الجمعة، 10 أبريل 2015

الخميني و وولاية الفقيه المطلقة



سؤال: هل كان الامام الخميني(قدس سره) يؤمن بولاية الفقيه المطلقة، وهل مارس هذه الفكرة النظرية في مقام العمل؟


جوابه: لابد في البداية من بيان جدال الافكار وتضاربها واتفاقها حول ولاية الفقيه المطلقة ليتسنى من خلال ذلك تحري رؤية الامام(قدس سره) بهذا الخصوص والقاء نظرة صحيحة على سيرته.


الولي الفقيه باعتباره حاكماً وولياً منصوباً من قبل الله تعالى لقيادة المجتمع والأخذ بيده نحو الاهداف الاسلامية عن طريق تطبيق القوانين الالهية لابدّ له من التطرق بالبحث لاقسام القوانين وفق الرؤية الاسلامية، ومن ثم علاقة ولاية الفقيه وحدودها في اطار كل قسم منها.


القوانين الثابتة والمتغيرة


القوانين في نظر الاسلام على قسمين: ثابتة ومتغيرة.


القوانين الثابتة: وتشتمل على الاحكام الاولية والثانوية، وهي تُطلق على القوانين التي لا يحدّها زمان أو مكان وهي ثابتة في إطار موضوعاتها لا تقبل التغيير الى الأبد، وليس لأحد حق التصرف فيها، وهذا النمط من القوانين ينقسم الى قسمين: الاول هو المشرَّع من قبل الله تعالى مباشرة، والثاني القوانين التي لم تُشرَّع وتحدّد من قبله تعالى بشكل مباشر، بل انّ الله سبحانه خوَّل نبي الاسلام الاكرم(صلى الله عليه وآله)وسائر

المعصومين(عليهم السلام) صلاحية سنّها وتشريعها، وهو تعالى قد ألهمهم كيفية تشريعها في واقع الامر.


القوانين المتغيرة: وتُطلق على الاحكام والقوانين التابعة لظروف الزمان والمكان. ويتم سنّ هذه القوانين من قبل ولي الأمر في اطار القوانين الثابتة وفي ظل الالتزام بالاصول والقواعد والقيم الاسلامية وفي ضوء ضرورات المجتمع الاسلامي ومتطلباته، ويُصطلح على هذه القوانين بـ «الاحكام الحكومية» أو «الاحكام الولائية» أو «الاحكام السلطانية».


طبقاً للرؤية التوحيدية وما تقتضيه الربوبية التشريعية للحق «جلّ شأنه» فان حق الحاكمية والتشريع يختص بالاصالة وبالذات بالله سبحانه وتعالى وله أن يأذن لمن شاء وبالقدر الذي شاء بالتصدي لعملية التشريع والتقنين. وقد مُنح هذا الاذن بشكل تام للنبي الاكرم(صلى الله عليه وآله) والائمة الاطهار(عليهم السلام)، ولكن هنالك اختلافات الى حدٍّ ما بين فقهاء الشيعة فيما يخص «الولي الفقيه»1، وهذا الاختلاف في وجهات النظر هو نفسه الاختلاف المعروف في مجال «دائرة وحدود ولاية الفقيه» الذي هو موضع بحثنا.


صلاحيات الولي الفقيه في نظر الفقهاء


حصر بعض الفقهاء دائرة ممارسة ولاية الولي الفقيه وأمره ونهيه الواجب طاعته على المسلمين في الحالات الخاصة والمتطلبات الملحة للمجتمع، ولكن في المقابل ثمة طائفة اخرى ترى هذه الدائرة أوسع مدىً وتعتقد بأن دائرة ولاية الفقيه غاية في السعة وهي تشمل كافة الشؤون الاجتماعية ماخلا الامور التي يختص التدخل فيها بالامام المعصوم(عليه السلام).


ولغرض المزيد من الايضاح لهاتين الرؤيتين نسوق المثال التالي: ربما يصبح من الضروري توسيع الطرق والشوارع بحيث تتعرض ارواح الكثيرين للخطر ويقع الكثير من حوادث الاصطدام وبالتالي تلحق خسائر مادية وبشرية فادحة في حالة عدم انجازها، ولأجل الحد من حصول مثل هذا الوضع ترى كلتا الفئتين صلاح تدخّل الولي الفقيه وجواز اصداره الحكم بهدم البيوت أو غيرها من البنايات لانجاز عملية توسيع الممرات والشوارع. أما اذا كانت الغاية من الهدم توفير المزيد من الراحة للناس أو تزيين البلد فان الفئة الاولى تعتقد بعدم مأذونية الولي الفقيه في اصدار حكم الهدم; بيدَ ان الفئة الثانية تقول: حيثما كان الأمر يصب في مصلحة المجتمع ـ وان لم يبلغ مستوى الضرورة ـ فبامكان الولي الفقيه اصدار الحكم ايضاً لضمان مصالح الشعب مطلقاً، كما في المثال المتقدم فيكون الآخرون مكلفين بانجاز العمل.


ولا يخفى ان ولاية الفقيه المطلقة لا تعني أبداً التمرد على الاحكام الالهية وتعطيل حكم الله احياناً حيثما شاء ولي الأمر كما

يروج له بعض الاعداء والمغرضين، وذلك لأن ولي الأمر إنما ينتقل عن الحكم الاولي الى الحكم الثانوي لفترة معينة في بعض الحالات بسبب احاطته بالفقه الاسلامي والمامه بالمصالح الاجتماعية، وهو في الواقع انما يرجع من حكم الى حكم آخر ثانوي وهو من الاحكام الالهية أيضاً، ولهذا الرجوع ضابطته، ويحتاج إلى إذن وتجويز من الله سبحانه وتعالى وليس ناجماً عن هوى الولي الفقيه ورغبته، فالحكمة في جعل ولاية الفقيه هي تنفيذ الاحكام الالهية وتمهيد الارضية لتطبيق الاحكام الاسلامية السامية الرفيعة وليس ممارسة رغبته الشخصية واتباع اهوائه النفسية.


كما تقدم القول ان حق التقنين والتشريع مختصٌ بالاصالة بالله وهو الذي بوسعه ان يمنح أناساً الاذن بالتقنين والحكم على العباد، من هنا فان أي نمط من التقنين وممارسة الامر والنهي على الناس دون اذن من الله يُعد غير جائز ومرفوضاً استناداً للرؤية الاسلامية. بناءً على هذا ووفقاً للرؤية الدينية فان قوانين أية حكومة أو دولة ـ سواءً الدستور أو سائر المقررات ـ انما تكتسب الشرعية والرسمية متى ما صادق عليها الولي الفقيه ـ الحائز على الاذن بالحكم والتقنين في عصر الغيبة نتيجةَ التنصيب الالهي العام ـ بنحو من الانحاء، وهذا أمر مسلَّم به دينياً وموضع اجماع المؤمنين بولاية الفقيه سواء المطلقة أو غير المطلقة.


ولاية الفقيه المطلقة في كلام الامام الخميني(قدس سره)


يقول الامام الخميني(قدس سره):


واذا نهض بأمر تشكيل الحكومة فقيه عالم عادل فانه يلي من امور المجتمع ما كان يليه النبي(صلى الله عليه وآله) منها، ووجب على الناس ان يسمعوا له ويطيعوا. ويملك هذا الحاكم من أمر الادارة والرعاية والسياسة للناس ما كان يملكه الرسول(صلى الله عليه وآله)وامير المؤمنين(عليه السلام)على ما يمتاز به الرسول والامام من فضائل ومناقب خاصة2


ويقول ايضاً في «شؤون وصلاحيات الولي الفقيه» من كتاب البيع:


«... فيكون لهم في الجهات المربوطة بالحكومة كل ما كان لرسول الله والائمة من بعده صلوات الله عليهم اجمعين ولا يلزم من ذلك ان تكون رتبتهم كرتبة الانبياء أو الائمة(عليهم السلام) فان الفضائل المعنوية أمر لا يشاركهم(عليه السلام) فيه غيرهم.3


وفي نفس الكتاب يقول الامام:


فللفقيه العادل جميع ما للرسول والائمة(عليهم السلام) مما يرجع الى الحكومة والسياسة ولا يعقل الفرق، لان الوالي اي شخص كان ـ هو مجري احكام الشريعة والمقيم للحدود الالهية والآخذ للخراج وسائر الماليات والمتصرف فيها بما هو صلاح المسلمين.4


ويقول(رحمه الله) في موضع آخر:


وعلى ذلك يكون الفقيه في عصر الغيبة ولياً للامر ولجميع ما كان الامام(عليه السلام) ولياً له.5


