلى العديد من الأسباب التى قد تندرج تحت عدد من الفئات، منها الأسباب الاجتماعية والنفسية، والأسباب السياسية، والأسباب الاقتصادية.
الأسباب الاجتماعية والنفسية: - حالة الإحباط التى قد تصيب الأفراد فى المجتمع والتى تعتبر أهم عامل منفرد يؤدى إلى العنف، كذلك حالات التلوث السمعى والبصري، وأحيانا الأخلاقى والذى اتخذ أشكالا - بحسب الراحل الدكتور جمال فؤاد عبد القادر، رئيس البرنامج القومى للإصلاح التشريعى الأسبق بمركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار برئاسة مجلس الوزراء - متعددة فى المجتمع المصرى خاصة فى الآونة الأخيرة منها الضوضاء والصخب والأخلاقيات المتدنية فى الشوارع المصرية، وكل ذلك ناجم عن ضعف الوعى وتدنى المستوى الثقافي، واللذين لهما تأثير كبير على مدى انتشار ظاهرة العنف فى المجتمع المصري، حيث إنه كلما قل الوعى زاد معدل الظاهرة، ففضلا عن تفشى ظاهرة العشوائيات، والاختناقات المرورية، والزحام، والإحساس بسوء توزيع الموارد الاقتصادية لتخدم فئات أعرض فى المجتمع، ناهيك عن انتشار عدد كبير من القيم السلبية مثل الانتهازية والنصب والاحتيال والكذب ومحاولة الكسب السريع بغير جهد أو بأقل جهد، والرشوة والمحسوبية، مما يدعم الشعور بالظلم الاجتماعى لدى الأفراد.
أما الأسباب السياسية من وجهة نظر المراقبين للظاهرة، فتتلخص فى الإرهاب الذى يتسبب فيه الفكر الدينى المتطرف الذى يكفر الآخر ويلغيه ويستبعده، والذى تسبب فيه التصادم الحضارى بين الشرق والغرب، وذلك جراء تراجع الدور السياسى للعديد من الأحزاب مما يعطى إحساسا للمواطنين بعدم وجود قنوات تعبير مؤثرة، وبانسداد مسارات الحوار، إضافة إلى عدم الجدية فى مجال العمل الاجتماعى والحقوقي، حيث إن بعض الهيئات والجمعيات الاجتماعية والحقوقية تركز على الجانب الإعلامى وتعمد إلى تضخيم ما تقوم به من فعاليات دون التركيز عل مضمون العمل نفسه، علاوة على ضعف القنوات الشرعية التى يمكن من خلالها أن يعبر المواطن عن رأيه تسبب فى حالة من مشاعر الرفض والغضب.
وعن الأسباب الاقتصادية حدث ولا حرج، فالفقر والبطالة وفقدان فرص العمل وزيادة الأسعار، كلها أسباب تدفع بالضرورة إلى ضغط الظروف الاقتصادية السيئة، والتى قد تدفع إلى القيام بأعمال عنف منها البلطجة مقابل الحصول على الأموال، وما يساعد على ذلك إن الاقتصاد بتقلباته له تأثير على المجتمعات الفقيرة، بل يعد من الأسباب الخطيرة المحركة لأعمال العنف ومنها الإرهاب، فالطبقات التى تعانى من تدهور الخدمات وكذلك الظروف المعيشية السيئة بسبب انتشار البطالة قد يتجهون إلى التطرف فى الفكر، وهذا بالطبع سيولد الإحباط لديهم والذى غالبا ما سيتحول إلى عدوان وعنف، وفى النهاية كل ذلك انعكاس آثار الأوضاع الاقتصادية السيئة على الشباب، والذى يسمح بأن تنشأ تربة صالحة للتطرف تزود الجماعات المتطرفة بأعضاء يعانون من الإحباط، وافتقاد الشعور بالأمان والأمل فى سبل مواجهة ظاهرة العنف.
من جانبه يقول الدكتور محمد المهدى استشارى الطب النفسي، إن السبب وراء ذلك هو تراكم المشكلات يوما بعد يوم وشهرا بعد شهر وعاما بعد عام دون وجود حلول علمية وعملية (حقيقية) لها، والاكتفاء بالحلول الشكلية أو الإعلامية أو الوهمية أو الفهلوية دون الدخول إلى جوهر المشكلات، فتراكم المشكلات دون حل حقيقى يؤدى إلى حالة من التأزم ، وتراكم الأزمات دون حل حقيقى يؤدى إلى شعور متزايد بالإحباط ، والذى يؤدى بدوره إلى تراكم شحنات الغضب والتى تظل كامنة إلى أن تصل إلى مستوى معين فيحدث الإنفجار فى ظروف مهيئة وضاغطة (وما أكثرها فى حالة المجتمع المصرى) فى صورة أعمال عنف ظاهرة ، أو تتحول تلك الشحنات إلى غضب مزمن ومكتوم يؤدى إلى حالة من العدوان السلبى يظهر على شكل لامبالاة، كسل، تراخى، بلادة، عدم انتماء، عدم اتقان، .... إلخ .
أما إذا أردنا معرفة أبعاد الأزمة بصورة إحصائية دقيقة فيكفى أن نرجع لإحصاءات المركز القومى للبحوث وغيره من الجهات البحثية، وسوف تصدمنا إحصاءات العنوسة (9 مليون عانس)، نسب الطلاق (26%)، وأعداد الشباب العاطلين (حوالى 12 مليون)، ومعدلات الجريمة، والعنف الأسرى، والمخدرات، وغيرها من أسباب موضوعية وغير موضوعية تدعو إلى زيادة معدلات العنف وانتشار الجريمة المنظمة فى حق المجتمع والناس.. إذن فنحن فى أزمة حقيقية ولا يجوز أن نهون منها ، أو نمالئ أو نداهن لأن ذلك يزيد من حدة الأزمة ويجعلها أكثر خطورة وربما تصل إلى مرحلة اللاعودة فى وقت من الأوقات، إذا استمرت عمليات التغطية ودفن الرأس فى الرمال، وإذا استمرت الحلول القائمة على الخداع والفهلوة، والشكل دون المضمون، وهذه أمراض أخرى تفشت فى مجتمعنا فى السنوات الأخيرة، ما يدعونا لمحاصرة ظواهر العنف لأن الزيادة فى الكم والكيف تدل على وجود العديد من عوامل الخطورة الكامنة، والتى تحتاج لحلول حقيقية، وليست حلول إسمية أو شكلية فقد أصبح فى مصر - للأسف الشديد - خبراء فى إعطاء الشكل دون المضمون، وإعطاء الإسم دون المحتوى، وممارسة خداع الذات والآخر طول الوقت، وهذه كلها جرائم كبرى خاصة فى موضوع كهذا أصبح يهدد أمن واستقرار هذا البلد، خاصة إنه لدى الشعب المصرى الآن كم هائل من الإحباط على مستويات متعددة لايمكن معالجتها إلا بالحكمة، وليس فقط الاكتفاء بالضبط الأمنى (دون السياسى والإجتماعى والاقتصادى) وهو الأمر الذى أدى إلى حالة من الصراع والثأر تتزايد عنفا يوما بعد يوم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق