بعد إنهاء حزب الله اللبناني عملياته العسكرية في منطقة القصير السورية، وبعض مناطق القلمون القريبة من هذه المنطقة، أعلن أنه استطاع الكشف أو اكتشاف العديد من الأماكن التي كانت الجماعات المتطرفة تستخدمها لإنتاج "حبوب الكبتاغون" وتصنيعها، ومن ثم تصدريها إلى السوقين اللبنانية والسورية، لتمويل نفقاتها العسكرية والأمنية أو استخدامها بين أفرادها الذين تدفع بهم إلى المعارك، خاصة العمليات الانتحارية، حسب توصيف وسائل الإعلام التابعة لهذا الحزب.
هذه العمليات العسكرية جرت في صيف عام 2013، وفي المحصلة هذا الانجاز لحزب الله، من المفترض انه وبعد الكشف عن هذه المصانع ودور هذه الجماعات المتطرفة في ترويج المواد المخدرة، من المفترض أن يتراجع حجم وكمية المواد المشابهة المنتشرة في الاسواق اللبنانية أولا، وان تتراجع عمليات التهريب عبر المنافذ البرية والبحرية والجوية اللبنانية باتجاه دول العالم خاصة دول الخليج ثانيا.
إلا أن عمليات التهريب بعد هذا التاريخ، وبجهد بسيط وفي تتبع فقط لما اعلنته الاجهزة الامنية اللبنانية وسلطات الأمن العام في المنافذ الرسمية، لم تتراجع، بل ارتفع منسوبها وكذلك حجم وكمية المواد التي حاول تجار المخدرات تهريبها من لبنان الى مختلف الاتجاهات.
والحقيقة التي تتكشف من جراء متابعة العمليات التي قامت بها الأجهزة الامنية، تظهر وجود مصانع كبيرة وضخمة تعمل في مناطق مختلفة على الأراضي اللبنانية وتتمتع بحماية أمنية من اطراف نافذة في لبنان، تقوم على تصنيع كميات كبيرة من حبوب الكبتاغون وتسهل عملية تهريبها عبر المنافذ الرسمية برعاية من القوى التي تملك نفوذا في هذه المنافذ وتتحكم بها.

الجذور

لا شك أن معضلة المخدرات وزراعة انواعها في لبنان تعود إلى مراحل متقدمة من القرن الماضي، وطالما شكلت تحديا حقيقيا للدولة اللبنانية منذ تأسيسها، ووضعتها في مواجهة مباشرة مع تجار ومزارعي هذه المواد، وصولاً إلى اعلان مناطق شاسعة من شرق لبنان- أي منطقة البقاع الشمالي وبعلبك الهرمل - مناطق خارجة على القانون، وتتمتع بحماية العشائر المنتشرة في المنطقة وتملك من الأسلحة والمعدات العسكرية ما يفوق في بعض الأحيان قدرات القوى الأمنية وحتى الجيش اللبناني، وتستخدمها لمواجهة أي عملية تنوي الدولة اللبنانية القيام بها للقضاء على هذه الآفة.
وفي تسعينيات القرن الماضي، توصلت الدولة اللبنانية الى اتفاق مع مؤسسات المجتمع الدولي على تشجيع الزراعات البديلة في مناطق زراعة الافيون والحشيش، الا ان الخطة اللبنانية الدولية لم يكتب لها النجاح لأسباب ذاتية تتعلق بعمل مؤسسات الدولة اللبنانية، وأيضا لأسباب تتعلق بطبيعة التركيبة العشائرية للمنطقة التي تمردت على الخطة ولجأت إلى أساليب ملتوية لاستمرار في هذه الزراعة مدعومة من قوى الأمر الواقع في المنطقة، خاصة حزب الله وحركة أمل، لانهما فضلا السكوت عن هذه النشاطات حفاظاً على علاقتهما بعشائر في هذه المنطقة وما تشكله من بيئة حاضنة لهما ومنبعا للمقاتلين في صفوفهما.
زراعة الحشيش والأفيون في منطقة البقاع اللبناني، شكلت أيضا مصدرا ماليا لكبار ضباط الجيش السوري خلال وجوده وانتشاره في لبنان، وقد عمد البعض منهم الى بناء علاقات تجارية مع كبار زارعي المخدرات والمتاجرين بها وتشكيل شبكات تهريب تابعة لهم داخل لبنان وسوريا.
ولعل أبرز محطة على هذا الصعيد الخلافات التي حصلت بين أبرز ضابطين سوريين مرتبطين بعلميات التهريب وشبكاتها في لبنان أواسط التسعينيات من القرن الماضي، هو الخلاف الذي حدث بين آصف شوكت "صهر الرئيس حافظ الأسد" وبين شقيق زوجته ماهر الأسد، وأدى الخلاف بينهما في بلدة مضايا بين الاراضي اللبنانية ومدينة الزبداني الى اطلاق النار واصابة آصف شوكت بعدد من الطلقات التي صوبها عليه ماهر وكادت تقتله، وعمد حينها حافظ الاسد الى التكتم على الأمر ونقل شوكت للمعالجة في احدى المستشفيات اللبنانية.

المخدرات والميليشيات

خلال الحرب الأهلية في لبنان وعلى مدى أكثر من 15 سنة، شكلت زراعة المخدرات والممنوعات مصدرا مهما وأساسيا في تمويل الأحزاب والقوى والميليشيات العسكرية في لبنان، وقد دخلت الاحزاب التي كانت تسيطر على مناطق زراعة المخدرات في شراكة واضحة مع شبكات التهريب مقابل تأمين الحماية لهم وصولاً إلى تسهيل عمليات تهريب هذه المخدرات عن طريق المنافذ الرسمية الجوية والبحرية والبري مقابل حصة محددة من المردود المالي.
وكانت عمليات التهريب البري تجري بإشراف من ضباط في الجيش المخابرات السورية العاملة في لبنان، أو مع مسؤولين وضباط كبار داخل سوريا يوفرون الحماية لشبكات التصنيع والتهريب.

ايران والمخدرات في لبنان

قبل عام 2000 لم يدخل حزب الله في دائرة المستفيدين من عمليات زراعة وتصنيع المخدرات، على الرغم من انتشاره الكبير وتأييده الواسع بين الجماعات والعشائر التي تقوم على زراعة الممنوعات، خاصة في منطقة البقاع وبعلبك الهرمل.
لكنه في المقابل لم يقم بأي خطوة للحد من هذه الظاهرة أو المساهمة في محاربتها ومحاربة زراعتها، على الرغم من انها تتعارض مع التعاليم والاحكام الشرعية والدينية والفقهية التي كان يدعو ويحض الناس الى تطبيقها. مفضلا عدم الدخول في مواجهة مع الجماعات التي تقوم بزراعتها حتى لا يخسر تأييد العشائر التي ينتمون لها. لكنه وبعد عام 2000، اي بعد الانسحاب الاسرائيلي من لبنان، ظهرت لديه الحاجة للحصول على معلومات استخباراتية من الجانب الاسرائيلي، فلجأ الى الاستحصال على فتاوى شرعية من مرجعيته الدينية في ايران، اي مرشد النظام وولي الفقيه، بجواز استخدام المخدرات وتوريدها الى شبكات تهريب اسرائيلية مؤلفة من ضباط وجنود اسرائيليين مقابل الحصول على معلومات عسكرية وامنية يستخدمها في اطار التخطيط للعمليات التي يقوم بها ضد الاسرائيليين.
هذا الاسلوب سبق أن اعتمده حزب الله في التعامل مع قوات جيش انطوان لحد التابع لإسرائيل قبل عام 2000، حيث كان ينسق بعض العلميات للاستيلاء على المواقع العسكرية من دون قتال ليستخدمها في الترويج الاعلامي والعسكري لقدراته في مواجهة الاعداء والخصوم.
مصادر هذه المخدرات كانت تأتي من ايران، خاصة عبر اجهزة حرس الثورة الاسلامية، التي كانت تصادرها قوات الأمن الايرانية من شبكات التهريب التي كانت تخرج من افغانستان عبر الاراضي الايرانية باتجاه اوروبا.
خلال الحرب الاسرائيلية عام 2006، جرى حديث جدي عن أن الاموال التي رصدتها ايران لمساعدة حزب الله في اعادة الاعمار والتي وصلت الى حدود 4 مليارات دولار، وانها اموال جاءت من كولومبيا، اي أن ايران استغلت علاقتها بكارتيلات المخدرات في امريكا اللاتينية وقامت بتبييض اموالهم ونقلها الى لبنان "المال النظيف" لمساعدة حزب الله، ما يقلل عليها الفاتورة المالية.

لبنان وظاهرة الكبتاغون

تقول مصادر في شعبة مكافحة المخدرات وتبييض الاموال والارهاب في الجمارك اللبنانية ان عام 2007 ضبطت هذه الشعبة كميات من "بودرة" جاهزة للتحويل الى حبوب كبتاغون على معبر العبودية على الحدود الشمالية بين لبنان وسوريا، وصادرت 103 كليوغرامات منها، وكانت هذه الحادثة اولى المؤشرات على بداية ظهور هذا النوع الجديد في لبنان حسب هذه المصادر.
وتضيف، ان السنوات العشرة الاخيرة، نشطت صناعة الكبتاغون داخل سوريا في ظل حكم بشار الاسد، وعمدت عصابات التهريب الى استخدام الاراضي اللبنانية كمحطة "ترانزيت" باتجاه دول الخليج والاسواق الاوروبية، في حين كان لبنان مشهورا بالاتجار بمادة الكوكايين التي كانت تنتج من زراعة الافيون او نبتة الخشخاش في سهول البقاع والهرمل.
وتقول شعبة مكافحة المخدرات إن عمليات التهريب من سوريا بعد الأزمة في هذا البلد نشطت بشكل كبير، خاصة في ظل عدم قدرة الاجهزة الامنية اللبنانية على ضبط الحدود بسبب عدم قدرتها على القيام بواجباتها بسبب انتشار قوى الامر الواقع في اشارة الى سيطرة حزب الله على المنطقة وتحويلها الى منطقة عسكرية لعناصر ميليشياته.
الوضع الامني والعسكري المستجد في سوريا، حول لبنان من بلد "معبر" الى بلد "مصنع" واصبحت معامل التصنيع تنتج حبوب الكبتاغون داخل الاراضي اللبناني داخل مناطق امنية لا يمكن للدولة ان تدخلها او تراقبها. لكنها اكتفت بعمليات ضبط العديد من عمليات التهريب ومصادرة المواد الاولية المستخدمة في التصنيع في المنافذ الرسمية خاصة في المطار والمرفأ، على الرغم من صعوبة كشفها، خاصة من قبل الكلاب المدربة على ذلك على العكس من مادة الكوكايين، وما يتم الكشف عنه يتم عبر استخدام اجهزة "سكانر" متخصصة ومتطورة.