ويقول(رحمه الله) كذلك في موضع آخر:


ثم ان المستحصل من جميع ما ذكرناه ان للفقيه جميع ما للامام(عليه السلام)الاّ اذا قام الدليل على ان الثابت له(عليه السلام) ليس من جهة ولايته وسلطنته بل لجهات شخصية تشريفاً له، أو دلّ الدليل على ان الشيء الفلاني وإن كان من شؤون الحكومة والسلطنة لكن يختص بالامام(عليه السلام) ولا يتعدى منه.6


كلام الامام(رحمه الله) هذا الذي ينبئ عن رؤيته الشامخة فيما يخص ولاية الفقيه، جاء خلال درس خارج الفقه في النجف الاشرف لسنوات سبقت انتصار الثورة الاسلامية، وهو الذي اغضب اعداء الاسلام بشدة ودفعهم لمحاولة اطفاء هذا النور الالهي.


هل مارس معمار الثورة الاسلامية(رحمه الله) هذه الولاية العظمى عملياً اثناء فترة حكمه التي استمرت عدة سنوات أم لا؟


الجواب بالإيجاب ونشير هنا إلى موارد:


1ـ تنصيب المهندس مهدي بازرگان رئيساً للوزراء والحكومة الانتقالية من قبل الامام الخميني(رحمه الله).


يقول الامام(رحمه الله) بهذا الشأن: «و حريٌ بي التذكير مرة اخرى بانني اذ

نصّبته فتنصيبي له انما جاء بفضل الولاية التي اتمتع بها من لدن الشارع المقدَّس، وانني إذ نصَّبته فان طاعته واجبة وعلى الشعب اتباعه، فهذه الحكومة ليست حكومة عادية بل هي حكومة شرعية يجب اتباعها، ومخالفتها مخالفة للشرع وتمرُّد عليه».7


كلام الامام(رحمه الله) هذا بالاضافة الى دلالته على ممارسته(رحمه الله) للولاية المطلقة، فهو يدلل بوضوح على ان ولايته تكتسب شرعيتها من الله سبحانه ومن لدن الشارع المقدس، ومثل هذه الشرعية لا تُنال من الأُمة واصواتها بل هي حكم الهي كسائر الاحكام الشرعية من قبيل وجوب الصلاة والصوم والحج... الخ وليس منوطاً بتصويت الأمة ورأيها.


2ـ التصريح بـ «التنصيب» في نص الاحكام الصادرة عن الامام(رحمه الله)في تنفيذ احكام رئاسة الجمهورية لبني صدر، والشهيد رجائي(رحمه الله)وقائد الثورة الاسلامية «مُدَّ ظلّه» بالرغم من ان انتخاب رئيس الجمهورية يتم عبر التصويت العام طبقاً للمادة السادسة من الدستور، واستناداً لما تنص عليه الفقرة التاسعة من المادة العاشرة بعد المائة من الدستور ـ التي تحدد واجبات وصلاحيات القائد ـ فان للقائد الحق في ان يُمضِي وينفّذ حكم رئاسة الجمهورية فقط بعد انتخاب الشعب له، بيد ان الامام(رحمه الله)وبمقتضى الولاية المطلقة الممنوحة له من لدن الباري تعالى يصرِّح بالاضافة الى تنفيذه احكام رؤساء الجمهورية هؤلاء: «انني انصّب هؤلاء» وهذا أبعدُ مدىً من الصلاحيات التي ينص عليها الدستور ويأتي بموجب حقِّه في ممارسة «ولاية الفقيه المطلقة».


أَحكام الامام(رحمه الله) في تنصيب رؤساء الجمهورية


أ ـ حكم تنفيذ رئاسة الجمهورية لبني صدر (15/11/1358 هـ .ش)


«بسم الله الرحمن الرحيم: بناءً على انتخاب الشعب الايراني الشريف وبأغلبية ساحقة للدكتور السيد ابي الحسن بني صدر لرئاسة الجمهورية الاسلامية في ايران، وبما ان شرعيته منوطة بتنصيب الفقيه الجامع للشروط، فانني وبموجب هذا الحكم أنفّذ رأي الشعب وانصّبهُ بهذا المنصب، بيد ان مصادقتي وتنصيبي هذا وانتخاب الشعب الايراني المسلم منوط بعدم تخلفه عن الاحكام الاسلامية المقدسة وإتباعه لدستور الجمهورية الاسلامية في ايران».8


ب ـ حكم تنفيذ رئاسة الجمهورية للشهيد محمدعلي رجائي; (11/5/1360 هـ .ش)


«بسم الله الرحمن الرحيم: الحمد لله حمداً لا حصر له على سابغات نعمائه ولما وفَّق اليه شعب ايران المؤمن الشريف... وبالرغم من دعايات الاعداء في الخارج والداخل فقد اختار باغلبية ساحقة تفوق ما قبلها السيد محمدعلي رجائي «أيّده الله تعالى» لرئاسة الجمهورية الاسلامية في ايران منيطاً به هذه المسؤولية الجسيمة والعبء الثقيل، ونظراً الى ان شرعيته منوطة بتنصيب الولي الفقيه فانني أُنفّذ رأي الشعب وأُنصبه رئيساً للجمهورية الاسلامية في ايران».9


ج ـ حكم تنفيذ رئاسة الجمهورية لآية الله الخامنئي «مُدّ ظله العالي» (17/7/1360 هـ .ش)


«تبعاً لارادة الشعب العظيم وبعد معرفتي بمكانة ومنزلة المفكر والعالم المحترم سماحة حجة الاسلام السيد علي الخامنئي «أيّده الله تعالى» فانني انفّذ رأي الشعب وانصّبه رئيساً للجمهورية الاسلامية في ايران».10


وقال(رحمه الله) في الدورة الثانية لتولي سماحة آية الله الخامنئي لرئاسة الجمهورية (13/6/1364 هـ .ش):


«تبعاً لآراء الشعب العظيم... أنفذ رأي الشعب حتى نهاية الدورة الحالية وانصبّه رئيساً للجمهورية الاسلامية في ايران»11.


3ـ مرسوم الامام الراحل(رحمه الله) بتشكيل مجمع تشخيص مصلحة النظام بتاريخ 17/11/1366 هـ .ش


في الوقت الذي لم يكن قد ورد نصٌ في الدستور وفي صلاحيات القائد بشأن وجود مثل هذا المجمع أو صلاحية تشكيله قبل اعادة النظر بالدستور عام 1368، بيد ان الامام(رحمه الله) أصدر مثل هذا المرسوم، وهذا الامر بدوره صورة اخرى من ممارسة الولاية المطلقة.


الملاحظة الجديرة بالاهتمام التي تبدو للعيان في هذا الحكم ونظائره ـ كالمورد السابق ـ هي:


ان الفقرات المدرجة في المادة 110 من الدستور التي تفصّل وظائف القائد وصلاحياته ليست «من باب الحصر» في الحقيقة، وانما هي «من باب التمثيل»، وبتعبير آخر: أن يتم العمل بما جرى بيانه في الدستور وبهذا الاطار مادام البلد يعيش اوضاعاً عادية ـ ومن شأن القانون في الواقع بيان الحالات المتعلقة بالاوضاع العادية في كافة المواطن أما اذا طرأت حالة استثنائية لم تكن متوقعة في اوضاع البلاد أو إدارته فان القائد وبموجب الولاية المطلقة الممنوحة له من الشارع المقدس بامكانه المبادرة والتدخل لعلاج الازمات وضمان مصالح المجتمع.


على امل ان نبتعد ـ بعد المعرفة الصحيحة والدقيقة لرؤى امامنا العظيم(رحمه الله)المنبثقة عن القرآن والسُّنة ـ عن التفسيرات الذوقية والمغلوطة لآرائه والسير باتجاه تحقيق فكره النيِّر بعونه تعالى.


* * * * *





1. لكن اصل ولاية الفقيه من مسلّمات الفقه الشيعي ولم ينكره فقيه قط على امتداد تاريخ التشيع.


2. راجع كتاب الحكومة الاسلامية للامام الخميني: ص 49.


3. راجع «ما يعتبر في الولي الفقيه»، كتاب البيع للامام الخميني: ج 2/466.


4. نفس المصدر: ص 467.


5. نفس المصدر: ص 496.


6. نفس المصدر: ص 496.


7. صحيفة النور: 6/31.


8. صحيفة النور: 11/260.


9. نفس المصدر: 15/76.


10. نفس المصدر: 15/179.


11. نفس المصدر: 19/221.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق