السبت، 21 مايو 2016

مدينة مدين: مغائر شعيب ليست مدين



 أرض مدين من مراكز الحضارة في الجزيرة العربية القديمة، ولا عجب في ذلك، فأر   ضها خصبة، ومياهها وافرة، وفيها عيون جارية حتى وقتنا الحالي، وموقعها الجغرافي متميز، وفيها مواقع آثارية تعد من أهم المواقع في جزيرة العرب، منها مغائر شعيب، كما عثر بالمنطقة على أماكن عدة تظهر فيها نقوش نبطية، منها: الجبال الواقعة إلى الجنوب من شركة تبوك الزراعية، وجبل قاع «أبو مر»، وجبل «أبو مخروق»، وجبل سربوط ثليثة، والحرة.
وبعد القرن السابع الهجري أطلق بعض الجغرافيين المسلمين على «البدع» اسم «مغائر شعيب»، وما زالت حتى الوقت الحالي تدعى بهذا الاسم. أما بعض المؤرخين فيرى أنها كانت تعرف في الزمن القديم باسم «مدين»، وأما الباحثون في الآثار فيطلقون عليها اسم: «المقابر النبطية».
والسؤال هنا: هل مغائر شعيب كانت مساكن لشعيب كما أشارت بعض المصادر الإسلامية؟ أم مقابر للأنباط كما ذكر الرحالون المستشرقون، وأكدته الدراسات الحديثة لوكالة الآثار؟!
عندما وصف القثامي مغائر شعيب قال: من الطبيعي أن جميع هذه الأضرحة كانت نبطية، وعلى هذا فهي تأسست بعد ما لا يقل عن 2500 سنة من زمن جيثرو «شعيب»، غير أن من المذهل حقاً أن القرآن الكريم لم يذكر أي شيء عن العهد النبطي.
ويؤكد مؤلفو كتاب «البدع» أيضاً أن مغائر شعيب، والبتراء ومدائن صالح، ما هي إلا مقابر نبطية حين قالوا: توجد في البدع مقابر نبطية أطلق عليها محلياً اسم «مغائر شعيب»، وتنسب إلى الحقبة المدينية، وقد تبنى هذه الفكرة بعض المؤرخين والجغرافيين اعتماداً على أساطير قديمة، مع أن هذه الكهوف هي مقابر نقرت في واجهات المرتفعات الجبلية على غرار المقابر النبطية المنحوتة في كل من البتراء ومدائن صالح، وهي تؤرخ من القرن الأول ق.م، والحقيقة أنه لا يوجد دليل تاريخي أو أثري يربط بين هذه المقابر وشعيب وقومه، بل إن الأدلة التاريخية والأثرية والمعمارية تؤكد أنها من عمل الأنباط، كما ذهب إلى ذلك من وصفها من الرحالين والآثاريين، أمثال: موزل، وفلبي، وبيتربار، وهاردنج، ودايتون.
وجاء في موقع آخر أيضاً: «وهم (أي: سكان البدع) يميزون بينها (أي: حفر استخراج الأحجار) وبين المقابر النبطية.. التي يعدونها خطأ مغائر لشعيب». انتهى باختصار ما ورد في بعض الكتب الصادرة عن وكالة الآثار والمتاحف.
 التعليق:
هل أقوال فلبي وغيره من الرحالين أدلة تاريخية؟ وهل صحيح أن بعض المؤرخين والجغرافيين المسلمين اعتمدوا في كتاباتهم على أساطير قديمة؟ وهل ربط مدين بتاريخ النبي موسى-عليه السلام - أساطير تاريخية؟
أما القول بما نصه: «على غرار المقابر النبطية المنحوتة في كل من البتراء ومدائن صالح»، فأقول: على هذا الحال فالحجر ليست من أعمال الثموديين ونحتهم، وهذا يتعارض مع ما يفهم من بعض الآيات الكريمة! ومع ذلك لا يستبعد الباحث أن يكون هناك إعادة استخدام لهذه البيوت من قبل  الأنباط أو غيرهم، فتركوا لنا بعض الآثار وغيرها فنسبت كل الآثار إليهم!


هل سكن الثموديون بلاد مدين؟

بعد الزيارات الميدانية المتكررة تبين أن هناك تشابهاً بين البيوت في: الحجر، وخريبة العلا، ومغائر شعيب، والبتراء، من حيث أنماط النحت وأعماله وأشكاله. ومن يتفحص طريقة نحت البيوت في مغائر شعيب فسيتبين له جلياً أنها نسخة واضحة لما هو موجود، وقد سبق أن أوضحت بما فيه الكفاية، وبما يغني عن الإعادة بمجلة الفيصل، وفي صحيفة الجزيرة، وفي كتبي عن العلا والحجر، أن الحجر في الأصل بيوت لثمود كما أشار القرآن الكريم، وليست مقابر للأنباط، كما أكدت الدراسات الحديثة!
وفي وقتنا الحالي نجد مجموعة من القبائل تعيش في منطقة واحدة، ونلاحظ أيضاً أن القبيلة الواحدة تمتد لمسافات طويلة، فتشمل مناطق عدة، بل دول؛ مثال على ذلك: منطقة حائل يعيش فيها قبائل من شمر وتميم وعنزة، وغيرها من القبائل، ومع ذلك يمتد انتشار هذه القبائل حتى العراق؛ لذا يبدو أن بلاد ثمود لا تنحصر في المنطقة المعروفة في الوقت الحالي بـ: «مدائن صالح»، فقد تبين للباحث أن آثار النحت في الجبال تمتد من خريبة العلا جنوباً حتى البتراء شمالاً، والله بين لنا في محكم كتابه أن قوم ثمود ينحتون من الجبال بيوتاً، فقال: {وكانوا ينحتون من الجبال بيوتاً آمنين} (الحجر: 82).
ولم يرد في القرآن أن قوماً غير ثمود ينحتون من الجبال بيوتاً.
وقد حدد ابن كثير بلاد ثمود في تفسيره حين قال: كانت ثمود بعد عاد، ومساكنهم مشهورة فيها بين الحجاز والشام.
كما ورد في التنزيل العزيز أن قوم ثمود نحتوا البيوت في الجبال، وأن سلطانهم امتد خارج الحجر، وصاروا خلفاء ممكنين في الأرض؛ قال الله في محكم كتابه: {واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصوراً وتنحتون الجبال بيوتاً فاذكروا آلاء الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين} (الأعراف: 47).
ولأن طراز العمارة في مغائر شعيب شبيه كل الشبه بالحجر؛ لذا فالباحث يرى أن البيوت في مغائر شعيب من أعمال قوم ثمود؛ إذ يُعتقد أن فرعاً من سلالة الثموديين الذين آمنوا مع صالح - أي الذي نجاهم الله تعالى من العذاب، وعاشوا في المنطقة بعد الهلاك - هاجروا من «الحجر» إلى فلسطين، ومارسوا فن النحت في الجبال الذي مارسه أسلافهم؛ قال تعالى: {فلما جاء أمرنا نجينا صالحاً والذين آمنوا معه} (هود: 66).
وقد يكون هناك تشابه في الدار بين قوم ثمود وشعيب بحكم قربهما بعضهما من بعض، كما تتشابه في وقتنا الحالي المساكن «الفلل» والعمائر المتعددة الأدوار «الأبراج» بين الحجاز ونجد والشام؛ قال تعالي: {كأن لم يغنوا فيها ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود} (هود: 95).
قال ابن كثير: «قوله {كأن لم يغنوا فيها}، أي يعيشوا في دارهم قبل ذلك، {ألا بعداً لمدين كما بعدت ثمود}، وكانوا جيرانهم قريبين منهم في الدار، وشبيهين بهم في الكفر وقطع الطرق، وكانوا عرباً مثلهم».
ومع ذلك لا أستبعد إعادة استخدام هذه البيوت من قبل الأنباط أو غيرهم من الشعوب والقبائل الأخرى؛ قال تعالى: {وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال} (إبراهيم: 54).
قال القرطبي: «أي في بلاد ثمود ونحوها، فهلا اعتبرتم بمساكنهم بعدما تبين لكم ما فعلنا بهم، وبعد أن ضربنا لكم الأمثال في القرآن».
وقال الطبري: «قال ابن زيد في قوله: {وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم} قال: سكنوا في قراهم مدين والحجر والقرى التي عذب الله أهلها، وتبين لكم كيف فعل الله بهم وضرب لهم الأمثال».
وهناك نصوص عدة تشير إلى أن الثموديين سكنوا المنطقة، ومن ثم لا يُستبعد أن تكون من أعمالهم. فعندما تحدث الجغرافي بطليموس «عاش في القرن الثاني الميلادي» عن بلاد العرب السعيدة ذكر أن الثموديين سكنوا على الشاطئ الأعلى لهذا الخليج. وأكد الباحث فورستر أن بطليموس قصد بالخليج اللحياني ما يعرف اليوم باسم العقبة الذي يمثل رأس البحر الأحمر.
ولعل من الأدلة على أن ثمود سكنوا المنطقة أنه عثر في أرض مدين على مجموعة من الرسوم والكتابات، تبين من خلالها أن بعضها بخط ثمودي، وهذا يشير إلى أن بعض القبائل الثمودية كانت تسكن في منطقة البدع. كما عثر في مغاير شعيب على مجموعة من الرسوم الصخرية والكتابات العربية القديمة، منها النقش المكتوب بخط البادية «الثمودي» الذي يمكن قراءته كما يأتي: «لوائل بن كفل من قبيلة جبعان».
 - أين موقع مدينة مدين؟
لقد استعرضت ما تمكنت من جمعه من النصوص القديمة، وبعد أن رسمت صورة في ذهني قارنت بين ما قاله الجغرافيون المسلمون الأوائل أو المؤرخون القدماء وما قاله الباحثون المتأخرون، فتبين لي أن هناك اختلافاً في تحديد موقع مدين! فمن المصادر التاريخية ما يحدد مكان مدين في الشام، ومنها ما يحدد موضعها جنوب صحراء سيناء! أما الباحثون المتأخرون فبعضهم يؤكد أن مدين تسمى في الوقت الحالي بـ «البدع».
 رأي الباحث:
بلا أدنى شك عندي فإن مدين هي البئر التي استقى منها موسى - عليه السلام - لسائمة شعيب - عليه السلام - وفيها شجرة موسى، وقبر موسى. والنصوص التي تؤكد ذلك كثيرة، وقد وردت في هذا المبحث بما يغني عن التكرار.
لذا علينا التنبه وتمحيص النصوص، خصوصاً إذا كان مصدرها من اليهود، كالقول بأن الذبيح إسحق، وليس إسماعيل، ومكان مدين ليس كما تصور بعض الباحثين أنها تسمى في وقتنا الحالي: «مغائر شعيب».
الاسم
البريد الإلكتروني
الدولة
التعليق
رمز الحمايةرمز الحماية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق