الأحد، 22 مايو 2016

مدين في معان الاردن / تحديد الموقع الجغرافي للمكان الذي أوحي فيه إلى موسى

كتاب
نهاية إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية
من ومتى وكيف 
دراسة تحليلية في القران والسنة والتوراة والإنجيل

خالد عبد الواحد


اقتباس من مقال ( تاريخ وجغرافيا بني إسرائيل في القرآن)


......وفي "البداية والنهاية" قال ابن كثير:

 كان أهل مدين قوما عربا, ومدين هي قرية من أرض معان من أطراف الشام, مما يلي ناحية الحجاز قريبا من بحيرة قوم لوط, وكانوا بعد قوم لوط بمدة قريبة.

والقول الأخير هو أفضل ما قيل فيها, وهو الأرجح فهي تقع شرقيّ نهر الأردن, في السفح المطل على فلسطين قبالة أريحا, حيث المكان المسمى بوادي شعيب حاليا, والذي يقع فيه مقام النبي شعيب عليه السلام, في جبال محافظة البلقاء الأردنية, وهي أرض خصبة تصلح لزراعة القثائيّات, وفيها الأشجار المثمرة وعيون الماء, ويؤيد ما ذهبنا إليه قوله تعالى, على لسان شعيب مخاطبا قومه: {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} [هود:89], والمقصود هنا البعد المكاني, حيث المسافة بين قرية شعيب والبحر الميت (بحيرة لوط) لا تتجاوز 20 كم, أما البعد الزماني بين لوط وشعيب فيُقدّر بمئات السنين, حيث أن لوط عاصر إبراهيم وأن شعيب عاصر موسى عليهم السلام.
وكما ورد في الروايات, كان أهل مدين يقطعون السبيل ويخيفون المارة, وهم أصحاب الأيكة أي الأشجار الملتفة والمتشابكة -وهي صفة موجودة أيضا في تلك المنطقة- وكانوا من أسوء الناس معاملة, يبخسون المكيال والميزان ويطففون فيهما, يأخذون بالزائد ويدفعون بالناقص, فآمن بشعيب بعضهم وكفر أكثرهم,

===========

تحديد الموقع الجغرافي للمكان الذي أوحي فيه إلى موسى عليه السلام:

نزل الوحي إلى موسى مرتين؛ الوحي الأول:

هو الذي كُلف به موسى بحمل الرسالة, وما بعث به إلى فرعون وبني إسرائيل, أثناء عودته إلى مصر بعد خروجه من مدين, 

والوحي الثاني:
 هو الشريعة الجديدة التي كُتبت في الألواح لبني إسرائيل, بعد خروجهم من مصر في الطريق إلى الأرض المقدسة, ويعتقد الكثيرون أن الوحي نزل على موسى, على جبل سيناء الواقع في صحراء سيناء المصرية وهذا غير صحيح, حيث لم يوجد أي نص في القرآن يفيد ذلك.
والواقع أن هذه تسمية الصحراء المصرية بصحراء سيناء, استندت إلى ما جاء في التوراة مع أن التوراة لم تُحدّد موقع الصحراء أو الجبل.
وتذكر التوراة في سفر الخروج, أن بني إسرائيل مروا على التوالي, بثلاثة صحارى, هي الواردة في النص التالي بالترتيب: 15: 22: ثم ارتحل موسى بإسرائيل من البحر الأحمر, وتوجّهوا نحو صحراء شور, 27: ثم بلغوا إيليم … 16: 1: ثمّ انتقلوا من إيليم حتى أقبلوا على صحراء سين, الواقعة بين إيليم وسيناء. وجاء في نص آخر: 17: 1: وتنقل بنوا إسرائيل على مراحل, من صحراء سين … إلى أن خيّموا في رفيديم …19: 2: فقد ارتحل الإسرائيليون من رفيديم إلى أن جاءوا إلى برية سيناء, فنزلوا مقابل الجبل فصعد موسى للمثول أمام الله, فناداه الرب من الجبل … 20 : ونزل الرب على قمة جبل سيناء… وهذه النصوص تُشير إلى أن جبل سيناء, هو اسم الجبل الذي أُوحي بجانبه إلى موسى, وأن برية سيناء هي تسمية للمكان الواقع مقابل جبل سيناء.
وأن برية سيناء هي الأبعد عن مصر, كونها كانت آخر الصحارى التي مرّوا بها أثناء مسيرهم, باتجاه بوابة الأرض المقدّسة شرقي نهر الأردن, والترجمات العربية للتوراة لا تُميّز بين القفر, أي الخلاء غير المأهول بالسكّان وبين الصحارى الرملية القاحلة. وجاء في التوراة 16: 35: واقتات الإسرائيليون بالمنّ طوال أربعين سنة, حتى جاءوا إلى تخوم أرض كنعان العامرة بالسكان.
وهذا النص الكاذب والمضلّل, يقول أن المنّ والسلوى كانت تنزّل عليهم طيلة أربعين سنة, قبل وصولهم إلى مشارف فلسطين, أي قبل أن يُطلب منهم الدخول إلى الأرض المقدسة, وقبل أن يحكم عليهم بسنوات التحريم والتيه الأربعين.
والصحيح أن المنّ والسلوى كانت تنزّل عليهم خلال مسيرهم في الصحراء, وهي مدة قصيرة, أما سنوات التحريم والتيه الأربعين -سنوات الغضب الإلهي- فلم يكن يتنزّل عليهم شيء. وتسمية الصحراء المصرية بسيناء, وذكر التوراة أن بني إسرائيل عاشوا فيها أربعين سنة يأكلون المن والسلوى, ضلّلت حتى اليهودأنفسهم, الذين بحثوا ونقبوا فيها طويلا عن أي أثر لمقامهم فيها ولكن دون جدوى, مما اضطر بعض الباحثين اليهود مؤخرا, إلى تكذيب معظم روايات التوراة, ونشر الكثير من آرائهم ونتائج أبحاثهم في الصحف.
أما كلمة الطور فقد وردت في القرآن (10) مرات, (8) منها بلفظ (الطور) معرّفة بأل التعريف, بمعنى الجبل, وواحدة بلفظ (طور سيناء) {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ} [المؤمنون:20], وواحدة بلفظ (طور سينين) بنفس المعنى السابق, {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ} [التين:1-2]. وسيناء وسنين لغة إذا لم تمنع من الصرف, أي لحقها التنوين جرّاً ونصباً فإنها تعني كثرة الشجر, وإذا مُنعت من الصرف كما هو الحال هنا فهي اسم, والكلمات (طور وسيناء وسينين) ألفاظ أعجمية, ومما تقدم نستطيع القول بأن (طور سيناء) اسم لجبل معروف لبني إسرائيل, بمعنى (جبل الغابة) وهو في الحقيقة, اسم الجبل الذي أوحيَ بجانبه إلى موسى, حسب تسمية التوراة له, وقد عُرّف هذا الجبل من خلال القرآن, بأنه يُنبت التين والزيتون.
والمقصود بكلمة (الطور) المعرّفة بألف ولام, أينما جاءت في القرآن هو طور سيناء أو سينين, والطور هو سلسلة جبال فلسطين, التي تربض على تلالها مدينة القدس, والتي هي في الأصل جبل واحد, يمتد من مدينة نابلس شمالا إلى مدينة الخليل جنوبا.
قال تعالى: {فَلَمَّا قَضَى موسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنْ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} [القصص:29] قلنا أن موسى عليه السلام, كان قد ضلّ طريقه بعد خروجه من مدين باتجاه مصر, لقوله عليه السلام: {لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ} فوجد نفسه في أحد الأودية.
ودخوله إلى الوادي كان عن طريق انحداره بواد فرعي جنوب البحر الميت, وكان ذلك ليلا وفي طقس بارد جدا. وأثناء التخييم هناك, كان يلتفت يمنة ويسرة بحثا عن الدفء والهداية, فآنس نارا من جانب الجبل, فاتجه إليها بعد أن استأذن أهله, ليأتيهم بجذوة منها لأجل الدفء, أو يجد من يرشده إلى طريقه, ولكنه لم يجد نارا ولم يجد في المكان أحد.

نور لا نار:
{فَلَمَّا أَتَاهَا} أي النار وقف تحتها {فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنْ الشَّجَرَةِ} [القصص:30] وفي الواقع لم تكن نارا, بل كانت نو)ر في شجرة, ونعتقد بأنها الشجرة الموصوفة في قوله سبحانه: {شَجَرَةٍ, مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} [النور:35], وهي (شجرة) و(زيتونة) و(مباركة), أي تقع في بقعة من أرض مباركة ينبت فيها شجر الزيتون, وقوله: {لا شرقية ولا غربية} أي لا في الجانب الشرقي من وادي عربة, ولا في الجانب الغربي منه, فهي في منتصف الوادي تقريبا, وقوله: {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} أي لها وهج من نور, وليس ذلك من اشتعال نار فيها, فهي مضيئة من تلقاء نفسها, وقوله: {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ} أي أن الإضاءة ناتجة عن زيت الشجرة, فلا يكون ذلك إلا وهي مثمرة, فالزيت يوجد في الثمر, وتشكل الزيت في الثمر, لا يكون إلا في بداية فصل الشتاء, ويؤيد ذلك طلب موسى عليه السلام للدفء, ليتأكد لنا أن دخوله إلى بطن وادي عربة كان في فصل الشتاء, وأن الشجرة التي نوديَ من تحتها في الوادي المقدس, هي نفس الشجرة الموصوفة في سورة النور, ولا أدري لماذا يتملكني شعور قوي, بأن هذه الشجرة قائمة في ذلك المكان إلى اليوم, في منطقة موحشة ومقفرة وغير مأهولة, تضيء كلما أثمرت في فصل الشتاء, والله أعلم.
{فَلَمَّا أَتَاهَا} وقف حائرا أمامها يتفكّر في أمرها, حيث أنه لم يجد ما جاء يسعى إليه, فلا نار ولا ناس يُشعلونها, وأثناء شروده وفي سكون الليل, {نُودِي يَمُوسَى}[طه:11] {مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ} [القصص:30], أي من الجانب الأيمن من الوادي, {مِنْ جَانبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ} [مريم:52], أي من الجانب الأيمن للجبل وليس الأيسر, {بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ} [القصص:44], أي الجبل الغربيّ وهذا تحديد جغرافي بالغ الدقة لمكان الوحي.
أتاه النداء باسمه ممن يعرفه, وذلك مما آنس موسى, ليبدّد سكون ذلك الليل الموحش, ويقطع عليه شروده وتأمله, ولا أخاله إلا قد أجفل عليه السلام, ولما التفت إلى مصدر النداء, خاطبه رب العزة قائلا: {إِنِّي أَنا رَبُّكَ} مطمئنا إياه ومعرّفا بنفسه {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى} [طه:12] فأمره بخلع نعليه -إذ هو في حضرة ملك الملوك- ليتجه حافي القدمين, سائرا في الجانب المقدس من الوادي, صوب الجبل, قال تعالى: {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} [مريم:52] أي كان الكلام مناجاة, والمناجاة عادة تستدعي القرب. نحن نعلم أن الأرض المباركة والمقدّسة هي أرض فلسطين, وبما أن الوادي الذي نزل فيه موسى واد مقدّس, فلا بد له من يكون واقعا في الأرض المقدّسة, وبما أن الشجرة نبتت في بقعة مباركة, فلا بد لها من أن تكون قائمة في الأرض المباركة, وبما أن شجرة سورة النور زيتونة مباركة ومضيئة, فلابد لها من أن تكون هي الشجرة, التي رآها موسى في بطن وادي عربة فظن نورها نارا, والله أعلم.
وعندما اقترب موسى بما فيه الكفاية لبدء المناجاة, ناجاه ربه قائلا {وَأَنا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى * إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمْ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي}[طه:13-14] فأمره بتوحيده وإفراده بالعبادة وإقامة الصلاة, ومن ثم منحه آيتيّ العصا واليد وكلّفه بحمل الرسالة, والذهاب لدعوة فرعون ودعوة بني إسرائيل إلى الله, {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه:24].
وفي الصباح عاين موسى عليه السلام المكان, وحفظه عن ظهر قلب فهو المكان الذي تغيّر فيه مجرى حياته عليه السلام, ولم كان يعلم عليه السلام ما يدبّره رب العزة من أقدار, ستأتي به إلى هذا المكان في قادم الأيام, عند خروجه بقومه من مصر, متجها إلى بوابة الأرض المقدسة حيث كان في أرض مدين.
===========

خروج موسى ببني إسرائيل من مصر:
قال تعالى: {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى} [طه:77], نتبين من ذلك أن خروج موسى بقومه إلى البحر كان بوحي من ربه, وإن لم يخب ظني فقد اتجه صوب البحر الأحمر مباشرة, أقصى الشمال من خليج السويس, وبعد أن خرج بقومه من البحر, اتجه شرقا وشمالا بخط شبه مستقيم, متجاوزا صحراء سيناء وصحراء النقب, حيث المدخل الجنوبي لوادي عربة, وسار شمالا في بطن الوادي, حتى الجبل المعهود جنوب البحر الميت, ليستقبل الوحي بناءا على الموعد المسبق, الذي ضرب بينه وبين ربه, بعد النجاة من فرعون وقومه, قال تعالى: {يَبَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ} [طه:80], وهذه الآية تدل على عدم مكوثهم لفترة طويلة, في أي من صحراء سيناء أو النقب, وأن وجهتهم كانت حيث المكان الموعود, وكان موسى يستعجل المسير وهم يبطئون, وبعد تلقيه الوحي, صعد بقومه إلى المرتفعات الشرقية, ودخل الأردن عن طريق الوادي الذي نزل به في المرة السابقة, ملتفا حول مملكة الآدوميين ومملكة الموآبيين شرقي البحر الميت, ليصل إلى مكان إقامته السابق, حيث كان سفيرا لبني إسرائيل -ولم يكن يعلم بذلك آنذاك- في مدين قرية شعيب عليه السلام, ليُمَهّد لهم طيب الإقامة فيها مستقبلا.

ترتيب الأحداث التي مرت بموسى وبني إسرائيل خلال تلك الرحلة الطويلة الصاعقة والبعث بعد الموت:
في رحلته مع بني إسرائيل, في طريق العودة من مصر إلى مدين, كانت ترافق موسى عليه السلام أمّة بأسرها بما لها وما عليها, وأكثرها من غير المؤمنين وغير المطيعين لله تعالى وله عليه السلام, مما جعل المسير فيها بطيئا وشاقا وطويلا, قال تعالى: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ} [يونس:83], وقال أيضا: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمْ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:55-56], وكان قولهم هذا فور نجاتهم وخروجهم من البحر, بعدما رأوا كل ما أجراه الله على يد موسى من معجزات, تلين لها قلوب الجبال وعقولها, فأماتهم الله ثم أحياهم, ولو نظرت إلى قولهم في الآية السابقة واستخدام أداة الجزم والتأبيد {لن}, تجد أن لديهم إصرار عجيب على الكفر, بما هو غيبيّ ومحجوب عن حواسّهم, رغم مشاهدتهم للآيات والآثار الدالة على وجوده, وأنهم لا يؤمنون إلا بما تدركه الحواس من أشياء مادية, وهذا ما جعلهم يقعون في فتنة العجل الذهبي بعد هذه الحادثة, وفي فتنة الدجال مستقبلا بما لديه من فتن مادية ظاهرة للعيان {فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمْ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ, اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا} [النساء:153] وقد وقع هذا منهم قبل اتخاذهم للعجل.

تفجير الماء ونزول المنّ والسلوى والتظليل بالسحاب أثناء المسير:
وبناءً على ما سبق, كان خط مسير الرحلة في معظمه في صحاري قاحلة, وكل ما كان بحوزتهم من طعام وماء أثناء الخروج, كانوا قد استنفدوه في أيامهم الأولى, قال تعالى: {وَقَطَّعْنَاهُمْ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذْ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنْ اضْرِب بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمْ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [الأعراف:160] ومن هذه الآية الكريمة نجد أنهم قُسّموا إلى (12) جماعة لتيسير عمليّه القيادة, ومنّ عليهم ربهم سبحانه عما يصفون, بأن وفّر لهم كل أسباب الراحة من ماء وغذاء, وحتى أنه وقاهم من حر الشمس بأن جعل السحاب يظللهم, أينما حلوا وأينما ارتحلوا أثناء مسيرهم باتجاه الأرض المُقدّسة, وفي تلك الأثناء مرّوا على عبدة الأصنام, فطلبوا من موسى أن يجعل لهم إله كما لهؤلاء آلهة {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ ءَالِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف:138].
ولا يغيب عن بالنا أن رحلة كهذه كانت تستوجب ما بين فترة وأخرى التخييم والإقامة لبعض الوقت, ومن ثم متابعة المسير وهكذا دواليك, ولم تتعدى مدد الإقامة في أي من مراحل المسير, سوى أيام أو أسابيع معدودة, فهم لم يركنوا إلى مكان معين, إذ كان هناك مواعدة للقاء في جانب الطور الأيمن في وادي عربة, وكانت هذه المواعدة جماعية لموسى ولبني إسرائيل, ولكنّ موسى عليه السلام وبعد أن قطع شوطا كبيرا في وادي عربة استعجل اللقاء, وعندما اقترب من المكان المحدد, استخلف أخيه هارون في قومه وتركهم ومضى مسرعا رغبةً منه في إرضاء ربه, واعتذارا عن التأخير الذي تسبّب به قومه من جرّاء مماطلتهم وتذّمرهم.

اللقاء الأول لموسى بربه بعد الخروج من مصر, واتخاذ العجل في بطن وادي عربة:
قال تعالى: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَمُوسَى * قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه:83-84] وهناك كان موسى عليه السلام, مشتاقا ومندفعا فطلب رؤية ربه, وكأنه نسي ما كان من قومه, فطلب من ربه ما طلبه قومه منه {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنْ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنْ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ}[الأعراف:143] فصُعق موسى كما صُعق قومه من قبل, وبعدما أفاق أُعطيت له الألواح التي تحمل في ثناياها الشريعة الجديدة لبني إسرائيل, {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ} [الأعراف:145].
ومن ثم أخبره ربه بأن قومه فُتنوا من بعده, بعبادتهم للعجل الذهبي الذي ابتدعه السامريّ {قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمْ السَّامِرِيُّ} [طه:85], وكانت عقوبة الشرك بالله غاية في القسوة {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمْ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:54], وتوحي هذه الآية بأن الأمر كان مُلزما, وقبول التوبة كان مشروطا بقتل النفس, فمن رغب في التوبة آنذاك ممن عبدوا العجل, قتل نفسه حقيقة وقُبلت توبته, والله أعلم.
وبالنظر في قوله تعالى, على لسان موسى مخاطبا السامريّ: {وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا} [طه:97], نجد أن العجل الذهبي قد حُرّق ورُمي في البحر, وأقرب بحر لمقام بني إسرائيل في وادي عربة هو البحر الميت.

اللقاء الثاني والرجفة ونتق الجبل:
وبناءً على ما كان منهم, اختار موسى (70) رجلا من أفضلهم, للاعتذار عما فعله السفهاء من قومه {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمْ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} [الأعراف:155] فشهدوا الوحي بمعية موسى عليه السلام دون سماعه, وشعروا بوجود خالقهم وعظمة قدرته بأن زلزل الأرض من تحت أرجلهم.

أخذ الميثاق, وإلزام النقباء الاثنيّ عشر بالسهر على تطبيقه, والحكم بما جاء فيه:
وهناك عُرض عليهم الميثاق ليلتزموا به ويلزموا أتباعهم على القيام به, ويتحملوا مسؤولية نقضه فتردّدوا وأبَوْا, فرفع سبحانه فوقهم الجبل وأجبرهم على أخذه بالقوة, ولو أصرّوا على الرفض لأطبقه عليهم فقبلوه على مضض, وكان الله أعلم بما يعتمل في صدورهم ولكنه غفور رحيم, حيث قال فيهم: {وَإِذْ أَخَذْنَا ميثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمْ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ}[البقرة:93].
فاختير من السبعين رجلا (12) نقيبا, بعدد الأسباط (أي قبائل بني إسرائيل) وهم الذين تُسميهم التوراة بالقضاة. وهذا نص الميثاق الذي أُلزموا بالعمل على تطبيقه, بالإضافة إلى الوصايا الواردة في سورة الأنعام {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمْ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمْ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمْ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمْ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [المائدة:12].

رفض المن والسلوى وطلب القثائيات, والحكم عليهم بالنزول في موطن زراعتها:
كانت مدة المكث بادئ الأمر في الصحراء بسيطة, وذلك لتذمّرهم وعدم صبرهم على طعام واحد, أي المنّ والسلوى, فحكم عليهم سبحانه بإكمال المسير المقدّر مسبقا, بقوله على لسان موسى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَمُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ} [البقرة:61] وحيث أنه قال {مِصْراً} منونةً, ولم يقل {مِصْرَ} بدون تنوين, فهي غير مصر التي خرجوا منها, وإنما جاءت هنا بمعنى (بلداً) نكرة وغير معرّفة, وقوله {فإنّ لكم ما سألتم} تعني أن هذا البلد يتميّز, بأن فيه ما سأله بني إسرائيل من نبيهم من عدس وبصل وغيره, ولو تساءلنا عن موقع هذا البلد, القريب من الأرض المقدسة, الذي يتميز بخصوبة أراضيه ووفرة مياهه من ينابيع وآبار ويصلح لزراعة القثّائيات, بالتأكيد ستكون الإجابة الأرض الواقعة شرق نهر الأردن, وفي السفوح الغربية للجبال المطلة على فلسطين, وبالتحديد قرية مدين التي يعرفها موسى, ويعرف ميّزاتها وخصائصها, والتي كان أهلها قد هلكوا بعذاب يوم الظلّة, قبل أو بعد خروج موسى منها, ليرثها بنوا إسرائيل مع القلة المؤمنة, من قوم شعيب التي نجت من العذاب, والله أعلم.

دخول مدين والمُقام فيها:
قال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:58], وقال في آية أخرى: {وَإِذْ قِيلَ لَهُمْ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ * فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنْ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ} [الأعراف:161-162], ولم يكن المقصود بهذه القرية الأرض المقدسة, كونهم دخلوها حربا, بعد موسى عليه السلام بأربعين عاما على الأقل, وهذه القرية سُكنت حقيقة بدخولها بلا قتال بمعية موسى عليه السلام, وقد بدّل الذين ظلموا منهم -أي العُصاة- القول والهيئة عند الدخول, فأرسل عليهم سبحانه رجزا من السماء.
وقوله قبل الدخول: {وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ} وقوله لهم في النص الآخر: {فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا} يوحي بأنها سكنى مؤقتة, ولم يكن لديهم علم بأنه سيكون هناك ما بعدها, وهو الاستعداد والتهيئة لدخول الأرض المقدسة, فأفشلوا أنفسهم في الدخول الأول لتلك القرية, فاستحقوا غضب الله عليهم, وأفشلوا أنفسهم عندما أُمروا بالدخول الثاني بلا حرب, فأفشلهم الله وأذهب ريحهم.
وقد قيلت هذه العبارة لآدم عليه السلام وزوجه {وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا} [البقرة:35] قبل دخوله الجنة ولم يكن لديهما علم بأن الإقامة فيها مؤقتة, وأن هناك ما بعدها, وسيحاطون به علما عند وقوعه, وفي موعده المقدر المضمر في علم الله, ولكن بعد فوات الأوان.
وإن لم تكن مدين هي القرية التي دخلها بنوا إسرائيل وأقاموا فيها, فهي قرية تقع في نفس المنطقة, والله أعلم.

الخسف بقارون, ورحلة موسى والفتى, وذبح البقرة:
أقام بنو إسرائيل في مدين بمعية موسى -على ما يبدو- سنين عديدة, واطمأنوا بها وإليها وطاب لهم المقام فيها, حيث الزراعة وتربية المواشي والتجارة, ومن الأحداث التي نعتقد أنها وقعت فيها قصة البقرة {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ}[البقرة:67], وقصة سفر موسى حيث مجمع البحرين, للالتقاء بالعالم, {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقبًا} [الكهف:60] وقصة قارون المعروفة {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَليْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنْ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص:76].

الأمر بدخول الأرض المقدّسة وتحريمها عليهم وتيههم شرقي النهر:
وبعد مدة من مكثهم في مدين, أمرهم موسى بدخول الأرض المقدسة (فلسطين), ولم تكن هناك حاجة للقتال آنذاك فرفضوا وعصوا لقلة إيمانهم, وأخلدوا إلى الأرض وتذرّعوا بحجج واهية ليبرّروا اتكاليتهم وعجزهم, فدعا موسى ربه ليحكم بينه وبينهم, فاستجاب له ربه {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة:26] فكان تحريم الدخول لمدة أربعين سنة ومن ثم التيه في الأرض. والتيه لغة الحيرة والضلال, ورجل تائه وتيّاه إذا كان جسورا يركب رأسه في الأمور, وفي الحديث: إنك امرؤ تائه, أي متكبر أو ضال متحيّر.
والمراد من ذلك أنهم تُركوا على رؤوسهم, وحُرموا من قيادة الأنبياء, بأن الله تخلى عنهم وحرمهم من رعايته لهم, ورفع عنهم الوحي وتركهم بلا هداية, بعد موت موسى عليه السلام, على مدى 40 سنة, ولم يُقصد بالتيه الضياع والتشرّد المكاني في صحراء سيناء كما كنا نعتقد سابقا.
والصحيح أنهم حافظوا على تواجدهم, كأمة مكونة من 12 جماعة شرقي نهر الأردن, وأُوكلت قيادة كل جماعة إلى أحد النقباء الاثني عشر, كل حسب السبط الذي ينتمي إليه بعد انقطاع قيادة الوحي, وهذا مما ينفي نبوة فتى موسى المسمى بيوشع بن نون.
وهنا تتضح الحكمة من جراء إلقاء مسؤولية حفظ الميثاق وإقامته, على النقباء الاثني عشر بعد وفاة موسى وانقطاع الوحي والعناية الإلهية.
وهذا ما حاول مؤلّفو التوراة إخفاءه بتبديل مواضع الكلم, فجعلوا المن والسلوى تتنزّل عليهم لمدة أربعين سنة في الصحراء, وهي عدد سنين التحريم والتيه التي كانوا يأكلون فيها البصل والعدس. ويدّعي كتبة التوراة أن بني إسرائيل, أثناء قدومهم إلى الأرض المقدسة بمعية موسى عليه السلام, قد قاتلوا أقواما كثيرة شرق نهر الأردن وانتصروا عليها, ويدّعون أيضا أنهم هاجموا الكنعانيين بعد موسى, وهدموا أسوار مدينة أريحا بمعية يوشع بن نون, وأنهم أقاموا زمن القضاة غرب النهر.
وهذا كله محض افتراء وتلفيق, فكيف يقاتل من طلب منه مجرد الدخول ولم يدخل, ولفظ الدخول في القرآن يوحي بانتفاء القتال, ونص الحوار الذي دار بين موسى وقومه لدخولها تجده كاملا في الآيات 20-27 من سورة المائدة.

زمن الإخبار بنص نبوءة الإفساد والعلو في الأرض:
وبعد مدة يسيره من الزمن من ذلك الحكم, كشف موسى عليه السلام النقاب عن النبوءة موضوع هذا الكتاب, وأخبر عنها قبل أن ينتقل إلى جوار ربه.
وتركهم في غيهم وطغيانهم يعمهون, كما حكم عليهم ربهم, وأُوكل الأمر من بعده إلى النقباء الاثني عشر أصحاب الميثاق, ليحفظوا التوراة وليحكموا بين الناس بما جاء فيها, ومن ذلك اليوم انتقلت مسؤولية حفظ التوراة والشريعة إلى أناس عاديين, فبدأ ظهور الأحبار, قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ} [المائدة:44].


==============


سليمان هو أول من بنى المسجد الأقصى:
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُدَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, لَمَّا بَنَى بَيْتَ الْمَقْدِسِ, سَأَلَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خِلَالًا ثَلَاثَةً, سَأَلَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حُكْمًا يُصَادِفُ حُكْمَهُ فَأُوتِيَهُ, وَسَأَلَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ فَأُوتِيَهُ, وَسَأَلَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حِينَ فَرَغَ مِنْ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ, أَنْ لَا يَأْتِيَهُ أَحَدٌ لَا يَنْهَزُهُ إِلَّا الصَّلَاةُ فِيهِ, أَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ خَطِيئَتِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» (رواه النسائي وأحمد وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان والحاكم بأسانيدهم, وصححهالألباني).
هذا الحديث يؤكد:
1- أن مملكة داود وسليمان أي مملكة بني إسرائيل الأولى كانت في فلسطين, بدلالة هذا الحديث والآية (81) من سورة الأنبياء المذكورة أعلاه.
2- أن سليمان عليه السلام بنى مدينة بيت المقدس.
3- أن سليمان عليه السلام هو أول من بنى المسجد الأقصى.
وأما التسمية بالمسجد فهي التسمية الإسلامية له, وجاءت بعد حادثة الإسراء, وأما في عهد سليمان عليه السلام, فقد جاءت تسميته في القرآن بالصرح, {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ} وأما الترجمة العربية للتوراة فأعطته اسم الهيكل, والمعنى لكلتا التسميتين واحد, وهو البناء الضخم المرتفع.
وعلى كل الأحوال فإن المسجد الأقصى القائم حاليا, يجثم في نفس المكان الذي أقيم فيه صرح سليمان, والغريب أن الكثير من أئمة المسلمين وعامتهم ينكرون هذه الحقيقة, ربما لظنهم أن اعترافهم بهذا الأمر, يعطي الصهاينة حقا في هدم المسجد وبناء هيكلهم مكانه, ويُسقط أحقيّة المسلمين فيه ويُضعف موقفهم في الدفاع عنه, حتى وصل الأمر ببعضهم إلى مخالفة النص القرآني, وإنكار حتى تواجدهم في الأرض المقدسة جملة وتفصيلا.

قبلة اليهود هي الصخرة المشرّفة:
جاء في البداية والنهاية لابن كثير, ما نصّه قال الإمام أحمد: "أن عمر بن الخطاب كان بالجابية فذكر فتح بيت المقدس, قال: قال ابن سلمة فحدثني أبو سنان عن عبيد بن آدم: سمعت عمر يقول لكعب: أين ترى أن أصلي؟ قال: إن أخذت عني صليت خلف الصخرة, وكانت القدس كلها بين يديك, فقال عمر: ضاهيت اليهودية! لا, ولكن أصلي حيث صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فتقدم إلى القبلة فصلى ثم جاء فبسط ردائه, وكنس الكناسة في ردائه وكنس الناس".
وهذا إسناد جيد, اختاره الحافظ ضياء الدين المقدسي, في كتابه المستخرج.
وجاء في تاريخ الطبري في رواية أخرى, أن عمر أجاب كعب بقوله: "فإنا لم نؤمر بالصخرة ولكنّا أُمرنا بالكعبة".
ونقول أن مفاد الرواية أن كعب, لما أشار على عمر بالصلاة خلف الصخرة, أراد منه أن يجمع القبلتين في صلاته, فأبى عمر وصلى جاعلا وجه تلقاء الكعبة والصخرة من وراء ظهره.

الصلاة في الشريعة الموسوية:
لتوضيح الأمر نحتاج إلى معرفة طبيعة العبادة في شريعة موسى عليه السلام, فالصلاة لديهم كانت تؤدّى بشكل فردي في البيت أو فيما يُسمّى بالمحراب في المعبد المقدس (أي الهيكل) {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [يونس:87], والمحراب عبارة عن غرفة صغيرة منعزلة, مخصّصة للصلاة والدعاء والذكر, والأغلب أنها كانت تقام مرتفعة عن الأرض, وهي أشبه ما يكون بالعليّة أو السدّة, وقد ارتبط ذكر المحراب في القرآن, بأنبياء بني إسرائيل الأوائل في فلسطين داود وسليمان, {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} [ص:21], وبآخر أنبيائهم زكريا ويحيى {فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ} [آل عمران:39].

الصرح أو الهيكل, كيفية بناءه وصفته وموقعه:


أما الصرح فعلى ما يبدو أنه كان أعجوبة من أعاجيب الزمان, وأن من قام ببنائه وصناعة محتوياته هم الجن والشياطين, وأن مادة البناء كانت من النحاس والزجاج ومواد أخرى ما عدا الحجارة, وأنه اشتمل على المحاريب والتماثيل والأواني النحاسية الصغيرة, والأحواض أو البرك المائية الضخمة المصنوعة من النحاس, والجواهر والكنوز من لؤلؤ ومرجان وغيرها, مما كانت تستخرجه الشياطين من أعماق البحار.
قال تعالى: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ * فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ} [ص:35-37] وقال أيضا: {وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنْ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ * يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُور} [سبأ:12-13].
وأستطيع وصف هذا الصرح بأنه بناء ضخم ومرتفع, كانت الصخرة تقع في مركزه, تحيط بها ساحة واسعة, أرضيتها من الزجاج المصقول, يُرى من خلالها ماء يجري أسفل منها, أو ماء راكد في أحواض مائية, وضع فيها ما استجلبه سليمان من المناظر والمشاهد البحرية, مما استخرجته له الشياطين من أعماق البحر, وعلى أطراف تلك الساحة أقيمت المحاريب العديدة للعبادة من كل جانب, والله أعلم.
وقد سمعت من زميل لي زار المسجد وتجوّل فيه, أن هناك آبارا وأحواضا مائية, تحت ساحة المسجد الأقصى مباشرة, فإذا كان ذلك صحيحا, ومع علمنا بأن المسجد الأقصى بُني في نفس موقع المسجد السابق, وأن الصخرة هي القبلة الفعلية لليهود, فهذا الأمر يُؤكد أن الصرح الذي كان قد بُني في عهد سليمان عليه السلام, هو المسجد الذي دخله أولئك المبعوثين أول مرة, وخرّبوه ونهبوا محتوياته ولم يبقوا له أثر يُذكر, وعدم وجود آثار له يُؤكد أن هذا الصرح لم يتم بناءه بالطرق المألوفة, سواء بهندسة البناء أو بالمواد المستخدمة, فبُناته هم الجن والشياطين, وبالتأكيد فإن طريقتهم في البناء تختلف عن طريقة البشر, وطبيعة المواد المستخدمة تختلف عما يستخدمه البشر, وربما يكون هذا الصرح الخرافي هو ما دفع نبوخذ نصر صاحب حدائق بابل المعلّقة, للإغارة على بني إسرائيل في المرة الأولى لنهب محتوياته.

حكمة سليمان عليه السلام وخرافات ألف ليلة وليلة:
الروايات الموجودة في كتب التفسير, عن قصة سليمان وحبه لملكة سبأ ورغبته في الزواج منها, وإدخالها إلى الصرح لرؤية ساقيها, فيما إذا كان عليهما شعر أو أن قدميها كحوافر الحمار, لأن أبوها أو أمها من الجن … إلى آخره.
مما ليس له أصل حتى في التوراة, جردّت سليمان عليه السلام من حكمته في الدعوة إلى الله, وجعلت منه رجلا مزواجا شهوانيا كما أراد له أعداء الله وأعداء أنبياؤه أن يكون.

==============

دخول الصرح:


فكانت الضربة الثالثة والأخيرة, أي القاضية التي سوّت ذلك الجدار بالأرض ولم تترك له أثرا {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ} فما الذي كان في الصرح ؟ كانت أرضية الصرح من زجاج مصقول ومن تحت الزجاج ماء, وعندما همت بالدخول شاهدت الماء فرفعت ثوبها خوفا من البلل وهمّت بالمشي فيه {فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا} فتبسم سليمان وكأنه خاطبها ضاحكا: لقد كنت واهمة فلن يصل الماء إلى ثوبك فأنزليه وتقدمي, فهذا {صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ}فأنزلته ودخلت ولما لامست قدميها الزجاج تبين لها بطلان ما اعتقدت.
وهنا مربط الفرس فما كان منها إلا أن خجلت, من وهمها وانعدام بصيرتها, وذهاب عقلها وحكمتها وضلالها في تلك اللحظة, إذ لم تستطع تمييز الزجاج من الماء, فاستوعبت على الفور مضمون الرسالة التي وجهها لها سليمان.

العبرة:


فقد يظنّ الإنسان بجهله أنه على حقّ, بينما يكون في الحقيقة على باطل, وهذا هو حالها وقومها بعبادة الشمس من دون الله, وأنه دعاها إلى الحق عن علم, فتمسّكت بالباطل عن جهل, فتبينت بالتجربة والبرهان بطلان معتقدها, وأن الحقّ مع سليمان, فاستجابت على الفور لدعوة سليمان الأولى, قائلة: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} باتباع الباطل عن غير علم {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل:44] فما كان من قومها إلا أن تبعوها, وعادت إلى مملكتها لهداية قومها, وأُرجّح أن سليمان لم يتزوجها, والله أعلم, ودانت بعد ذلك مملكتها لسليمان دينيا لا عسكريا, وبقيت العلاقات والمصالح التجارية وغيرها قائمة بين الدولتين, مرورا بجزيرة العرب لفترة طويلة, حسبما تثبته سورة سبأ (15 – 20), حتى كفر قوم سبأ بأنعم الله إلا قليل منهم, ومع تقادم الزمن انقطعت تلك العلاقة.


===============

============

الجبل الذي تجلى الرب له.. هل باق إلى الآن
الأربعاء 12 رجب 1429 - 16-7-2008

رقم الفتوى: 110296
التصنيف: مختارات من تفسير الآيات
  

قراءة: 11194 | طباعة: 232 | إرسال لصديق: 0 ]

السؤال
 ذكر الله عز وجل أنه وعد موسى عند الجبل واختلف الناس كما سمعت في هذا الجبل ولكن هناك ما حيرني فالله يقول أنه تجلى للجبل وخسف وهم يقولون الله واعده عند جبل الطور؟ وأنا على حسب ما فهمت المفروض أن الجبل خسف، أرجو الإجابة على هذا الإشكال، جزاكم الله خيرا........

الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد: 
فنقول ابتداء: إنه لا إشكال بين النصوص الشرعية في مواعدة موسى عند الجبل ثم دك الجبل، فالله واعده أولا فجاءموسى إلى المواعدة، ولما سأل الرؤية دك الله الجبل، ولكن الإشكال واقع بين النصوص وبين كلام الناس حيث ذكروا أن الجبل باق إلى الآن، وذهب كثير من اهل العلم إلى أن المواعدة كانت عند جبل الطور، روي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما وابن العالية كما نقله القرطبي والبغوي والألوسي وغيرهم، وروي عن بعضهم أن الطور يطلق على كل جبل، وقيل على كل جبل منبت، وقيل إن كلمة الطور كلمة سريانية ومعناها الجبل، وذهب بعض أهل العلم إلى أن الجبل الذي كلم الله موسى عنده اسمه زبير كأمير، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما وأنس بن مالك كما نقله البغوي والخازن وابن الجوزي، والمتيقن حصوله ما ثبت في القرآن من دك الجبل؛ لقوله تعالى: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا {الأعراف: 143}، ومعنى دكا أنه صار مستويا مع وجه الأرض كما نقله ابن حجر عن أبي عبيدة.
فإذا كان الجبل المدكوك غير محدد أو كان زبيرا فلا إشكال في الموضوع، حيث إنهما جبلان مختلفان، وإذا كان الجبل هو الجبل المعروف بالطور أو بطور سيناء، وكان طور سيناء موجودا الآن قائما منتصبا، فإن الأمر لا يخلو من حالين: الأولى: أن الله أعاد الجبل مكانه بعد دكه، فقد ذكر بعض المعاصرين أن الطور دك حتى ساخ في الأرض ثم رفعه الله على بني إسرائيل بعد ذلك كما قال: وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ، ثم أعاده في محله.
الثانية: أن الناس مخطئون في القول ببقاء جبل الطور، فقد ذكر بعض الباحثين نقلا عن موقع الدكتور زغلول النجار أنه تم التوصل أن جبل الطور قد دك في الأرض مرة ثم رفع من الأرض مرة أخرى بعد ذلك فجعله الله معلقا بين السماء والأرض كأنه ظلة فوق بني إسرائيل، ثم رجع في مكانه بعد ذلك، والله أعلم بالحقيقة.
 وعلى أية حال فالذي يتعلق به الإيمان هو ما ورد في النصوص المعصومة من دك الجبل وحصول المواعدة.
والله أعلم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق