الثلاثاء، 19 يناير 2016

مفهوم الهوية العراقية: هل لا زلت عراقيًا؟


19 يناير 2016


مجاهد الطائي

كاتب و باحث عراقي في المجالات السياسية ، ماجستير علوم سياسية جامعة الاردن




قبل الاحتلال عندما يُسأل العراقي من أي بلدِ أنت، يُجيب أنا عراقي، أنا عراقي فقط لأن هوية العراق المفترضة كانت واحدة أوعلى الأقل لم تظهر الهويات الأخرى وتطفو على السطح بالشكل الذي هي عليه الآن، أما في الوقت الراهن عندما يُجيب العراقي أنهُ من العراق لا بد من التفصيل؛ فالجواب لا يُثري السائل على ما يبدو، فهناك عراقي شيعي وسني وكردي وهويات أخرى فرعية ممزوجة بهوية العراق الوطنية الضائعة، عراق الوطن الذي من المُفترض أن يَحوي ويَحمي ويَستظل الجميع تحته.

من هنا يثير مفهوم الهوية العراقية كثيرًا من الالتباس على الإنسان العراقي، خاصة بعد الاحتلال ليس فقط بسبب الغموض وتفرع المفاهيم المتعلقة بالمفهوم فلسفيًا وعلميًا، وليس فقط بسبب سلوكيات الأحزاب السياسية عمليًا، وإنما بسبب أن العراق لم يكن أمة ذات هوية واحدة على الإطلاق بل كان دولة سعت لتكوين أمة بناءً على المشتركات وإنهاء التناقضات بالقوة، وأن ذلك السعي في تكوين الأمة لم يَكن بمشاريع وطنية تستوعب الجميع، وإنما بمشاريع حزبية ضيقة ومحاولات صهر للهويات الأخرى؛ فأدخلت الدولة في صِراع مع الأمة بدل أن تكون الدولة ممثلاً ومجسدًا للأمة.

فالعراق له حصة كبيرة من هذه الحيرة السياسية التي يواجهها بعد وقوعه تحت الاحتلال وما تبعه من مشاكل هزت كيان الدولة وقطعت خيوط المشتركات مع المجتمع المتنوع، فالاحتلال كان يُمثل الامتحان الأصعب في الحفاظ على الهوية الوطنية المفترضة التي تستند على المشروع الوطني الغائب في العراق.

إن السبب الذي يدفع باتجاه شدة الاختلاف على مفهوم الهوية كونه مصطلحًا ذا أهمية عظمى إلى جانب كونه الأكثر إثارة للجدل بين المتحاورين والكتاب والفرقاء السياسيين، على الرغم من أن المتحاورين حول ماهية الهوية الوطنية وحدودها يتفقون على أهميتها الجوهرية في إرساء الوحدة الوطنية والاستقرار على أسس راسخة ومتينة، إلا أنهم نادرًا ما يتفقون حول تفصيلاتها وأبعادها الفكرية والثقافية والسياسية، علمًا أن استعمال الفهوم كشعار سياسي كما فعلت بعض الأحزاب في العراق؛ قد دفع إلى الفرقة والتناحر بدلاً من الالتحام والتكامل نتيجة للتفسيرات المتحيرة للمفهوم ، مع المشاريع الفرعية وغير الوطنية للأحزاب وبثوب الدولة في كثير من الأحيان، من هنا يمكن أن نقول بأن مفهوم الهوية الوطنية هو عبارة عن بطاقة التعريف التي تمتلكها كل دولة مستقلة ذات سيادة بحيث تُبرز شخصية المجتمع ومنها يستمد قوته الوطنية الواحدة لمواجهة تحديات الحاضر المزري في العراق ولضمان بناء المستقبل.

يقول ثامرعباس في كتابه الموسوم "الهوية الملتبسة": "إن ضعف الهوية الوطنية لأي شعب يؤدي إلى ضعف الشخصية الاجتماعية والفردية، إضافة إلى كثرة التوترات السياسية وسيادة العنف وديمومة الاستبداد والديكتاتورية.

فقد عانى العراق منذ نشأة الدولة العراقية عام 1921 ظروف سياسية واجتماعية عصيبة، فهو واحد من أكثر بلدان المشرق العربي أزمات ومشاكل، وقد كان ولا يزال مثقلاً بتركة من التخلف العشائري والتناقض المذهبي والتي صاغتها ظروف نهاية الحقبة العثمانية والاحتلال البريطاني والأمريكي، إضافة إلى الأنظمة السياسية التي حكمته والتي افتقرت جميعها إلى المشروع الوطني؛ مما شكل عدة أزمات مترابطة كالهوية والاندماج والاستقرار السياسي في علاقاته الاجتماعية مع مكوناته المختلفة ومع الدول إقليميًا ودوليًا.

إن حجر الزاوية للأوطان المستقرة وللعراق هو النجاح في بناء الهوية الوطنية، ذلك المشروع المؤجل في العراق والذي يفتقد إلى مقوماته الذاتية كالوعي والإرادة والمشروع الوطني، ويفتقد إلى شروطه الموضوعية كالعلاقات بين المكونات تجاريًا ودينيًا وسياسيًا مع بناء المؤسسات، فالهوية الوطنية العراقية غير موجودة واقعيًا.

إن أكبر أزمة تعرضت لها الهوية العراقية هي بعد الاحتلال عام 2003، وذلك بعد قيام الولايات المتحدة بانتهاج سياسة تقسيم المجتمع العراقي أو إعادة تنظيمه على أساس طائفي وإثني تحت ذريعة العدل بين العراقيين وحماية الأقليات المضطهدة؛ فانتقلت المفاهيم الوطنية والتي تدعو إلى الوحدة إلى المفاهيم الطائفية والقومية والتي تدعو للولاء للهويات الفرعية التي كانت مستهجنة من قِبل أطياف واسعة من الشعب العراقي عامة.

لا يمكن العمل على موضوع الهوية كمشروع مطروح للإنجاز، وإنما هي حالة تابعة تترسخ تلقائيًا بعد استقرار إحساس المواطنة المبني على الشعور بالرضا بالانتماء والذي يأتي كنتيجة طبيعية لاستيفاء الحقوق الضرورية والالتزام بالواجبات الموكلة إلى أفراد المجتمع.

هناك حقيقة لطالما كانت غائبة عن بنية الوعي للإنسان العراقي والرأي العام مفادها أن الحديث عن شخصية عراقية كاملة العناصر ومكتملة المقومات هو من قبيل الافتراض النظري والتوصيف المفهومي ليس إلا، إذ لا يوجد بواقع التجارب الاجتماعية والمعطيات التاريخية ما يوحي بوجود مثل هكذا شخصية ويبرهن على حقيقتها.

فالمجتمع العراقي له ثلاثة مكونات رئيسية هي السنة والشيعة والأكراد ولا يشبه تلك الهويات بعضها بعضًا لا في منطلقاتها ولا في مبادئها ولا في غاياتها ولا في أهدافها، كما أن تاريخهم متناقض ومشاعرهم متباينة وأهدافهم متناقضة ومتعاكسة، وأن عناصر ومقومات الاختلاف أكبر وأعمق من عناصر ومقومات الالتقاء وخاصة الاختلافات الطائفية فهي متخالفة مختلفة متباغضة متحاربة يكيد بعضها بعضًا، فعند قدوم المحتل الامريكي هيأ الأجواء والظروف فقط لكي تتضاعف وتستشري، هذه هي الحقيقة المرة التي يجب أن يعترف العراقيون بها ويضعوا آليات ووسائل لحلها بدل القول بأننا جسد واحد ويطعن بعضنا بعضًا، فلا بد من تشخيص المرض لكي نحتوي الأزمات ولكي نتناول الدواء الصحيح.

لقد اتبعت المكونات العراقية سياسات عدائية تجاه شركاء الوطن بسبب هاجس التغييب الذي طالها في ظل النظم الاستبدادية التي حكمت العراق وما رافقه من حرمان الكثير الأفراد من الانتماء الشرعي للهوية العراقية؛ مما جعل الهوية الوطنية تعاني أزمة شد وجذب مع الهويات الفرعية والتي تحاول الظهور والثبات في إطار الصراع من أجل انتزاع الحقوق التي تشعر جميع المكونات العراقية بالظلم والإجحاف في نيلها بشكل عادل.

أخيرًا، ضاعت حدود العراق ومعها بعض مقومات الهوية، لكنها ما زالت عالقة بالذاكرة، وتَسربت السلطة بيد المليشيات والقوى السياسية والاجتماعية والأحزاب لكن مازال السعي نحوها على حِساب العراقيين، وغاب المشروع الوطني فضاعت الهوية الوطنية العراقية واستُعيض عنها بهويات فرعية غير وطنية، وفشلت الدولة وأفشلت معها روابط ومشتركات الأمة بمكوناتها المختلفة، ضاعت الحقوق فبرزت الهويات الطائفية والإثنية للمحافظة على نفسها بمكوناتها وآلياتها ومشاريعها وأهدافها، فهل بقي عراق؟! وهل مازلت عراقيًا؟!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق