أيلول/سبتمبر 8, 2015
في سبتمبر الماضي إبان اقتحام المتشددين من الدولة الإسلامية لأراضي سوريا والعراق، استضافت وزارة الدفاع الأمريكية اجتماعًا سريًا للغاية لمناقشة استراتيجيتها تجاه هذا الموضوع، وحينها تم توجيه الدعوة من قِبل مجلس السياسة الدفاعية الذي يقدم المشورة لوزير الدفاع، ودُعيت مجموعة صغيرة من النخبة السياسية المخضرمة بالسياسات الخارجية، بمن في ذلك مستشار الأمن القومي السابق زبيغنيو بريجنسكي، ووزيرة الخارجية السابقة مادلين أولبرايت، والسفير الأمريكي السابق في العراق رايان كروكر، وعُقد الاجتماع في غرفة المؤتمرات بغرفة إي (E)؛ داخل مبنى وزارة الدفاع.
كان الخبراء المؤتمرون يحاولون استيعاب فكرة اجتياح الشرق الأوسط بموجة متصاعدة من الاضطرابات لم يشهدها منذ الحرب العالمية الأولى، فابتداءً من عام 2010، طفقت ثوراث الربيع العربي التي أطاحت بالحكام المستبدين في تونس، ومصر وليبيا واليمن، وتأججت حركة الاحتجاجات في سوريا لتتحول بعدئذِ إلى ثورة مسلحة، في حين أدى العنف الطائفي في العراق إلى تمزيق البلاد إربًا، والدولة الإسلامية، المعروفة باسم داعش، بزغت لملء الفراغ الناجم في السلطة، من خلال استغلالها للمظالم، والاستياءات التي تجثم في نفوس الشعب منذ فترة طويلة، واستخدامها للكمية الهائلة من الأسلحة، والمعدات الأمريكية التي تجوب البلاد، وفي يونيو، اجتاح تنظيم داعش سوريا، وسيطر على ثاني أكبر مدينة في العراق، وهي الموصل، وأعلن عن تأسيسه للخلافة الإسلامية العالمية.
وبالتالي فإن المجموعة المؤتمرة في وزارة الدفاع ناقشت السيناريوهات المتعددة التي تواجهها، وعمدت إلى وزن خياراتها السياسية التي تراوحت بين السياسات المروعة والسياسات الأقل ترويعًا؛ فقصف داعش في سوريا يعني الإقبال على نحو فعّال؛ لمساعدة الديكتاتور بشار الأسد، وتسليح الجماعات المتمردة السورية ضد الأسد يهدد بدعم داعش وغيرها من المسلحين المتطرفين، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، أما مهاجمة داعش والأسد معًا، فتعني بشكل أساسي خوض المعركة ضد الجانبين في الصراع ذاته.
صنّاع القرار داخل الاجتماع كانوا منقسمين بين مؤيد للتدخل بقوة في سوريا؛ لدعم المتمردين المعتدلين ضد الأسد، ومعارض لهذا التدخل تماشيًا مع موقف الرئيس باراك أوباما المنحاز لفكرة عدم وجود أي حل عسكري، ومع ذلك كانت هنالك دعوة واحدة تؤيد محو الأسد من خريطة العالم السياسي بشكل تام.
حينها قدم أحد المشاركين اقتراحًا يدعو للفضول والتساؤل، ضمن هذا الاجتماع الخاص الهادف لمناقشة استراتيجية الولايات المتحدة، وغرابته تنبع من كون مُقترحه واحدًا من أصل شخصيتين أجنبيتين فقط حضرتا الاجتماع، حيث كانت الشخصية الأخرى تتمثل، كما هو متوقع، في السفير البريطاني في واشنطن، ومُقدم الاقتراح كان يوسف العتيبة، سفير دولة الإمارات العربية المتحدة في أمريكا، المعروف بدعمه للتدخل العسكري الضارب للجيش الأمريكي في سوريا، الرجل الأصلع والوسيم الذي يبلغ من العمر 40 عامًا، ويتمتع بهالة كبرى من الثقة بالنفس، قال إن نهج عدم التدخل لم يعمل إلا على تشجيع داعش، والجماعات المتطرفة الأخرى.
ولكن العتيبة كان مستعدًا لمساعدة الولايات المتحدة بمأزقها؛ ففي اجتماع خاص آخر مع ويندي شيرمان، وهي مسؤولة كبيرة في وزارة الخارجية، تحدث العتيبة بلهجة مثيرة، ومميزة؛ حين قال لها: “طائرات الـF16 لدينا جاهزة مدام شيرمان، فقط أخبرونا حين تحتاجون إليها“.
في غضون أيام من اجتماع البنتاغون، قادت الطيارة الإماراتية الجذابة، الرائد مريم المنصوري، حملات القصف الجوي الإماراتي ضد داعش بالتنسيق مع القوات الأمريكية، ومثّلت هذه الخطوة حينها مقاربة علاقات عامة ممتازة، “هذا رائع” قال جو سكاربورو، عندما ظهر العتيبة ضمن برنامجه مورنينغ جو لتأكيد هوية الطيار، وحينها رد العتيبة عليه قائلًا: “لا يمكنكم أن تقوموا بذلك دوننا، ونحن بدورنا لا نستطيع أن نفعل هذا دونكم” ملمحًا إلى جهود التحالف الدولي لمحاربة داعش، “أحب هذا، أحبه دون أدنى شك”، أجاب سكاربورو.
في غضون بضع سنوات، استطاع العتيبة اكتساب تأثير غير عادي في العاصمة واشنطن، وكثيرًا ما يُشاهد، وهو يتشاطر غداء أو عشاء العمل مع ممثلي وسائل الإعلام والكونغرس، والإدارة الأمريكية، وفندق الفور سيزنز في جورج تاون؛ هو نقطة لقاءات العمل المفضلة لديه، “إنه لا يأتي إلى الطاولات، بل إن الزوار يأتون إليه”، يقول أحد الزبائن المعتادين لفندق الفوز سيزونز.
عتيبة يمثل ضيف عشاءات العمل السياسة بشكل رائع؛ فهو مسلم، يشرب نخبًا، ويقدم رؤى عميقة حول السياسة المتقلبة في المنطقة، “يتمتع بدهاء لا يُصدق” يقول مساعد سابق في البيت الأبيض، ويضيف”إنه يستضيف أحداثًا اجتماعية كبرى، ويفهم كيف تعمل واشنطن، وكيف تُدار السياسة في الكابيتول هيل، وهو الأمر الذي لا تتقنه الكثير من الدول، إنه يتقن الديناميات، ويعرف كيف يؤلب الكيانات المختلفة ضد بعضها البعض، عندما يحتاج إلى ذلك”، كما يقول رئيس الجمهوريين في لجنة الاستخبارات بمجلس الشيوخ، ريتشارد بور، “لقد قضيت مع يوسف على الأرجح وقتًا أطول مما قضيته مع أي شخص آخر”.
ليس من غير المألوف أن تسمع مقارنة ما بين العتيبة والأمير بندر بن سلطان، الذي حكم كسفير للمملكة العربية السعودية لدى واشنطن لعقود طويلة، مؤسسًا لعلاقات متينة بين النخب في الخليج وواشنطن، ولكن العتيبة ذاته لا ينسجم مع هذا التشبيه؛ لأن الأخير استطاع بالتأكيد صياغة شخصيته الخاصة، “بندر كان معروفًا بذكائه الحاد، ولكن العتيبة يتصرف بطريقة أكثر أخوية، وأريحية ونشاطًا من بندر”، يقول أحد الأشخاص ممن تشاطروا العشاء معه في قصره؛ ففي الكثير من الأحيان يرتب العتيبة لاجتماعات ضمن المقهى الموجود داخل صالة الألعاب الرياضية التي يرتادها في فندق ريتز كارلتون، وفي الطوابق السفلية من وزارة الخارجية، العتيبة معروف من قِبل البعض ببساطة باسم الأخ الطيب “Brotaiba”.
علاوة على كل شيء، فإن بزوغ نجم العتيبة كلاعب صلد في مجال السياسة الخارجية يعكس الطرق التي استطاع بها الربيع العربي قلب موازين القوى التقليدية للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، حيث شهد الحلفاء الموثوقون للولايات المتحدة، مثل مصر والمملكة العربية السعودية، تآكل قوتهم الإقليمية ونفوذهم في واشنطن، كما شهدت هذه الفترة ظهور أعداء جدد، مثل الدولة الإسلامية، وتنامي سطوة خصوم فاعلين في المنطقة أكثر من أي وقت مضى، مثل إيران، وفي خضم هذه التحولات التاريخية، أصبحت دولة الإمارات العربية المتحدة، بقيادة العتيبة في واشنطن، حليفًا رئيسيًا للولايات المتحدة، وأضحت تتمتع على نحو متزايد بتأثير هائل على السياسة الخارجية الأمريكية.
مايكل بيتروزيلو، الممثل الأجنبي للدبلوماسي الذي أصبح اليوم وزير الخارجية السعودي عادل الجبير، لاحظ أن العتيبة ليس نموذجًا للسفير التقليدي، “يدرك العتيبة أن الطريقة التقليدية لممارسة الدبلوماسية، المتمثلة بمجرد التقارب مع عدد قليل من الأشخاص الفاعلين في واشنطن، ليست كافية بعد اليوم”، يقول بيتروزيلو، ويتابع “إنه يدرك أن المقاربات الدبلوماسية يجب التعامل معها كحملة عامة، مع كل ما يستتبع ذلك، كوسائل الإعلام، العمل الخيري، الكابيتول هيل، والبيت الأبيض، وكل ذلك”.
خلال نصف القرن الماضي، أدى اكتشاف النفط في منطقة الخليج إلى تحويل دولة الإمارات العربية المتحدة من مجتمع صحراوي قِبلي فقير إلى مجتمع صحراوي قبلي ثري بشكل لا يُصدق، لدرجة أن صندوق الثروة المملوك لحكومة دولة الإمارات العربية المتحدة، والذي أسسته لإدارة أموال النفط، هو واحد من أكبر صناديق رأس المال الاستثمارية في العالم.
في منتصف بداية هذه الألفية، تحركت شركة موانئ دبي العالمية المملوكة للدولة؛ لشراء شركة بريطانية تدير حفنة من الموانئ الأمريكية، وصفقة البيع كانت قد تمت الموافقة عليها مسبقًا من قِبل إدارة بوش؛ عندما تنبه إليها السيناتور الديمقراطي تشاك شومر من نيويورك؛ شومر، الذي كان يتطلع لقيادة مجلس الشيوخ، نعت دولة الإمارات العربية المتحدة حينها باعتبارها دولة سيئة السمعة، وراعية للإرهاب، وشبكة فوكس نيوز أتت على ذكر الصفقة لأكثر من 70 مرة خلال فترة شهرين، كما كان رد فعل السياسيين من كلا الحزبين يبدو كما لو أن أسامة بن لادن ذاته كان سيقوم باستثمار رافعات الموانئ الأمريكية، وحينئذٍ عمدت هيلاري كلينتون، التي كانت حينها عضوًا في مجلس الشيوخ عن ولاية نيويورك، والمرشح المفترض للفوز بترشيح الحزب الديمقراطي للرئاسة عن عام 2008، إلى دعم قانون يقترح منع الشركات المملوكة من قِبل الحكومات الأجنبية من شراء الموانئ الأمريكية، وبالمحصلة، ونتيجة للذل الذي تعرضت له، انسحبت الإمارات من الصفقة.
لطالما افتخرت العائلة الحاكمة في الإمارات، عائلة زايد آل نهيان، بسمعة بلادها كشريك عربي معتدل للولايات المتحدة، ولكن داخل الحكومة الإماراتية، عملت قضية موانئ دبي العالمية كأزمة ثقة حقيقية، وكان العتيبة الرجل المناسب بشكل خاص لحل هذه القضية.
وُلد العتيبة لعائلة ثرية تعمل بالتجارة، وتتمتع بعلاقات وثيقة مع السلطة الحاكمة، فوالده كان أول وزير للنفط في دولة الإمارات العربية المتحدة، وكان له 12 طفلًا من أربع زوجات، بمن في ذلك العتيبة، المنحدر من أم مصرية الجنسية، حصل العتيبة على الدرجة الأولى في مجال العلوم الإنسانية من الجامعة الأمريكية بالقاهرة، وحين كان هناك، قدّم نفسه لفرانك ويزنر، الذي كان حينئذٍ سفيرًا الولايات المتحدة لدى مصر، ويتذكر ويزنر إعجابه الكبير بجدية هذا الشاب المندفع، حيث يقول “لم يكن بالجامعة لمطاردة الفتيات، أو لشرب البيرة، أو للعب كرة القدم، بل كان يسعى كي يعد نفسه للحياة التي تكمن أمامه”.
بعد تخرجه، وبتشجيع من ويزنر، درس العتيبة العلاقات الدولية في جامعة جورج تاون، وتوجه بعد ذلك إلى جامعة الدفاع الوطني في واشنطن، هذا النشاط أحاطه بفهم حدسي للولايات المتحدة، حتى إن محدثيه في واشنطن -في بعض الأحيان- ينسون أنه ليس أمريكيًا، وفي برقية دبلوماسية نشرها موقع ويكيليكس عام 2008، أكدت الإمارات “السلوك الأمريكي” للعتيبة، وأشارت إلى أنه “يتمتع بتناغم كبير مع الثقافة، والسياسة الأمريكية”.
في عام 2000، أصبح العتيبة مديرًا للشؤون الدولية لمحمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي، بن زايد -الذي يُشار له اختصارًا في واشنطن باسم (MBZ)- ويتولى قضايا الدفاع في دولة الإمارات، بما في ذلك العلاقات العسكرية مع الولايات المتحدة، وميزانية الأسلحة الإماراتية المقدرة بمليارات الدولارات والتي تجعلها واحدة من أبرز مستهلكي الأسلحة الأمريكية، وباعتباره اليد اليمنى لبن زايد، أصبح العتيبة نقطة الوصل والاتصال مع مجتمع الجيش، والمخابرات الأمريكية. “أحد الأشخاص العظيمين الذين كان العتيبة يتمتع بعلاقات وثيقة معهم، كان قائد القيادة المركزية الأمريكية السابق الجنرال أنتوني زيني، الذي تبناه، ووضعه تحت جناحه نوعًا ما”، يقول بريت باير، الذي كان حينها مراسل الأمن القومي لشبكة فوكس نيوز، وأصبح اليوم صديقًا جيدًا للعتيبة، ويتابع “لقد كان يتمتع بعلاقات وثيقة مع كامل الحشد العسكري المتقاعد”.
بعد فضيحة موانئ دبي العالمية، عمل العتيبة بمثابرة وجد؛ لتعزيز التعاون العسكري ما بين الإمارات والولايات المتحدة، وفي عام 2007، شرعت إدارة بوش استراتيجية جديدة؛ لزيادة تواجد القوات الأمريكية في المناطق السنية العراقية، “قبل أن أتعرف عليه، تم وصفه لي بأنه الرجل الذي يتمتع بأعلى ثقة من قِبل بن زايد في معظم القضايا الخارجية، وأنه أحد أذكى الأشخاص في دولة الإمارات العربية المتحدة“، يقول أحد عناصر المخابرات الأمريكية الذين تعاونوا مع العتيبة عن كثب في ذلك الوقت.
ويقول المصدر ذاته إن العتيبة كان له دور أساسي في دعم البلدان الأخرى في المنطقة للصحوات العراقية، وكانت مساهمته الأكثر أهمية تكمن في “إقناع دول الخليج الأخرى بدعم المكونات السياسية للصحوة -صحوة الأنبار على سبيل المثال- فضلًا عن المساعدة في ترجمة الاستراتيجية العامة للصحوات إلى أمر تستطيع هذه الدول دعمه” كما يقول المصدر، علمًا أنه، ودون دعم دول الخليج التي يهيمن عليها السنة، فإن الاستراتيجية لم تكن لها إلا فرص ضئيلة للنجاح، وردًا على سؤال حول دور العتيبة في الصحوة، يجيب بور، رئيس الجمهوريين في لجنة الاستخبارات “أعتقد أنه كان شريكًا نشطًا للغاية، ليس فقط لدولة الإمارات العربية المتحدة، بل لكامل دول الخليج“، والجدير بالذكر هنا أن العتيبة رفض إجراء مقابلات معه بغية كتابة هذا المقال، رغم أن نائبه في واشنطن، ريتشارد مينتز، أكد دور العتيبة في الصحوة، ولكنه ألمح إلى أنه لم يكن بمثابة مهندس لهذه الصحوة”.
في مارس 2008، تمت تسمية العتيبة سفيرًا لدولة الإمارات العربية المتحدة في واشنطن، وبمجرد وصوله إلى المنصب، عُيّن في السفارة الإماراتية أحد أكثر الأشخاص دراية في بروتوكولات مكتب إدارة بوش؛وهي إيمي ليتل توماس، التي أصبحت فيما بعد مديرة البروتوكولات في سفارة الإمارات العربية المتحدة، ويعلّق مصدر كان شاهدًا على بزوغ نجم العتيبة على تعيين الأخير لتوماس في السفارة الإماراتية “لقد فتحت كل الأبواب التي قد يحتاج إليها، هذا الرجل أصبح موجودًا في كل مكان“.
لم يستغرق الأمر وقتًا طويلًا قبل أن يبدأ العتيبة تسجيل حضوره في الحياة العامة الأمريكية، حيث يشير هوارد بيرمان -الذي كان رئيس التكتل الديمقراطي في لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الأمريكي- إلى أنه عمل مع العتيبة بشكل مطول على اتفاق، من شأنه أن يسمح لدولة الإمارات العربية المتحدة بالحصول على المواد النووية من الولايات المتحدة؛ بغية تأسيس برنامج مدني نووي، وهذا الأمر كان يتطلب مهارات دبلوماسية عالية، وعلى الرغم من أن الاتفاقية أُجريت في حيز إدارة بوش، فكان لا بد من اعتمادها من قِبل إدارة أوباما، ويعلق بيرمان على شخصية العتيبة بقوله “إنه دبلوماسي لافت للنظر”، كما يعلق عليها مات سبنس، الذي كان كبير مستشاري وزارة الدفاع حول سياسات الشرق الأوسط، قائلًا “لقد كان نشاطه ملحوظًا وفعالًا لسببين؛ لأنه كان من الواضح أنه يتحدث باسم الحكومة، كما أنه منفتح للغاية”.
دخول العتيبة إلى العاصمة الأمريكية تم دعمه من قِبل الإمارات بصب مبالغ مالية قاربت حدودًا فلكية؛ بغية تحسين موقفها العام في الولايات المتحدة الأمريكية، واليوم تنفق الإمارات المزيد من الأموال على شركات الضغط السياسي في أمريكا، أكثر من أي حكومة أجنبية أخرى، حيث تشير التقديرات إلى أنها أنفقت في عام 2013 وحده 14.2 مليون دولار أمريكي لهذه الغاية، هذا بالإضافة إلى مئات الملايين التي صبتها الإمارات في قالب العطاءات الخيرية؛ حيث تبرعت الكيانات الإماراتية بمبلغ 3 ملايين دولار على الأقل لمؤسسة كلينتون وحدها، كما ضخت استثمارات بمليارات الدولارات ضمن الشركات الأمريكية، وهذا الموضوع الذي أورده نون بوست في مقالة مترجمة عن الهافينغتون بوست بعنوان “كيف تمارس دول الخليج لعبة النفوذ في واشنطن؟“.
في عام 2010، أدلى العتيبة بنقطة جديرة بالملاحظة أشار فيها إلى أن الولايات المتحدة “هي في الواقع أحد المستفيدين من عائدات النفط الإماراتية”، وذلك من خلال الـ10 مليارات دولار على الأقل التي استثمرتها في مشاريع مختلفة ضمن الولايات المتحدة في تلك السنة وحدها، وردًا على ذلك قام أحد العملاء في واشنطن، ممن يتعاملون مع الإمارات، بصنع ملف فيديو مزج فيه لقطات إخبارية حول فضيحة موانئ دبي العالمية، وعرضه على الأثرياء الإماراتيين؛ لتذكيرهم بأهمية العطاءات التي يقومون بتقديمها إلى واشنطن.
منذ وصول العتيبة إلى قمة هرم السفارة في واشنطن، قدّمت دولة الإمارات العربية المتحدة تبرعات هائلة لمجموعة واسعة من مراكز البحوث والمراكز السياسية، بما في ذلك مركز التقدم الأمريكي، معهد آسبن، معهد الشرق والغرب، ومركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، وجميع هذه المؤسسات يديرها، أو يعمل ضمنها مسؤولون حكوميون أمريكيون سابقون قاموا بصياغة السياسة الخارجية التقليدية لأمريكا؛ ولإيضاح أهمية ذلك، لنا أن نأخذ مثلًا الاجتماع الذي نظمه البنتاغون، وحضره العتيبة، والذي لفت انتباه مراسل الدفاع في الواشنطن بوست، والذي كان عرابه جون هامر؛ وهو الرئيس التنفيذي لمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، المدعوم من قِبل الإمارات المتحدة.
وفي هذا العام، قام معهد أبحاث مقره في الإمارات العربية المتحدة بعقد شراكة مع السفارة السعودية في واشنطن؛ لإطلاق معهد دول الخليج العربي، وهو مؤسسة بحثية وظفت العديد من مسؤولي الإدارة الأمريكية، ممن انتهت خدمتهم مؤخرًا، كباحثين وزملاء، وجدير بالذكر أن المعلم الروحي للعتيبة، ويزنر، يشغل منصب رئيس مجلس إدارة هذا المعهد اليوم، وتعليقًا على هذا الموضوع يقول أحد كبار المسؤولين في حكومة الولايات المتحدة: “الإمارات حصان رابح محتمل بالنسبة للمسؤولين الأمريكين عندما يغادرون الحكومة، لذا يتمتع هؤلاء بحافز مهم عندما يكونون في مناصبهم؛ للإبقاء على صحة العلاقات مع الإمارات“، ويضيف:”عندما تنتهي خدمتك من الحكومة يمكنك أن تتجه نحو دولة الإمارات مرتين في العام؛ لإلقاء كلمة أو للظهور في مؤتمر أو شيء من هذا القبيل”.
خلال سنواته الأولى في العاصمة الأمريكية، سرعان ما اتّضح للعيان أن العتيبة، تمامًا كبن زايد، كان مدفوعًا باهتمامين رئيسين: الأول هو الكراهية العميقة التي يكنها للإسلام السياسي، سيّما تجاه جماعة الإخوان المسلمين، والآخر هو ما نقله عنه موقع ويكيليكس بوصفه إياه بأنه يتمتع بمعارضة “قوية وأحيانًا عدوانية” تجاه الموقف الإيراني، وبفضل التفاهم العميق الجاري بينه وبين الولايات المتحدة، كان العتيبة بارعًا للغاية في تفسير السياسة الأمريكية، وإبلاغها للقادة العرب الآخرين. “العتيبة، علاوة على جميع الأشخاص الآخرين، يساعد في تفسير موقف الولايات المتحدة، ليس فقط لدولة الإمارات، بل لباقي الدول الأخرى في المنطقة أيضًا“، يقول مينتز، ولكن عندما يتعلق الأمر بتكتيكاته التي يتبعها للتودد لواشنطن، تكون الحفلات التي يقوم العتيبة باستضافتها، أو تمويلها هي الأمر الواضح للعيان في هذا المجال.
توجد مجموعة من النساء اللواتي يتمتعن بنفوذ وسطوة عارمة في واشنطن، يعقدن مأدبات غداء خاصة في نهاية كل عام، في حدث قد يكون بالغ الأهمية، ولا يُقدر بثمن، كون هذه المأدبات تضم حشدًا من جماعات الضغط، الناشرين، والنساء اللواتي تمت تسمية المؤسسات الخيرية تيمنًا بأسمائهن، ولكن مجموعة النساء المنظمة دائمًا ما يسعين للعثور على شخص لتغطية تكاليف هذه الحفلات، وبعد وصول العتيبة إلى العاصمة الأمريكية، سرعان ما برز اسمه ضمن لائحة الممولين، حيث تستذكر إحدى المنظِمات سؤال أحد الأشخاص “مَن هو الشخص الجديد في المدينة؟ ربما يوسف سيرعى هذا الحدث“، وتضيف “لقد ذاع صيته بسرعة كبيرة باعتباره مصدرًا سهلًا للمال دون أي شروط إضافية“.
عندما يعمد العتيبة إلى تنظيم حفل، فإنه لا يرضى بأنصاف الحلول، فمثلًا حينما استضاف حفلًا لأبحاث السرطان في نيويورك، تضمن الحفل عروضًا لبيونسي، أليشيا كيز، ولوداكريس، وحينها فاجأ الحضور باحتفالٍ بعيد الميلاد الـ50 لمقدم البرامج جو سكاربورو، ووجدت هذه الحادثة طريقها إلى الطبعة القادمة من سلسلة بلاي بوك (Playbook)؛ وهي عبارة عن مقتطفات، وعناوين يكتبها مايك آلان في صحيفة بوليتيكو، وتلقي الضوء على الأحداث الأكثر شهرة في واشنطن.
في الربيع الماضي، استضاف العتيبة حفل كرة الأطفال (Children’s Ball) لعام 2014، وهو حفل خيري يهدف لجمع التمويل لنظام الرعاية الصحية للأطفال في أمريكا، في فندق ريتز كارلتون بالتشارك مع بريت باير من شبكة فوكس نيوز، وهي الشبكة التي تسببت في الكثير من الإحراج للإمارات من خلال قضية موانئ دبي العالمية، ووصف أحد الأوجه الاجتماعية المخضرمة هذا الحفل بأنه “الحفل الأكثر رقيًا على الإطلاق”.
باير، الذي احتاج ابنه الرضيع لجراحة قلب مفتوح عند ولادته، كرّس نفسه لجمع التبرعات لنظام الرعاية الصحية الوطني للأطفال في أمريكا، ووجد بالعتيبة ضالته المنشودة؛ ففي عام 2009، تبرّعت دولة الإمارات بمبلغ -شده العيون- بلغ 150 مليون دولار، لمستشفى واشنطن للأطفال، والجدير بالذكر بأنه وبعد عدة سنوات، كان نجل العتيبة من زوجته عبير بحاجة أيضًا لعملية جراحية حرجة أُجريت في هذا المستشفى.
الحفل الذي استضافه العتيبة بالتشارك مع باير في 2014، حضرته العديد من الأوجه السياسية والاجتماعية الأمريكية، بمن في ذلك مستشارة الأمن القومي سوزان رايس، رام إيمانويل، زعيم الأغلبية في مجلس النواب الأمريكي إريك كانتور، وجورج بوش وفاريل وليامز، اللذان أشادا على شاشة الفيديو العملاقة الموجودة وسط المسرح بجهود العتيبة، وباير لتنظيم الحفل.
الجميع ضمن هذا الحفل لاحظ نسق الثياب الرسمي المعتمد، والذي كان يتألف من ربطة عنق سوداء، ولباس أبيض، وتعليقًا على ذلك تندر أحد النواب الحاضرين الذي أزعجه وجوب ارتدائه للباس الأبيض لدخول الحفل بقوله “كان الأمر يبدو كأنه غرفة تغص بالعذارى الطاهرين، ولكن على أرض الواقع لم يكن الأمر كذلك البتة“.
بالمحصلة استطاع الحدث جمع أكثر من 10.7 ملايين دولار من أموال التبرعات؛ حيث ساهم في تقديم المبلغ العديد من الشركات المتعاقدة مع وزارة الدفاع الأمريكية مبالغ أخرى، والتي كان العتيبة على معرفة، وتعامل وثيق معها بحكم منصبه السابق كمستشار لبن زايد، وشملت هذه الشركات شركة رايثيون، شركة لوكهيد مارتن، شركة نورثروب غرومان، وغيرها، كما تضمنت التبرعات أموالًا قادمة من البنوك، ومن مؤسسات الضغط السياسي، ومن الكيانات الخليجية المتنوعة، بالإضافة إلى المبلغ الذي تبرع به حاكم دبي، محمد بن زايد، ووزير الخارجية الإماراتي، الشيخ عبد الله بن زايد، إذ تبرع كل منهما مليون دولار أمريكي ضمن هذا الحفل.
تشير ناشطة بارزة في المجتمع الأمريكي -تنظم أحداثًا سنوية رفيعة المستوى متعلقة بجمع التبرعات لأبحاث الأمراض- إلى أنه أحيانًا يتم تقديم منح كبيرة من هذا النوع، بعد أن يقوم مستشفى معين بإنقاذ حياة طفل ينحدر من عائلة ثرية للغاية، ولكن في كثير من الأحيان، تأتي هذه التبرعات ضمن أجندة نفعية، وتوضح قائلة “السبب الآخر الذي يدعو هؤلاء الأشخاص للتبرع، بخلاف حبهم للخير وتقديمهم للأعمال الخيرية، وما شابه تلك المبررات الفارغة، هو أن هذه الحفلات، مثل حفل كرة الأطفال، تتيح لك الجلوس مع جميع الأعضاء البارزين في مجلس النواب، والشيوخ، وكافة المساعدين الهامين في البيت الأبيض، وهناك في تلك الحفلات يمكنك إجراء محادثة، والوصول إلى نتيجة لم يكن بإمكانك الوصول إليها، بخلاف ذلك“.
بالنسبة لباير، فإنه يصف العتيبة بأنه “شخص هائل”، وعندما سألناه عن سبب تقديم الخليج لمثل هذه التبرعات السخية لمستشفى في واشنطن أجابنا “لا أعرف دوافعهم، أو لماذا يفعلون ما يفعلونه”.
يعمد العتيبة أيضًا في كثير من الأحيان لدعوة أعضاء من الكونغرس، العاملين أو المساعدين في البيت الأبيض، وأعيان واشنطن الأكثر نفوذًا لتناول العشاء في مبنى السفارة الإماراتية قبالة شارع “فان نيس” أو في منزله، هذا المنزل هو بالحقيقة قصر يقع على ضفة نهر بوتوماك في فرجينيا. المتحدث باسم البيت الابيض جوش أرنست، عضو الكونغرس المخلوع سابقًا آرون شوك، منتج برنامج محطة إن بي سي “لقاء مع الصحافة” بيتسي فيشر مارتن، كاتب النيويورك تايمز جوناثان مارتن، وجيسيكا يلين من السي إن إن، هم عينة صغيرة من الأشخاص الذين تلقوا دعوات لتناول الغداء في منزل العتيبة.
ضيوف العتيبة يتصرفون عند دعوتهم إلى منزله بأريحية تامة، وكما يقول العتيبة في حديث له لمجلة واشنطن لايف اللامعة في عام 2012، “هذه الأريحية تعني في كثير من الأحيان قيام سكرتير في مجلس الوزراء بالدعس على مجموعة الليغو، التي تفترش الأرض العائدة لابني عمر، أو قيام أميرال بمداعبة آذان كلبينا كوكو ومارلي، أو حتى مباشرة لعبة بلياردو مع أحد أعضاء الكونغرس“.
يستذكر أحد المراسلين الصحفيين الذين حضروا إحدى هذه الدعوات الخاصة للعشاء في منزل العتيبة، وجود الصحفيين وكبار السياسيين، والمساعدين المشدوهين بحديث العتيبة الموضوعي في أمور السياسة، لينتهي هذا الحديث بشكل دوري مع ظهور فولفغانغ بوك من المطبخ للإعلان عن جهوزية وجبة الطعام التالية، وبعد العشاء، يقود العتيبة المجموعة إلى الطابق السفلي للمنزل؛ لمشاهدة مباريات كرة السلة، على الشاشة العملاقة التي يصفها المراسل الصحفي بأنها “أكبر تلفزيون رأيته في حياتي”.
يمكن لهذه الاجتماعات أن تكون أحيانًا بمثابة تجربة أداء، “إذا لبّت هذه الشخصيات المرموقة دعوة العتيبة، وانخرطوا في جو الألفة الذي يقدمه، غالبًا ما يلي ذلك دعوته لهم للسفر إلى الإمارات العربية المتحدة“، يقول أحد العاملين السابقين في الكابيتول هيل، والذي كان سعيدًا لحصوله على مثل هذه الفرصة، وبالعادة ينظم العتيبة رحلة خاصة سنوية إلى أبو ظبي لحضور سباق الجائزة الكبرى للفورمولا وان؛ وهو سباق السيارات الذي يتابعه نحو نصف مليار شخص في جميع أنحاء العالم، وضيوف العتيبة لحضور هذا الحدث يشملون شخصيات مرموقة كليز تشيني، الجنرال المتقاعد جون جامبر، المتبرع الشهير أدريان أرشت، وعائلة باير.
العتيبة بلباسه الخليجي التقليدي مع إيمي باير في أبو ظبي خلال إجازة لحضور مسابقات الفورمولا وان
هذا العام، تم نقل معظم الضيوف إلى الحدث ضمن طائرة خاصة 747، وبمجرد هبوطها على الأرض، نقلتهم سيارات من نوعية بي إم دبليو إلى فندق قصر الإمارات، حيث يوجد آلة لتصريف سبائك الذهب في بهو الفندق، وعلى مدى خمسة أيام، تمتع الضيوف برحلات صيد الصقور، وعروض غنائية قدمها جاي زي، وفرقة ديبيتش مود، وضمن سباق الفورمولا وان ذاته، تم تزويدهم ببطاقات مرور ملكية أتاحت لهم الوصول إلى أرضية الحلبة، وبشكل عام فإن معظم الضيوف ينهون رحلتهم، وهم يشعرون بانبهار وإعجاب، “لديهم حرية في مجال الصحافة، إلى حد ما، القاعدة الوحيدة هي أنه لا ينبغي أن تنتقد الحكم الملكي” ويقول أحد الضيوف. ويتابع “ولكن لماذا تريد انتقاده؟ أنا التقيت السلطان، أو ما يسمونه بالأمير، لقد كان رجلًا رائعًا للغاية“.
هناك هدف من ممارسة جميع هذه الاختلاطات الاجتماعية؛ فالربيع العربي خلق شقاقًا بين دول الخليج السنية، حيث وضعت قطر ثقلها في كفة المحتجين، معتبرة أن قمع الإسلام السياسي استراتيجية تودي إلى الهزيمة الذاتية، وفتحت أمام دعاة الانتفاضة منبرها الإعلامي الشهير المتمثل بشبكة الجزيرة الإخبارية، ولكن الإمارات، والمملكة العربية السعودية، لم تكونا ترغبان في ممارسة أي فعل تجاه ثورات الربيع، “لقد وضعت قطر رهانًا على المدى الطويل بأن الإسلام السياسي سوف يصبح في نهاية المطاف الواقع المهيمن المقبل في المنطقة“، يقول كول بوكنفيلد، مدير أنشطة الدعوة لمشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط، ويتابع: “الإمارات العربية المتحدة والسعودية كانتا تقاتلان بالاتجاه المعاكس، مما أدى إلى نشوب نوع من الثورة المضادة”.
رأى العتيبة صعود الإخوان المسلمين في مصر تهديدًا وجوديًا لمستقبل الإمارات، التي يقوم ازدهارها على الاستقرار الاقتصادي، وقمع أي شكل من أشكال المعارضة السياسية، وفي ذاك الوقت تم تكليف فرانك ويزنر، السفير الأمريكي السابق لدى مصر، من قِبل البيت الأبيض للمساعدة على التفاوض لإنهاء حكم الزعيم الديكتاتوري حسني مبارك، ويتذكر ويزنر أن العتيبة كان -آنذاك- متشككًا للغاية من ثورات الربيع العربي، “لقد قال يوسف إن الولايات المتحدة يجب أن تكون حذرة للغاية، قبل أن تبالغ في تأويل التغيّرات السياسية في المنطقة، ونعتها بأنها تغييرات لصالح حقوق الإنسان“، يقول ويزنر.
مع انتشار الاحتجاجات في مصر، طفق العتيبة مدافعًا بمثابرة وجد عن حكم مبارك داخل البيت الأبيض، ولكن دون جدوى، وإبان وصول جماعة الإخوان المسلمين إلى السلطة بانتخابات ديمقراطية، أفاض العتيبة صندوق البريد الإلكتروني لفيل غوردون، كبير مستشاري الشرق الأوسط في البيت الأبيض، بفيض من الرسائل التي تهاجم الإخوان المسلمين، وداعميهم في قطر. “لقد كان يرسل الآلاف من رسائل البريد الإلكتروني“، يقول المساعد السابق في البيت الأبيض، ويردف “يمكنك أن تكون على يقين بأن لدى يوسف ما يقوله حول موضوع من هذا القبيل، والمسؤولون رفيعو المستوى في جميع أنحاء وزارة الخارجية، والبيت الابيض اضطروا لسماع رأيه من خلال رسائل البريد الإلكتروني المتشابهة، إن لم تكن المتطابقة، التي قام بإرسالها إليهم جميعًا“.
في يوليو 2013، أُطيح بزعيم جماعة الإخوان المسلمين المُنتخب، محمد مرسي، من سدة الحكم في مصر، عن طريق انقلاب عسكري قام به عبد الفتاح السيسي؛ وهو جنرال سابق في الجيش المصري، وعمد إبان الانقلاب إلى مهاجمة الحريات المدنية بشكل أشد قسوة وضراوة، مما كان عليه الوضع في ظل مبارك، واستجابة لهذا الانقلاب عمد صناع السياسة الأمريكيون إلى تجميد تسليم عدد من الشحنات العسكرية الكبيرة، التي اشترتها مصر من أمريكا، وحينها باشر العتيبة بلا هوداة بممارسة ضغوط سياسية على البيت الأبيض< بغية المضي قدمًا بتسليم هذه المشتريات للنظام المصري الانقلابي، حتى أضحى يُعرف باسم “سفير السيسي”، وفقًا لما أفادنا به عدة أشخاص تلقوا رسائل الضغوطات التي أرسلها، وتبعًا لذلك، وجد العتيبة نفسه -وليس للمرة الأولى حتمًا- بالخندق ذاته مع منظمة أيباك، التي ضغطت أيضًا لفك حظر مبيعات الأسلحة عن مصر، وفي نهاية المطاف، وتحديدًا في أبريل من هذا العام، تقبلت الولايات المتحدة ضمنًا الوضع الجديد في القاهرة، ورفعت الحظر.
وفي الوقت عينه، ساعدت شراسة العمليات العسكرية الإماراتية ضد داعش في سوريا على تعزيز موقعها كحليف لا غنى عنه للولايات المتحدة الأمريكية، حيث ذكرت صحيفة الواشنطن بوست في تقرير لها نشرته الخريف الماضي، أن الضربات الجوية التي انطلقت ضد داعش من قاعدة الظفرة الجوية في الإمارات تفوق عدد الضربات التي خرجت من أي مكان آخر في المنطقة، كما أن الطيارين الإماراتيين أجروا عددًا من الطلعات الجوية يفوق عدد الطلعات التي أجرتها أي دولة أخرى ضمن تحالف الولايات المتحدة الساعي لمحاربة الدولة الإسلامية، وأشار المقال إلى أن دولة الإمارات كشفت للواشنطن بوست هذه التفاصيل خوفًا من الاستهانة بدورها، أو التقليل من شأنه من قِبل الولايات المتحدة، “نحن أفضل أصدقائكم في هذا الجزء من العالم”-نقلت الصحيفة عن العتيبة قوله.
هذه العلاقة الوثيقة للإمارات مع أمريكا شجعتها على شحذ جرأتها، وحزمها على نحو متزايد؛ ففي أغسطس 2014، أطلقت الإمارات ومصر غارات سرية في ليبيا؛ لمساعدة القوات المعادية للإسلاميين، مما أثار حفيظة وغضب البيت الأبيض، وفي ديسمبر، أوقفت الإمارات علنًا تعاونها مع الولايات المتحدة في سوريا، مشتكية من أن الولايات المتحدة بحاجة لتحسين جهود البحث، والإنقاذ للطيارين العرب الذين يتم إسقاط طائراتهم، وفعلًا عندما حسّنت الولايات المتحدة من قدراتها، عادت الإمارات مرة أخرى إلى حضن التحالف.
جميع ما تقدم يتضاءل حجمه بجوار الإنجاز الدبلوماسي الهادئ الذي استطاع العتيبة تحقيقه، والذي تكشّف في مجال تصنيع التكنولوجيا في الشمال الشرقي الأمريكي، فهو يشير في كثير من الأحيان إلى حقيقة أن شركة مملوكة للإمارات، تدعى جلوبل فاوندريز، تقدمت بعروض بمليارات الدولارات لتملّك عدد من المصانع في ولاية نيويورك، وفيرمونت مسؤولة عن تصنيع كامل الإلكترونيات الدقيقة لشركة آي بي إم “IBM” وتضطلع بصناعة أشباه الموصلات، وكانت عملية الاستحواذ حساسة للغاية؛ بحيث كان لا بد من إجازتها من لجنة الاستثمار الأجنبي في الولايات المتحدة، لأن إتمام الصفقة يعني أن أحد أهم موردي وزارة الدفاع، وأكثرهم ثقة في مجال صناعة أشباه الموصلات المخصصة لأنظمة الأسلحة والطائرات، والتكنولوجيا الحكومية الأخرى سيتم استبداله من قِبل كيان مملوك لدولة أجنبية، وفعلًا ظفرت الصفقة بالموافقة في 30 يونيو، بعد أقل من عشر سنوات على محنة موانئ دبي العالمية، وحينها اختفت التصريحات الغاضبة في فوكس نيوز، ولم تسر الاحتجاجات في الكونغرس، لا بل إن الشخص الذي كان غير ما مرة العدو الأول للإمارات، تشاك شومر، أشاد باستيلاء جلوبل فاوندريز على المصانع، ونعته بـ”النبأ العظيم المبشر بمستقبل اقتصادي جيد”.
في صيف عام 2010، ظهر العتيبة في مهرجان أسبن السنوي للأفكار، وقابله حينها على المسرح مراسل صحيفة الأتلانتيك، جيفري غولدبرغ، الذي سأله عما إذا كان يعتقد أنه يجب على الولايات المتحدة أن تشن هجومًا على إيران؛ بغية وقف التقدم النووي، “بالتأكيد، بالتأكيد”، أجاب العتيبة، وسرعان ما أدرك الجمهور أن شيئًا غير عادي يجري على المسرح، وفي محاولة منه للتأكد من أن العتيبة لم يقع في زلة لسان، أعاد غولدبرغ صياغة السؤال بعدة طرق مختلفة، ليتلقى في كل مرة الإجابة ذاتها، وحينها انتشرت تعليقات أسبن على منافذ الأخبار العالمية، واستجابت إيران لهذه التعليقات بدعوتها علنًا لدولة الإمارات لإزالة العتيبة من منصبه، في موقف أصبح أصدقاؤه يستذكرونه بأنه كبوة حصان مروعة.
ولكن مع ذلك، قلّما باح العتيبة علنًا بالأفكار التي كان يطرحها قادة دول الخليج في الاجتماعات الداخلية المغلقة، فالبرقيات الدبلوماسية التي نشرها موقع ويكيليكس في وقت لاحق، أوضحت أن الإمارات طالما اعتبرت إيران التهديد الأكبر، والأخطر لكيانها، باعتبارها القوة الشيعية الرئيسة في المنطقة، والتي تقبع على بعد 35 ميلًا فقط من دبي عبر مضيق هرمز، وفي السنوات الأخيرة، أصبحت الإمارات العربية المتحدة أكثر نشاطًا في الضغط على واشنطن لتبني الموقف ذاته.
لقد أصبح هذا الضغط واضحًا بشكل متزايد؛ من خلال المناقشة التي استمرت سنوات طويلة حول الاتفاق النووي الإيراني، فدور إسرائيل وإيباك في معارضة هذا الاتفاق معروف، ولا خلاف عليه، ولكن العتيبة لعب أيضًا دورًا حاسمًا في إثارة الشكوك حول عزم الإدارة الأمريكية على التعامل مع إيران بدلًا من عزلها، حيث يقول مسؤول عسكري رفيع المستوى: “إنه يتمتع بتأثير كبير في أجزاء معينة من الكابيتول هيل، لذا أثار الشكوك في خلدهم حول ما تقوم به الإدارة الأمريكية، فيما يتعلق بالملف الإيراني، وباعتبار أن الضغط قادم من دولة عربية، وليس من قِبل إسرائيل، لذا كان يُنظر إليه بأنه أقل تحزبًا“، وأضاف مسؤول أمريكي آخر رفيع المستوى إن العتيبة والسفير الإسرائيلي، رون ديرمر، متقاربان للغاية، “إنهما يتوافقان في كل شيء تقريبًا، باستثناء الفلسطينين“، قال موضحًا.
وأكد مسؤول رفيع المستوى في السفارة الإسرائيلية قيمة هذا التحالف الاستراتيجي قائلًا “إن وقوف إسرائيل والعرب معًا؛ هو المكسب الأكبر الذي يصبو إليه المرء، فهذا الأمر يخرجنا من السياسة، ومن الأيديولوجيا، عندما تقف إسرائيل والدول العربية معًا، فإن ذلك يشكل مصدر قوة”.
هذا العام، تمت دعوة العتيبة عن طريق السفير ديرمر لحضور خطاب نتنياهو حول إيران أمام الكونغرس، ولكنه رفض ذلك؛ بسبب الحساسية السياسية لهذه الموضوع في بلده الأم، ومن خلال المتحدث باسمه، نفى العتيبة أنه وديرمر صديقان على المستوى الشخصي، بالإضافة إلى ما تقدم، فإن العلاقة ما بين الإمارات وإسرائيل تحدها قيود من الجانب الإسرائيلي، فعندما التقى نتنياهو بوزير الدفاع أشتون كارتر في يوليو؛ لمناقشة القضية الإيران، تذمر نتنياهو من بيع الولايات المتحدة أنظمة الأسلحة المتطورة لدول الخليج العربية، وذلك وفقًا لتقارير إسرائيلية أكدها مسؤول أمريكي بارز، وهذا التشكك في العلاقة يبدو قائمًا ما بين الدولتين، وبكلا الاتجاهين، حيث يؤكد المسؤول الأمريكي أن “الانفراج الخليجي-الإسرائيلي ليس حقيقة واقعة، فلو كانوا أصدقاء مقربين، لربما كان يجدر بهم البدء؛ من خلال الاعتراف بدولة إسرائيل”، وفي نهاية المطاف أُسدل الستار على المعارضة الإمارتية للصفقة الإيرانية في فصل الربيع، حينما عقد أوباما قمة كامب ديفيد مع قادة دول الخليج، ومنذ ذلك الحين امتنعت الإمارات عن معارضة الصفقة علنًا.
هذا الصيف، دعا الرئيس أوباما حفنة من صحفيي السياسة الخارجية لقاعة روزفلت في البيت الأبيض؛ للحديث عن الاتفاق الإيراني، وفي نهاية المؤتمر الصحفي، سُئِل أوباما عن الكيفية التي أثّر فيها الإنفاق السياسي غير المتوازن على النقاش الحالي، باعتبار أن إيران ممنوعة من ممارسة الضغط السياسي في أروقة واشنطن السياسية؛ بسبب العقوبات السياسية المفروضة عليها، وحينها أجاب أوباما “مرحبًا بكم في عالمي الذي كنت أعيش به”، موضحًا الخلل في الديناميات المحيطة بسياسات إصلاح نظام الرعاية الصحية وتغيّر المناخ، “كان علينا أن نعتمد على شبكات الدعم الشعبية، وبالنسبة لي فقد كنت أتواصل على الهاتف مرارًا مع مجموعة من الحاخامات، على أمل أن يكونوا مصغين لما أقوله“، وتابع موضحًا “لقد كان علينا أن نعمل بالدعم الذي استطعنا الحصول عليه”.
بعد ذلك، أوضح مراسل الهافينغتون بوست لأوباما أن السؤال السابق مخصص لهذا المقال الذي يتحدث عن العتيبة، واستثمار دولة الإمارات العربية المتحدة بمئات الملايين من الدولارات في الجهود الرامية للتأثير في السياسة الخارجية، “نعم، أنا أدرك ذلك، إنه أمر جنوني“، قال أوباما، وتابع موضحًا “هذه مجموعة كبيرة من التحديات التي تقطع نظامنا أفقيًا، وتظهر جلية في الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري، وفي حقيقة أن حصولك على دعم من الأثرياء يجعلك جاهزًا لدخول السباق، مهما كنت أحمق“.
مواقف العتيبة من إيران وسوريا متطابقة تقريبًا مع مؤسسة السياسة الخارجية للحزب الجمهوري. “إنه يبذل قصارى جهده لتنمية علاقاته مع أعضاء الكونغرس، وأعتقد أنه يمثل بلاده بشكل جيد للغاية“، يقول السيناتور الجمهوري جون ماكين، ويضيف “إنه ليس مجرد ممثل عادي لأي دولة، إنها دولة تحارب حرفيًا ضد الدولة الإسلامية”.
في الآونة الأخيرة، أصبح العتيبة أيضًا أكثر انتقادًا لإدارة أوباما، ففي هذا العام، تواصل حاكم ولاية ويسكونسن والمرشح الرئاسي عن الحزب الجمهوري، سكوت ووكر، مع العتيبة لحضور مؤتمر حول الشرق الأوسط، وحينها ألمح ووكر مرارًا وتكرارًا إلى أن الاجتماع يهدف إلى انتقاد إدارة أوباما؛ لأنها فكت ارتباطها مع منطقة الشرق الأوسط، وفي فصل الخريف، نشرت مجلة فورين بوليسي إدانة لاذعة لسياسة أوباما الخارجية بقلم المحرر ديفيد روثكوبف، وورد ضمن المقالة اقتباسًا منقولًا عن “مفكر رصين ودبلوماسي بارز، وأحد أكثر الحلفاء الأمريكيين موثوقية في الشرق الأوسط“، حيث قال عن الولايات المتحدة “إنها لا تزال قوة عظمى، ولكنها لم تعد تعرف كيف تتصرف كدولة عظمى“، وتبين لاحقًا أن هذا المفكر الرصين هو العتيبة -دون شك.
حتى الآن، مازال العتيبة يتمتع بعلاقات وصلات مع وزير الخارجية جون كيري، سوزان رايس، والعديد من القادة في وزارة الدفاع، ولكن انتقاداته الأخيرة لإدارة أوباما أدخلت هذه العلاقات في طور التوتر “إن الأحجية التي يغفلها العتيبة، والتي يغفل عنها في كثير من الأحيان، تتمثل في أن الشعب الأمريكي ليس محصورًا فقط في واشنطن“، يقول مسؤول أمريكي رفيع المستوى، ويضيف موضحًا “في الفورسيزونز الجميع يؤيد قصف الناس، والجميع يعارض إبرام صفقة مع إيران، ولكن يجب على الكونغرس في نهاية المطاف أن يلتمس رغبات الرأي العام“.
وفي السياق ذاته أشار مسؤول مخضرم في السياسة الخارجية الأمريكية إلى أنه يشعر بالقلق من سعي العتيبة بشكل أساسي “لخلق نسخة عربية علمانية من أيباك“، وأضاف”إنه يتحرك بسرعة كبيرة، وبقوة فائقة، وبكم هائل من المال، وقد يتحول إلى شخص لا ترغب في اصطحابه معك إلى الحفلات”.
مبدئيًا، وضمن الأوضاع الحالية، من المرجح أن يستمر تأثير العتيبة داخل أروقة السياسة الأمريكية بالتصاعد والنمو، وإحدى الإدارتين، إدارة الجمهوريين أو إدارة هيلاري كلينتون، قد تتبنى نهج القتال المحموم الذي يعتنقه العتيبة؛ لمعالجة أوضاع المنطقة، وكما يوضح مساعد سابق في البيت الأبيض، دولة الإمارات العربية المتحدة أصبحت حليفًا استراتيجيًا هامًا للغاية؛ لتحقيق مصالح سياسة الولايات المتحدة، بشكل لا يمكن معه للعتيبة أن يخسر مكانته في واشنطن، بغض النظر عمن يشغل البيت الأبيض.
ترجمة نون بوست
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق