الخميس، 8 أكتوبر 2015

أفكار وأضواء: شيعة الخليج وولاية الفقيه / خليل حيدر


من اختصاصات الولي الفقيه بموجب الدستور الإيراني توجيه سياسة الدولة، وتولي قيادة الجيش والحرس الثوري وكذلك سائر الأجهزة الأمنية في البلاد، وبيده إعلان الحرب والسلام، وتنصيب كبار القضاة وعزلهم، كما يرأس مؤسسة الإذاعة والتلفزيون وهيئة الأركان العامة، وبيده كذلك الموافقة والاعتراض على انتخاب رئيس الجمهورية.

يثار في بعض الأحيان تساؤلات عن "حماية الشيعة" في العالمين العربي والإسلامي: هل هي من واجبات السلطات الرسمية وحدها؟ وهل تقوم بها هذه السلطات في كل الدول على النحو المطلوب؟ أم أن لإيران كذلك دوراً ما في هذا المجال، لاعتبارات مذهبية وسياسية؟ ولماذا يتهم بعض الشيعة في كثير من الأحيان بـ"الولاء" لهذه الدولة الشيعية الوحيدة في العالم، إيران؟ وما علاقة عموم الشيعة بولاية الفقيه؟
 لا أعرف إن كان بعض الباحثين في العلوم السياسية أو الاجتماعية قد درس الظاهرة دراسة علمية إحصائية، ولا أعرف كذلك ما تعريف هذا "الولاء"، وما حدوده، وما شواهده التاريخية، وهل هو يماثل ولاء الكاثوليك للبابا والفاتيكان، أم تعاطف المسلمين في الولايات المتحدة وأوروبا مع العالم الإسلامي، أم غير ذلك؟
 وقد أثيرت هذه القضية والمشكلة الطائفية عموما على نطاق واسع في العالم العربي مع تشكيل دولة العراق الحديثة بعد عام 1921، في مجتمع ثنائي المذهب، مجاور لإيران، فيه العديد من مراقد أئمة الشيعة، وينتمي أتباع المذهب فيه إلى قبائل وعشائر عربية، غير أن هذه المرحلة كانت كذلك مرحلة صعود المد القومي العربي واليساري، كما تعرض المجتمع العراقي لهزات وانقلابات عديدة لم تفسح المجال لتطور التجربة ونضج المشاعر الوطنية لدى الطائفتين، فتأجل ذلك كله لما بعد سقوط النظام عام 2003، وما نراه منذ ذلك الوقت من صراعات واستقطابات ومشاعر متباينة.
 تحولت إيران إلى المذهب الشيعي على صعيد الدولة عام 1502 في ظل الدولة الصفوية التي أبدت حماساً منقطع النظير لنشر المذهب وتعميمه وضمان هيمنته بكل الوسائل، وعندما أدت نشاطات الصفويين إلى وقوع الحرب مع الدولة العثمانية خسرت إيران الحرب، كما خسرت إيران أراضي واسعة فيما بعد لروسيا القيصرية، إلا أن إيران برزت لاحقاً كدولة إسلامية وحيدة شيعية المذهب، إلى أن جاءت ثورة 1979 الإسلامية فوثقت ذلك في دستور البلاد، وظهرت دولة شيعية عقائدية واسعة الحركة في كل العالم الإسلامي.
أضعفت الهزائم السياسية السلطة الملكية، وحاول الشاه رضا بهلوي عام 1925 وابنه فيما بعد إرساء نظام علماني مستقل عن رجال الدين، كما فعل مصطفى أتاتورك في تركيا لكنهما لم يوفقا، بسبب قوة رجال الدين الشيعة و"المراجع الفقهية" واستقلاليتهم، وما كانوا يتمتعون به من نفوذ هائل في الحياة العامة، وكذلك على تجار البازار، ومن قدرة على الاحتماء بالمدن العراقية العثمانية مثل كربلاء وسامراء والنجف التي لا سلطان لملوك إيران عليها في زمن ملوك القاجار، وفي عهد الدولة العراقية، كلما تعرضوا لضغوط السطلة المليكة الإيرانية.
دخلت المرجعية الشيعية في صراع مع النظام السياسي الملكي في إيران خلال القرن التاسع عشر والعشرين، وبعكس ما جرى في تركيا ومصر وغيرهما، لم ينجح النظام الملكي في الهيمنة على أصول الهيئة الدينية ومؤسساتها ومدارسها، واشتد الصراع في إيران بعد الحرب العالمية الثانية، واستمر أكثر من ثلاثين عاماً قبل أن يسقط النظام في ثورة شعبية ذات صبغة دينية عارمة، في فبراير 1979، ومع مرور الوقت انفرد رجال الدين من أنصار قائد الثورة "السيد روح الله الخميني" بالهيمنة على مصيرها ابتداء من عام 1980، وتمت تصفية بقية المشاركين فيها أو عزلهم كما هو معروف.
يميل البعض إلى تشبيه وصول الإسلاميين الشيعة إلى السلطة في إيران بوصول جماعة طالبان المتزمتة إلى الحكم في أفغانستان سنة 1996، أو وصول جماعة "الإخوان المسلمين" إلى السلطة في السودان عبر انقلاب 1989، غير أن النظام الذي قام في طهران بعد عام 1979 كان مختلفاً من نواح عدة؛ فالقيادة الدينية الإيرانية ذات خبرة سياسية واجتماعية أقوى في عدة مجالات، ولإيران مكانة طائفية، وعلى رأس هرمها مراجع الدين، وما لهم من مكانة مذهبية على الصعيد الشعبي، وللبلاد قدرات مالية وسياسية وعسكرية متفوقة على النموذجين المذكورين.
وإذا كان لابد لنا أن نقارن بين تجارب الإسلاميين السنّة والشيعة، فأقرب نموذج مماثل هو حكم الإخوان المسلمين لو كان استمر في مصر ثلاثين عاماً، ونوعية التغيير الذي كان سيحدث في جوانب عديدة من الحياة المصرية خصوصا والعربية عموماً.
كان لثورة 1979 والنظام الجديد في إيران تأثير هائل على الدول المجاورة، وعلى الطوائف الشيعية الخليجية والعربية، وبمرور الوقت وجد الكثير من الشيعة وبخاصة ذوي المطامح، فرصة سانحة فيما توفره التجربة الجديدة بما تملك إيران من مال ونفوذ وإعلام وهالة طائفية للصعود والاستفادة، فيما وجدت إيران كذلك في الطوائف الشيعية هنا وهناك بيئة خصبة لنشر أفكارها ورؤاها المذهبية، بما يدعم نفوذها وينشره ويعزز مكانة دعوتها إلى "ولاية الفقيه"، ويضمن ديمومة النظام.
وتعطي "ولاية الفقيه" نفوذاً هائلا للسلطة الدينية ولمرشد الثورة داخل إيران وخارجها، بل تؤسس في الواقع لنوع من النفوذ الديني الذي لا يكاد يعترف بأي إطار وطني أو مفاهيم الدولة الحديثة، وتخترق بشكل من الأشكال معظم روابط المواطنة الحديثة للطوائف الشيعية عبر العالم ، فما هي ولاية الفقية بلغة مبسطة؟
"الولي الفقيه"، بموجب أيديولوجية الحكومة الإسلامية في إيران الحالية، بمثابة النائب أو القائم بأعمال "المهدي المنتظر" الإمام الثاني عشر في العقيدة الشيعية الاثني عشرية، الذي اختفى أو دخل في مرحلة الغيبة عام 874 ميلادية 261 هجرية، وسيظهر في آخر الزمان، عندما يعم الدنيا الفساد وينتشر الظلم والجور، فيقيم المهدي نظام الإسلام ويملأ الدنيا عدلاً؛ ولهذا يسمى المهدي المنتظر "صاحب الزمان"، وهناك تفاصيل واسعة في التراث الشيعي، عن أحوال الدنيا وحياة الشيعة وبقية المسلمين في ظل دولة المهدي القادمة، عرض الكثير من تفاصيلها ودقائقها السيد محمد صادق الصدر، في كتاب "تاريخ ما بعد الظهور" الذي فرغ من كتابته في النجف الأشرف عام 1972، ونشرته في 960 صفحة دار التعارف للمطبوعات في بيروت.
وبما أن ظهور الإمام المهدي المنتظر قد يتأخر أو يطول انتظاره، تقول نظرية ولاية الفقيه، فلابد من سلطة روحية دينية شرعية، توجه الشيعة والمسلمين عامة، وهذا الدور منوط بفقهاء المذهب والشريعة، وبخاصة كبار المجتهدين ممن يسمون عادة بـ"مراجع التقليد"، حيث يرشحون من بينهم من يرون أنه الأكثر علما في الشريعة، والأشد تقوى، والأبرز أهلية ليكون الولي الفقيه، وقد تولى هذا المنصب بعد الثورة عام 1979 قائدها "السيد روح الله الخميني"، الذي حمل فيما بعد لقب الإمام، ثم تولى المنصب بعد وفاته عام 1989 السيد علي خامنئي، الولي الفقية الحالي ومرشد الثورة الإسلامية الإيرانية.
وينتخب "الولي الفقيه" بموجب الدستور الإيراني من مجموعة من كبار رجال الدين "الخبراء المنتخبين"، ولا أعرف مدى تمثيل رجال الدين الشيعة غير الإيرانيين في هذه العملية البالغة الأهمية، فهل ثمة تمثيل لعلماء العراق وباكستان ولبنان والسعودية والبحرين وأفغانستان وبقية العالم... أم لا؟
ومن اختصاصات الولي الفقيه بموجب الدستور الإيراني توجيه سياسة الدولة، وتولي قيادة الجيش والحرس الثوري وكذلك سائر الأجهزة الأمنية في البلاد، وبيده إعلان الحرب والسلام، وتنصيب كبار القضاة وعزلهم، كما يرأس مؤسسة الإذاعة والتلفزيون وهيئة الأركان العامة، وبيده كذلك الموافقة والاعتراض على انتخاب رئيس الجمهورية، وكذلك عزله بعد صدور حكم المحكمة العليا أو إجماع أعضاء مجلس الشورى على عدم كفاءته.
وتظهر هذه الصلاحيات الواسعة المغايرة لتجارب الدول والأمم والأنظمة الحديثة، تحكّم الولي الفقيه بالسلطة التنفيذية والقضائية والعسكرية، وبما أن هذه السلطات تتحكم بأهلية أي مرشح للبرلمان في إيران، فإن الولي الفقيه يتحكم بالسلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية إلى جانب "السلطة الرابعة" من خلال تحكمه بالإعلام، ورئاسته للإذاعة والتلفزيون وربما الصحافة والإنترنت وحركة النشر وكل مجالات تبادل المعلومات والأفكار.
 نادى آباء الجمهورية الإسلامية وقياداتها الفكرية والسياسية أن الأقليات والطوائف الشيعية في كل مكان لابد أن تنتظم وتتحزب وتنسق مع القيادة الإيرانية، فهل حقق هذا المسعى أي أمان واستقرار للشيعة الخليجيين والعرب وغير العرب... بعد نحو 35 سنة ونيف؟
هذا بعض ما سنناقشه في مقالات قادمة!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق