إيران في إفريقيا اختراقات وإخفاقات
أولت إيران أهمية كبيرة للقارة الإفريقية باعتبارها قارة المستضعفين الذين كان من مبادئ الخميني الوقوف إلى جانبهم ودعمهم في وجه الاستكبار العالمي، ونظراً لفتوة النظام الجديد وتحديات الحرب مع العراق التي كانت تواجهه تأخرت الانطلاقة الإيرانية نحو إفريقيا حتى بداية تسعينيات القرن الماضي، حيث كانت القارة ضمن أجندة كل من تعاقبوا على الرئاسة في إيران، متبنين رسالة الجمهورية الإسلامية التي خطها المرشد الأعلى الأول آية الله الخميني بداية من رفسنجاني الذي كانت زيارته للسودان سنة 1991 إيذانا بعصر جديد من العلاقات الإيرانية الإفريقية، كما قام بعده خاتمي بإعطاء دفعة جديدة للعلاقات بين الطرفين من خلال تأسيس أطر وهياكل مشتركة ألقي على عاتقها تجسيد ومتابعة المشاريع البينية، وبعده أحمدي نجاد الذي أعاد الشحنة الأيديولوجية للواجهة.
أما حسن روحاني فإن المؤشرات الأولية بعد عدة شهور على رئاسته تميل إلى تحييد كبير لذلك الزخم الأيديولوجي الذي أحدثه سلفه، غير أنه لا يمكنه الخروج عن الخطوط العريضة للسياسة الخارجية الإيرانية، وإن كانت الاتفاقية مع الغرب حول البرنامج النووي قد تعطي دفعة جديدة لإيران في القارة باعتباره أحد أبرز أسباب توجهها نحوها، وفي نفس الوقت أهم معوق. فما هي أهم الاختراقات التي حققتها إيران في إفريقيا؟ وهل كان ذلك دون أي إخفاقات؟
الانتشار الإيراني في إفريقيا:
يدلل النشاط الدبلوماسي على أولوية القارة السمراء في الأجندة الإيرانية، وانتشارها فيها، إذ تمتلك سفارات في أكثر من 30 دولة. وعقدت العديد من القمم الإفريقية الإيرانية المشتركة، كما تتمتع بصفة العضو المراقب في الاتحاد الأفريقي. وما فتئت القيادات الإيرانية على مستوى الرئاسة وكبار المسؤولين تزور العواصم الإفريقية بشكل دوري. فعلى سبيل المثال قام الرئيس السابق أحمدي نجاد بأكثر من ست جولات لدول غرب أفريقيا. كما قام كبار المسؤولين الإيرانيين عام 2009 بما يقارب من 20 زيارة لعدد من الدول الإفريقية(1)، ونظمت إيران ما بين عامي 2002 - 2006 حوالي 32 معرضا تجاريا في إفريقيا(2).
ورغم أن المنظور الجيوسياسي يجعل من شرق القارة وتحديدا منطقة القرن الإفريقي في مقدمة الاهتمامات الإيرانية، نظرا لعبور جل الصادرات الإيرانية البحر الأحمر إلى قناة السويس فالمتوسط، وقربها من الخليج العربي الذي يقع في صلب إستراتيجيتها الإقليمية، إلا أن الإيرانيين لا يتوقفون عند هذا المستوى، وتتوزع اهتماماتهم على كل القارة، وتمتد من شمالها لجنوبها ومن شرقها لغربها، ما يعكس نظرة شاملة في التصور الإستراتيجي الإيراني تتعدد أهدافها وتتنوع.
ونظرا لمعاناة القارة من سياسات القوى الاستعمارية التي غيرت من أساليبها القديمة حاولت إيران كسب الأفارقة إلى صفها من خلال تبني خطاب المواجهة مع الغرب، وقد حرصت على تقديم نفسها كنموذج مناهض للقوى الغربية من خلال مشاركتها في العديد من أطر التعاون الدولي التي تضم دولا نامية أو دولا مناهضة للغرب، ومن هذه الأطر حركة عدم الانحياز، التي استضافت قمتها السنوية في عام 2012، ومجموعة الدول النامية الثمانية (D-8)، وتخدم المجموعتان الرؤية الإيرانية في قيادة الدول النامية في مواجهة الدول المتقدمة حيث تتكون مجموعة الدول النامية الثماني من دول ذات أغلبية مسلمة(3).
المزاحمة والمساومة:
تحاول طهران التموضع في مكانة تتواءم مع إمكانياتها وتاريخها وفق إدراكها الإستراتيجي، خاصة وأنها تقرأ التحولات الجارية في النظام الدولي والتي تؤشر إلى تراجع للولايات المتحدة وصعود قوى دولية وإقليمية يجب أن تكون هي من بينها، وتسعى لتعويض تهميشها فيه بتنسيق جهودها مع الدول الضعيفة التي قد تكون علاقتها مجتمعة مساوية ولربما أكبر من العلاقة مع القوى العظمى، لذلك تطور علاقاتها مع كل دول آسيا وإفريقيا وأمريكيا الجنوبية، إضافة لعلاقاتها الجيدة مع روسيا والصين. والساحة الإفريقية تتجلى فيها التغيرات الهيكلية في النظام الدولي.
فبانتشارها في كل أرجاء القارة الإفريقية تزاحم إيران القوى الدولية والإقليمية على حد سواء، حيث يمكّنها تواجدها في منطقة القرن الإفريقي من تسهيل تواصلها مع أتباعها الحوثيين في اليمن ودعمهم بالأسلحة، وما يترتب عليه من ضغط على دول مجلس التعاون الخليجي وبشكل خاص المملكة العربية السعودية. كما تتيح لنفسها المساومة مع القوى المنافسة لها وتحديدا الولايات المتحدة وإسرائيل.
فمنطقة شرق أفريقيا تشكل إحدى المحطات الإستراتيجية المهمة لإيران في مواجهتها للقوى الغربية، ففي أعقاب زيارة الرئيس الإريتري أسياسي أفورقي لطهران في ديسمبر 2008 تردد أن إيران حصلت على تسهيلات في ميناء عصب على البحر الأحمر، وهو ما يعطيها نقطة ارتكاز تمكنها من القيام بمهام جهادية وقتالية ضد القوى الغربية إذا ما قررت الأخيرة تدمير قدراتها النووية. ولعل سعي إيران لتطوير علاقاتها مع دول شرق أفريقيا الأخرى مثل كينيا وتنزانيا وجزر القمر يؤكد هذا المنحى الإستراتيجي في الاختراق الإيراني لإفريقيا(4).
وفي الغرب الذي يعتبر منطقة نفوذ أمريكي- إسرائيلي- فرنسي استطاعت إيران إيجاد موطئ قدم لها فيها حيث كثفت من جهودها الدبلوماسية تجاهها بالزيارات المتكررة للرؤساء الإيرانيين للمنطقة كما سبقت الإشارة، وساهم تواجد جالية لبنانية كبيرة جدا من تسهيل تغلغلها، إذ تشير تقارير إلى أن الشيعة في غرب أفريقيا يقدمون دعمًا سنويًّا لحزب الله اللبناني يقدر بنحو 200 مليون دولار(5). وتجلى النفوذ الإيراني لاحقا في تطور التعاون الاقتصادي بين الطرفين، والدعم الذي حظيت به من طرف دول غرب إفريقيا في المحافل الدولية بتأييد حقها في امتلاك برنامج نووي سلمي.
كما استطاعت إيران إقامة علاقات جيدة مع جنوب إفريقيا بسبب موقف إيران من نظام الفصل العنصري الذي كان متحالفا مع إسرائيل، ووصول حزب المؤتمر الديمقراطي للسلطة والذي دعمته إيران في السابق أدى إلى أن اتخذت جنوب إفريقيا دوراً محايداً في المنافسة والحالة الاستقطابية بين إيران والغرب، فبالرغم من أنه لا يمكن اعتبارها حليفاً لطهران فإن مسؤولي جنوب إفريقيا انتقدوا التوجّه الأمريكي في القضية النووية الإيرانية، ووصفوه بأنه منافق (بسبب دعمها الضمني للنشاطات النووية الإسرائيلية)، ودعوا كلّ الأطراف إلى إيجاد حلول من خلال التعامل الدبلوماسي(6).
كما حثت وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون جنوب إفريقيا البلد الأول الذي اختار طواعية التخلي عن الأسلحة النووية على أن يقوم بدور في كبح المسعى الإيراني لحيازة أسلحة نووية وإبقاء المواد النووية بعيدة عن أيدي الإرهابيين(7).
وتحظى إيران عموما بتأييد من الأنظمة المغضوب عليها أمريكيا بشكل خاص مثل زيمبابوي التي تعد ضمن البلدان الإفريقية المعارضة للسياسة الأمريكية، والتي وضعتها وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كوندوليزا رايس، إلى جانب إيران على قائمة وصفتها بـ مواقع متقدمة للطغيان(8). فضلا عن السودان الحليف الإستراتيجي لإيران منذ الانقلاب العسكري سنة 1989، وجامبيا التي تطورت العلاقات معها منذ نجاح الانقلاب العسكري عام 1994 حيث يعتبر النظام نفسه مضطهدا دوليا بسبب ملف انتهاكات حقوق الإنسان، ونفس الشيء ينطبق على موريتانيا التي تحسنت علاقاتها مع طهران بعد الانقلاب العسكري الذي أطاح بالرئيس معاوية ولد سيد أحمد الطايع سنة 2005 وتجميد العلاقات بين نواكشوط وتل أبيب ثم قطعها نهائيا سنة 2010(9).
الأبواب الخلفية:
رغم المخاوف الأمريكية والإسرائيلية من التمدد الإيراني في القارة إلا أنه لم يسجل أي سلوك يضر بالمصالح الأمريكية مباشرة، وإن كانت تقديرات الأمنيين الإسرائيليين أن هذا الاحتمال يبقى واردا إذا ما تعرضت المنشآت النووية الإيرانية لهجوم عسكري، وأي مكسب إيراني في القارة لا شك ستوظفه لصالحها حينها، ولكن يبدو أن الحسابات الحالية تتوقف عند المكاسب الدبلوماسية، والاقتصادية ومحاولة تمكين مؤيدين لها أو حتى أتباع جدد.
فقد وجدت إيران في المشاكل والاضطرابات التي تعيشها دول القارة منفذا للتغلغل متبعة في ذلك نفس سلوكيات القوى الأخرى التي يفترض أن أفريقيا تعاني من سياساتها وستتحالف إيران مع الأفارقة ضدها. إذ لم تكتفِ إيران بالعلاقات الرسمية مع الحكومات الإفريقية رغم كل المزايا الممنوحة لها من قبلها، وإنما لجأت إلى نفس الأساليب والطرق التي تستعملها في مناطق أخرى، وما اعتادت عليه في سياستها الخارجية من خلال فتح قنوات غير رسمية مع حركات معارضة لضمان ولائها أو توظيفها في مراحل مختلفة عندما تقتضي الحاجة، إذ كشف تقرير ميداني أعده مركز بحوث تسليح الصراع بالتعاون مع العديد من المؤسسات بين سنتي (2006 و2012) عن أنه من بين 14 حالة كشف فيها عن وجود أسلحة إيرانية هناك فقط 4 حالات كانت مع الحكومات والعشر الباقية مع جماعات غير نظامية(10)، حيث كانت تدعم الانفصاليين في منطقة «كاسامانس» في السنغال ومتمردي ساحل العاج، وجامبيا، وحركة إبراهيم الزكزاكي في نيجيريا(11)، الأمر الذي تسبب لاحقا بقطع حكومات هذه الدول علاقاتها مع إيران.
الاقتصاد بطعم النووي ونكهة اليورانيوم:
تعتبر إيران من الدول المصدرة للنفط لبعض دول القارة، فقد بلغ حجم صادراتها النفطية إلى إفريقيا جنوب الصحراء سنة 2010 ما قيمته 3,60 مليار دولار بالمقارنة مع 1,36 مليار دولار عام 2003(12). لكن العلاقات الاقتصادية الإفريقية الإيرانية تشمل مجالات أخرى وهي كلها مرتبطة ارتباطا وثيقا بمشروعها النووي بأشكال مختلفة.
فمن جهة تتطلع للحصول على اليورانيوم الذي تعد القارة من أكبر منتجيه، إذ تسهم بحصة 20% تقريبا من الإنتاج العالمي. والنيجر منفردة تملك سادس أكبر احتياطيات منه، لذلك تقترن القارة السمراء دائما مع مقولة «فتش عن اليورانيوم». ويعتقد بعض المحللين أن طهران في سعيها وراءه داخل إفريقيا انتهجت سبلا متنوعة، منها سياسة النفط مقابل اليورانيوم(13). ومنذ اكتشافه في غينيا عام 2007 توطدت علاقات طهران بها، حتى إن التبادل التجاري بين البلدين في العام 2010 زاد بنسبة 140% (14).
ومن جهة ثانية إضافة إلى الدخول في العديد من المشاريع الاقتصادية مع الدول الإفريقية، مثل فتح فروع لشركة خودرو الإيرانية لإنتاج السيارات وتكثيف الاستثمار في قطاعات الزراعة أو تطوير التعاون في مجالات المياه والصحة والهندسة والطرق. فضلا عن السلاح الذي تعد إيران أكبر مصدريه إلى السودان(15). تحاول أيضا توظيف خبراتها في المجال النووي لكسب الأفارقة إلى صفها في البرنامج النووي، وذلك من خلال إقامة مشاريع في مجال الطاقة الكهربائية مع بعض دول مثل نيجيريا والسنغال وسيراليون، وبنين، ومالي، لنقل خبراتها في هذا المجال وحثها لتسير على خطاها.
ومن جهة ثالثة ممارسة نوع من التخويف من المخاطر التي تلحق بالدول الأخرى في حال تعرض إيران لعقوبات، فهي حتى الآن الموفّر الأساسي للنفط الخام لجنوب إفريقيا، وهذا الاعتماد أدى إلى حياديتها تجاه القضية النووية الإيرانية، كما امتنعت عن التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة على انتهاك إيران لحقوق الإنسان، مما أغضب كلاً من حكومة إيران التي كانت تأمل أن تدعمها، وكذلك الحكومات الغربية التي كانت تأمل في إدانتها(16). أو حتى شكل من الابتزاز السياسي بربط الصفقات التجارية بصفقات سياسية حيث تشير بعض التقارير إلى أن الصفقة بين إيران وجنوب أفريقيا التي صوتت في الوكالة الدولية للطاقة الذرية ضد إحالة البرنامج النووي الإيراني على مجلس الأمن كانت مقابل صفقة هاتف خلوي استفادت منها شركة "أم.تي.إن" التي تربطها علاقة بحزب "المؤتمر الوطني الأفريقي" الحاكم. وبينما صوتت سابقاً مع أوروبا والأميركيتين للجم برنامج إيران النووي، في سبتمبر ونوفمبر 2005، وفي فبراير 2006، فقد صوتت ضد العقوبات، ثم امتنعت عن التصويت على إحالة المسألة إلى مجلس الأمن الدولي. ولاحقاً في سنة 2006، بعد توقيع رخصة "MTN" وختمها، عادت مرة أخرى إلى موقعها الافتراضي، من خلال مساندة فرض قيود على الطموحات النووية الإيرانية(17).
أصوات المستضعفين:
غير بعيد عن اليورانيوم وفي الشق السياسي من البرنامج النووي حاولت طهران كسب الأصوات الإفريقية في هيئة الأمم المتحدة وفي مجلس حقوق الإنسان، وأيضا ضمن مجلس الأمن الذي تملك القارة ثلاث ممثلين غير دائمين لها فيه، والوكالة الدولية للطاقة الذرية، فالصوت الإفريقي إن لم يكن مساندا لإيران فهو على الأقل في كثير من الأحيان ليس معاديا لها، حيث تميل بعض الدول الإفريقية إلى الامتناع عن التصويت عند مناقشة الملف الإيراني(18). وهو يساعد في التصدي أو التخفيف من أي قرارات دولية ضد طهران، إلى جانب نيل تأييد برنامجها النووي، وذاك ما أعلنته الكثير من الدول الإفريقية بالفعل، مثل السودان والسنغال وساحل العاج وجيبوتي وإريتريا(19).
وقد نجحت الدبلوماسية الإيرانية من خلال الزيارات الرئاسية في كسب العديد من الدول الإفريقية لصفها في أزماتها الدولية، وتجنيد الأفارقة للدفاع عنها أو على الأقل تحييدهم، وأبرز النجاحات تلك المتعلقة بأزمة الانتخابات الرئاسية سنة 2009 والعنف الذي مارسه النظام الإيراني ضد أنصار الحركة الخضراء، حيث صوتت الأمم المتحدة في نوفمبر من نفس السنة على حالة حقوق الإنسان في إيران، وتحفظت جميع دول غرب أفريقيا ما عدا ليبيريا وتوغو على قرار الأمم المتحدة ضد إيران. والدول الأفريقية الأخرى أيضا باستثناء المغرب وجنوب أفريقيا اللتين اتخذتا مواقف قوية ضدها(20).
وتأييد الدول الإفريقية منفردة امتلاك إيران لبرنامج نووي سلمي والذي يصرح به مسؤولوها في أي مناسبة تجمعهم بنظرائهم الإيرانيين، وأيضا رفض ممثلي القارة في الوكالة الدولية للطاقة الذرية نقل الملف إلى مجلس الأمن، وحتى بعد ذلك كان ممثلوها فيه يرفضون إقرار العقوبات الدولية على إيران.
حدود الدور الإيراني في القارة الإفريقية:
النجاحات التي حققتها إيران في القارة السمراء لم تكن دون إخفاقات، ولعل أهمها تلك التي كانت سياساتها هي المتسبب فيها، فبتورطها في الصراعات الداخلية وتغذيتها للنزاعات بشكل مباشر خسرت ما حققته من إنجازات، فالجهود الإيرانية في السنغال مُنيت بانتكاسة كبيرة مع اكتشاف شحنة الأسلحة القادمة من إيران باتجاه غامبيا، بهدف تزويد متمردي الجنوب السنغالي بالسلاح. حيث قطعت كل من السنغال وغامبيا علاقاتها مع إيران سنة 2011(21). وقبلها في أكتوبر 2010م رصدت السلطات النيجيرية عملية نقل أسلحة قادمة من إيران في طريقها إلى غامبيا، ورداً على هذا الاكتشاف قامت السلطات النيجيرية والغامبية بقطع علاقاتها الدبلوماسية مع إيران وطردت دبلوماسييها(22).
كما يتجلى الفشل الإيراني أيضا في استجابة الكثير من الدول للضغوطات الأمريكية والإسرائيلية بالتصويت ضد البرنامج النووي الإيراني على غرار وقف تعاون نيجري إيراني في مجال التكنولوجيا النووية سنة 2008، ووقف جنوب إفريقيا لوارداتها النفطية من إيران في 2012 استجابة للعقوبات الدولية على إيران(23)، وفي نفس السياق إيقاف شركات جنوب إفريقية استثماراتها في إيران بسبب الضغوط الدولية، مثل شركة Sasol، وهي واحدة من أكبر الشركات المنتجة لوقود السيارات من الفحم في العالم، وجمّدت توسّعها في الدولة الفارسية، وتقوم الآن بمراجعة مشاريعها الحالية(24).
كما استمرت موريتانيا ومالي ودول أخرى في العمل مع الولايات المتحدة وغيرها من الدول الغربية لمكافحة تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي. وتعتبر نيجيريا مورداً رئيسياً لإمدادات النفط الأمريكية، كما واجهت إيران صعوبات في الوفاء بالتزاماتها الاقتصادية تجاه الإقليم. فعلى سبيل المثال، مالي لم يتم إنجاز مشروع بناء السد في حتى الآن(25).
انعكاسات الصفقة النووية والأزمة السورية:
تطرح محورية البرنامج النووي الإيراني في توجه طهران نحو إفريقيا تساؤلات حول مستقبله بعد الاتفاق الأخير بين إيران والغرب، إذا ما كان سييسر من تمددها في القارة أم سيحول دون ذلك خاصة في ظل ما يعانيه النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط، فالانفراجة في العلاقات الإيرانية الأمريكية بشكل خاص والغربية بشكل عام لا تعني بالضرورة تغيرا في نظرة إيران لعلاقاتها مع القارة الإفريقية، فالتوجهات الاقتصادية عامل ثابت دائما، أما سياسيا فإن ذلك قد يمكنها بشكل أو آخر من توسيع نفوذها الذي يبقى أيضا بعيدا عن تهديد المصالح الأمريكية والتي لم تمس بشكل مباشر رغم النشاط الكبير جدا لحزب الله وإسرائيل على حد سواء في القارة، كما أن الدول الإفريقية قد تجد في الاتفاقية مبررا لتطوير علاقتها مع إيران، ولكن حتى الآن لا زالت هذه الأنظمة - لعوامل عديدة - غير قادرة على صياغة إستراتيجيات مستقلة في سياستها الخارجية. فالاتفاق الدولي قد يزيح العراقيل التي كانت تحول دون تمدد إيران في القارة. ولكن حالة عدم اليقين والشك تبقى دائما تتحكم في سياسات الطرفين.
وفي اتجاه موازٍ فإن المتضرر الأكبر من هذا سيكون العرب فقد كشفت مصادر سياسية ودبلوماسية يمنية أن مجلس الأمن القومي الإيراني أقر الإستراتيجية الإيرانية الجديدة المتمثلة في نقل ثقل المعركة من الشمال في سوريا ولبنان إلى جنوب الجزيرة العربية في اليمن، بعد تيقن إيران أن استمرار نظام حليفها بشار الأسد في دمشق يستحيل أن يستمر، وأن إيران تشعر أن «نفوذها على سوريا، ونفوذ حليفها حزب الله في لبنان، لن يستمر طويلا، ولذا تفكر بجدية لنقل ثقل هذا النفوذ إلى مناطق الشمال اليمني، والبحر الأحمر والقرن الأفريقي مستغلة العلاقات القوية التي تربطها بالنظام الإريتري»(26). كما أنه من جهة أخرى ضغط مباشر على المملكة العربية السعودية لثنيها عن دعم الثورة السورية، وهناك الكثير من الإشارات التي تدلل على ذلك أبرزها استهداف مناطق حدودية مع العراق من طرف عصائب أهل الحق المرتبطة بإيران.
الخلاصة:
استطاعت إيران أن تحقق الكثير من الإنجازات في إفريقيا على مختلف الأصعدة، وأثبتت قدرتها على منافسة القوى الإقليمية والدولية بفرض أخذ مصالحها بعين الاعتبار، وهذا راجع لامتلاكها رؤية إستراتيجية متكاملة، ولكن تبقى الأهداف الإيرانية في القارة الإفريقية أكبر من إمكانيات دولها، خاصة في الشق المتعلق بالملف النووي، فالدعم الإفريقي لم يثنِ القوى الغربية من فرض العقوبات على طهران ونقل ملفها لمجلس الأمن، وهو ما فشلت فيه قوى دولية وإقليمية أخرى مثل الصين وروسيا أو تركيا والبرازيل، كما تتحمل إيران نفسها جزءا من المسؤولية في تدهور علاقاتها مع بعض الدول الإفريقية بسبب تدخلها في شؤونها الداخلية.
ولكن الاختراقات التي حققتها إيران في إفريقيا لا تقارن بأي حال من الأحوال بالدول العربية مجتمعة أو منفردة، حيث لا تمتلك أي دولة عربية مشروعا وإستراتيجية واضحة في القارة، بل أكثر من ذلك حتى على المستوى الإقليمي والبيئة المحاذية التي تشكل تهديدا لأمنها القومي، خاصة في منطقة القرن الإفريقي بالنسبة لدول مجلس التعاون الخليجي ومصر، أو غرب إفريقيا الذي يشكل عمقا إستراتيجيا للدول المغاربية.
والمواقف الغربية من إيران في سورية والصفقة غير المعلنة حول الكيماوي السوري، وتطور العلاقات الإيرانية الغربية البطيء بعد البدء في تنفيذ بنود اتفاق جنيف النووي، لا شك أنها ستساهم في تمدد إيران في القارة، والعرب سيكونون هم الخاسر الأكبر من ذلك، لأن التنافس الإيراني والأمريكي الإسرائيلي لم يرتقِ لمستوى تهديد المصالح المباشرة لكل طرف، كما أن طهران اشتغلت على تهديد المصالح العربية أكثر من الغربية في أحلك الأوقات، وهو ما يتوقع أن يتضاعف في المرحلة التالية، خاصة في ظل المنعرج الخطير الذي تمر به سياساتها في الشرق الأوسط، إذ تحاول المحافظة على نفوذها في سوريا بشتى الوسائل.
تأسيسا على هذا فإنه ينتظر الدول العربية مجتمعة أو منفردة صياغة إستراتيجية عاجلة لتدارك المخاطر التي تحدق بها والقادمة من حدودها الإفريقية. فقد استطاعت إسرائيل تحقيق أهدافها في إفريقيا بإبعاد القارة عن الصراع العربي الإسرائيلي، وتوطيد علاقتها معها على حساب الدول العربية، ولعل سعي دول نهر النيل لبناء سدود وحرمان مصر من جزء من نسبتها وتأزم العلاقات بين الطرفين وتقسيم السودان يدلل على ذلك، فهل ستنجح إيران بدورها في تحقيق أهدافها أيضا بجعلها قاعدة خلفية لسياستها التخريبية للدول العربية كما تفعل في اليمن أو ساحة لتصفية حساباتها مع القوى الإقليمية والدولية؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) عمر كوش، إفريقيا.. صراع دولي ومسرح لتنافس قوى إقليمية صاعدة، جريدة الاقتصادية، 16/07/2010، على الرابط: http://www.aleqt.com/2010/07/16/article_419329.html
(2) عبد الله ولد محمد بمب، الحضور الإيراني في غرب إفريقيا: استثمار أسواق تشيع؟، موقع الميادين، 5/11/20111
على الرابط: http://meyadin.net/9876545678/4333-2012-11-05-20-51-16.html
(3) أميرة محمد عبد الحليم، أحمدي نجاد في غرب أفريقيا، الأهرام الرقمي، 01/02/2011، على الرابط:
http://digital.ahram.org.eg/articles.aspx?Serial=485862&eid=122
(4) حمدي عبد الرحمن، الاختراق الإيراني الناعم لأفريقيا، الجزيرة نت، 06/05/2016، على الرابط:
http://www.aljazeera.net/opinions/pages/5efc2775-dd89-4d7b-90c7-beb59aaa0dfe
(5) شريف شعبان مبروك، العلاقات الإيرانية - الأفريقية: في دائرة الصراع الأمريكي - الإيراني، الأهرام الرقمي، 01/06/2010، على الرابط:
http://digital.ahram.org.eg/articles.aspx?Serial=161106&eid=457
(6) محمد سليمان الزواوي، إيران في إفريقيا.. البحث عن موطئ قدم، 08/05/2013، قراءات إفريقية، على الرابط:
http://www.qiraatafrican.com/view/?q=1028
(7) كلينتون: على جنوب إفريقيا إقناع إيران بالتخلي عن "النووي"، الأهرام الرقمي، 10/08/2012، على الرابط:
http://digital.ahram.org.eg/Policy.aspx?Serial=990284
(8) شريف شعبان مبروك، جولة خاتمي وتفعيل العلاقات الإيرانية - الأفريقية، مختارات إيرانية، على الرابط:
http://acpss.ahram.org.eg/ahram/2001/1/1/C2RN92.HTM
(9) لتفاصيل أكثر انظر: رضا عبد الودود، وسط صمت عربي قطع العلاقات مع إسرائيل وتحالف مع إيران، موقع المسلم، 08/05/1432ه، على الرابط:
http://almoslim.net/node/126987
(10)The distribution of Iranian ammunition in Africa, Conflict Armament Research, December 2012.
(11) درَس إبراهيم الزكزاكي في "حوزة قم" وتلقى تمويلا إيرانيا ليحول جماعته بعد ذلك إلى جماعة جهادية تحارب الحكومة العلمانية وتسعى إلى تطبيق الشريعة الإسلامية وفقا للنموذج الإيراني، وتنتشر جماعته في ولايات الشمال ولا سيما في "كانو" و"كادونا" و"زاريا". وتعتمد هذه الجماعة في تجنيد أعضائها على خريجي بعض جامعات الشمال النيجيري المسلم مثل جامعة أحمدو بللو وعثمان دان فوديو. والرؤية الإيرانية ترمي إلى خلق قواعد محلية موالية لإيران باعتبار مرجعية حوزتها الدينية من أجل الضغط على الحكومات الوطنية والعمل في مواجهة المصالح الغربية في أفريقيا. انظر: حمدي عبد الرحمن، مرجع سابق.
(12) عبد الله ولد محمد بمب، مرجع سابق.
(13) مروى صبري، إيران وأفريقيا.. اليورانيوم رأس الدوافع، الشرق الأوسط، العدد 11651، 22/10/2010، على الرابط:
http://www.aawsat.com/details.asp?section=45&article=591928&issueno=11651#.Ut-
(14) حمدي عبد الرحمن، مرجع سابق.
(15) عمر كوش، مرجع سابق.
(16) محمد سليمان الزواوي، مرجع سابق.
(17) جنوب أفريقيا تقر رسمياً بمؤازرة إيران نووياً مقابل عقد "MTN"، جريدة المستقبل، 29/08/2012، على الرابط:
http://www.almustaqbal.com/storiesv4.aspx?storyid=536365
(18) حمدي عبد الرحمن، مرجع سابق.
(19) مروى صبري، مرجع سابق.
(20) أميرة محمد عبد الحليم، مرجع سابق.
(21) عبد الله ولد محمد بمب، مرجع سابق.
(22) محمد سليمان الزواوي، مرجع سابق.
(23) السلطات الجنوب أفريقية توقف استيراد النفط من إيران، موقع محيط، 01/08/2012، على الرابط:
http://moheet.com/News/Print?nid=405373
(24) محمد سليمان الزواوي، مرجع سابق.
(25) أميرة محمد عبد الحليم، مرجع سابق.
(26) الحرس الثوري الإيراني يدرب الحوثيين في جزر إريترية، جريدة الشرق الأوسط، 21/01/2013، على الرابط:
http://www.aawsat.com/details.asp?section=4&issueno=12473&article=713915#.Ut-3L9JKHrc
http://alburhan.com/Article/index/8325#
المصدر: بالراصد
=============
الاختراق الإيراني الناعم لأفريقيا
WhatsApp
حمدي عبد الرحمن
خبير في الشؤون الأفريقية
القوى الناعمة الإيرانية
البحث عن اليورانيوم
البحث عن قواعد وحلفاء
التبشير بالنموذج الإيراني
يلاحظ المتابع لأدبيات الفكر الإستراتيجي الإيراني منذ بداية العقد الماضي وجود رؤية واضحة حول أولوية أفريقيا في أجندة السياسة الخارجية الإيرانية. فقد اتسع نطاق العلاقات الإيرانية الأفريقية بشكل كبير منذ بداية الألفية الجديدة. وعلى سبيل المثال تمتلك إيران سفارات في أكثر من 30 دولة أفريقية. وفي منتصف 2010 عقدت القمة الأفريقية الإيرانية في طهران بمشاركة ممثلين عن 40 دولة أفريقية بينهم رؤساء ووزراء ودبلوماسيون ورجال أعمال.
أضف إلى ذلك أن إيران باتت تتمتع بصفة العضو المراقب في الاتحاد الأفريقي. وما فتئت القيادة الإيرانية على مستوى الرئاسة وكبار المسؤولين تزور العواصم الأفريقية بشكل دوري. ولعل الزيارة الأخيرة التي قام بها الرئيس أحمدي نجاد في منتصف أبريل/نيسان 2013 إلى كل من غانا وبنين والنيجر تعكس هذه الهجمة الإيرانية الناعمة على أفريقيا.
ومن اللافت للانتباه أن قراءة الملف الإيراني الأفريقي تعكس تبانيا واضحا في الرؤى والتوجهات. فثمة نفر من الكتاب يقف بشكل تبسيطي، وإن كان فيه قدر من الصحة عند حدود التبشير ونشر المذهب الشيعي.
وهناك من يقف عند حدود الأمني والعسكري، ويتحدث عن مخاطر الوجود الإيراني بالنسبة لتنامي النزعات الراديكالية المناوئة للغرب في أفريقيا. ولا شك أن هناك أبعادا ودلالات أخرى كثيرة تفسر لنا حقيقة التدافع الإيراني الكبير نحو أفريقيا، وهو ما نحاول أن نبينه في هذا المقال.
القوى الناعمة الإيرانية
لعل أحد الأهداف الإستراتيجية الكبرى لإيران في أفريقيا يتمثل في محاولة كسر حاجز العزلة الغربية المفروضة على إيران بسبب برنامجها النووي، إذ ترى إيران في القارة الأفريقية ساحة سهلة المنال من أجل كسب التأثير والنفوذ. ولا يخفى في هذا المجال القوة التصويتية لأفريقيا في المحافل والمنظمات الدولية، مثل الأمم المتحدة ومجلس محافظي الهيئة الدولية للطاقة النووية ومجموعة دول عدم الانحياز ومنظمة التعاون الإسلامي.
"تعمد إيران إلى كسب عقول وقلوب الأفارقة من خلال المساعدة في بناء مشروعات البنية التحتية للطاقة ومصافي النفط ومحطات توليد الكهرباء وحتى تقديم خبرتها التكنولوجية قي مجال الاستخدام السلمي للطاقة النووية"
فالصوت الأفريقي إن لم يكن مساندا لإيران فهو على الأقل في كثير من الأحيان ليس معاديا لها، حيث تميل بعض الدول الأفريقية إلى الامتناع عن التصويت عند مناقشة الملف الإيراني.
إن التهديد بفرض مزيد من العقوبات النفطية على إيران قد دفعها لتنويع صادراتها النفطية لتشمل الاقتصاديات النامية في أفريقيا. وتعمد إيران، كما هو الحال في أميركا اللاتينية، إلى كسب عقول وقلوب الأفارقة من خلال المساعدة في بناء مشروعات البنية التحتية للطاقة وتجديد مصافي النفط وبناء محطات توليد الكهرباء وحتى تقديم خبرتها التكنولوجية قي مجال الاستخدام السلمي للطاقة النووية.
وعلى صعيد التبادل التجاري أبدت إيران استعدادا لشراء الكاكاو من غانا، كما قامت بإنشاء مصنع لإنتاج سيارات الأجرة في السنغال. ومن الملاحظ أن صادرات السيارات الإيرانية لكل من السودان والسنغال قد أسهمت بشكل كبير في إحداث رواج لسوق السيارات في الداخل الإيراني.
وفي المجال الثقافي تحاول إيران طرح نفسها بديلا للعقلية الاستعمارية الجديدة وللنوايا الإمبريالية الغربية في أفريقيا. لقد أشارت افتتاحية إحدى الصحف اليومية الأكثر شعبية في هراري عاصمة زيمبابوي إلى هذا المعنى بقولها "إن إيران هي الأقرب لنا وهي تقترب منا كل يوم بدرجة أكبر".
"ونحن لا نتحدث هنا عن مستوى العلاقات الثنائية، على أهميتها، ولكننا نشير إلى المصير الحتمي الذي يربط إيران ببقية دول العالم ونحن منهم. إن إيران دولة معادية للإمبريالية ونحن كذلك".
البحث عن اليورانيوم
على أن من الأهداف الكبرى للتحرك الإيراني الدؤوب في أفريقيا الذي جسدته زيارات أحمدي نجاد الخمس لأفريقيا منذ وصوله للسلطة عام 2005 يتمثل في الحصول على اليورانيوم. ولعل ذلك يفسر لنا سر السعي الإيراني نحو تدعيم علاقاتها مع الدول المنتجة لهذا المعدن، مثل زيمبابوي والنيجر وناميبيا.
ومن المعلوم أن إيران تخطط لبناء 16 مفاعلا نوويا لإنتاج الطاقة واستخدامها لأغراض مدنية. وإذا تمكنت الحكومة الإيرانية بالفعل من استكمال هذا البرنامج النووي فإن هذا يعني نضوب إنتاجها المحلي من اليورانيوم في غضون عشرة أعوام. ولعل ذلك المتغير هو الذي يجعل علاقة إيران بالدول الأفريقية المنتجة لليورانيوم ذات طبيعة إستراتيجية كبرى.
ولا يخفي أن احتياطات اليورانيوم توجد في كثير من الدول الأفريقية الأخرى، مثل توغو وغينيا وأفريقيا الوسطى والكونغو الديمقراطية وأوغندة وزيمبابوي. وتسعى إيران لدعم علاقاتها مع كثير من هذه البلدان.
ويعطي تطور العلاقات الإيرانية مع غينيا في غرب أفريقيا مؤشرا واضحا حول أهمية متغير اليورانيوم في السياسة الخارجية الإيرانية. فمنذ اكتشاف اليورانيوم في غينيا عام 2007 توطدت علاقات طهران بها، حتى إن التبادل التجاري بين البلدين في العام 2010 قد زاد بنسبة 140%.
البحث عن قواعد وحلفاء
لقد حاولت إيران، ولا سيما في ظل قيادة أحمدي نجاد، تحقيق اختراق كبير لدول أميركا اللاتينية وأفريقيا بهدف خلق قواعد وتحالفات إقليمية معادية للولايات المتحدة والغرب عموما. وقد ساعدت دول مثل فنزويلا في ظل قيادة الراحل هوغو شافيز على تحقيق هذا الهدف الإيراني.
"من الأهداف الكبرى للتحرك الإيراني الدؤوب في أفريقيا الحصول على اليورانيوم, وهو ما يفسر المنحى الإستراتيجي في الاختراق الإيراني لأفريقيا"
ففي العام 2007 قام الرئيس أحمدي نجاد بجولة في بلدان أميركا اللاتينية، كما أنه عقد في طهران في نفس العام مؤتمر دولي حول أميركا اللاتينية. ومن الواضح أن السودان يطرح البديل الأفريقي لفنزويلا بالنسبة لإيران، حيث إن الخرطوم تمثل نقطة انطلاق مهمة للسياسة الإيرانية في أفريقيا.
وتشكل منطقة شرق أفريقيا إحدى المحطات الإستراتيجية المهمة لإيران في مواجهتها للقوى الغربية، ففي أعقاب زيارة الرئيس الإريتري أسياسي أفورقي لطهران في ديسمبر/كانون الأول 2008 تردد أن إيران حصلت على تسهيلات في ميناء عصب على البحر الأحمر، وهو ما يعطيها نقطة ارتكاز تمكنها من القيام بمهام جهادية وقتالية ضد القوى الغربية إذ ما قررت الأخيرة تدمير قدرات إيران النووية. ولعل سعي إيران لتطوير علاقاتها مع دول شرق أفريقيا الأخرى مثل كينيا وتنزانيا وجزر القمر يؤكد هذا المنحى الإستراتيجي في الاختراق الإيراني لأفريقيا.
ومن المثير أن إيران لا تتردد في استخدام قوتها غير الناعمة وما تملك من قدرات عسكرية من أجل بناء التحالفات والقواعد في أفريقيا، فقد أشار تقرير مهم صدر نهاية العام 2012 عن منظمة "بحث تسليح الصراع البريطانية إلى توزيع الأسلحة الإيرانية في أفريقيا. وتشمل هذه الأسلحة راجمات الصواريخ وقذائف الهاون والألغام الأرضية، وهي أسلحة أنتجت منذ العام 2002. ولعل السودان يمثل أبرز الأمثلة الأفريقية على عمق التعاون العسكري بينها وبين إيران حيث يشمل هذا التعاون تصدير أنواع من الأسلحة والذخائر والمعدات الإيرانية للسودان.
التبشير بالنموذج الإيراني
لقد استلهمت بعض الحركات والجماعات الإسلامية في أفريقيا في خطابها الإسلامي تجربة الثورة الإيرانية، وذلك في مسعاها لتغيير واقع الجمود والتخلف الذي أصاب المجتمعات المسلمة الأفريقية في مرحلة ما بعد رحيل الاستعمار. ولا يخفى أن حركية النموذج الإيراني وليس ما ينطوي عليه من اجتهادات وقناعات فقهية كانت هي الأكثر تأثيرا على الواقع الأفريقي في بعض رؤاه الإصلاحية.
بيد أن الإستراتيجية الإيرانية الجديدة في أفريقيا قد وظفت هذا التأثير السياسي من أجل تطويره ليأخذ طابعا دينيا مذهبيا، وهو ما يدخل في إطار نشر المذهب الشيعي بين الجماعات المسلمة في أفريقيا.
ولعل أبرز مثال في هذا السياق هو تجربة الحركة الإسلامية في نيجيريا أو "إخوان نيجيريا" بزعامة الشيخ إبراهيم الزكزاكي الذي قام بزيارة مدينة قم الإيرانية وتلقى تمويلا إيرانيا ليحول جماعته بعد ذلك إلى جماعة جهادية تحارب الحكومة العلمانية وتسعى إلى تطبيق الشريعة الإسلامية وفقا للنموذج الإيراني.
وتنتشر جماعة الزكزاكي في ولايات الشمال ولا سيما في كانو وكادونا وزاريا. وتعتمد هذه الجماعة في تجنيد أعضائها على خريجي بعض جامعات الشمال النيجيري المسلم مثل جامعة أحمدو بللو وعثمان دان فوديو. وأحسب أن الرؤية الإيرانية ترمي إلى خلق قواعد محلية موالية لإيران باعتبار مرجعية حوزتها الدينية من أجل الضغط على الحكومات الوطنية والعمل في مواجهة المصالح الغربية في أفريقيا.
"الاختراق الإيراني لأفريقيا الذي يرمي إلى الخروج من إسار العزلة الغربية المفروضة على إيران بسبب برنامجها النووي يستبطن تحقيق أهداف أخرى "
على أن تجربة المد الشيعي لم تعتمد فقط على نيجيريا وإنما شملت دولا أخرى مثل السنغال التي شهدت بناء حوزة علمية بجوار جامعة دكار، وهي تمنح الطالب شهادة تعادل الثانوية، كما أن هناك المركز الثقافي الإيراني في مالي. ومن الملاحظ أن الجاليات الشيعية اللبنانية تسهم بدور كبير في نشر التشيع بين الأفارقة، كما هو الحال بالنسبة لساحل العاج.
وعليه يمكن القول إن الاختراق الإيراني لأفريقيا الذي يعتمد على دوافع سياسية واقتصادية معلنة ترمي إلى الخروج من إسار العزلة الغربية المفروضة على إيران بسبب برنامجها النووي يستبطن تحقيق أهداف أخرى قد تبدو غير واضحة.
فالإستراتيجية الإيرانية لها أياد غير ناعمة كذلك، حيث إنها تتورط في تصدير الأسلحة لمناطق الصراعات الأفريقية بغية تحقيق مصالح سياسية وإستراتيجية. ولا تقتصر الحركة الإيرانية على ما هو سياسي واقتصادي وعسكري فقط في أفريقيا، ولكنها تقوم على رافعة مذهبية وثقافية كي تستطيع من خلالها تثبيت الأقدام بعد كسب نفوس وقلوب الأفارقة.
وهذا هو بيت القصيد في الاختراق الإيراني الجديد لأفريقيا الذي يرتدي عباءة المصالح المتبادلة والوقوف في مواجهة قوى الإمبريالية والاستكبار العالمي.
===================
عن التوغل الإيراني في أفريقيا!
أضف هذا المقال إلى المفضلة
إحذف هذا المقال من المفضلة
شارك بتعليق على هذا المقال
هيثم قطب
7
هيثم قطب
7
1,222منذ سنة واحدة، 27 فبراير,2015
في ساحة المعركة ليس لزامًا على الطرفين المتصارعين القتال وجهًا لوجه، وليس لزامًا أن تكون الساحة واحدة، بل يمكن إدارة الصراع بوسائل عنكبوتية التعقيد في ساحات بعيدة كل البعد عن الساحة الأصلية للقتال.
يوم الإثنين الماضي أعلنت وحدة الصحافة الاستقصائية في شبكة الجزيرة الفضائية عن امتلاكها لمئات الوثائق الاستخباراتية عالية السرية من العديد من أجهزة المخابرات وشبكات التجسس في العالم، الوثائق – التي تسربت للجزيرة وتنشرها بالتعاون مع الجارديان البريطانية- هي عبارة عن تحليلات تفصيلية وتقارير معلوماتية كتبها عملاء تابعين لجهاز أمن الدولة (SSI) في جنوب أفريقيا، التحليلات والبرقيات عبارة عن مراسلات سرية ثنائية وواسعة النطاق بين جنوب أفريقيا وبين المخابرات المركزية الأمريكية CIA والمخابرات البريطانية MI6 ومخابرات رئاسة الوزراء الإسرائيلية (الموساد) والمخابرات الروسية FSI والإيرانية وأجهزة أخرى على امتداد العالم وصولًا إلى كوريا الشمالية وملفات رصد كاملة لبعض أنشطة عدد كبير من دول العالم فيما يخص ثلاثية (الهيمنة الاقتصادية/ المعلوماتية/ صناعة السلاح).
إحدى أول التسريبات التي أعلنتها الجزيرة – في فيديو قصير لم يتعد الأربع دقائق- كانت عن مراقبة عملاء الـ SSI الجنوب أفريقيين للسفارة الإيرانية والعاملين فيها، وإعدادهم لملف سري عن إيران وقدراتها الاستخباراتية من مائة وثمانٍ وعشرين صفحة كاملة، الملف ركز بشكل كامل على رصد أنشطة إيران الأفريقية، وكيفية استخدامها لأنشطة اقتصادية وتجارية كغطاء فعال لنشاطها المخابراتي في جنوب أفريقيا تحديدًا!
كان هذا مثيرًا للاهتمام؛ مما دفعنا لتقصي الطريق للوصول لتصور فعال عن دور إيران في أفريقيا، واستراتيجيتها، وما الذي تحاول فعله بالضبط في القارة التي يتصارع على مواردها العالم بأكمله.
حاصر حصارك
لنرجع مرة أخرى إلى عقيدة الأطراف لتوضيح أصل اتجاه إيران لأفريقيا، فطهران التي تعزلها الولايات المتحدة منذ عام 2005 بسبب برنامجها النووي غير السلمي “على حد المزاعم الأمريكية” لا يمكنها أن تقف لتشاهد أعداءها الإقليمين والتاريخيين والعقديين يتمددون في ساحات الصراع بدون أن تحاول التمدد بدورها لتحافظ على سلطتها، لذلك، وفي عزلتها يبدو الخيار الأمثل هنا هو “عقيدة الأطراف”، الخيار الاستراتيجي الأفضل لأقطاب العالم حاليًا.
المصطلح، الذي صاغه وأطلقه ديفيد بن جوريون مهندس الدولة الصهيونية، يقدم لك السبيل الأمثل كـ(دولة) للخروج من فخ حصار قوة مهيمنة أو قوى لك، باستعمال العقيدة فإن الدولة المحاصَرة تستطيع تجاوز الحصار بأن تمد أذرعتها إلى مساحات محيطة بالدولة المحاصِرة أو بعيدة عن سيطرتها الكلية، باختصار (حاصر حصارك).
الجمهورية الإسلامية، إحدى أكبر دول العالم مساحة وصاحبة الموقع الجيوسياسي الفريد، وإحدى مراكز القوى الخمسة العالمية في النفط والغاز الطبيعي، هذه الجمهورية عندما قررت أن تفك حصارها لم يكن هناك أنسب لها من أفريقيا، ساحة الصراع الثانية عالميًّا والمورد الطبيعي الأكبر للكوكب، ويبدو هذا جليًا في ما مضي من سنوات، حيث تمتلك طهران الآن سفارات في أكثر من ثلاثين دولة أفريقية سيكون آخرها المغرب التي ستعيد علاقتها الدبلوماسية قريبًا مع طهران في تطور مفاجئ، وتفتح سفارتها في الرباط بعد القطيعة الشهيرة بينهما في 2009، فضلًا عن أنها عضو مراقب في الاتحاد الأفريقي أكبر منظومة إقليمية؛ حيث يضم 54 دولة.
يوضح الأمر أكثر الرئيس الأوغندي يوفه كاكوته في تصريحه أوائل الشهر الحالي عندما قال: (الجمهورية الإسلامية الإيرانية اعتمدت دومًا سياسة قائمة على حسن النية تجاه أفريقيا، وأنها من أهم أصدقائنا وشركائنا التجاريين).
الأهم، أن إيران تجبر المنافسين على التشتت، وتوسيع دائرة نشاطهم وإنفاق موارد أكبر بكثير لمواجهة طهران في ساحات معركة غير الساحة الأصلية، مما يعني ذلك بالنسبة للدول المعادية أو المنافسة من حياد عن الهدف وتخفيف مدهش لحدة الضغط على طهران.
السؤال الأهم الآن هو: ما الذي تريده إيران تحديدًا في أفريقيا؟ وما الذي تعطيه في المقابل؟
أ – اليورانيوم
مشكلة إيران الكبرى التي تتعارض مع طموحها لتكون دولة عظمى أنها دولة فقيرة باليورانيوم، ومخزونها – القديم- منه بمعدل تسارعها النووي الحالي على وشك النفاذ في الأعوام القادمة (مخزونها حصلت عليه من كيب تاون في 1970)، والولايات المتحدة تضيق الخناق على مصدري اليورانيوم الأساسيين لطهران (أوزباكستان/ كازخستان/ البرازيل)، ومع برنامج طموح يستهدف بناء ستة عشر مفاعلًا نوويًّا في السنوات التالية، ولذلك، تمثل أفريقيا لها كنزًا حقيقيًّا كقارة ترقد على جزء ضخم من الاحتياطي العالمي له، المعدن الأساسي في هذا المجال سواء باستخدامات سلمية أو بتخصيبه لصناعة القنابل النووية، حيث احتياطاته عالية جدًا في جنوب أفريقيا والنيجر ومالاوي وناميبيا وزيمبابوي وأوغندا، وهي الدول التي تتجه إليها إيران وتضعها على أولوية سياساتها الخارجية.
في 2006، كشفت إحدى وثائق (ويكي ليكس) المسربة أن الولايات المتحدة تلقت تقريرًا استخباراتيًّا من سفارتها في دار السلام (عاصمة تنزانيا السابقة) أن يورانيوم الكونغو ربما يمر من تنزانيا عن طريق شركتين سويسريتين للشحن ثم يصل إلى إيران، يفسر هذا بعدها الاهتمام الأمريكي الشديد بتوقيع اتفاقية مع الكونغو الديموقراطية تهدف لمنع الاتجار في المواد النووية بهدف قطع الطريق على طهران، وحينها كان تحاول مجموعة (Areva) عملاق الطاقة الفرنسي أخذ نصيب من الكعكة النووية أيضًا بحسب تسريبات ويكي!
في 2007، تم اكتشاف اليورانيوم في غينيا علي يد الشركة الأسترالية (مورتشيسن يونايتد) وبطبقات سمكها من سبعة أمتار إلى أربعة عشر مترًا وهو سمكٌ ضخم، مما أدى إلى تحولها من دولة هامشية لمحط أنظار الدول النووية، حينها بدأت إيران مباشرة في برنامج للتعاون الاقتصادي مع غينيا ليرتفع هذا التعاون في عام 2010 بنسبة 140%!
بعدها مباشرة، وفي نفس عام وصول برنامج التعاون الاقتصادي مع غينيا لهذا الحد زار أحمدي نجاد هراري (عاصمة زمبابوي) ليعقد اتفاقًا مع روبرت موجابي بموجبه توفر زمبابوي بطاقة خضراء لطهران لتصل إلى يورانيوم خام تقدر كميته بـ 455 ألف طن على مدار خمس سنوات، في صفقة كانت في حينها تحديًا سافرًا وضربة لجهود الأمم المتحدة في عرقلة البرنامج النووي الإيراني.
تستمر تحذيرات بعض الساسة الأمريكيين من أيدي إيران التي تنبسط بثقة وبتمدد ملحوظ على موارد اليورانيوم في بلاد وسط أفريقيا، وهم يرون أن إنفاق الوقت والمال والمجهود على منع الدول الأفريقية من إمداد طهران بالمعدن أفضل بكثير من محاربة البرنامج النووي بفيروسات كمبيوتر لم تدمر إلا 10% أو أكثر بقليل من أجهزة الطرد المركزي الأحد عشر ألفًا التي تزعم وكالات المخابرات الغربية أن إيران تمتلكها.
بـ -اقتصاد موازٍ وقوة ناعمة
علاقات تجارية متبادلة وصلت لأكثر من مليار دولار، الرقم الذي قد لا يبدو ضخمًا هو بشكل ما باب مهم من أبواب الدخول الإيراني لتحقيق أهداف أخرى قد لا تتحقق إلا عن طريق الاستثمار والشراكة التجارية.
يمكن فهم الشبكة من خلال تتبع الدبلوماسية الإيرانية في السنوات الأخيرة، حيث اتجهت لتعاون مفتوح يضمن ترابطًا اقتصاديًّا في القارة بأكثر مما تفعل الولايات المتحدة أو إسرائيل التي تحاول جاهدة إحباط مخططات التوسع تلك، مثلًا منذ 2005 وحتى نهاية مدة أحمدي نجاد منذ أكثر من عام، فإن الرئيس الإيراني الأسبق قام بخمس جولات أفريقية موسعة آخرها كان في 2013؛ حيث قام بزيارة غانا وبنين والنيجر قبل أن تنتهي ولايته.
يبدو الاهتمام الإيراني بأوغندا أوضح، مثلًا، وبعد تاريخ لا بأس به من الدعم الدبلوماسي الأوغندي لبرنامج إيران النووي أمام مجلس الأمن في 2010، ومشاريع اقتصادية ممولة وفي أواخر العام الماضي زار العميد (إسماعيل أحمدي مقدم) قائد الشرطة الإيرانية أوغندا ليوقع بروتوكول تعاون بمقتضاه تقوم إيران بتدريب شامل للشرطة الأوغندية ورفع كفاءة مع بناء مركز طبي للضباط بتكلفة تصل إلى مليون ونصف دولار، بينما في مستهل هذا الشهر غادر (محمد جواد ظريف) وزير الخارجية الإيراني طهران لجولة أفريقية رباعية تشمل بروندي وتنزانيا وأوغندا بالطبع، وبدأها بنيروبي العاصمة الكينية.
أما جنوب أفريقيا فيكفي ذكر التعاون الوثيق بين إيران وبين عملاق الاتصالات هناك (MTN) حيث تسيطر المجموعة الجنوب أفريقية الآن على 45% من سوق الاتصالات في الجمهورية الإسلامية بعد أن أعطتها طهران ترخيص العمل، وهو التعاون الذي روجت Turkcell (عملاق الاتصالات التركي) أنه فقط لتسهيل وصول طهران لبعض من تكنولوجيا الأسلحة الجنوب أفريقية وقاضت (MTN) قبل أن تخسر المجموعة التركية القضية!
وبما أن نجاد هو أول رئيس إيراني يتجه لأفريقيا بهذا الشكل قبل أن يترك منصبه، فإن أحد أهم ما ساعده على توثيق العلاقات وتطويرها واستقباله بحفاوة في كل دولة زارها هو رئاسة إيران لحركة عدم الانحياز، الحركة التي تأسست فعليًّا في عام 1955، وتضم الآن 118 دولة وثماني عشرة دولة كمراقب و10 منظمات، والتي كانت تضم جميع دول أفريقيا قبل انفصال جنوب السودان الذي لم ينضم للحركة حتى الآن.
وتُولي طهران اهتمامًا خاصًا للصومال، حيث من جهة تدعم بشكل غير مباشر حركة الشباب (فرع تنظيم القاعدة هناك)، وهو ما يبدو غريبًا لوهلة لكنه حاجز جيد لمواجهة النفوذ الأمريكي هناك، فضلًا عن أنها لم تنس الحكومة فتعهدت ببناء مرفق طبي إيراني يماثل تطور العيادة الإيرانية الشاملة في أكرا (غانا)، وهو أيضًا يعتبر تحديًا للنفوذ التركي المتنامي في مقديشو.
جــ – قــوة بحريــة وأســلحــة
عندما تريد إيران أن تنقل أسلحة فإنها تفعلها ببساطة تناسب حرية الدولة البحرية، تغادر السفن جنوب الجمهورية الإسلامية نزولًا في بحر العرب وصولًا إلى المحيط الهندي، من هناك يمكنها أن تصل إلى أي شاطئ بطول سواحل أفريقيا الشرقية، يمكنها أن تبحر في البحر الأحمر وصولًا للسودان، ومع النقل البري تصل إلى البحر المتوسط لإكمال الرحلة، عن طريق المهربين بالطبع.
إحدى أقوى مميزات طهران هي حدودها البحرية، فمن الشمال يحدها بحر قزوين أهم منطقة نفطية مستقبلية على سطح الأرض لما يحتويه تحت قاعه من احتياطات نفطية وغاز طبيعي هائلة، ومن الجنوب الغربي نجد الخليج الفارسي ووصول سريع ومضمون لسواحل دول الخليج العربي بالكامل، من الجنوب الشرقي الخليج العماني ثم بحر العرب مما يعطي وصولًا لـ (عمان/ اليمن/ الصومال) وخليج عدن لنصل إلى البحر الأحمر، أو المحيط الهندي بطول ساحل أفريقيا الشرقي أو جزء من الجنوب الغربي الآسيوي!
إيران التي تتمتع بـ 12% من مساحة بحر قزوين تطالب بمد حدودها إلى 20% منه وتدافع عن حقها في ذلك. وفي 2012، أطلقت طهران المدمرة (جامران 2) فضلًا عن إعادة زرع ألغام في مساحة لم تعرف على وجه الدقة من البحر، بينما تشارك روسيا علاقات بحرية وثيقة ضمن علاقتهما التعاونية المعلومة ضد إطار تقوده الولايات المتحدة، فنجدها مثلًا أعطت الحق لسفن البحرية الروسية بالدخول والرسو في قاعدة بندر عباس المهمة استراتيجيًا للتحكم في مضيق هرمز في جنوب إيران، والأهم أن هذا يعطي حرية حركة واسعة النطاق للبحرية الروسية للانتشار السريع الآمن في المحيط الهندي أحد مفاتيح الطرق البحرية العالمية، بينما على الجانب الآخر يتصاعد التعاون بين الصين وطهران، فالصين تستهلك النفط الإيراني باستمرار مقابل تعاون وثيق في مجالات التكنولوجيا العسكرية، حيث تعطي شنغهاي البحرية الإيرانية (IRIN) المعدات العسكرية اللازمة لتقوية ترسانتها على عكس ما يشاع من انحسار دور الأيرين.
تتمدد البحرية الإيرانية في أفريقيا بانتظام، منذ أن بدأت IRIN تشارك في بعثات مكافحة القراصنة في خليج عدن وترسو على سواحل الصومال، فضلًا عن العلاقات الحميمة مع إريتريا التي تدعم تنظيم القاعدة في الصومال (حركة الشباب)، وهي بذلك تحاول التضييق على النفوذ الإسرائيلي المتنامي هناك.
في 2011، عبرت سفينتان حربيتان إيرانيتان قناة السويس وهو الحدث الذي أثار الداخل المصري بعد الثورة، حيث يعتقد أن السفينتين كانتا تحملان أسلحة موردة لنظام بشار الأسد ضمن دعم طهران له ضد الثورة، فضلًا عن علاقتها الحميمة بالسودان، ويذكر في هذا الصدد انفجار أكتوبر 2012 حيث انفجرت منشأة أسلحة كاملة في الخرطوم ليوجه النظام السوداني أصابع الاتهام مباشرة إلى إسرائيل، وبعدها بأيام قليلة جدًا وصلت سفن حربية إيرانية للخرطوم كتداعٍ للحادثة!
منذ أسبوعين قام معهد الدراسات التنموية والدولية العالي بجنيف السويسرية عن طريق المشروع الاستقصائي (مسح الأسلحة الصغيرة) SAS بتتبع أصول ومصادر توريد الأسلحة في أحد أكثر المناطق الملتهبة في العالم وهي حدود دولتي (السودان، وجنوب السودان) في عصر ما بعد التقسيم، حيث تنتشر الميليشيات هناك والاقتتال الأهلي برغبة في السيطرة على منطقة غنية بالنفط كتلك؛ مما تسبب في تهجير نصف مليون سوداني تقريبًا، ووجدت أن جزءًا لا يستهان به من هذه الأسلحة إيرانية الصنع!
تجني إيران ثمرة علاقتها الاستراتيجية المتينة بالخرطوم، من جهة فهي المسئولة – حسب مصادر في الأمم المتحدة أعطت المعلومات لـ SAS- بمفردها عن 13% من واردات الأسلحة للسودان بالكامل من 2001 وحتى 2012، في علاقة نادرة مع حكومة تصنف على أنها سُنية، على الجانب الآخر كما ذكر بالأعلى تسمح الخرطوم للبحرية الإيرانية باستخدام بعض موانيها البحرية، ويمكن كذلك في السياق ذكر دعم طهران للخرطوم بعدد من طائرات الأبابيل الإيرانية بدون طيار للمراقبة، وتم العثور على حطام بعضها على الحدود المشتركة في الدولة المقسمة.
وبعد، على المدى القريب لا يبدو أن إيران تكتفي بدور المشاهد، وإنما تحاول بقدر الإمكان مواجهة النفوذ الإسرائيلي الأمريكي المتنامي في القارة، وأن تفك الحصار، وتحاصر حصارها وتجد لنفسها موطئ قدم في القارة الأغنى طبيعيًّا في العالم.
المصادر
برقيات التجسس.. تقارير تستعرض وثائق سرية حصلت عليها الجزيرة
برقيات التجسس: أنشطة إيران السرية في أفريقيا
برقيات التجسس: أنشطة إيران السرية في أفريقيا
الاختراق الإيراني الناعم لأفريقيا
Mahmoud Ahmadinejad’s African Safari
Iran's Bid for Africa's Uranium
Uranium being smuggled via EA to Iran WikiLeaks
IRANIAN NAVAL AND MARITIME STRATEGY
This map shows how Iranian weaponry is making Sudan one of Africa's most violent hotspots
Gettyimages
=================
إيران في إفريقيا.. القوّة الناعمة والأرض الرّخوة
ذراع طويلة
في صيف 2006، والملف النووي الإيراني يسوده الترقب، فاجأ الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد العالم كله، وأرسل رسالة موعظة مطوّلة، للرئيس الأميركي جورج بوش، أصرّ فيها أن يبدو بثياب المدافع عن العالم والمستضعفين، وقدّم نفسه على أنه معلم يتلقى أسئلة أخلاقيّة من طلابه، وفي فقرة لافتة قال نجاد لبوش: "ألا يحق لسكان أميركا اللاتينية أن يتساءلوا لماذا تتم معارضة حكوماتهم المنتخبة، ويتم دعم الحكومات التي تتسلم الحكم عبر انقلابات عسكرية؟
الرئيس السوداني عمر البشير يتوسط مرشد الثورة الإيرانية علي خامنئي والرئيس أحمدي نجاد
الشعوب الأفريقية المثابرة تستطيع أن تلعب دورا مهما في تلبية حاجات الشعوب الأخرى. والفقر المدقع حال دون تحقيق هذا الهدف السامي، ألا يحق لهؤلاء الشعوب أن تتساءل لماذا يتم نهب مواردها الطبيعية الهائلة التي هي في أمس الحاجة إليها؟”.
لم يكن حديثه عن أفريقيا اعتباطيًا، بل يعكس إدراكه لخارطة التحالفات المفترضة، ورغبته في التمدد والتحدث باسمها.
إفريقيا.. شعب فقير وأرض خصبة
لكل شيء مفارقة معتادة، ومسلّمة مكرورة تقول إنّ القارة السّمراء التي يُنظَر إليها أن تكون سلةً لغذاء العالم، والمورد المحتمل للمواد الخام، لا تجد قوت يومها، ولا تحضر في المحافل الدولية إلّا من باب مناقشة الحدْ من تأثير حروبها الأهلية وإغاثة جائعيها ومساعدة دولها لتجاوز الخلافات الوهميّة التي تعرقل مسيرة العالم، وتخفيف حدة العنف السّياسي، ويُدبِر عنها العالم ولا يحتسبها في عداد أروقة الملفات الرئيسة إلا لمامًا، من دون انتباه لما يمكن أن يتسبب به هذا الجفاء. فتهيّأت إفريقيا لتكون أرضًا خصبة لكل صاحب فكرة متمردة، أو مذهب جديد، أو حتى ديانة وليدة، فالبؤس والفقر يجعل كل قادم (أفضل) بكل تأكيد من مرارة الحاضر بالنّسبة لإفريقيا.
ولكن هذه القارة لم تكن بهذه المأساوية، لدى النظام الإيراني، الذي رأى فيها أرضًا خصبة لنشر النفوذ والايديولوجيا، في ظل انشغال العالم عنها، وانشغال القانون الدولي عنها أيضًا، فصارت أرضًا للعبور، ومكانًا صالحًا لتحقيق أحلام “تصدير الثورة”، ونُصرة المستضعفين، وحائطًا لتعزيز أمن إيران الإقليمي، وتربية مصالح إقليمية، فحضّرت فيها ملعبًا احتياطيًا لصراعاتها، مع الغرب وإسرائيل، ومنافسيها من دول الخليج.
طموحات قديمة.. تتجدد
منذ أن بدأت إيران عهدها الجديد في بداية الثمانينات بعد الثورة الخمينية، أرادت أن تكون ضمن القوى الفاعلة في الخارطة السياسية العالمية، من دون أن تتخلى عن ثورتها التي بدأت أول ما بدأت ثورة للانتصار للعرق الآري، وتربّت على كره “التسمم بالغرب” كما شاع حينها، إلى أن جاء الخميني وأخذ قطافها وألبسها عباءة دينية رسالية، وحاول بعد نجاح تحوير ثورته، تحويل الحالة الإيرانية إلى امتداد لثورات المظلومين، وانتفاضة أيديولوجية عالميّة، فمدت إيران عنقها الطويل لتطل على كل المناطق الميتة، أو المحايدة، لتتجمّع بها وتتقوى، فمن أين تبدأ، غير الأرض الخصبة المهملة!
عدو مشترك.. وغرب فاشل
في حوض النيل ودول البحيرات والقرن الأفريقي استغلت إيران الفشل الأميركي، فأثبتت أمشاجها على نغمة نصرة الاستضعاف، والاهتمام بالحلفاء الجدد اللذين يعاقبهم العالم سواء في السودان أو اريتريا أو موزمبيق، فانبجست بسياسات اقتصادية جاذبة، وحققت الكثير من الفتوحات، واضطرت الدول الأفريقية أحيانًا إلى التنازل في ملفات استراتيجية، حتى أصبح الحديث عن قواعد عسكرية لإيران على البحر الأحمر، حديثًا، يروج بلا خجل، ولا يجد من النفي إلا النفي المذيل بعبارة “وماذا لو كان لها قواعد، أليس من حقها ومن حقنا”، أما إيران فإنها تتاجر بمشاعر العداء لأميركا الذي يميّز المنطقة بعمومها، كما تحاول تطبيق نظرية اقتصادية جديدة، ولا ينافسها أحد.
السودان.. نقطة الانطلاق والانتهاء!
ارتبط الانفتاح الإيراني على أفريقيا بعهد الرئيس رفسنجاني، الذي حطت طائرته في عام 1991 في السّودان، الذي كان يعيش عامه الثاني في ظل نظام إسلامي عسكري إيديولوجي معزول ومحاصر من قبل المجتمع الدول، شكّلت زيارة رفسنجاني حدثًا محوريًا للسودان الإسلامي الجديد، وقد كانت الزيارة حصادًا لأعوام من التواصل مع الإسلاميين السودانيين حتى قبل استيلائهم على الحكم، وتتويجًا لدعم الإيرانيين للحكومة الجديدة في السودان. مثّلت الزيارة نقطة الانطلاق لتوسيع دائرة الاهتمام بالقارة السمراء.
وجد رفسنجاني حفاوة شعبية كبيرة، لشعبٍ يحب الضيوف، ولم يعش حساسية طائفية بين السّنة والشيعة أبدًا لأنه سني بالكامل، وفي خلفيته السطحية ولدى الحاكمين الجدد، لم تكن إيران أكثر من “دولة إسلامية”، وليس لها تصنيف أبعد من ذلك، على عكس ما تجده إيران في الدول التي تشهد انقسامات طائفية، فإن التخوفات تكون كثيرة، لوجود نظرية ولاية الفقيه السّياسيّة الدّينية، التي تهدد الأمن القومي بتعدد ولاء معتنقيها. منذ تلك الزيارة وإيران تستغل “براءة” العقل الإفريقي المسلم السّني، فهو خصب يتلقي الأفكار الجديدة، دون ممانعة.
سارعت إيران بتنشيط أذرعها المباشرة والخفية، مستغلة انتشار الكثير من الموالين لإيران في غرب إفريقيا عبر بعض المنتمين لحزب الله اللبناني والمتوالين معه، فتكررت زيارة رفسنجاني للسودان في عام 1996، ولكنها تمددت حينها إلى جنوب إفريقيا (وكانت صلاتها مع الشيعة فيها قديمة بدليل وجود حركات شيعية) وكينيا وأوغندا وتنزانيا، وزيمبابوي، وكانت تتحرك يومها وفقًا لفلسفة “سياسة البناء” التي بدأها رفسنجاني، وبعده عزز محمد خاتمي في زيارته لإفريقيا، كجنوب أفريقيا والسنغال ونيجيريا والنيجر، أسلوب التواصل الحضاري، بيد أنه كان يطمح بجانب التعزيز الاقتصادي والحوار الحضاري، إلى تأمين دعم دولي لبرنامج التسلح النووي الإيراني، باستغلال الوزن التصويتي للدول الإفريقية (لم ينجح ذلك). في عهد نجاد عادت النزعات الثورية إلى المنطق الإيراني، فبعد إنشاء منظمة تطوير التجارة مع الدول الأفريقية، وتعدد زياراته للقارة في 2010 و2009، لزيمبابوي وكينيا ونيجيريا والنيجر، وموروتانيا، جامعًا الايديولوجيا والاقتصاد معًا، وعمل على تنويع أدوات حضوره معتمدًا بالإضافة إلى “القوة الناعمة” على وسائل جديدة، كما استطاعت توظيف شبكة من التفاعلات غير الرسمية لخدمة مصالحها، حيث أصبح العديد من مواطنيها ومن حلفائها، خاصة “حزب الله” اللبناني، يعملون في مختلف أنحاء القارة الأفريقية. (السياسة الخارجية الإيرانية في أفريقيا، شريف شعبان مبروك، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، 2012).
دعم الحوثيين عبر اريتريا.. وقواعد في البحر الأحمر
الحديث عن العلاقات الإيرانية الإريترية تصاعد بعد التقارير التي تحدثت عن وصول سفينة محملة بالأسلحة الإيرانية إلى المتمردين الحوثيين في شمال اليمن عبر إريتريا، ورددت وسائل إعلام إسرائيلية عن وجود قاعدة عسكرية إيرانية بحرية بالقرب من ميناء عصب الإريتري (نقولا ناصر، المركز الإرتري للإعلام 2009). جدير بالذِكر أنّ إيران تعتبر وجود إسرائيل في أيّة مكان مبررًا لمد نفوذها إليه.
سودانيون يودعون بارجة إيرانية بعد زيارة للسودان في نطاق التعاون الإيراني السوداني
وكان تقرير صادر عن “ستراتفور” نصّ على أنّ “إيران تنقل أسلحة عبر طريق يبدأ من ميناء عصب الإريتري، ويمر شرقًا حول الطرف الجنوبي من بحر العرب في خليج عدن إلى مدينة شقراء التي تقع على ساحل جنوب اليمن، ومن هناك تتحرك الأسلحة برًا إلى شمال مدينة مأرب شرقي اليمن، وبعدها إلى محافظة صعدة على الحدود السعودية – اليمنية”. (إيران القوات المنتشرة في ارتريا، ستراتفور، ديسمبر(كانون الأول) 2008)، وفي أكتوبر (تشرين الأول) 2009، قال تقرير آخر “إيران تنقل مؤنًا للحوثيين”، وصدر تقرير في 29 أكتوبر 2012، بعنوان “شرق أفريقيا ميدان للصراع بين إيران وإسرائيل” حول عواقب الصراع الإسرائيلي الإيراني في اريتريا، وتحدّث عن اختيار إريتريا توثيق صلاتها بإيران، لأن إسرائيل مرتبطة بشكل أوثق بأثيوييا والحلف الأميركي، الذي لا يريد النظام الاريتري الحالي.
الإريتريون وعبر مراكز مراكز البحوث ـ أيضًا – قالوا إنّ العلاقات مع إيران عادية، على الرغم من القروض التي طلبها الرئيس الأريتري أسياس أفورقي (كانت اريتريا حصلت على قرض 25 مليون يورو من إيران في 2008)، فإنّها لا تتفوق على العلاقات الإيرانية الأثيوبية والسّودانية، بل تقل عنهما بكثير، ويرفض الإريتريون ما قالته التقارير الأميركية، عن وجود دائم لإيران في ميناء عصب، مقابل تأهيل مصفاة النفط الإريترية.(مركز إريتريا للدراسات الإستراتيجية، “ECSS”).
يقول الباحث المصري حسام سويلم: “المحللون في أجهزة الاستخبارات الغربية، توصلوا إلى خلاصة مفادها أن الوجود العسكري الإيراني الكثيف في أريتريا، يشير إلى مخطط إيراني لا يستهدف فقط اختراق اريتريا والقرن الأفريقي، بل أيضاً نقل الحرب من مضيق هرمز والخليج العربي إلى خليج عدن وباب المندب، وهو الممر الاستراتيجي المهم والحيوي لناقلات النفط إلى الدول المستوردة للطاقة في أوروبا والولايات المتحدة، وبذلك وسعّت إيران تهديداتها إلى خارج منطقة الخليج”. ويواصل “ويرتبط ذلك بما أعلنه قائد الحرس الثوري – الجنرال على جعفري – عن إقامة قواعد بحرية إضافية في بحر عمان، وهي تدخل أيضاً في إطار استمرار الاستعدادات الإيرانية لمواجهة عسكرية متوقعة، في ضوء تطورات صراعها مع المجتمع الدولى بسبب الملف النووي الإيراني، كما أن التسلل الإيراني إلى القرن الأفريقي، يعني في ذات الوقت أن طهران تهدف إلى توسيع دائرة الحرب، والتسلل مجدداً إلى هذه المنطقة التى تشهد حشوداً عسكرية مثيرة للشبهات تحت ذريعة محاربة القرصنة، واحتمالات متوقعة لحدوث انفجار جديد وكبير للأوضاع في الصومال ينعكس على سائر دول القرن الأفريقي”. (حسام سويلم، الأهرام الإستراتيجي ـ يناير 2010).
الإستراتيجية الإيرانية في شرق إفريقيا
مركز المعلومات حول الاستخبارات والإرهاب الأميركي، خلص في تقرير أصدره في 2010 إلى أن استراتيجية إيران في شرق أفريقيا والدول القريبة من البحر الأحمر تهدف إلى “ترسيخ نفوذها السياسي كجزء من المحور المعادي للغرب، الذي تسعى إلى إنشائه في دول العالم الثالث، وتعويض مصالحها الاقتصادية التي تفقدها في أوروبا وأميركا وآسيا، تنشيط المراكز الثقافية التي تنشر الفكر الشيعي، وتعزيز نفوذها، تأسيس وجود إيراني مادي على الأرض وفي البحر، قريبة من الميادين التنافسية ذات طابع المواجهة لإيران في الشرق الأوسط، والتي قد تستخدم لتهريب الأسلحة والعمليات الإرهابية).
ممانعة خجولة.. تنتظر العرب
كثيرون بدأوا في التنبه إلى الخطر الإيديولوجي للوجود الإيراني في الدول الإفريقية، فالنيجيريون يرفضون تدخل إيران ودعمها للإسلاميين والتشيع في الميدان السياسي النيجيري، وفي السودان بدأت حملات كبرى للتحذير من التشيع السياسي، ودعوات واضحة من الأحزاب السّياسية التقليدية، وأحزاب جديدة دخلت في حكومة البشير تدعو لفك الارتباط بالمحور الإيراني، والسّعي لتأمين العمق العربي، خاصة بعد أن انتقلت المعركة بين إيران وإسرائيل إلى العاصمة السودانية، إذ قامت الأخيرة بقصف مصنع للأسلحة الإيرانية في السودان، وضرب قافلات تهريب الأسلحة المارة عبر السودان وسيناء إلى غزة.
قبل الختام.. ضمور الثروة
يقول الباحثون إن طموح إيران، مفهوم، وتمددها له أهدافه، ولكن الغريب، هو ضمور العرب، وإهمال الملف الإفريقي، بعد رحيل القذافي، وتشتت مصر المنكفئة على جراحها وهي توشك على العطش بفعل السدود التي تقام على مجرى النيل، فهل تنجح إيران في الاستيلاء على البحر الأحمر، وتطوّق بذلك النفط العربي؟ وتواصل مدّها لسلطانها في غرب افريقيا، لتستحدث قنوات إنقاذ مالية، مستغلة ضعف مكافحة غسيل الأموال في تلك المواطن؟ أم يتنبه العرب، ويدخلون في المعادلة، الإيرانية الإسرائيلية الأميركية؟
كما أن ولاية الفقيه، كانت نظرية دينية سخّرت لبسط سلطة على الدنيا والسياسة، فإن نصرة المستضعفين كانت نظرية أخلاقية سخّرت لبسط النفوذ، فبدلاً من التسمم بالغرب يقترح الثوريون التسمم بالفرس، كل هذا يضخ الايديولوجية الدينية باسم ولاية الفقيه لتمنح إيران نفوذًا سياسيًا، ولكن بعد عقود من الثورة، يبدو مستقبل هذه النظرية في أفول، على الأقل على المستوى الديني، فيقول محسن كديور”أعتقد أننا نقترب من نهاية مرحلة ولاية الفقيه في إيران، وإن كان هناك أي مستقبل لولي فقيه، فسيكون من طهران وليس من قم، لأن إدارة المجتمع تحتاج إلى المعرفة السياسية أكثر من المعرفة الفقهية”” (الشرق الأوسط، 16 مارس/آذار 2007).
الضخّ الديني الذي كان يمنح إيران هالة ثورية، في ضمور، خاصة بعد الحرب السورية، وبعد القمع الداخلي، فهل سيتحرّك العرب الآن وفقًا لسياسة المصالح للدخول في الميدان؟
===============
WhatsApp
حمدي عبد الرحمن
خبير في الشؤون الأفريقية
القوى الناعمة الإيرانية
البحث عن اليورانيوم
البحث عن قواعد وحلفاء
التبشير بالنموذج الإيراني
يلاحظ المتابع لأدبيات الفكر الإستراتيجي الإيراني منذ بداية العقد الماضي وجود رؤية واضحة حول أولوية أفريقيا في أجندة السياسة الخارجية الإيرانية. فقد اتسع نطاق العلاقات الإيرانية الأفريقية بشكل كبير منذ بداية الألفية الجديدة. وعلى سبيل المثال تمتلك إيران سفارات في أكثر من 30 دولة أفريقية. وفي منتصف 2010 عقدت القمة الأفريقية الإيرانية في طهران بمشاركة ممثلين عن 40 دولة أفريقية بينهم رؤساء ووزراء ودبلوماسيون ورجال أعمال.
أضف إلى ذلك أن إيران باتت تتمتع بصفة العضو المراقب في الاتحاد الأفريقي. وما فتئت القيادة الإيرانية على مستوى الرئاسة وكبار المسؤولين تزور العواصم الأفريقية بشكل دوري. ولعل الزيارة الأخيرة التي قام بها الرئيس أحمدي نجاد في منتصف أبريل/نيسان 2013 إلى كل من غانا وبنين والنيجر تعكس هذه الهجمة الإيرانية الناعمة على أفريقيا.
ومن اللافت للانتباه أن قراءة الملف الإيراني الأفريقي تعكس تبانيا واضحا في الرؤى والتوجهات. فثمة نفر من الكتاب يقف بشكل تبسيطي، وإن كان فيه قدر من الصحة عند حدود التبشير ونشر المذهب الشيعي.
وهناك من يقف عند حدود الأمني والعسكري، ويتحدث عن مخاطر الوجود الإيراني بالنسبة لتنامي النزعات الراديكالية المناوئة للغرب في أفريقيا. ولا شك أن هناك أبعادا ودلالات أخرى كثيرة تفسر لنا حقيقة التدافع الإيراني الكبير نحو أفريقيا، وهو ما نحاول أن نبينه في هذا المقال.
القوى الناعمة الإيرانية
لعل أحد الأهداف الإستراتيجية الكبرى لإيران في أفريقيا يتمثل في محاولة كسر حاجز العزلة الغربية المفروضة على إيران بسبب برنامجها النووي، إذ ترى إيران في القارة الأفريقية ساحة سهلة المنال من أجل كسب التأثير والنفوذ. ولا يخفى في هذا المجال القوة التصويتية لأفريقيا في المحافل والمنظمات الدولية، مثل الأمم المتحدة ومجلس محافظي الهيئة الدولية للطاقة النووية ومجموعة دول عدم الانحياز ومنظمة التعاون الإسلامي.
"تعمد إيران إلى كسب عقول وقلوب الأفارقة من خلال المساعدة في بناء مشروعات البنية التحتية للطاقة ومصافي النفط ومحطات توليد الكهرباء وحتى تقديم خبرتها التكنولوجية قي مجال الاستخدام السلمي للطاقة النووية"
فالصوت الأفريقي إن لم يكن مساندا لإيران فهو على الأقل في كثير من الأحيان ليس معاديا لها، حيث تميل بعض الدول الأفريقية إلى الامتناع عن التصويت عند مناقشة الملف الإيراني.
إن التهديد بفرض مزيد من العقوبات النفطية على إيران قد دفعها لتنويع صادراتها النفطية لتشمل الاقتصاديات النامية في أفريقيا. وتعمد إيران، كما هو الحال في أميركا اللاتينية، إلى كسب عقول وقلوب الأفارقة من خلال المساعدة في بناء مشروعات البنية التحتية للطاقة وتجديد مصافي النفط وبناء محطات توليد الكهرباء وحتى تقديم خبرتها التكنولوجية قي مجال الاستخدام السلمي للطاقة النووية.
وعلى صعيد التبادل التجاري أبدت إيران استعدادا لشراء الكاكاو من غانا، كما قامت بإنشاء مصنع لإنتاج سيارات الأجرة في السنغال. ومن الملاحظ أن صادرات السيارات الإيرانية لكل من السودان والسنغال قد أسهمت بشكل كبير في إحداث رواج لسوق السيارات في الداخل الإيراني.
وفي المجال الثقافي تحاول إيران طرح نفسها بديلا للعقلية الاستعمارية الجديدة وللنوايا الإمبريالية الغربية في أفريقيا. لقد أشارت افتتاحية إحدى الصحف اليومية الأكثر شعبية في هراري عاصمة زيمبابوي إلى هذا المعنى بقولها "إن إيران هي الأقرب لنا وهي تقترب منا كل يوم بدرجة أكبر".
"ونحن لا نتحدث هنا عن مستوى العلاقات الثنائية، على أهميتها، ولكننا نشير إلى المصير الحتمي الذي يربط إيران ببقية دول العالم ونحن منهم. إن إيران دولة معادية للإمبريالية ونحن كذلك".
البحث عن اليورانيوم
على أن من الأهداف الكبرى للتحرك الإيراني الدؤوب في أفريقيا الذي جسدته زيارات أحمدي نجاد الخمس لأفريقيا منذ وصوله للسلطة عام 2005 يتمثل في الحصول على اليورانيوم. ولعل ذلك يفسر لنا سر السعي الإيراني نحو تدعيم علاقاتها مع الدول المنتجة لهذا المعدن، مثل زيمبابوي والنيجر وناميبيا.
ومن المعلوم أن إيران تخطط لبناء 16 مفاعلا نوويا لإنتاج الطاقة واستخدامها لأغراض مدنية. وإذا تمكنت الحكومة الإيرانية بالفعل من استكمال هذا البرنامج النووي فإن هذا يعني نضوب إنتاجها المحلي من اليورانيوم في غضون عشرة أعوام. ولعل ذلك المتغير هو الذي يجعل علاقة إيران بالدول الأفريقية المنتجة لليورانيوم ذات طبيعة إستراتيجية كبرى.
ولا يخفي أن احتياطات اليورانيوم توجد في كثير من الدول الأفريقية الأخرى، مثل توغو وغينيا وأفريقيا الوسطى والكونغو الديمقراطية وأوغندة وزيمبابوي. وتسعى إيران لدعم علاقاتها مع كثير من هذه البلدان.
ويعطي تطور العلاقات الإيرانية مع غينيا في غرب أفريقيا مؤشرا واضحا حول أهمية متغير اليورانيوم في السياسة الخارجية الإيرانية. فمنذ اكتشاف اليورانيوم في غينيا عام 2007 توطدت علاقات طهران بها، حتى إن التبادل التجاري بين البلدين في العام 2010 قد زاد بنسبة 140%.
البحث عن قواعد وحلفاء
لقد حاولت إيران، ولا سيما في ظل قيادة أحمدي نجاد، تحقيق اختراق كبير لدول أميركا اللاتينية وأفريقيا بهدف خلق قواعد وتحالفات إقليمية معادية للولايات المتحدة والغرب عموما. وقد ساعدت دول مثل فنزويلا في ظل قيادة الراحل هوغو شافيز على تحقيق هذا الهدف الإيراني.
"من الأهداف الكبرى للتحرك الإيراني الدؤوب في أفريقيا الحصول على اليورانيوم, وهو ما يفسر المنحى الإستراتيجي في الاختراق الإيراني لأفريقيا"
ففي العام 2007 قام الرئيس أحمدي نجاد بجولة في بلدان أميركا اللاتينية، كما أنه عقد في طهران في نفس العام مؤتمر دولي حول أميركا اللاتينية. ومن الواضح أن السودان يطرح البديل الأفريقي لفنزويلا بالنسبة لإيران، حيث إن الخرطوم تمثل نقطة انطلاق مهمة للسياسة الإيرانية في أفريقيا.
وتشكل منطقة شرق أفريقيا إحدى المحطات الإستراتيجية المهمة لإيران في مواجهتها للقوى الغربية، ففي أعقاب زيارة الرئيس الإريتري أسياسي أفورقي لطهران في ديسمبر/كانون الأول 2008 تردد أن إيران حصلت على تسهيلات في ميناء عصب على البحر الأحمر، وهو ما يعطيها نقطة ارتكاز تمكنها من القيام بمهام جهادية وقتالية ضد القوى الغربية إذ ما قررت الأخيرة تدمير قدرات إيران النووية. ولعل سعي إيران لتطوير علاقاتها مع دول شرق أفريقيا الأخرى مثل كينيا وتنزانيا وجزر القمر يؤكد هذا المنحى الإستراتيجي في الاختراق الإيراني لأفريقيا.
ومن المثير أن إيران لا تتردد في استخدام قوتها غير الناعمة وما تملك من قدرات عسكرية من أجل بناء التحالفات والقواعد في أفريقيا، فقد أشار تقرير مهم صدر نهاية العام 2012 عن منظمة "بحث تسليح الصراع البريطانية إلى توزيع الأسلحة الإيرانية في أفريقيا. وتشمل هذه الأسلحة راجمات الصواريخ وقذائف الهاون والألغام الأرضية، وهي أسلحة أنتجت منذ العام 2002. ولعل السودان يمثل أبرز الأمثلة الأفريقية على عمق التعاون العسكري بينها وبين إيران حيث يشمل هذا التعاون تصدير أنواع من الأسلحة والذخائر والمعدات الإيرانية للسودان.
التبشير بالنموذج الإيراني
لقد استلهمت بعض الحركات والجماعات الإسلامية في أفريقيا في خطابها الإسلامي تجربة الثورة الإيرانية، وذلك في مسعاها لتغيير واقع الجمود والتخلف الذي أصاب المجتمعات المسلمة الأفريقية في مرحلة ما بعد رحيل الاستعمار. ولا يخفى أن حركية النموذج الإيراني وليس ما ينطوي عليه من اجتهادات وقناعات فقهية كانت هي الأكثر تأثيرا على الواقع الأفريقي في بعض رؤاه الإصلاحية.
بيد أن الإستراتيجية الإيرانية الجديدة في أفريقيا قد وظفت هذا التأثير السياسي من أجل تطويره ليأخذ طابعا دينيا مذهبيا، وهو ما يدخل في إطار نشر المذهب الشيعي بين الجماعات المسلمة في أفريقيا.
ولعل أبرز مثال في هذا السياق هو تجربة الحركة الإسلامية في نيجيريا أو "إخوان نيجيريا" بزعامة الشيخ إبراهيم الزكزاكي الذي قام بزيارة مدينة قم الإيرانية وتلقى تمويلا إيرانيا ليحول جماعته بعد ذلك إلى جماعة جهادية تحارب الحكومة العلمانية وتسعى إلى تطبيق الشريعة الإسلامية وفقا للنموذج الإيراني.
وتنتشر جماعة الزكزاكي في ولايات الشمال ولا سيما في كانو وكادونا وزاريا. وتعتمد هذه الجماعة في تجنيد أعضائها على خريجي بعض جامعات الشمال النيجيري المسلم مثل جامعة أحمدو بللو وعثمان دان فوديو. وأحسب أن الرؤية الإيرانية ترمي إلى خلق قواعد محلية موالية لإيران باعتبار مرجعية حوزتها الدينية من أجل الضغط على الحكومات الوطنية والعمل في مواجهة المصالح الغربية في أفريقيا.
"الاختراق الإيراني لأفريقيا الذي يرمي إلى الخروج من إسار العزلة الغربية المفروضة على إيران بسبب برنامجها النووي يستبطن تحقيق أهداف أخرى "
على أن تجربة المد الشيعي لم تعتمد فقط على نيجيريا وإنما شملت دولا أخرى مثل السنغال التي شهدت بناء حوزة علمية بجوار جامعة دكار، وهي تمنح الطالب شهادة تعادل الثانوية، كما أن هناك المركز الثقافي الإيراني في مالي. ومن الملاحظ أن الجاليات الشيعية اللبنانية تسهم بدور كبير في نشر التشيع بين الأفارقة، كما هو الحال بالنسبة لساحل العاج.
وعليه يمكن القول إن الاختراق الإيراني لأفريقيا الذي يعتمد على دوافع سياسية واقتصادية معلنة ترمي إلى الخروج من إسار العزلة الغربية المفروضة على إيران بسبب برنامجها النووي يستبطن تحقيق أهداف أخرى قد تبدو غير واضحة.
فالإستراتيجية الإيرانية لها أياد غير ناعمة كذلك، حيث إنها تتورط في تصدير الأسلحة لمناطق الصراعات الأفريقية بغية تحقيق مصالح سياسية وإستراتيجية. ولا تقتصر الحركة الإيرانية على ما هو سياسي واقتصادي وعسكري فقط في أفريقيا، ولكنها تقوم على رافعة مذهبية وثقافية كي تستطيع من خلالها تثبيت الأقدام بعد كسب نفوس وقلوب الأفارقة.
وهذا هو بيت القصيد في الاختراق الإيراني الجديد لأفريقيا الذي يرتدي عباءة المصالح المتبادلة والوقوف في مواجهة قوى الإمبريالية والاستكبار العالمي.
===================
عن التوغل الإيراني في أفريقيا!
أضف هذا المقال إلى المفضلة
إحذف هذا المقال من المفضلة
شارك بتعليق على هذا المقال
هيثم قطب
7
هيثم قطب
7
1,222منذ سنة واحدة، 27 فبراير,2015
في ساحة المعركة ليس لزامًا على الطرفين المتصارعين القتال وجهًا لوجه، وليس لزامًا أن تكون الساحة واحدة، بل يمكن إدارة الصراع بوسائل عنكبوتية التعقيد في ساحات بعيدة كل البعد عن الساحة الأصلية للقتال.
يوم الإثنين الماضي أعلنت وحدة الصحافة الاستقصائية في شبكة الجزيرة الفضائية عن امتلاكها لمئات الوثائق الاستخباراتية عالية السرية من العديد من أجهزة المخابرات وشبكات التجسس في العالم، الوثائق – التي تسربت للجزيرة وتنشرها بالتعاون مع الجارديان البريطانية- هي عبارة عن تحليلات تفصيلية وتقارير معلوماتية كتبها عملاء تابعين لجهاز أمن الدولة (SSI) في جنوب أفريقيا، التحليلات والبرقيات عبارة عن مراسلات سرية ثنائية وواسعة النطاق بين جنوب أفريقيا وبين المخابرات المركزية الأمريكية CIA والمخابرات البريطانية MI6 ومخابرات رئاسة الوزراء الإسرائيلية (الموساد) والمخابرات الروسية FSI والإيرانية وأجهزة أخرى على امتداد العالم وصولًا إلى كوريا الشمالية وملفات رصد كاملة لبعض أنشطة عدد كبير من دول العالم فيما يخص ثلاثية (الهيمنة الاقتصادية/ المعلوماتية/ صناعة السلاح).
إحدى أول التسريبات التي أعلنتها الجزيرة – في فيديو قصير لم يتعد الأربع دقائق- كانت عن مراقبة عملاء الـ SSI الجنوب أفريقيين للسفارة الإيرانية والعاملين فيها، وإعدادهم لملف سري عن إيران وقدراتها الاستخباراتية من مائة وثمانٍ وعشرين صفحة كاملة، الملف ركز بشكل كامل على رصد أنشطة إيران الأفريقية، وكيفية استخدامها لأنشطة اقتصادية وتجارية كغطاء فعال لنشاطها المخابراتي في جنوب أفريقيا تحديدًا!
كان هذا مثيرًا للاهتمام؛ مما دفعنا لتقصي الطريق للوصول لتصور فعال عن دور إيران في أفريقيا، واستراتيجيتها، وما الذي تحاول فعله بالضبط في القارة التي يتصارع على مواردها العالم بأكمله.
حاصر حصارك
لنرجع مرة أخرى إلى عقيدة الأطراف لتوضيح أصل اتجاه إيران لأفريقيا، فطهران التي تعزلها الولايات المتحدة منذ عام 2005 بسبب برنامجها النووي غير السلمي “على حد المزاعم الأمريكية” لا يمكنها أن تقف لتشاهد أعداءها الإقليمين والتاريخيين والعقديين يتمددون في ساحات الصراع بدون أن تحاول التمدد بدورها لتحافظ على سلطتها، لذلك، وفي عزلتها يبدو الخيار الأمثل هنا هو “عقيدة الأطراف”، الخيار الاستراتيجي الأفضل لأقطاب العالم حاليًا.
المصطلح، الذي صاغه وأطلقه ديفيد بن جوريون مهندس الدولة الصهيونية، يقدم لك السبيل الأمثل كـ(دولة) للخروج من فخ حصار قوة مهيمنة أو قوى لك، باستعمال العقيدة فإن الدولة المحاصَرة تستطيع تجاوز الحصار بأن تمد أذرعتها إلى مساحات محيطة بالدولة المحاصِرة أو بعيدة عن سيطرتها الكلية، باختصار (حاصر حصارك).
الجمهورية الإسلامية، إحدى أكبر دول العالم مساحة وصاحبة الموقع الجيوسياسي الفريد، وإحدى مراكز القوى الخمسة العالمية في النفط والغاز الطبيعي، هذه الجمهورية عندما قررت أن تفك حصارها لم يكن هناك أنسب لها من أفريقيا، ساحة الصراع الثانية عالميًّا والمورد الطبيعي الأكبر للكوكب، ويبدو هذا جليًا في ما مضي من سنوات، حيث تمتلك طهران الآن سفارات في أكثر من ثلاثين دولة أفريقية سيكون آخرها المغرب التي ستعيد علاقتها الدبلوماسية قريبًا مع طهران في تطور مفاجئ، وتفتح سفارتها في الرباط بعد القطيعة الشهيرة بينهما في 2009، فضلًا عن أنها عضو مراقب في الاتحاد الأفريقي أكبر منظومة إقليمية؛ حيث يضم 54 دولة.
يوضح الأمر أكثر الرئيس الأوغندي يوفه كاكوته في تصريحه أوائل الشهر الحالي عندما قال: (الجمهورية الإسلامية الإيرانية اعتمدت دومًا سياسة قائمة على حسن النية تجاه أفريقيا، وأنها من أهم أصدقائنا وشركائنا التجاريين).
الأهم، أن إيران تجبر المنافسين على التشتت، وتوسيع دائرة نشاطهم وإنفاق موارد أكبر بكثير لمواجهة طهران في ساحات معركة غير الساحة الأصلية، مما يعني ذلك بالنسبة للدول المعادية أو المنافسة من حياد عن الهدف وتخفيف مدهش لحدة الضغط على طهران.
السؤال الأهم الآن هو: ما الذي تريده إيران تحديدًا في أفريقيا؟ وما الذي تعطيه في المقابل؟
أ – اليورانيوم
مشكلة إيران الكبرى التي تتعارض مع طموحها لتكون دولة عظمى أنها دولة فقيرة باليورانيوم، ومخزونها – القديم- منه بمعدل تسارعها النووي الحالي على وشك النفاذ في الأعوام القادمة (مخزونها حصلت عليه من كيب تاون في 1970)، والولايات المتحدة تضيق الخناق على مصدري اليورانيوم الأساسيين لطهران (أوزباكستان/ كازخستان/ البرازيل)، ومع برنامج طموح يستهدف بناء ستة عشر مفاعلًا نوويًّا في السنوات التالية، ولذلك، تمثل أفريقيا لها كنزًا حقيقيًّا كقارة ترقد على جزء ضخم من الاحتياطي العالمي له، المعدن الأساسي في هذا المجال سواء باستخدامات سلمية أو بتخصيبه لصناعة القنابل النووية، حيث احتياطاته عالية جدًا في جنوب أفريقيا والنيجر ومالاوي وناميبيا وزيمبابوي وأوغندا، وهي الدول التي تتجه إليها إيران وتضعها على أولوية سياساتها الخارجية.
في 2006، كشفت إحدى وثائق (ويكي ليكس) المسربة أن الولايات المتحدة تلقت تقريرًا استخباراتيًّا من سفارتها في دار السلام (عاصمة تنزانيا السابقة) أن يورانيوم الكونغو ربما يمر من تنزانيا عن طريق شركتين سويسريتين للشحن ثم يصل إلى إيران، يفسر هذا بعدها الاهتمام الأمريكي الشديد بتوقيع اتفاقية مع الكونغو الديموقراطية تهدف لمنع الاتجار في المواد النووية بهدف قطع الطريق على طهران، وحينها كان تحاول مجموعة (Areva) عملاق الطاقة الفرنسي أخذ نصيب من الكعكة النووية أيضًا بحسب تسريبات ويكي!
في 2007، تم اكتشاف اليورانيوم في غينيا علي يد الشركة الأسترالية (مورتشيسن يونايتد) وبطبقات سمكها من سبعة أمتار إلى أربعة عشر مترًا وهو سمكٌ ضخم، مما أدى إلى تحولها من دولة هامشية لمحط أنظار الدول النووية، حينها بدأت إيران مباشرة في برنامج للتعاون الاقتصادي مع غينيا ليرتفع هذا التعاون في عام 2010 بنسبة 140%!
بعدها مباشرة، وفي نفس عام وصول برنامج التعاون الاقتصادي مع غينيا لهذا الحد زار أحمدي نجاد هراري (عاصمة زمبابوي) ليعقد اتفاقًا مع روبرت موجابي بموجبه توفر زمبابوي بطاقة خضراء لطهران لتصل إلى يورانيوم خام تقدر كميته بـ 455 ألف طن على مدار خمس سنوات، في صفقة كانت في حينها تحديًا سافرًا وضربة لجهود الأمم المتحدة في عرقلة البرنامج النووي الإيراني.
تستمر تحذيرات بعض الساسة الأمريكيين من أيدي إيران التي تنبسط بثقة وبتمدد ملحوظ على موارد اليورانيوم في بلاد وسط أفريقيا، وهم يرون أن إنفاق الوقت والمال والمجهود على منع الدول الأفريقية من إمداد طهران بالمعدن أفضل بكثير من محاربة البرنامج النووي بفيروسات كمبيوتر لم تدمر إلا 10% أو أكثر بقليل من أجهزة الطرد المركزي الأحد عشر ألفًا التي تزعم وكالات المخابرات الغربية أن إيران تمتلكها.
بـ -اقتصاد موازٍ وقوة ناعمة
علاقات تجارية متبادلة وصلت لأكثر من مليار دولار، الرقم الذي قد لا يبدو ضخمًا هو بشكل ما باب مهم من أبواب الدخول الإيراني لتحقيق أهداف أخرى قد لا تتحقق إلا عن طريق الاستثمار والشراكة التجارية.
يمكن فهم الشبكة من خلال تتبع الدبلوماسية الإيرانية في السنوات الأخيرة، حيث اتجهت لتعاون مفتوح يضمن ترابطًا اقتصاديًّا في القارة بأكثر مما تفعل الولايات المتحدة أو إسرائيل التي تحاول جاهدة إحباط مخططات التوسع تلك، مثلًا منذ 2005 وحتى نهاية مدة أحمدي نجاد منذ أكثر من عام، فإن الرئيس الإيراني الأسبق قام بخمس جولات أفريقية موسعة آخرها كان في 2013؛ حيث قام بزيارة غانا وبنين والنيجر قبل أن تنتهي ولايته.
يبدو الاهتمام الإيراني بأوغندا أوضح، مثلًا، وبعد تاريخ لا بأس به من الدعم الدبلوماسي الأوغندي لبرنامج إيران النووي أمام مجلس الأمن في 2010، ومشاريع اقتصادية ممولة وفي أواخر العام الماضي زار العميد (إسماعيل أحمدي مقدم) قائد الشرطة الإيرانية أوغندا ليوقع بروتوكول تعاون بمقتضاه تقوم إيران بتدريب شامل للشرطة الأوغندية ورفع كفاءة مع بناء مركز طبي للضباط بتكلفة تصل إلى مليون ونصف دولار، بينما في مستهل هذا الشهر غادر (محمد جواد ظريف) وزير الخارجية الإيراني طهران لجولة أفريقية رباعية تشمل بروندي وتنزانيا وأوغندا بالطبع، وبدأها بنيروبي العاصمة الكينية.
أما جنوب أفريقيا فيكفي ذكر التعاون الوثيق بين إيران وبين عملاق الاتصالات هناك (MTN) حيث تسيطر المجموعة الجنوب أفريقية الآن على 45% من سوق الاتصالات في الجمهورية الإسلامية بعد أن أعطتها طهران ترخيص العمل، وهو التعاون الذي روجت Turkcell (عملاق الاتصالات التركي) أنه فقط لتسهيل وصول طهران لبعض من تكنولوجيا الأسلحة الجنوب أفريقية وقاضت (MTN) قبل أن تخسر المجموعة التركية القضية!
وبما أن نجاد هو أول رئيس إيراني يتجه لأفريقيا بهذا الشكل قبل أن يترك منصبه، فإن أحد أهم ما ساعده على توثيق العلاقات وتطويرها واستقباله بحفاوة في كل دولة زارها هو رئاسة إيران لحركة عدم الانحياز، الحركة التي تأسست فعليًّا في عام 1955، وتضم الآن 118 دولة وثماني عشرة دولة كمراقب و10 منظمات، والتي كانت تضم جميع دول أفريقيا قبل انفصال جنوب السودان الذي لم ينضم للحركة حتى الآن.
وتُولي طهران اهتمامًا خاصًا للصومال، حيث من جهة تدعم بشكل غير مباشر حركة الشباب (فرع تنظيم القاعدة هناك)، وهو ما يبدو غريبًا لوهلة لكنه حاجز جيد لمواجهة النفوذ الأمريكي هناك، فضلًا عن أنها لم تنس الحكومة فتعهدت ببناء مرفق طبي إيراني يماثل تطور العيادة الإيرانية الشاملة في أكرا (غانا)، وهو أيضًا يعتبر تحديًا للنفوذ التركي المتنامي في مقديشو.
جــ – قــوة بحريــة وأســلحــة
عندما تريد إيران أن تنقل أسلحة فإنها تفعلها ببساطة تناسب حرية الدولة البحرية، تغادر السفن جنوب الجمهورية الإسلامية نزولًا في بحر العرب وصولًا إلى المحيط الهندي، من هناك يمكنها أن تصل إلى أي شاطئ بطول سواحل أفريقيا الشرقية، يمكنها أن تبحر في البحر الأحمر وصولًا للسودان، ومع النقل البري تصل إلى البحر المتوسط لإكمال الرحلة، عن طريق المهربين بالطبع.
إحدى أقوى مميزات طهران هي حدودها البحرية، فمن الشمال يحدها بحر قزوين أهم منطقة نفطية مستقبلية على سطح الأرض لما يحتويه تحت قاعه من احتياطات نفطية وغاز طبيعي هائلة، ومن الجنوب الغربي نجد الخليج الفارسي ووصول سريع ومضمون لسواحل دول الخليج العربي بالكامل، من الجنوب الشرقي الخليج العماني ثم بحر العرب مما يعطي وصولًا لـ (عمان/ اليمن/ الصومال) وخليج عدن لنصل إلى البحر الأحمر، أو المحيط الهندي بطول ساحل أفريقيا الشرقي أو جزء من الجنوب الغربي الآسيوي!
إيران التي تتمتع بـ 12% من مساحة بحر قزوين تطالب بمد حدودها إلى 20% منه وتدافع عن حقها في ذلك. وفي 2012، أطلقت طهران المدمرة (جامران 2) فضلًا عن إعادة زرع ألغام في مساحة لم تعرف على وجه الدقة من البحر، بينما تشارك روسيا علاقات بحرية وثيقة ضمن علاقتهما التعاونية المعلومة ضد إطار تقوده الولايات المتحدة، فنجدها مثلًا أعطت الحق لسفن البحرية الروسية بالدخول والرسو في قاعدة بندر عباس المهمة استراتيجيًا للتحكم في مضيق هرمز في جنوب إيران، والأهم أن هذا يعطي حرية حركة واسعة النطاق للبحرية الروسية للانتشار السريع الآمن في المحيط الهندي أحد مفاتيح الطرق البحرية العالمية، بينما على الجانب الآخر يتصاعد التعاون بين الصين وطهران، فالصين تستهلك النفط الإيراني باستمرار مقابل تعاون وثيق في مجالات التكنولوجيا العسكرية، حيث تعطي شنغهاي البحرية الإيرانية (IRIN) المعدات العسكرية اللازمة لتقوية ترسانتها على عكس ما يشاع من انحسار دور الأيرين.
تتمدد البحرية الإيرانية في أفريقيا بانتظام، منذ أن بدأت IRIN تشارك في بعثات مكافحة القراصنة في خليج عدن وترسو على سواحل الصومال، فضلًا عن العلاقات الحميمة مع إريتريا التي تدعم تنظيم القاعدة في الصومال (حركة الشباب)، وهي بذلك تحاول التضييق على النفوذ الإسرائيلي المتنامي هناك.
في 2011، عبرت سفينتان حربيتان إيرانيتان قناة السويس وهو الحدث الذي أثار الداخل المصري بعد الثورة، حيث يعتقد أن السفينتين كانتا تحملان أسلحة موردة لنظام بشار الأسد ضمن دعم طهران له ضد الثورة، فضلًا عن علاقتها الحميمة بالسودان، ويذكر في هذا الصدد انفجار أكتوبر 2012 حيث انفجرت منشأة أسلحة كاملة في الخرطوم ليوجه النظام السوداني أصابع الاتهام مباشرة إلى إسرائيل، وبعدها بأيام قليلة جدًا وصلت سفن حربية إيرانية للخرطوم كتداعٍ للحادثة!
منذ أسبوعين قام معهد الدراسات التنموية والدولية العالي بجنيف السويسرية عن طريق المشروع الاستقصائي (مسح الأسلحة الصغيرة) SAS بتتبع أصول ومصادر توريد الأسلحة في أحد أكثر المناطق الملتهبة في العالم وهي حدود دولتي (السودان، وجنوب السودان) في عصر ما بعد التقسيم، حيث تنتشر الميليشيات هناك والاقتتال الأهلي برغبة في السيطرة على منطقة غنية بالنفط كتلك؛ مما تسبب في تهجير نصف مليون سوداني تقريبًا، ووجدت أن جزءًا لا يستهان به من هذه الأسلحة إيرانية الصنع!
تجني إيران ثمرة علاقتها الاستراتيجية المتينة بالخرطوم، من جهة فهي المسئولة – حسب مصادر في الأمم المتحدة أعطت المعلومات لـ SAS- بمفردها عن 13% من واردات الأسلحة للسودان بالكامل من 2001 وحتى 2012، في علاقة نادرة مع حكومة تصنف على أنها سُنية، على الجانب الآخر كما ذكر بالأعلى تسمح الخرطوم للبحرية الإيرانية باستخدام بعض موانيها البحرية، ويمكن كذلك في السياق ذكر دعم طهران للخرطوم بعدد من طائرات الأبابيل الإيرانية بدون طيار للمراقبة، وتم العثور على حطام بعضها على الحدود المشتركة في الدولة المقسمة.
وبعد، على المدى القريب لا يبدو أن إيران تكتفي بدور المشاهد، وإنما تحاول بقدر الإمكان مواجهة النفوذ الإسرائيلي الأمريكي المتنامي في القارة، وأن تفك الحصار، وتحاصر حصارها وتجد لنفسها موطئ قدم في القارة الأغنى طبيعيًّا في العالم.
المصادر
برقيات التجسس.. تقارير تستعرض وثائق سرية حصلت عليها الجزيرة
برقيات التجسس: أنشطة إيران السرية في أفريقيا
برقيات التجسس: أنشطة إيران السرية في أفريقيا
الاختراق الإيراني الناعم لأفريقيا
Mahmoud Ahmadinejad’s African Safari
Iran's Bid for Africa's Uranium
Uranium being smuggled via EA to Iran WikiLeaks
IRANIAN NAVAL AND MARITIME STRATEGY
This map shows how Iranian weaponry is making Sudan one of Africa's most violent hotspots
Gettyimages
=================
إيران في إفريقيا.. القوّة الناعمة والأرض الرّخوة
ذراع طويلة
في صيف 2006، والملف النووي الإيراني يسوده الترقب، فاجأ الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد العالم كله، وأرسل رسالة موعظة مطوّلة، للرئيس الأميركي جورج بوش، أصرّ فيها أن يبدو بثياب المدافع عن العالم والمستضعفين، وقدّم نفسه على أنه معلم يتلقى أسئلة أخلاقيّة من طلابه، وفي فقرة لافتة قال نجاد لبوش: "ألا يحق لسكان أميركا اللاتينية أن يتساءلوا لماذا تتم معارضة حكوماتهم المنتخبة، ويتم دعم الحكومات التي تتسلم الحكم عبر انقلابات عسكرية؟
الرئيس السوداني عمر البشير يتوسط مرشد الثورة الإيرانية علي خامنئي والرئيس أحمدي نجاد
الشعوب الأفريقية المثابرة تستطيع أن تلعب دورا مهما في تلبية حاجات الشعوب الأخرى. والفقر المدقع حال دون تحقيق هذا الهدف السامي، ألا يحق لهؤلاء الشعوب أن تتساءل لماذا يتم نهب مواردها الطبيعية الهائلة التي هي في أمس الحاجة إليها؟”.
لم يكن حديثه عن أفريقيا اعتباطيًا، بل يعكس إدراكه لخارطة التحالفات المفترضة، ورغبته في التمدد والتحدث باسمها.
إفريقيا.. شعب فقير وأرض خصبة
لكل شيء مفارقة معتادة، ومسلّمة مكرورة تقول إنّ القارة السّمراء التي يُنظَر إليها أن تكون سلةً لغذاء العالم، والمورد المحتمل للمواد الخام، لا تجد قوت يومها، ولا تحضر في المحافل الدولية إلّا من باب مناقشة الحدْ من تأثير حروبها الأهلية وإغاثة جائعيها ومساعدة دولها لتجاوز الخلافات الوهميّة التي تعرقل مسيرة العالم، وتخفيف حدة العنف السّياسي، ويُدبِر عنها العالم ولا يحتسبها في عداد أروقة الملفات الرئيسة إلا لمامًا، من دون انتباه لما يمكن أن يتسبب به هذا الجفاء. فتهيّأت إفريقيا لتكون أرضًا خصبة لكل صاحب فكرة متمردة، أو مذهب جديد، أو حتى ديانة وليدة، فالبؤس والفقر يجعل كل قادم (أفضل) بكل تأكيد من مرارة الحاضر بالنّسبة لإفريقيا.
ولكن هذه القارة لم تكن بهذه المأساوية، لدى النظام الإيراني، الذي رأى فيها أرضًا خصبة لنشر النفوذ والايديولوجيا، في ظل انشغال العالم عنها، وانشغال القانون الدولي عنها أيضًا، فصارت أرضًا للعبور، ومكانًا صالحًا لتحقيق أحلام “تصدير الثورة”، ونُصرة المستضعفين، وحائطًا لتعزيز أمن إيران الإقليمي، وتربية مصالح إقليمية، فحضّرت فيها ملعبًا احتياطيًا لصراعاتها، مع الغرب وإسرائيل، ومنافسيها من دول الخليج.
طموحات قديمة.. تتجدد
منذ أن بدأت إيران عهدها الجديد في بداية الثمانينات بعد الثورة الخمينية، أرادت أن تكون ضمن القوى الفاعلة في الخارطة السياسية العالمية، من دون أن تتخلى عن ثورتها التي بدأت أول ما بدأت ثورة للانتصار للعرق الآري، وتربّت على كره “التسمم بالغرب” كما شاع حينها، إلى أن جاء الخميني وأخذ قطافها وألبسها عباءة دينية رسالية، وحاول بعد نجاح تحوير ثورته، تحويل الحالة الإيرانية إلى امتداد لثورات المظلومين، وانتفاضة أيديولوجية عالميّة، فمدت إيران عنقها الطويل لتطل على كل المناطق الميتة، أو المحايدة، لتتجمّع بها وتتقوى، فمن أين تبدأ، غير الأرض الخصبة المهملة!
عدو مشترك.. وغرب فاشل
في حوض النيل ودول البحيرات والقرن الأفريقي استغلت إيران الفشل الأميركي، فأثبتت أمشاجها على نغمة نصرة الاستضعاف، والاهتمام بالحلفاء الجدد اللذين يعاقبهم العالم سواء في السودان أو اريتريا أو موزمبيق، فانبجست بسياسات اقتصادية جاذبة، وحققت الكثير من الفتوحات، واضطرت الدول الأفريقية أحيانًا إلى التنازل في ملفات استراتيجية، حتى أصبح الحديث عن قواعد عسكرية لإيران على البحر الأحمر، حديثًا، يروج بلا خجل، ولا يجد من النفي إلا النفي المذيل بعبارة “وماذا لو كان لها قواعد، أليس من حقها ومن حقنا”، أما إيران فإنها تتاجر بمشاعر العداء لأميركا الذي يميّز المنطقة بعمومها، كما تحاول تطبيق نظرية اقتصادية جديدة، ولا ينافسها أحد.
السودان.. نقطة الانطلاق والانتهاء!
ارتبط الانفتاح الإيراني على أفريقيا بعهد الرئيس رفسنجاني، الذي حطت طائرته في عام 1991 في السّودان، الذي كان يعيش عامه الثاني في ظل نظام إسلامي عسكري إيديولوجي معزول ومحاصر من قبل المجتمع الدول، شكّلت زيارة رفسنجاني حدثًا محوريًا للسودان الإسلامي الجديد، وقد كانت الزيارة حصادًا لأعوام من التواصل مع الإسلاميين السودانيين حتى قبل استيلائهم على الحكم، وتتويجًا لدعم الإيرانيين للحكومة الجديدة في السودان. مثّلت الزيارة نقطة الانطلاق لتوسيع دائرة الاهتمام بالقارة السمراء.
وجد رفسنجاني حفاوة شعبية كبيرة، لشعبٍ يحب الضيوف، ولم يعش حساسية طائفية بين السّنة والشيعة أبدًا لأنه سني بالكامل، وفي خلفيته السطحية ولدى الحاكمين الجدد، لم تكن إيران أكثر من “دولة إسلامية”، وليس لها تصنيف أبعد من ذلك، على عكس ما تجده إيران في الدول التي تشهد انقسامات طائفية، فإن التخوفات تكون كثيرة، لوجود نظرية ولاية الفقيه السّياسيّة الدّينية، التي تهدد الأمن القومي بتعدد ولاء معتنقيها. منذ تلك الزيارة وإيران تستغل “براءة” العقل الإفريقي المسلم السّني، فهو خصب يتلقي الأفكار الجديدة، دون ممانعة.
سارعت إيران بتنشيط أذرعها المباشرة والخفية، مستغلة انتشار الكثير من الموالين لإيران في غرب إفريقيا عبر بعض المنتمين لحزب الله اللبناني والمتوالين معه، فتكررت زيارة رفسنجاني للسودان في عام 1996، ولكنها تمددت حينها إلى جنوب إفريقيا (وكانت صلاتها مع الشيعة فيها قديمة بدليل وجود حركات شيعية) وكينيا وأوغندا وتنزانيا، وزيمبابوي، وكانت تتحرك يومها وفقًا لفلسفة “سياسة البناء” التي بدأها رفسنجاني، وبعده عزز محمد خاتمي في زيارته لإفريقيا، كجنوب أفريقيا والسنغال ونيجيريا والنيجر، أسلوب التواصل الحضاري، بيد أنه كان يطمح بجانب التعزيز الاقتصادي والحوار الحضاري، إلى تأمين دعم دولي لبرنامج التسلح النووي الإيراني، باستغلال الوزن التصويتي للدول الإفريقية (لم ينجح ذلك). في عهد نجاد عادت النزعات الثورية إلى المنطق الإيراني، فبعد إنشاء منظمة تطوير التجارة مع الدول الأفريقية، وتعدد زياراته للقارة في 2010 و2009، لزيمبابوي وكينيا ونيجيريا والنيجر، وموروتانيا، جامعًا الايديولوجيا والاقتصاد معًا، وعمل على تنويع أدوات حضوره معتمدًا بالإضافة إلى “القوة الناعمة” على وسائل جديدة، كما استطاعت توظيف شبكة من التفاعلات غير الرسمية لخدمة مصالحها، حيث أصبح العديد من مواطنيها ومن حلفائها، خاصة “حزب الله” اللبناني، يعملون في مختلف أنحاء القارة الأفريقية. (السياسة الخارجية الإيرانية في أفريقيا، شريف شعبان مبروك، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، 2012).
دعم الحوثيين عبر اريتريا.. وقواعد في البحر الأحمر
الحديث عن العلاقات الإيرانية الإريترية تصاعد بعد التقارير التي تحدثت عن وصول سفينة محملة بالأسلحة الإيرانية إلى المتمردين الحوثيين في شمال اليمن عبر إريتريا، ورددت وسائل إعلام إسرائيلية عن وجود قاعدة عسكرية إيرانية بحرية بالقرب من ميناء عصب الإريتري (نقولا ناصر، المركز الإرتري للإعلام 2009). جدير بالذِكر أنّ إيران تعتبر وجود إسرائيل في أيّة مكان مبررًا لمد نفوذها إليه.
سودانيون يودعون بارجة إيرانية بعد زيارة للسودان في نطاق التعاون الإيراني السوداني
وكان تقرير صادر عن “ستراتفور” نصّ على أنّ “إيران تنقل أسلحة عبر طريق يبدأ من ميناء عصب الإريتري، ويمر شرقًا حول الطرف الجنوبي من بحر العرب في خليج عدن إلى مدينة شقراء التي تقع على ساحل جنوب اليمن، ومن هناك تتحرك الأسلحة برًا إلى شمال مدينة مأرب شرقي اليمن، وبعدها إلى محافظة صعدة على الحدود السعودية – اليمنية”. (إيران القوات المنتشرة في ارتريا، ستراتفور، ديسمبر(كانون الأول) 2008)، وفي أكتوبر (تشرين الأول) 2009، قال تقرير آخر “إيران تنقل مؤنًا للحوثيين”، وصدر تقرير في 29 أكتوبر 2012، بعنوان “شرق أفريقيا ميدان للصراع بين إيران وإسرائيل” حول عواقب الصراع الإسرائيلي الإيراني في اريتريا، وتحدّث عن اختيار إريتريا توثيق صلاتها بإيران، لأن إسرائيل مرتبطة بشكل أوثق بأثيوييا والحلف الأميركي، الذي لا يريد النظام الاريتري الحالي.
الإريتريون وعبر مراكز مراكز البحوث ـ أيضًا – قالوا إنّ العلاقات مع إيران عادية، على الرغم من القروض التي طلبها الرئيس الأريتري أسياس أفورقي (كانت اريتريا حصلت على قرض 25 مليون يورو من إيران في 2008)، فإنّها لا تتفوق على العلاقات الإيرانية الأثيوبية والسّودانية، بل تقل عنهما بكثير، ويرفض الإريتريون ما قالته التقارير الأميركية، عن وجود دائم لإيران في ميناء عصب، مقابل تأهيل مصفاة النفط الإريترية.(مركز إريتريا للدراسات الإستراتيجية، “ECSS”).
يقول الباحث المصري حسام سويلم: “المحللون في أجهزة الاستخبارات الغربية، توصلوا إلى خلاصة مفادها أن الوجود العسكري الإيراني الكثيف في أريتريا، يشير إلى مخطط إيراني لا يستهدف فقط اختراق اريتريا والقرن الأفريقي، بل أيضاً نقل الحرب من مضيق هرمز والخليج العربي إلى خليج عدن وباب المندب، وهو الممر الاستراتيجي المهم والحيوي لناقلات النفط إلى الدول المستوردة للطاقة في أوروبا والولايات المتحدة، وبذلك وسعّت إيران تهديداتها إلى خارج منطقة الخليج”. ويواصل “ويرتبط ذلك بما أعلنه قائد الحرس الثوري – الجنرال على جعفري – عن إقامة قواعد بحرية إضافية في بحر عمان، وهي تدخل أيضاً في إطار استمرار الاستعدادات الإيرانية لمواجهة عسكرية متوقعة، في ضوء تطورات صراعها مع المجتمع الدولى بسبب الملف النووي الإيراني، كما أن التسلل الإيراني إلى القرن الأفريقي، يعني في ذات الوقت أن طهران تهدف إلى توسيع دائرة الحرب، والتسلل مجدداً إلى هذه المنطقة التى تشهد حشوداً عسكرية مثيرة للشبهات تحت ذريعة محاربة القرصنة، واحتمالات متوقعة لحدوث انفجار جديد وكبير للأوضاع في الصومال ينعكس على سائر دول القرن الأفريقي”. (حسام سويلم، الأهرام الإستراتيجي ـ يناير 2010).
الإستراتيجية الإيرانية في شرق إفريقيا
مركز المعلومات حول الاستخبارات والإرهاب الأميركي، خلص في تقرير أصدره في 2010 إلى أن استراتيجية إيران في شرق أفريقيا والدول القريبة من البحر الأحمر تهدف إلى “ترسيخ نفوذها السياسي كجزء من المحور المعادي للغرب، الذي تسعى إلى إنشائه في دول العالم الثالث، وتعويض مصالحها الاقتصادية التي تفقدها في أوروبا وأميركا وآسيا، تنشيط المراكز الثقافية التي تنشر الفكر الشيعي، وتعزيز نفوذها، تأسيس وجود إيراني مادي على الأرض وفي البحر، قريبة من الميادين التنافسية ذات طابع المواجهة لإيران في الشرق الأوسط، والتي قد تستخدم لتهريب الأسلحة والعمليات الإرهابية).
ممانعة خجولة.. تنتظر العرب
كثيرون بدأوا في التنبه إلى الخطر الإيديولوجي للوجود الإيراني في الدول الإفريقية، فالنيجيريون يرفضون تدخل إيران ودعمها للإسلاميين والتشيع في الميدان السياسي النيجيري، وفي السودان بدأت حملات كبرى للتحذير من التشيع السياسي، ودعوات واضحة من الأحزاب السّياسية التقليدية، وأحزاب جديدة دخلت في حكومة البشير تدعو لفك الارتباط بالمحور الإيراني، والسّعي لتأمين العمق العربي، خاصة بعد أن انتقلت المعركة بين إيران وإسرائيل إلى العاصمة السودانية، إذ قامت الأخيرة بقصف مصنع للأسلحة الإيرانية في السودان، وضرب قافلات تهريب الأسلحة المارة عبر السودان وسيناء إلى غزة.
قبل الختام.. ضمور الثروة
يقول الباحثون إن طموح إيران، مفهوم، وتمددها له أهدافه، ولكن الغريب، هو ضمور العرب، وإهمال الملف الإفريقي، بعد رحيل القذافي، وتشتت مصر المنكفئة على جراحها وهي توشك على العطش بفعل السدود التي تقام على مجرى النيل، فهل تنجح إيران في الاستيلاء على البحر الأحمر، وتطوّق بذلك النفط العربي؟ وتواصل مدّها لسلطانها في غرب افريقيا، لتستحدث قنوات إنقاذ مالية، مستغلة ضعف مكافحة غسيل الأموال في تلك المواطن؟ أم يتنبه العرب، ويدخلون في المعادلة، الإيرانية الإسرائيلية الأميركية؟
كما أن ولاية الفقيه، كانت نظرية دينية سخّرت لبسط سلطة على الدنيا والسياسة، فإن نصرة المستضعفين كانت نظرية أخلاقية سخّرت لبسط النفوذ، فبدلاً من التسمم بالغرب يقترح الثوريون التسمم بالفرس، كل هذا يضخ الايديولوجية الدينية باسم ولاية الفقيه لتمنح إيران نفوذًا سياسيًا، ولكن بعد عقود من الثورة، يبدو مستقبل هذه النظرية في أفول، على الأقل على المستوى الديني، فيقول محسن كديور”أعتقد أننا نقترب من نهاية مرحلة ولاية الفقيه في إيران، وإن كان هناك أي مستقبل لولي فقيه، فسيكون من طهران وليس من قم، لأن إدارة المجتمع تحتاج إلى المعرفة السياسية أكثر من المعرفة الفقهية”” (الشرق الأوسط، 16 مارس/آذار 2007).
الضخّ الديني الذي كان يمنح إيران هالة ثورية، في ضمور، خاصة بعد الحرب السورية، وبعد القمع الداخلي، فهل سيتحرّك العرب الآن وفقًا لسياسة المصالح للدخول في الميدان؟
===============
عمر البشير الترابي
باحث وكاتب سوداني
=============
عوامل التوجه الإيراني صوب إفريقيا:
هناك العديد من العوامل التي تقف وراء التوجه الإيراني صوب القارة السمراء، التي تمثل فضاء واسعًا يضم أربعة وخمسين دولة، تجسد في مجموعها ثقلا تصويتيًّا لا يُستهان به في المحافل الدولية، وعلى رأسها الجمعية العامة للأمم المتحدة، التي تحل فيها إفريقيا في المرتبة الثانية بعد الكتلة الآسيوية، بالإضافة إلى حركة عدم الانحياز، ومجموعة السبع والسبعين، ومنظمة التعاون الإسلامي، ومجموعة الدول النامية الثمانية "-D"، والوكالة الدولية للطاقة الذرية.
1- العوامل السياسية والأمنية:
تسعى إيران إلى خلق بيئة مواتية في القارة، داعمة لأيديولوجيتها، ومتقبلة لمبادئ سياستها الخارجية، بما يمنحها الفرصة لإيجاد موطئ قدم بين القوى الدولية والإقليمية المتنافسة في القارة، خاصة الولايات المتحدة وإسرائيل. وهنا تعتقد إيران أن تاريخها ومقدراتها القومية تسوغان لها الحصول على مكانة مرموقة في إفريقيا. وهو أمر بات ضروريًّا بعد أن ضاقت الدوائر عليها، باحتدام الصراع في سوريا، والمشكلات التي ألمّت بحزب الله وحركة حماس، بما يؤشر إلى تراجع نفوذهما الإقليمي.
وتحرص طهران على حشد التأييد الإفريقي لبرنامجها النووي، وهو ما يُفسر إعلان استعدادها لتقديم خبراتها التقنية في هذا المجال إلى بعض الدول الإفريقية، خاصةً جنوب إفريقيا ونيجيريا، وربما مصر في حال تحسنت العلاقات معها.
كما تتمسك إيران بخلق بيئة أمنية مواتية تضمن سلامتها الإقليمية ومصالحها الاقتصادية، خاصةً أنها تملك مشروعًا إقليميًّا تُواجهه مشروعات أخرى منافسة، وهو ما يفسر تمركز القطع البحرية الإيرانية في خليج عدن، في سياق محاربة ظاهرة اختطاف السفن، ومحاولاتها الدؤوبة النفاذ إلى دائرة البحر الأحمر، بجانبية الآسيوي (اليمن)، والإفريقي (إريتريا وجيبوتي).
2- العوامل الاقتصادية:
تبدو أهميةُ هذه العوامل بالقياس إلى الفرص الواعدة المتاحة للاستثمار الإيراني في القارة، والحجم الكبير للسوق الإفريقية، التي تتجاوز المليار نسمة، بمساحتها التي تربو على 30 مليون كم مربع، وهو ما يمثل فرصة سانحة أمام المنتجات الإيرانية، خاصة النفط، الذي ارتفعت قيمة صادراته لإفريقيا من 1.3 مليار دولار عام 2003 إلى 3.6 مليارات دولار عام 2012. كما تعد القارة مصدرًا وفيرًا للثروات المعدنية والطبيعية؛ حيث إنها تزخر بـ3% من احتياطي الثروات المعدنية في العالم. وهنا تبدو الأهمية الفائقة لخام اليورانيوم الذي تنتج القارة نحو 20% من إنتاجه العالمي.
3- العامل الديني:
يُعد العامل الديني على درجة كبيرة من الأهمية بالنسبة لإيران التي تنصب نفسها حاميةً للشيعة في العالم، لذا فهي تحرص على مد النفوذ الشيعي في القارة الإفريقية، استغلالا لظروف الفقر، واستثمارًا لوجود جيوب شيعية في بعض دولها، خاصة في كينيا، وتنزانيا، وجزر القمر، ونيجيريا، والسنغال، وساحل العاج.
وعلى ذلك، سعت إيران إلى النفاذ إلى القارة الإفريقية، بأقاليمها الجغرافية الخمسة، وإن كانت قد منحت الأولوية للشرق الإفريقي والبحر الأحمر، نظرًا لقربه من الخليج العربي الذي يقع في صلب استراتيجيتها الإقليمية، ويمنحها فرصًا للضغط على دول الخليج، خاصة السعودية، بالإضافة إلى عبور الصادرات الإيرانية البحرين الأحمر والمتوسط، مرورًا بقناة السويس.
أدوات السياسة الخارجية الإيرانية:
لم تتردد طهران في توظيف كافة أدوات سياستها الخارجية بغية صيانة وتعظيم مصالحها في القارة، وتتمثل تلك الأدوات في:
1- الأدوات السياسية:
تسعى إيران إلى إقامة واستعادة التمثيل الدبلوماسي والزيارات المتبادلة مع الدول الإفريقية، والمشاركة في الأطر التنظيمية الإقليمية والدولية القائمة، وصياغة أطر مؤسسية خاصة لتنظيم علاقاتها مع الدول الإفريقية؛ إذ ترتبط طهران بعلاقات دبلوماسية مع نحو ثلاثين دولة إفريقية، كما يتراوح مستوى التمثيل بين درجة السفارة إلى مكاتب رعاية المصالح، وذلك بحسب مقتضيات الحال، ومراعاة للاعتبارات الخاصة ببعض الدول الإفريقية التي تتمسك بموازنة علاقاتها مع إيران بعلاقاتها الدولية الأخرى.
كما يحرص الرؤساء الإيرانيون على زيارة الدول الإفريقية بشكل دوري، خلال جولات مطولة، تشمل العديد من الدول جملة واحدة، وبوفود كبيرة، تضم مختلف التخصصات والخبرات والخلفيات المهنية. وهنا تجدر الإشارة إلى جولة الرئيس خاتمي في يناير 2005، التي شملت سبع دول إفريقية، والتي تلتها جولات عديدة مهمة ومتقاربة زمنيًّا للرئيس نجاد. وفي المقابل استقبلت العاصمة الإيرانية الكثير من الرؤساء والمسئولين الأفارقة، سواء للمشاركة في المؤتمرات الدولية، وآخرها قمة دول عدم الانحياز، أو في إطار زيارات ثنائية.
كما تهتم إيران بالمشاركة الفاعلة في الأطر التنظيمية الدولية والإقليمية القائمة، والتي تضم في عضويتها دولا إفريقية. وهنا تحظى منظمة التعاون الإسلامي بأهمية واضحة، ذلك لاعتبارين، أولهما: أنها تمنح إيران منبرًا تبدو فيه في هيئة المدافع العالمي عن الإسلام. أما الآخر فهو أن القارة الإفريقية هي أكبر قارة من حيث نسبة المسلمين إلى إجمالي عدد السكان (52%). كما تحرص إيران أيضًا على المشاركة في القمم الدورية للاتحاد الإفريقي، وقد ازداد هذا التوجه بحصول إيران على وضعية العضو المراقب في الاتحاد الإفريقي.
من جهةٍ أخرى، تسعى إيران إلى تطوير أطر مؤسسية خاصة تُنظِّم علاقاتها بالقارة السمراء. وقد مهّدت لذلك بذكاء عبر باب الثقافة، بتنظيم مؤتمر العلاقات الثقافية الحضارية الإيرانية الإفريقية في أبريل 2001، في محاولة لخلق أرضية مشتركة للتفاهم مع الأفارقة، ثم استضافة منتدى التعاون الإيراني الإفريقي في مارس 2003، بغية الترويج لإنشاء تكتل وسوق تجارية بين الدول الإفريقية والآسيوية تكون إيران طرفًا فيه، وصولا إلى استضافة القمة الإفريقية الإيرانية في طهران في أبريل 2010، بهدف التنسيق السياسي الشامل مع الأفارقة.
2- الأدوات الاقتصادية:
ومن أهمها توقيع اتفاقات التجارة، وإقامة المعارض التجارية، وضخ الاستثمارات في الدول الإفريقية، واللجان المشتركة المعنية بتنسيق السياسات الاقتصادية، والمساعدات التنموية. وهنا تجدر الإشارة إلى تركيز إيران في تجارتها على بعض الدول، مثل جنوب إفريقيا، التي أمدتها بمخزونها من اليورانيوم في عقد السبعينيات من القرن الماضي، والتي تُعد حاليًّا الشريك التجاري الأول لإيران في القارة. بالإضافة إلى النيجر، التي تملك وحدها سادس أكبر احتياطات العالم من اليورانيوم، وتستأثر بـ46.5% من إنتاجه إفريقيًّا، وكينيا التي تُعتبر من أهم مستوردي النفط الإيراني، والتي وقَّعت في يوليو 2012 صفقة لشراء أربعة ملايين طن من النفط الخام الإيراني سنويًّا، وكذا السودان والسنغال وجامبيا وموريتانيا.
وبالنسبة للاستثمارات الإيرانية، فهي تركز على أمرين، أولهما: فتح آفاق جديدة أمام الصناعة والتكنولوجيا الإيرانية، خاصة في مجالات البتروكيماويات "مشروع زيادة إنتاج النفط من ميناء مومباسا الكيني"، وإنتاج السيارات والآلات والأجهزة الكهربائية. وهنا تبرز شركة "خودرو" لتصنيع السيارات. وثانيهما: التركيز على قطاع البنية الأساسية، ومنها شبكة الطرق في السودان، ومشروع جسر جاو على نهر النيجر.
وفيما يتعلق بلجان تنسيق السياسات الاقتصادية، فأهمها اللجنة العليا المشتركة بين إيران وجنوب إفريقيا، ولجنة التنسيق بين إيران ونيجيريا فيما يتعلق بإنتاج وتصدير وتسعير النفط، والتي وصفها الرئيس محمد خاتمي بأنها تمثل "نموذجًا يجب أن يحتذيه الآخرون".
أما المساعدات التنموية، فأهمها دعم عمليات إعادة الإعمار، مثلما هو الحال في سيراليون والصومال، وتقديم المساعدات في مجالات التعليم إلى السنغال ومالي، وتطوير الخدمات الصحية، ومنها استكمال بناء مستشفى في العاصمة الموريتانية نواكشوط كانت تُبنى بتمويل من الحكومة الإسرائيلية، وهو أمر بالغ الدلالة على الجانب الموريتاني رسميًّا وشعبيًّا.
3- الأدوات العسكرية:
يأتي في مقدمتها صادرات السلاح والذخيرة وقطع الغيار، وتقديم خدمات التدريب العسكري. وبالطبع يغلب الطابع السري على استخدام هذه الأدوات، نظرًا لما يثيره ذلك من حساسيات، خاصة بالنسبة لدول الخليج العربي. وتعتبر السودان من أهم الدول التي استفادت في مرحلة معينة من هذا الجانب.
4- الأدوات الثقافية:
وهي تتضمن إقامة المراكز الثقافية، والمكتبات العامة، والمشاركة في معارض الكتب، وتقديم المنح الدراسية للطلاب الأفارقة في إيران، خاصة في جامعة الإمام الخميني، وإصدار المطبوعات باللغة العربية "جريدة الوفاق" وباللغات المحلية الإفريقية أيضًا، بهدف خلق التعاطف مع الدولة الإيرانية، ونشر المذهب الشيعي بشكل غير مباشر. وهنا تستفيد إيران من وجود الجاليات الشيعية في إفريقيا، خاصةً الجالية اللبنانية، التي تتمتع بروابط اقتصادية قوية في العديد من دول القارة، ومنها ساحل العاج.
الخطاب السياسي الإيراني في إفريقيا:
طرحت إيران خطابًا سياسيًّا له جاذبيته لدى الأفارقة الذين عانوا طويلا من ويلات الاستعمار والعنصرية يقوم على ثلاثة محاور هي:
1- التعاون المشترك القائم على تعزيز المصالح المتبادلة والندية، مع التركيز على القضايا وثيقة الصلة بالحياة اليومية للأفارقة وبمستقبلهم، مثل قضايا التنمية ومحاربة الفقر.
2- المواجهة مع الغرب، وتقديم نفسها كنموذج مناهض للقوى الغربية. وهنا دأبت إيران على تأكيد تضامنها مع القارة الإفريقية، ومساندتها لحقها في النهضة والتقدم، بما يتسق مع مواردها الهائلة، ومثال ذلك إبراز الدور الأوروبي في تجارة الرقيق في إفريقيا، وتأكيد موقف طهران الرافض لسياسة الاحتلال واستغلال الشعوب، وإعلان مساندتها لسياسة حكومة زيمبابوي في انتزاع ملكية الأراضي التي يُهيمن عليها البيض، والتضامن مع السودان في مواجهة العقوبات الأمريكية، والمحكمة الجنائية الدولية.
3- تقديم إيران للأفارقة باعتبارها نموذجًا تنمويًّا يقوم على رؤية إسلامية مستنيرة للتحديث، ويسعى بشكل دؤوب لتحقيق التنمية بالاعتماد على المقدرات القومية الذاتية، والشباب الأكفاء، مؤكدةً ضرورة احتذاء الدول الإفريقية للنموذج التنموي الإيراني.
ويلاحظ أن هذا الخطاب يتسق مع مبادئ الدستور الإيراني التي تنص على حماية المستضعفين في الأرض. كما يتوافق مع رغبة إيران في خلق ما يُسمى "العولمة البديلة" في مواجهة القوى المهيمنة على النظام العالمي الجديد "قوى الاستكبار العالمي". وفي هذا السياق، أكد الرئيس نجاد عام 2009 أن دولا مثل إيران والبرازيل وفنزويلا وبوليفيا وجامبيا والسنغال لديها القدرة على إنشاء نظام عالمي جديد.
المكاسب الإيرانية:
ساهم التأثير التعاضدي للخطاب السياسي الإيراني والتوظيف المتكامل لأدوات السياسة الخارجية، في تحقيق العديد من المكاسب، أبرزها مساعدة إيران على الخروج من فكاك العزلة الدولية والإقليمية، وضمان تصويت الأفارقة لصالحها في العديد من الملفات، أو على الأقل امتناعهم عن التصويت، خاصةً بالنسبة لمسائل حقوق الإنسان والملف النووي، بالإضافة إلى زيادة حجم التجارة والاستثمارات الإيرانية في القارة.
وعلى سبيل المثال، تحفظت جميع دول غرب إفريقيا -عدا ليبيريا وتوجو- على قرار الأمم المتحدة بشأن انتهاك السلطات الإيرانية لحقوق الإنسان خلال الانتخابات الرئاسية لعام 2009. كما صدرت تصريحات عديدة تؤكد تأييد الأفارقة لامتلاك إيران تكنولوجيا نووية للأغراض السلمية. كما رفض معظم ممثلي القارة في الوكالة الدولية للطاقة الذرية نقل الملف إلى مجلس الأمن، ورفض إقرار العقوبات الدولية ضد إيران.
التحديات التي تُواجه الدور الإيراني في إفريقيا:
بينما يتوقع الكثيرون أن يُسهم الاتفاق النووي الإيراني الذي أبرمه الرئيس حسن روحاني مع الدول الغربية، ورفع العقوبات الأمريكية عن طهران؛ في إطلاق العنان للسياسة الإيرانية في إفريقيا، خاصة مع توافر المبرر أمام الدول الإفريقية لتنمية علاقاتها مع إيران - لكن في تصوري فإنه توجد الكثير من التحديات الراهنة التي تعترض المسار المتصاعد للدور الإيراني في إفريقيا، وأهمها ما يلي:
1- عدم التزام إيران بالكثير من تعهداتها الاقتصادية، وهو ما بدا جليًّا في حالة السودان التي لم تستفد كثيرًا من علاقتها الخاصة بإيران، خاصة على الجانب الاقتصادي، في الوقت الذي لا تزال فيه السعودية هي المستثمر العربي الأول في السودان.
2- استمرار ضغوط القوى الدولية والإقليمية التي تستهدف تحجيم الدور الإيراني في القارة إلى الحد الأدنى، وقد أسفرت هذه الضغوط من قبل عن تحجيم التعاون الإيراني النيجيري في مجال التكنولوجيا النووية عام 2008، ووقف جنوب إفريقيا لوارداتها النفطية من إيران عام 2012، بعدما كانت تستورد 68 ألف برميل من النفط الخام الإيراني يوميًّا، وإغلاق المراكز الثقافية الإيرانية بالسودان في سبتمبر 2014، ومشاركة السودان في عملية "عاصفة الحزم" ضد الحوثيين في اليمن، وتأييد السنغال وموريتانيا لها، وإعلان إمكانية المشاركة فيها، وصولا إلى قرار السودان وجزر القمر قطع العلاقات الدبلوماسية مع إيران في يناير 2016.
3- التخوف من المد الشيعي الإيراني، وهو ما أدى إلى توتر العلاقات بين إيران وبعض الدول الإفريقية، مثل نيجيريا حاضنة الإسلام الصوفي في غرب إفريقيا، مع اتجاه الشيخ إبراهيم الزكزكي مؤسس جماعة الإخوان المسلمين في نيجيريا إلى التشيع. وقد تكرر الأمر في المغرب عندما قطعت علاقاتها الدبلوماسية مع إيران، نتيجة نشاطها في نشر التشيع بالمملكة، وكذلك السودان التي بلغ عدد المتشيعين فيها عام 2014 نحو 12 ألف مواطن.
4- التخوف من الدعم الإيراني لحركات المعارضة السياسية والمسلحة في بعض الدول الإفريقية، والذي يأتي في إطار سياسة "تصدير الثورة"، حيث كان دعم إيران لحركة كازامنس الانفصالية في السنغال عبر جامبيا دافعًا إلى قطع الدولتين للعلاقات الدبلوماسية مع إيران عام 2011.
5- عدم المشاركة الإيرانية في تسوية الصراعات الإفريقية، وهو ما أدى إلى تنامي الاعتقاد بأن العائد المتحقق من العلاقات الإيرانية الإفريقية يصب في الجانب الإيراني فحسب. ومثال ذلك رفض إيران دعم السودان في مواجهة الصراع في دارفور، ولو بمجرد الوساطة، بدعوى أنه يُعد شأنًا سودانيًّا داخليًّا.
وختامًا، فإنه بالرغم من الإخفاقات التي تعرض لها الدور الإيراني في إفريقيا في الوقت الراهن؛ إلا أنه من المهم الاستمرار في رصد ومتابعة الدور الإيراني في القارة، خاصة أن الممارسات أوضحت أن حجم التهديد الذي تمثله السياسات الإيرانية بالنسبة للمصالح العربية يفوق تهديدها للمصالح الأمريكية والإسرائيلية في إفريقيا. وقد اتضح ذلك خاصةً مع الدعم الإيراني للحوثيين في اليمن، ومحاولات نشر المذهب الشيعي في القارة السمراء. وهنا يمكن استثمار الأزمة السعودية الإيرانية في كشف الأهداف الحقيقية لإيران في القارة، كما تقع مسئولية أساسية على الأزهر الشريف في التصدي لمخططات نشر المذهب الشيعي في إفريقيا، في ظل ما يتمتع به من رصيد في القارة الإفريقية.
أولت إيران أهمية كبيرة للقارة الإفريقية باعتبارها قارة المستضعفين الذين كان من مبادئ الخميني الوقوف إلى جانبهم ودعمهم في وجه الاستكبار العالمي، ونظراً لفتوة النظام الجديد وتحديات الحرب مع العراق التي كانت تواجهه تأخرت الانطلاقة الإيرانية نحو إفريقيا حتى بداية تسعينيات القرن الماضي، حيث كانت القارة ضمن أجندة كل من تعاقبوا على الرئاسة في إيران، متبنين رسالة الجمهورية الإسلامية التي خطها المرشد الأعلى الأول آية الله الخميني بداية من رفسنجاني الذي كانت زيارته للسودان سنة 1991 إيذانا بعصر جديد من العلاقات الإيرانية الإفريقية، كما قام بعده خاتمي بإعطاء دفعة جديدة للعلاقات بين الطرفين من خلال تأسيس أطر وهياكل مشتركة ألقي على عاتقها تجسيد ومتابعة المشاريع البينية، وبعده أحمدي نجاد الذي أعاد الشحنة الأيديولوجية للواجهة.
أما حسن روحاني فإن المؤشرات الأولية بعد عدة شهور على رئاسته تميل إلى تحييد كبير لذلك الزخم الأيديولوجي الذي أحدثه سلفه، غير أنه لا يمكنه الخروج عن الخطوط العريضة للسياسة الخارجية الإيرانية، وإن كانت الاتفاقية مع الغرب حول البرنامج النووي قد تعطي دفعة جديدة لإيران في القارة باعتباره أحد أبرز أسباب توجهها نحوها، وفي نفس الوقت أهم معوق. فما هي أهم الاختراقات التي حققتها إيران في إفريقيا؟ وهل كان ذلك دون أي إخفاقات؟
الانتشار الإيراني في إفريقيا:
يدلل النشاط الدبلوماسي على أولوية القارة السمراء في الأجندة الإيرانية، وانتشارها فيها، إذ تمتلك سفارات في أكثر من 30 دولة. وعقدت العديد من القمم الإفريقية الإيرانية المشتركة، كما تتمتع بصفة العضو المراقب في الاتحاد الأفريقي. وما فتئت القيادات الإيرانية على مستوى الرئاسة وكبار المسؤولين تزور العواصم الإفريقية بشكل دوري. فعلى سبيل المثال قام الرئيس السابق أحمدي نجاد بأكثر من ست جولات لدول غرب أفريقيا. كما قام كبار المسؤولين الإيرانيين عام 2009 بما يقارب من 20 زيارة لعدد من الدول الإفريقية(1)، ونظمت إيران ما بين عامي 2002 - 2006 حوالي 32 معرضا تجاريا في إفريقيا(2).
ورغم أن المنظور الجيوسياسي يجعل من شرق القارة وتحديدا منطقة القرن الإفريقي في مقدمة الاهتمامات الإيرانية، نظرا لعبور جل الصادرات الإيرانية البحر الأحمر إلى قناة السويس فالمتوسط، وقربها من الخليج العربي الذي يقع في صلب إستراتيجيتها الإقليمية، إلا أن الإيرانيين لا يتوقفون عند هذا المستوى، وتتوزع اهتماماتهم على كل القارة، وتمتد من شمالها لجنوبها ومن شرقها لغربها، ما يعكس نظرة شاملة في التصور الإستراتيجي الإيراني تتعدد أهدافها وتتنوع.
ونظرا لمعاناة القارة من سياسات القوى الاستعمارية التي غيرت من أساليبها القديمة حاولت إيران كسب الأفارقة إلى صفها من خلال تبني خطاب المواجهة مع الغرب، وقد حرصت على تقديم نفسها كنموذج مناهض للقوى الغربية من خلال مشاركتها في العديد من أطر التعاون الدولي التي تضم دولا نامية أو دولا مناهضة للغرب، ومن هذه الأطر حركة عدم الانحياز، التي استضافت قمتها السنوية في عام 2012، ومجموعة الدول النامية الثمانية (D-8)، وتخدم المجموعتان الرؤية الإيرانية في قيادة الدول النامية في مواجهة الدول المتقدمة حيث تتكون مجموعة الدول النامية الثماني من دول ذات أغلبية مسلمة(3).
المزاحمة والمساومة:
تحاول طهران التموضع في مكانة تتواءم مع إمكانياتها وتاريخها وفق إدراكها الإستراتيجي، خاصة وأنها تقرأ التحولات الجارية في النظام الدولي والتي تؤشر إلى تراجع للولايات المتحدة وصعود قوى دولية وإقليمية يجب أن تكون هي من بينها، وتسعى لتعويض تهميشها فيه بتنسيق جهودها مع الدول الضعيفة التي قد تكون علاقتها مجتمعة مساوية ولربما أكبر من العلاقة مع القوى العظمى، لذلك تطور علاقاتها مع كل دول آسيا وإفريقيا وأمريكيا الجنوبية، إضافة لعلاقاتها الجيدة مع روسيا والصين. والساحة الإفريقية تتجلى فيها التغيرات الهيكلية في النظام الدولي.
فبانتشارها في كل أرجاء القارة الإفريقية تزاحم إيران القوى الدولية والإقليمية على حد سواء، حيث يمكّنها تواجدها في منطقة القرن الإفريقي من تسهيل تواصلها مع أتباعها الحوثيين في اليمن ودعمهم بالأسلحة، وما يترتب عليه من ضغط على دول مجلس التعاون الخليجي وبشكل خاص المملكة العربية السعودية. كما تتيح لنفسها المساومة مع القوى المنافسة لها وتحديدا الولايات المتحدة وإسرائيل.
فمنطقة شرق أفريقيا تشكل إحدى المحطات الإستراتيجية المهمة لإيران في مواجهتها للقوى الغربية، ففي أعقاب زيارة الرئيس الإريتري أسياسي أفورقي لطهران في ديسمبر 2008 تردد أن إيران حصلت على تسهيلات في ميناء عصب على البحر الأحمر، وهو ما يعطيها نقطة ارتكاز تمكنها من القيام بمهام جهادية وقتالية ضد القوى الغربية إذا ما قررت الأخيرة تدمير قدراتها النووية. ولعل سعي إيران لتطوير علاقاتها مع دول شرق أفريقيا الأخرى مثل كينيا وتنزانيا وجزر القمر يؤكد هذا المنحى الإستراتيجي في الاختراق الإيراني لإفريقيا(4).
وفي الغرب الذي يعتبر منطقة نفوذ أمريكي- إسرائيلي- فرنسي استطاعت إيران إيجاد موطئ قدم لها فيها حيث كثفت من جهودها الدبلوماسية تجاهها بالزيارات المتكررة للرؤساء الإيرانيين للمنطقة كما سبقت الإشارة، وساهم تواجد جالية لبنانية كبيرة جدا من تسهيل تغلغلها، إذ تشير تقارير إلى أن الشيعة في غرب أفريقيا يقدمون دعمًا سنويًّا لحزب الله اللبناني يقدر بنحو 200 مليون دولار(5). وتجلى النفوذ الإيراني لاحقا في تطور التعاون الاقتصادي بين الطرفين، والدعم الذي حظيت به من طرف دول غرب إفريقيا في المحافل الدولية بتأييد حقها في امتلاك برنامج نووي سلمي.
كما استطاعت إيران إقامة علاقات جيدة مع جنوب إفريقيا بسبب موقف إيران من نظام الفصل العنصري الذي كان متحالفا مع إسرائيل، ووصول حزب المؤتمر الديمقراطي للسلطة والذي دعمته إيران في السابق أدى إلى أن اتخذت جنوب إفريقيا دوراً محايداً في المنافسة والحالة الاستقطابية بين إيران والغرب، فبالرغم من أنه لا يمكن اعتبارها حليفاً لطهران فإن مسؤولي جنوب إفريقيا انتقدوا التوجّه الأمريكي في القضية النووية الإيرانية، ووصفوه بأنه منافق (بسبب دعمها الضمني للنشاطات النووية الإسرائيلية)، ودعوا كلّ الأطراف إلى إيجاد حلول من خلال التعامل الدبلوماسي(6).
كما حثت وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون جنوب إفريقيا البلد الأول الذي اختار طواعية التخلي عن الأسلحة النووية على أن يقوم بدور في كبح المسعى الإيراني لحيازة أسلحة نووية وإبقاء المواد النووية بعيدة عن أيدي الإرهابيين(7).
وتحظى إيران عموما بتأييد من الأنظمة المغضوب عليها أمريكيا بشكل خاص مثل زيمبابوي التي تعد ضمن البلدان الإفريقية المعارضة للسياسة الأمريكية، والتي وضعتها وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كوندوليزا رايس، إلى جانب إيران على قائمة وصفتها بـ مواقع متقدمة للطغيان(8). فضلا عن السودان الحليف الإستراتيجي لإيران منذ الانقلاب العسكري سنة 1989، وجامبيا التي تطورت العلاقات معها منذ نجاح الانقلاب العسكري عام 1994 حيث يعتبر النظام نفسه مضطهدا دوليا بسبب ملف انتهاكات حقوق الإنسان، ونفس الشيء ينطبق على موريتانيا التي تحسنت علاقاتها مع طهران بعد الانقلاب العسكري الذي أطاح بالرئيس معاوية ولد سيد أحمد الطايع سنة 2005 وتجميد العلاقات بين نواكشوط وتل أبيب ثم قطعها نهائيا سنة 2010(9).
الأبواب الخلفية:
رغم المخاوف الأمريكية والإسرائيلية من التمدد الإيراني في القارة إلا أنه لم يسجل أي سلوك يضر بالمصالح الأمريكية مباشرة، وإن كانت تقديرات الأمنيين الإسرائيليين أن هذا الاحتمال يبقى واردا إذا ما تعرضت المنشآت النووية الإيرانية لهجوم عسكري، وأي مكسب إيراني في القارة لا شك ستوظفه لصالحها حينها، ولكن يبدو أن الحسابات الحالية تتوقف عند المكاسب الدبلوماسية، والاقتصادية ومحاولة تمكين مؤيدين لها أو حتى أتباع جدد.
فقد وجدت إيران في المشاكل والاضطرابات التي تعيشها دول القارة منفذا للتغلغل متبعة في ذلك نفس سلوكيات القوى الأخرى التي يفترض أن أفريقيا تعاني من سياساتها وستتحالف إيران مع الأفارقة ضدها. إذ لم تكتفِ إيران بالعلاقات الرسمية مع الحكومات الإفريقية رغم كل المزايا الممنوحة لها من قبلها، وإنما لجأت إلى نفس الأساليب والطرق التي تستعملها في مناطق أخرى، وما اعتادت عليه في سياستها الخارجية من خلال فتح قنوات غير رسمية مع حركات معارضة لضمان ولائها أو توظيفها في مراحل مختلفة عندما تقتضي الحاجة، إذ كشف تقرير ميداني أعده مركز بحوث تسليح الصراع بالتعاون مع العديد من المؤسسات بين سنتي (2006 و2012) عن أنه من بين 14 حالة كشف فيها عن وجود أسلحة إيرانية هناك فقط 4 حالات كانت مع الحكومات والعشر الباقية مع جماعات غير نظامية(10)، حيث كانت تدعم الانفصاليين في منطقة «كاسامانس» في السنغال ومتمردي ساحل العاج، وجامبيا، وحركة إبراهيم الزكزاكي في نيجيريا(11)، الأمر الذي تسبب لاحقا بقطع حكومات هذه الدول علاقاتها مع إيران.
الاقتصاد بطعم النووي ونكهة اليورانيوم:
تعتبر إيران من الدول المصدرة للنفط لبعض دول القارة، فقد بلغ حجم صادراتها النفطية إلى إفريقيا جنوب الصحراء سنة 2010 ما قيمته 3,60 مليار دولار بالمقارنة مع 1,36 مليار دولار عام 2003(12). لكن العلاقات الاقتصادية الإفريقية الإيرانية تشمل مجالات أخرى وهي كلها مرتبطة ارتباطا وثيقا بمشروعها النووي بأشكال مختلفة.
فمن جهة تتطلع للحصول على اليورانيوم الذي تعد القارة من أكبر منتجيه، إذ تسهم بحصة 20% تقريبا من الإنتاج العالمي. والنيجر منفردة تملك سادس أكبر احتياطيات منه، لذلك تقترن القارة السمراء دائما مع مقولة «فتش عن اليورانيوم». ويعتقد بعض المحللين أن طهران في سعيها وراءه داخل إفريقيا انتهجت سبلا متنوعة، منها سياسة النفط مقابل اليورانيوم(13). ومنذ اكتشافه في غينيا عام 2007 توطدت علاقات طهران بها، حتى إن التبادل التجاري بين البلدين في العام 2010 زاد بنسبة 140% (14).
ومن جهة ثانية إضافة إلى الدخول في العديد من المشاريع الاقتصادية مع الدول الإفريقية، مثل فتح فروع لشركة خودرو الإيرانية لإنتاج السيارات وتكثيف الاستثمار في قطاعات الزراعة أو تطوير التعاون في مجالات المياه والصحة والهندسة والطرق. فضلا عن السلاح الذي تعد إيران أكبر مصدريه إلى السودان(15). تحاول أيضا توظيف خبراتها في المجال النووي لكسب الأفارقة إلى صفها في البرنامج النووي، وذلك من خلال إقامة مشاريع في مجال الطاقة الكهربائية مع بعض دول مثل نيجيريا والسنغال وسيراليون، وبنين، ومالي، لنقل خبراتها في هذا المجال وحثها لتسير على خطاها.
ومن جهة ثالثة ممارسة نوع من التخويف من المخاطر التي تلحق بالدول الأخرى في حال تعرض إيران لعقوبات، فهي حتى الآن الموفّر الأساسي للنفط الخام لجنوب إفريقيا، وهذا الاعتماد أدى إلى حياديتها تجاه القضية النووية الإيرانية، كما امتنعت عن التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة على انتهاك إيران لحقوق الإنسان، مما أغضب كلاً من حكومة إيران التي كانت تأمل أن تدعمها، وكذلك الحكومات الغربية التي كانت تأمل في إدانتها(16). أو حتى شكل من الابتزاز السياسي بربط الصفقات التجارية بصفقات سياسية حيث تشير بعض التقارير إلى أن الصفقة بين إيران وجنوب أفريقيا التي صوتت في الوكالة الدولية للطاقة الذرية ضد إحالة البرنامج النووي الإيراني على مجلس الأمن كانت مقابل صفقة هاتف خلوي استفادت منها شركة "أم.تي.إن" التي تربطها علاقة بحزب "المؤتمر الوطني الأفريقي" الحاكم. وبينما صوتت سابقاً مع أوروبا والأميركيتين للجم برنامج إيران النووي، في سبتمبر ونوفمبر 2005، وفي فبراير 2006، فقد صوتت ضد العقوبات، ثم امتنعت عن التصويت على إحالة المسألة إلى مجلس الأمن الدولي. ولاحقاً في سنة 2006، بعد توقيع رخصة "MTN" وختمها، عادت مرة أخرى إلى موقعها الافتراضي، من خلال مساندة فرض قيود على الطموحات النووية الإيرانية(17).
أصوات المستضعفين:
غير بعيد عن اليورانيوم وفي الشق السياسي من البرنامج النووي حاولت طهران كسب الأصوات الإفريقية في هيئة الأمم المتحدة وفي مجلس حقوق الإنسان، وأيضا ضمن مجلس الأمن الذي تملك القارة ثلاث ممثلين غير دائمين لها فيه، والوكالة الدولية للطاقة الذرية، فالصوت الإفريقي إن لم يكن مساندا لإيران فهو على الأقل في كثير من الأحيان ليس معاديا لها، حيث تميل بعض الدول الإفريقية إلى الامتناع عن التصويت عند مناقشة الملف الإيراني(18). وهو يساعد في التصدي أو التخفيف من أي قرارات دولية ضد طهران، إلى جانب نيل تأييد برنامجها النووي، وذاك ما أعلنته الكثير من الدول الإفريقية بالفعل، مثل السودان والسنغال وساحل العاج وجيبوتي وإريتريا(19).
وقد نجحت الدبلوماسية الإيرانية من خلال الزيارات الرئاسية في كسب العديد من الدول الإفريقية لصفها في أزماتها الدولية، وتجنيد الأفارقة للدفاع عنها أو على الأقل تحييدهم، وأبرز النجاحات تلك المتعلقة بأزمة الانتخابات الرئاسية سنة 2009 والعنف الذي مارسه النظام الإيراني ضد أنصار الحركة الخضراء، حيث صوتت الأمم المتحدة في نوفمبر من نفس السنة على حالة حقوق الإنسان في إيران، وتحفظت جميع دول غرب أفريقيا ما عدا ليبيريا وتوغو على قرار الأمم المتحدة ضد إيران. والدول الأفريقية الأخرى أيضا باستثناء المغرب وجنوب أفريقيا اللتين اتخذتا مواقف قوية ضدها(20).
وتأييد الدول الإفريقية منفردة امتلاك إيران لبرنامج نووي سلمي والذي يصرح به مسؤولوها في أي مناسبة تجمعهم بنظرائهم الإيرانيين، وأيضا رفض ممثلي القارة في الوكالة الدولية للطاقة الذرية نقل الملف إلى مجلس الأمن، وحتى بعد ذلك كان ممثلوها فيه يرفضون إقرار العقوبات الدولية على إيران.
حدود الدور الإيراني في القارة الإفريقية:
النجاحات التي حققتها إيران في القارة السمراء لم تكن دون إخفاقات، ولعل أهمها تلك التي كانت سياساتها هي المتسبب فيها، فبتورطها في الصراعات الداخلية وتغذيتها للنزاعات بشكل مباشر خسرت ما حققته من إنجازات، فالجهود الإيرانية في السنغال مُنيت بانتكاسة كبيرة مع اكتشاف شحنة الأسلحة القادمة من إيران باتجاه غامبيا، بهدف تزويد متمردي الجنوب السنغالي بالسلاح. حيث قطعت كل من السنغال وغامبيا علاقاتها مع إيران سنة 2011(21). وقبلها في أكتوبر 2010م رصدت السلطات النيجيرية عملية نقل أسلحة قادمة من إيران في طريقها إلى غامبيا، ورداً على هذا الاكتشاف قامت السلطات النيجيرية والغامبية بقطع علاقاتها الدبلوماسية مع إيران وطردت دبلوماسييها(22).
كما يتجلى الفشل الإيراني أيضا في استجابة الكثير من الدول للضغوطات الأمريكية والإسرائيلية بالتصويت ضد البرنامج النووي الإيراني على غرار وقف تعاون نيجري إيراني في مجال التكنولوجيا النووية سنة 2008، ووقف جنوب إفريقيا لوارداتها النفطية من إيران في 2012 استجابة للعقوبات الدولية على إيران(23)، وفي نفس السياق إيقاف شركات جنوب إفريقية استثماراتها في إيران بسبب الضغوط الدولية، مثل شركة Sasol، وهي واحدة من أكبر الشركات المنتجة لوقود السيارات من الفحم في العالم، وجمّدت توسّعها في الدولة الفارسية، وتقوم الآن بمراجعة مشاريعها الحالية(24).
كما استمرت موريتانيا ومالي ودول أخرى في العمل مع الولايات المتحدة وغيرها من الدول الغربية لمكافحة تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي. وتعتبر نيجيريا مورداً رئيسياً لإمدادات النفط الأمريكية، كما واجهت إيران صعوبات في الوفاء بالتزاماتها الاقتصادية تجاه الإقليم. فعلى سبيل المثال، مالي لم يتم إنجاز مشروع بناء السد في حتى الآن(25).
انعكاسات الصفقة النووية والأزمة السورية:
تطرح محورية البرنامج النووي الإيراني في توجه طهران نحو إفريقيا تساؤلات حول مستقبله بعد الاتفاق الأخير بين إيران والغرب، إذا ما كان سييسر من تمددها في القارة أم سيحول دون ذلك خاصة في ظل ما يعانيه النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط، فالانفراجة في العلاقات الإيرانية الأمريكية بشكل خاص والغربية بشكل عام لا تعني بالضرورة تغيرا في نظرة إيران لعلاقاتها مع القارة الإفريقية، فالتوجهات الاقتصادية عامل ثابت دائما، أما سياسيا فإن ذلك قد يمكنها بشكل أو آخر من توسيع نفوذها الذي يبقى أيضا بعيدا عن تهديد المصالح الأمريكية والتي لم تمس بشكل مباشر رغم النشاط الكبير جدا لحزب الله وإسرائيل على حد سواء في القارة، كما أن الدول الإفريقية قد تجد في الاتفاقية مبررا لتطوير علاقتها مع إيران، ولكن حتى الآن لا زالت هذه الأنظمة - لعوامل عديدة - غير قادرة على صياغة إستراتيجيات مستقلة في سياستها الخارجية. فالاتفاق الدولي قد يزيح العراقيل التي كانت تحول دون تمدد إيران في القارة. ولكن حالة عدم اليقين والشك تبقى دائما تتحكم في سياسات الطرفين.
وفي اتجاه موازٍ فإن المتضرر الأكبر من هذا سيكون العرب فقد كشفت مصادر سياسية ودبلوماسية يمنية أن مجلس الأمن القومي الإيراني أقر الإستراتيجية الإيرانية الجديدة المتمثلة في نقل ثقل المعركة من الشمال في سوريا ولبنان إلى جنوب الجزيرة العربية في اليمن، بعد تيقن إيران أن استمرار نظام حليفها بشار الأسد في دمشق يستحيل أن يستمر، وأن إيران تشعر أن «نفوذها على سوريا، ونفوذ حليفها حزب الله في لبنان، لن يستمر طويلا، ولذا تفكر بجدية لنقل ثقل هذا النفوذ إلى مناطق الشمال اليمني، والبحر الأحمر والقرن الأفريقي مستغلة العلاقات القوية التي تربطها بالنظام الإريتري»(26). كما أنه من جهة أخرى ضغط مباشر على المملكة العربية السعودية لثنيها عن دعم الثورة السورية، وهناك الكثير من الإشارات التي تدلل على ذلك أبرزها استهداف مناطق حدودية مع العراق من طرف عصائب أهل الحق المرتبطة بإيران.
الخلاصة:
استطاعت إيران أن تحقق الكثير من الإنجازات في إفريقيا على مختلف الأصعدة، وأثبتت قدرتها على منافسة القوى الإقليمية والدولية بفرض أخذ مصالحها بعين الاعتبار، وهذا راجع لامتلاكها رؤية إستراتيجية متكاملة، ولكن تبقى الأهداف الإيرانية في القارة الإفريقية أكبر من إمكانيات دولها، خاصة في الشق المتعلق بالملف النووي، فالدعم الإفريقي لم يثنِ القوى الغربية من فرض العقوبات على طهران ونقل ملفها لمجلس الأمن، وهو ما فشلت فيه قوى دولية وإقليمية أخرى مثل الصين وروسيا أو تركيا والبرازيل، كما تتحمل إيران نفسها جزءا من المسؤولية في تدهور علاقاتها مع بعض الدول الإفريقية بسبب تدخلها في شؤونها الداخلية.
ولكن الاختراقات التي حققتها إيران في إفريقيا لا تقارن بأي حال من الأحوال بالدول العربية مجتمعة أو منفردة، حيث لا تمتلك أي دولة عربية مشروعا وإستراتيجية واضحة في القارة، بل أكثر من ذلك حتى على المستوى الإقليمي والبيئة المحاذية التي تشكل تهديدا لأمنها القومي، خاصة في منطقة القرن الإفريقي بالنسبة لدول مجلس التعاون الخليجي ومصر، أو غرب إفريقيا الذي يشكل عمقا إستراتيجيا للدول المغاربية.
والمواقف الغربية من إيران في سورية والصفقة غير المعلنة حول الكيماوي السوري، وتطور العلاقات الإيرانية الغربية البطيء بعد البدء في تنفيذ بنود اتفاق جنيف النووي، لا شك أنها ستساهم في تمدد إيران في القارة، والعرب سيكونون هم الخاسر الأكبر من ذلك، لأن التنافس الإيراني والأمريكي الإسرائيلي لم يرتقِ لمستوى تهديد المصالح المباشرة لكل طرف، كما أن طهران اشتغلت على تهديد المصالح العربية أكثر من الغربية في أحلك الأوقات، وهو ما يتوقع أن يتضاعف في المرحلة التالية، خاصة في ظل المنعرج الخطير الذي تمر به سياساتها في الشرق الأوسط، إذ تحاول المحافظة على نفوذها في سوريا بشتى الوسائل.
تأسيسا على هذا فإنه ينتظر الدول العربية مجتمعة أو منفردة صياغة إستراتيجية عاجلة لتدارك المخاطر التي تحدق بها والقادمة من حدودها الإفريقية. فقد استطاعت إسرائيل تحقيق أهدافها في إفريقيا بإبعاد القارة عن الصراع العربي الإسرائيلي، وتوطيد علاقتها معها على حساب الدول العربية، ولعل سعي دول نهر النيل لبناء سدود وحرمان مصر من جزء من نسبتها وتأزم العلاقات بين الطرفين وتقسيم السودان يدلل على ذلك، فهل ستنجح إيران بدورها في تحقيق أهدافها أيضا بجعلها قاعدة خلفية لسياستها التخريبية للدول العربية كما تفعل في اليمن أو ساحة لتصفية حساباتها مع القوى الإقليمية والدولية؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) عمر كوش، إفريقيا.. صراع دولي ومسرح لتنافس قوى إقليمية صاعدة، جريدة الاقتصادية، 16/07/2010، على الرابط: http://www.aleqt.com/2010/07/16/article_419329.html
(2) عبد الله ولد محمد بمب، الحضور الإيراني في غرب إفريقيا: استثمار أسواق تشيع؟، موقع الميادين، 5/11/20111
على الرابط: http://meyadin.net/9876545678/4333-2012-11-05-20-51-16.html
(3) أميرة محمد عبد الحليم، أحمدي نجاد في غرب أفريقيا، الأهرام الرقمي، 01/02/2011، على الرابط:
http://digital.ahram.org.eg/articles.aspx?Serial=485862&eid=122
(4) حمدي عبد الرحمن، الاختراق الإيراني الناعم لأفريقيا، الجزيرة نت، 06/05/2016، على الرابط:
http://www.aljazeera.net/opinions/pages/5efc2775-dd89-4d7b-90c7-beb59aaa0dfe
(5) شريف شعبان مبروك، العلاقات الإيرانية - الأفريقية: في دائرة الصراع الأمريكي - الإيراني، الأهرام الرقمي، 01/06/2010، على الرابط:
http://digital.ahram.org.eg/articles.aspx?Serial=161106&eid=457
(6) محمد سليمان الزواوي، إيران في إفريقيا.. البحث عن موطئ قدم، 08/05/2013، قراءات إفريقية، على الرابط:
http://www.qiraatafrican.com/view/?q=1028
(7) كلينتون: على جنوب إفريقيا إقناع إيران بالتخلي عن "النووي"، الأهرام الرقمي، 10/08/2012، على الرابط:
http://digital.ahram.org.eg/Policy.aspx?Serial=990284
(8) شريف شعبان مبروك، جولة خاتمي وتفعيل العلاقات الإيرانية - الأفريقية، مختارات إيرانية، على الرابط:
http://acpss.ahram.org.eg/ahram/2001/1/1/C2RN92.HTM
(9) لتفاصيل أكثر انظر: رضا عبد الودود، وسط صمت عربي قطع العلاقات مع إسرائيل وتحالف مع إيران، موقع المسلم، 08/05/1432ه، على الرابط:
http://almoslim.net/node/126987
(10)The distribution of Iranian ammunition in Africa, Conflict Armament Research, December 2012.
(11) درَس إبراهيم الزكزاكي في "حوزة قم" وتلقى تمويلا إيرانيا ليحول جماعته بعد ذلك إلى جماعة جهادية تحارب الحكومة العلمانية وتسعى إلى تطبيق الشريعة الإسلامية وفقا للنموذج الإيراني، وتنتشر جماعته في ولايات الشمال ولا سيما في "كانو" و"كادونا" و"زاريا". وتعتمد هذه الجماعة في تجنيد أعضائها على خريجي بعض جامعات الشمال النيجيري المسلم مثل جامعة أحمدو بللو وعثمان دان فوديو. والرؤية الإيرانية ترمي إلى خلق قواعد محلية موالية لإيران باعتبار مرجعية حوزتها الدينية من أجل الضغط على الحكومات الوطنية والعمل في مواجهة المصالح الغربية في أفريقيا. انظر: حمدي عبد الرحمن، مرجع سابق.
(12) عبد الله ولد محمد بمب، مرجع سابق.
(13) مروى صبري، إيران وأفريقيا.. اليورانيوم رأس الدوافع، الشرق الأوسط، العدد 11651، 22/10/2010، على الرابط:
http://www.aawsat.com/details.asp?section=45&article=591928&issueno=11651#.Ut-
(14) حمدي عبد الرحمن، مرجع سابق.
(15) عمر كوش، مرجع سابق.
(16) محمد سليمان الزواوي، مرجع سابق.
(17) جنوب أفريقيا تقر رسمياً بمؤازرة إيران نووياً مقابل عقد "MTN"، جريدة المستقبل، 29/08/2012، على الرابط:
http://www.almustaqbal.com/storiesv4.aspx?storyid=536365
(18) حمدي عبد الرحمن، مرجع سابق.
(19) مروى صبري، مرجع سابق.
(20) أميرة محمد عبد الحليم، مرجع سابق.
(21) عبد الله ولد محمد بمب، مرجع سابق.
(22) محمد سليمان الزواوي، مرجع سابق.
(23) السلطات الجنوب أفريقية توقف استيراد النفط من إيران، موقع محيط، 01/08/2012، على الرابط:
http://moheet.com/News/Print?nid=405373
(24) محمد سليمان الزواوي، مرجع سابق.
(25) أميرة محمد عبد الحليم، مرجع سابق.
(26) الحرس الثوري الإيراني يدرب الحوثيين في جزر إريترية، جريدة الشرق الأوسط، 21/01/2013، على الرابط:
http://www.aawsat.com/details.asp?section=4&issueno=12473&article=713915#.Ut-3L9JKHrc
http://alburhan.com/Article/index/8325#
المصدر: بالراصد
=============
الاختراق الإيراني الناعم لأفريقيا
حمدي عبد الرحمن
خبير في الشؤون الأفريقية
القوى الناعمة الإيرانية
البحث عن اليورانيوم
البحث عن قواعد وحلفاء
التبشير بالنموذج الإيراني
يلاحظ المتابع لأدبيات الفكر الإستراتيجي الإيراني منذ بداية العقد الماضي وجود رؤية واضحة حول أولوية أفريقيا في أجندة السياسة الخارجية الإيرانية. فقد اتسع نطاق العلاقات الإيرانية الأفريقية بشكل كبير منذ بداية الألفية الجديدة. وعلى سبيل المثال تمتلك إيران سفارات في أكثر من 30 دولة أفريقية. وفي منتصف 2010 عقدت القمة الأفريقية الإيرانية في طهران بمشاركة ممثلين عن 40 دولة أفريقية بينهم رؤساء ووزراء ودبلوماسيون ورجال أعمال.
أضف إلى ذلك أن إيران باتت تتمتع بصفة العضو المراقب في الاتحاد الأفريقي. وما فتئت القيادة الإيرانية على مستوى الرئاسة وكبار المسؤولين تزور العواصم الأفريقية بشكل دوري. ولعل الزيارة الأخيرة التي قام بها الرئيس أحمدي نجاد في منتصف أبريل/نيسان 2013 إلى كل من غانا وبنين والنيجر تعكس هذه الهجمة الإيرانية الناعمة على أفريقيا.
ومن اللافت للانتباه أن قراءة الملف الإيراني الأفريقي تعكس تبانيا واضحا في الرؤى والتوجهات. فثمة نفر من الكتاب يقف بشكل تبسيطي، وإن كان فيه قدر من الصحة عند حدود التبشير ونشر المذهب الشيعي.
وهناك من يقف عند حدود الأمني والعسكري، ويتحدث عن مخاطر الوجود الإيراني بالنسبة لتنامي النزعات الراديكالية المناوئة للغرب في أفريقيا. ولا شك أن هناك أبعادا ودلالات أخرى كثيرة تفسر لنا حقيقة التدافع الإيراني الكبير نحو أفريقيا، وهو ما نحاول أن نبينه في هذا المقال.
القوى الناعمة الإيرانية
لعل أحد الأهداف الإستراتيجية الكبرى لإيران في أفريقيا يتمثل في محاولة كسر حاجز العزلة الغربية المفروضة على إيران بسبب برنامجها النووي، إذ ترى إيران في القارة الأفريقية ساحة سهلة المنال من أجل كسب التأثير والنفوذ. ولا يخفى في هذا المجال القوة التصويتية لأفريقيا في المحافل والمنظمات الدولية، مثل الأمم المتحدة ومجلس محافظي الهيئة الدولية للطاقة النووية ومجموعة دول عدم الانحياز ومنظمة التعاون الإسلامي.
"تعمد إيران إلى كسب عقول وقلوب الأفارقة من خلال المساعدة في بناء مشروعات البنية التحتية للطاقة ومصافي النفط ومحطات توليد الكهرباء وحتى تقديم خبرتها التكنولوجية قي مجال الاستخدام السلمي للطاقة النووية"
فالصوت الأفريقي إن لم يكن مساندا لإيران فهو على الأقل في كثير من الأحيان ليس معاديا لها، حيث تميل بعض الدول الأفريقية إلى الامتناع عن التصويت عند مناقشة الملف الإيراني.
إن التهديد بفرض مزيد من العقوبات النفطية على إيران قد دفعها لتنويع صادراتها النفطية لتشمل الاقتصاديات النامية في أفريقيا. وتعمد إيران، كما هو الحال في أميركا اللاتينية، إلى كسب عقول وقلوب الأفارقة من خلال المساعدة في بناء مشروعات البنية التحتية للطاقة وتجديد مصافي النفط وبناء محطات توليد الكهرباء وحتى تقديم خبرتها التكنولوجية قي مجال الاستخدام السلمي للطاقة النووية.
وعلى صعيد التبادل التجاري أبدت إيران استعدادا لشراء الكاكاو من غانا، كما قامت بإنشاء مصنع لإنتاج سيارات الأجرة في السنغال. ومن الملاحظ أن صادرات السيارات الإيرانية لكل من السودان والسنغال قد أسهمت بشكل كبير في إحداث رواج لسوق السيارات في الداخل الإيراني.
وفي المجال الثقافي تحاول إيران طرح نفسها بديلا للعقلية الاستعمارية الجديدة وللنوايا الإمبريالية الغربية في أفريقيا. لقد أشارت افتتاحية إحدى الصحف اليومية الأكثر شعبية في هراري عاصمة زيمبابوي إلى هذا المعنى بقولها "إن إيران هي الأقرب لنا وهي تقترب منا كل يوم بدرجة أكبر".
"ونحن لا نتحدث هنا عن مستوى العلاقات الثنائية، على أهميتها، ولكننا نشير إلى المصير الحتمي الذي يربط إيران ببقية دول العالم ونحن منهم. إن إيران دولة معادية للإمبريالية ونحن كذلك".
البحث عن اليورانيوم
على أن من الأهداف الكبرى للتحرك الإيراني الدؤوب في أفريقيا الذي جسدته زيارات أحمدي نجاد الخمس لأفريقيا منذ وصوله للسلطة عام 2005 يتمثل في الحصول على اليورانيوم. ولعل ذلك يفسر لنا سر السعي الإيراني نحو تدعيم علاقاتها مع الدول المنتجة لهذا المعدن، مثل زيمبابوي والنيجر وناميبيا.
ومن المعلوم أن إيران تخطط لبناء 16 مفاعلا نوويا لإنتاج الطاقة واستخدامها لأغراض مدنية. وإذا تمكنت الحكومة الإيرانية بالفعل من استكمال هذا البرنامج النووي فإن هذا يعني نضوب إنتاجها المحلي من اليورانيوم في غضون عشرة أعوام. ولعل ذلك المتغير هو الذي يجعل علاقة إيران بالدول الأفريقية المنتجة لليورانيوم ذات طبيعة إستراتيجية كبرى.
ولا يخفي أن احتياطات اليورانيوم توجد في كثير من الدول الأفريقية الأخرى، مثل توغو وغينيا وأفريقيا الوسطى والكونغو الديمقراطية وأوغندة وزيمبابوي. وتسعى إيران لدعم علاقاتها مع كثير من هذه البلدان.
ويعطي تطور العلاقات الإيرانية مع غينيا في غرب أفريقيا مؤشرا واضحا حول أهمية متغير اليورانيوم في السياسة الخارجية الإيرانية. فمنذ اكتشاف اليورانيوم في غينيا عام 2007 توطدت علاقات طهران بها، حتى إن التبادل التجاري بين البلدين في العام 2010 قد زاد بنسبة 140%.
البحث عن قواعد وحلفاء
لقد حاولت إيران، ولا سيما في ظل قيادة أحمدي نجاد، تحقيق اختراق كبير لدول أميركا اللاتينية وأفريقيا بهدف خلق قواعد وتحالفات إقليمية معادية للولايات المتحدة والغرب عموما. وقد ساعدت دول مثل فنزويلا في ظل قيادة الراحل هوغو شافيز على تحقيق هذا الهدف الإيراني.
"من الأهداف الكبرى للتحرك الإيراني الدؤوب في أفريقيا الحصول على اليورانيوم, وهو ما يفسر المنحى الإستراتيجي في الاختراق الإيراني لأفريقيا"
ففي العام 2007 قام الرئيس أحمدي نجاد بجولة في بلدان أميركا اللاتينية، كما أنه عقد في طهران في نفس العام مؤتمر دولي حول أميركا اللاتينية. ومن الواضح أن السودان يطرح البديل الأفريقي لفنزويلا بالنسبة لإيران، حيث إن الخرطوم تمثل نقطة انطلاق مهمة للسياسة الإيرانية في أفريقيا.
وتشكل منطقة شرق أفريقيا إحدى المحطات الإستراتيجية المهمة لإيران في مواجهتها للقوى الغربية، ففي أعقاب زيارة الرئيس الإريتري أسياسي أفورقي لطهران في ديسمبر/كانون الأول 2008 تردد أن إيران حصلت على تسهيلات في ميناء عصب على البحر الأحمر، وهو ما يعطيها نقطة ارتكاز تمكنها من القيام بمهام جهادية وقتالية ضد القوى الغربية إذ ما قررت الأخيرة تدمير قدرات إيران النووية. ولعل سعي إيران لتطوير علاقاتها مع دول شرق أفريقيا الأخرى مثل كينيا وتنزانيا وجزر القمر يؤكد هذا المنحى الإستراتيجي في الاختراق الإيراني لأفريقيا.
ومن المثير أن إيران لا تتردد في استخدام قوتها غير الناعمة وما تملك من قدرات عسكرية من أجل بناء التحالفات والقواعد في أفريقيا، فقد أشار تقرير مهم صدر نهاية العام 2012 عن منظمة "بحث تسليح الصراع البريطانية إلى توزيع الأسلحة الإيرانية في أفريقيا. وتشمل هذه الأسلحة راجمات الصواريخ وقذائف الهاون والألغام الأرضية، وهي أسلحة أنتجت منذ العام 2002. ولعل السودان يمثل أبرز الأمثلة الأفريقية على عمق التعاون العسكري بينها وبين إيران حيث يشمل هذا التعاون تصدير أنواع من الأسلحة والذخائر والمعدات الإيرانية للسودان.
التبشير بالنموذج الإيراني
لقد استلهمت بعض الحركات والجماعات الإسلامية في أفريقيا في خطابها الإسلامي تجربة الثورة الإيرانية، وذلك في مسعاها لتغيير واقع الجمود والتخلف الذي أصاب المجتمعات المسلمة الأفريقية في مرحلة ما بعد رحيل الاستعمار. ولا يخفى أن حركية النموذج الإيراني وليس ما ينطوي عليه من اجتهادات وقناعات فقهية كانت هي الأكثر تأثيرا على الواقع الأفريقي في بعض رؤاه الإصلاحية.
بيد أن الإستراتيجية الإيرانية الجديدة في أفريقيا قد وظفت هذا التأثير السياسي من أجل تطويره ليأخذ طابعا دينيا مذهبيا، وهو ما يدخل في إطار نشر المذهب الشيعي بين الجماعات المسلمة في أفريقيا.
ولعل أبرز مثال في هذا السياق هو تجربة الحركة الإسلامية في نيجيريا أو "إخوان نيجيريا" بزعامة الشيخ إبراهيم الزكزاكي الذي قام بزيارة مدينة قم الإيرانية وتلقى تمويلا إيرانيا ليحول جماعته بعد ذلك إلى جماعة جهادية تحارب الحكومة العلمانية وتسعى إلى تطبيق الشريعة الإسلامية وفقا للنموذج الإيراني.
وتنتشر جماعة الزكزاكي في ولايات الشمال ولا سيما في كانو وكادونا وزاريا. وتعتمد هذه الجماعة في تجنيد أعضائها على خريجي بعض جامعات الشمال النيجيري المسلم مثل جامعة أحمدو بللو وعثمان دان فوديو. وأحسب أن الرؤية الإيرانية ترمي إلى خلق قواعد محلية موالية لإيران باعتبار مرجعية حوزتها الدينية من أجل الضغط على الحكومات الوطنية والعمل في مواجهة المصالح الغربية في أفريقيا.
"الاختراق الإيراني لأفريقيا الذي يرمي إلى الخروج من إسار العزلة الغربية المفروضة على إيران بسبب برنامجها النووي يستبطن تحقيق أهداف أخرى "
على أن تجربة المد الشيعي لم تعتمد فقط على نيجيريا وإنما شملت دولا أخرى مثل السنغال التي شهدت بناء حوزة علمية بجوار جامعة دكار، وهي تمنح الطالب شهادة تعادل الثانوية، كما أن هناك المركز الثقافي الإيراني في مالي. ومن الملاحظ أن الجاليات الشيعية اللبنانية تسهم بدور كبير في نشر التشيع بين الأفارقة، كما هو الحال بالنسبة لساحل العاج.
وعليه يمكن القول إن الاختراق الإيراني لأفريقيا الذي يعتمد على دوافع سياسية واقتصادية معلنة ترمي إلى الخروج من إسار العزلة الغربية المفروضة على إيران بسبب برنامجها النووي يستبطن تحقيق أهداف أخرى قد تبدو غير واضحة.
فالإستراتيجية الإيرانية لها أياد غير ناعمة كذلك، حيث إنها تتورط في تصدير الأسلحة لمناطق الصراعات الأفريقية بغية تحقيق مصالح سياسية وإستراتيجية. ولا تقتصر الحركة الإيرانية على ما هو سياسي واقتصادي وعسكري فقط في أفريقيا، ولكنها تقوم على رافعة مذهبية وثقافية كي تستطيع من خلالها تثبيت الأقدام بعد كسب نفوس وقلوب الأفارقة.
وهذا هو بيت القصيد في الاختراق الإيراني الجديد لأفريقيا الذي يرتدي عباءة المصالح المتبادلة والوقوف في مواجهة قوى الإمبريالية والاستكبار العالمي.
===================
عن التوغل الإيراني في أفريقيا!
أضف هذا المقال إلى المفضلة
إحذف هذا المقال من المفضلة
شارك بتعليق على هذا المقال
هيثم قطب
7
هيثم قطب
7
1,222منذ سنة واحدة، 27 فبراير,2015
في ساحة المعركة ليس لزامًا على الطرفين المتصارعين القتال وجهًا لوجه، وليس لزامًا أن تكون الساحة واحدة، بل يمكن إدارة الصراع بوسائل عنكبوتية التعقيد في ساحات بعيدة كل البعد عن الساحة الأصلية للقتال.
يوم الإثنين الماضي أعلنت وحدة الصحافة الاستقصائية في شبكة الجزيرة الفضائية عن امتلاكها لمئات الوثائق الاستخباراتية عالية السرية من العديد من أجهزة المخابرات وشبكات التجسس في العالم، الوثائق – التي تسربت للجزيرة وتنشرها بالتعاون مع الجارديان البريطانية- هي عبارة عن تحليلات تفصيلية وتقارير معلوماتية كتبها عملاء تابعين لجهاز أمن الدولة (SSI) في جنوب أفريقيا، التحليلات والبرقيات عبارة عن مراسلات سرية ثنائية وواسعة النطاق بين جنوب أفريقيا وبين المخابرات المركزية الأمريكية CIA والمخابرات البريطانية MI6 ومخابرات رئاسة الوزراء الإسرائيلية (الموساد) والمخابرات الروسية FSI والإيرانية وأجهزة أخرى على امتداد العالم وصولًا إلى كوريا الشمالية وملفات رصد كاملة لبعض أنشطة عدد كبير من دول العالم فيما يخص ثلاثية (الهيمنة الاقتصادية/ المعلوماتية/ صناعة السلاح).
إحدى أول التسريبات التي أعلنتها الجزيرة – في فيديو قصير لم يتعد الأربع دقائق- كانت عن مراقبة عملاء الـ SSI الجنوب أفريقيين للسفارة الإيرانية والعاملين فيها، وإعدادهم لملف سري عن إيران وقدراتها الاستخباراتية من مائة وثمانٍ وعشرين صفحة كاملة، الملف ركز بشكل كامل على رصد أنشطة إيران الأفريقية، وكيفية استخدامها لأنشطة اقتصادية وتجارية كغطاء فعال لنشاطها المخابراتي في جنوب أفريقيا تحديدًا!
كان هذا مثيرًا للاهتمام؛ مما دفعنا لتقصي الطريق للوصول لتصور فعال عن دور إيران في أفريقيا، واستراتيجيتها، وما الذي تحاول فعله بالضبط في القارة التي يتصارع على مواردها العالم بأكمله.
حاصر حصارك
لنرجع مرة أخرى إلى عقيدة الأطراف لتوضيح أصل اتجاه إيران لأفريقيا، فطهران التي تعزلها الولايات المتحدة منذ عام 2005 بسبب برنامجها النووي غير السلمي “على حد المزاعم الأمريكية” لا يمكنها أن تقف لتشاهد أعداءها الإقليمين والتاريخيين والعقديين يتمددون في ساحات الصراع بدون أن تحاول التمدد بدورها لتحافظ على سلطتها، لذلك، وفي عزلتها يبدو الخيار الأمثل هنا هو “عقيدة الأطراف”، الخيار الاستراتيجي الأفضل لأقطاب العالم حاليًا.
المصطلح، الذي صاغه وأطلقه ديفيد بن جوريون مهندس الدولة الصهيونية، يقدم لك السبيل الأمثل كـ(دولة) للخروج من فخ حصار قوة مهيمنة أو قوى لك، باستعمال العقيدة فإن الدولة المحاصَرة تستطيع تجاوز الحصار بأن تمد أذرعتها إلى مساحات محيطة بالدولة المحاصِرة أو بعيدة عن سيطرتها الكلية، باختصار (حاصر حصارك).
الجمهورية الإسلامية، إحدى أكبر دول العالم مساحة وصاحبة الموقع الجيوسياسي الفريد، وإحدى مراكز القوى الخمسة العالمية في النفط والغاز الطبيعي، هذه الجمهورية عندما قررت أن تفك حصارها لم يكن هناك أنسب لها من أفريقيا، ساحة الصراع الثانية عالميًّا والمورد الطبيعي الأكبر للكوكب، ويبدو هذا جليًا في ما مضي من سنوات، حيث تمتلك طهران الآن سفارات في أكثر من ثلاثين دولة أفريقية سيكون آخرها المغرب التي ستعيد علاقتها الدبلوماسية قريبًا مع طهران في تطور مفاجئ، وتفتح سفارتها في الرباط بعد القطيعة الشهيرة بينهما في 2009، فضلًا عن أنها عضو مراقب في الاتحاد الأفريقي أكبر منظومة إقليمية؛ حيث يضم 54 دولة.
يوضح الأمر أكثر الرئيس الأوغندي يوفه كاكوته في تصريحه أوائل الشهر الحالي عندما قال: (الجمهورية الإسلامية الإيرانية اعتمدت دومًا سياسة قائمة على حسن النية تجاه أفريقيا، وأنها من أهم أصدقائنا وشركائنا التجاريين).
الأهم، أن إيران تجبر المنافسين على التشتت، وتوسيع دائرة نشاطهم وإنفاق موارد أكبر بكثير لمواجهة طهران في ساحات معركة غير الساحة الأصلية، مما يعني ذلك بالنسبة للدول المعادية أو المنافسة من حياد عن الهدف وتخفيف مدهش لحدة الضغط على طهران.
السؤال الأهم الآن هو: ما الذي تريده إيران تحديدًا في أفريقيا؟ وما الذي تعطيه في المقابل؟
أ – اليورانيوم
مشكلة إيران الكبرى التي تتعارض مع طموحها لتكون دولة عظمى أنها دولة فقيرة باليورانيوم، ومخزونها – القديم- منه بمعدل تسارعها النووي الحالي على وشك النفاذ في الأعوام القادمة (مخزونها حصلت عليه من كيب تاون في 1970)، والولايات المتحدة تضيق الخناق على مصدري اليورانيوم الأساسيين لطهران (أوزباكستان/ كازخستان/ البرازيل)، ومع برنامج طموح يستهدف بناء ستة عشر مفاعلًا نوويًّا في السنوات التالية، ولذلك، تمثل أفريقيا لها كنزًا حقيقيًّا كقارة ترقد على جزء ضخم من الاحتياطي العالمي له، المعدن الأساسي في هذا المجال سواء باستخدامات سلمية أو بتخصيبه لصناعة القنابل النووية، حيث احتياطاته عالية جدًا في جنوب أفريقيا والنيجر ومالاوي وناميبيا وزيمبابوي وأوغندا، وهي الدول التي تتجه إليها إيران وتضعها على أولوية سياساتها الخارجية.
في 2006، كشفت إحدى وثائق (ويكي ليكس) المسربة أن الولايات المتحدة تلقت تقريرًا استخباراتيًّا من سفارتها في دار السلام (عاصمة تنزانيا السابقة) أن يورانيوم الكونغو ربما يمر من تنزانيا عن طريق شركتين سويسريتين للشحن ثم يصل إلى إيران، يفسر هذا بعدها الاهتمام الأمريكي الشديد بتوقيع اتفاقية مع الكونغو الديموقراطية تهدف لمنع الاتجار في المواد النووية بهدف قطع الطريق على طهران، وحينها كان تحاول مجموعة (Areva) عملاق الطاقة الفرنسي أخذ نصيب من الكعكة النووية أيضًا بحسب تسريبات ويكي!
في 2007، تم اكتشاف اليورانيوم في غينيا علي يد الشركة الأسترالية (مورتشيسن يونايتد) وبطبقات سمكها من سبعة أمتار إلى أربعة عشر مترًا وهو سمكٌ ضخم، مما أدى إلى تحولها من دولة هامشية لمحط أنظار الدول النووية، حينها بدأت إيران مباشرة في برنامج للتعاون الاقتصادي مع غينيا ليرتفع هذا التعاون في عام 2010 بنسبة 140%!
بعدها مباشرة، وفي نفس عام وصول برنامج التعاون الاقتصادي مع غينيا لهذا الحد زار أحمدي نجاد هراري (عاصمة زمبابوي) ليعقد اتفاقًا مع روبرت موجابي بموجبه توفر زمبابوي بطاقة خضراء لطهران لتصل إلى يورانيوم خام تقدر كميته بـ 455 ألف طن على مدار خمس سنوات، في صفقة كانت في حينها تحديًا سافرًا وضربة لجهود الأمم المتحدة في عرقلة البرنامج النووي الإيراني.
تستمر تحذيرات بعض الساسة الأمريكيين من أيدي إيران التي تنبسط بثقة وبتمدد ملحوظ على موارد اليورانيوم في بلاد وسط أفريقيا، وهم يرون أن إنفاق الوقت والمال والمجهود على منع الدول الأفريقية من إمداد طهران بالمعدن أفضل بكثير من محاربة البرنامج النووي بفيروسات كمبيوتر لم تدمر إلا 10% أو أكثر بقليل من أجهزة الطرد المركزي الأحد عشر ألفًا التي تزعم وكالات المخابرات الغربية أن إيران تمتلكها.
بـ -اقتصاد موازٍ وقوة ناعمة
علاقات تجارية متبادلة وصلت لأكثر من مليار دولار، الرقم الذي قد لا يبدو ضخمًا هو بشكل ما باب مهم من أبواب الدخول الإيراني لتحقيق أهداف أخرى قد لا تتحقق إلا عن طريق الاستثمار والشراكة التجارية.
يمكن فهم الشبكة من خلال تتبع الدبلوماسية الإيرانية في السنوات الأخيرة، حيث اتجهت لتعاون مفتوح يضمن ترابطًا اقتصاديًّا في القارة بأكثر مما تفعل الولايات المتحدة أو إسرائيل التي تحاول جاهدة إحباط مخططات التوسع تلك، مثلًا منذ 2005 وحتى نهاية مدة أحمدي نجاد منذ أكثر من عام، فإن الرئيس الإيراني الأسبق قام بخمس جولات أفريقية موسعة آخرها كان في 2013؛ حيث قام بزيارة غانا وبنين والنيجر قبل أن تنتهي ولايته.
يبدو الاهتمام الإيراني بأوغندا أوضح، مثلًا، وبعد تاريخ لا بأس به من الدعم الدبلوماسي الأوغندي لبرنامج إيران النووي أمام مجلس الأمن في 2010، ومشاريع اقتصادية ممولة وفي أواخر العام الماضي زار العميد (إسماعيل أحمدي مقدم) قائد الشرطة الإيرانية أوغندا ليوقع بروتوكول تعاون بمقتضاه تقوم إيران بتدريب شامل للشرطة الأوغندية ورفع كفاءة مع بناء مركز طبي للضباط بتكلفة تصل إلى مليون ونصف دولار، بينما في مستهل هذا الشهر غادر (محمد جواد ظريف) وزير الخارجية الإيراني طهران لجولة أفريقية رباعية تشمل بروندي وتنزانيا وأوغندا بالطبع، وبدأها بنيروبي العاصمة الكينية.
أما جنوب أفريقيا فيكفي ذكر التعاون الوثيق بين إيران وبين عملاق الاتصالات هناك (MTN) حيث تسيطر المجموعة الجنوب أفريقية الآن على 45% من سوق الاتصالات في الجمهورية الإسلامية بعد أن أعطتها طهران ترخيص العمل، وهو التعاون الذي روجت Turkcell (عملاق الاتصالات التركي) أنه فقط لتسهيل وصول طهران لبعض من تكنولوجيا الأسلحة الجنوب أفريقية وقاضت (MTN) قبل أن تخسر المجموعة التركية القضية!
وبما أن نجاد هو أول رئيس إيراني يتجه لأفريقيا بهذا الشكل قبل أن يترك منصبه، فإن أحد أهم ما ساعده على توثيق العلاقات وتطويرها واستقباله بحفاوة في كل دولة زارها هو رئاسة إيران لحركة عدم الانحياز، الحركة التي تأسست فعليًّا في عام 1955، وتضم الآن 118 دولة وثماني عشرة دولة كمراقب و10 منظمات، والتي كانت تضم جميع دول أفريقيا قبل انفصال جنوب السودان الذي لم ينضم للحركة حتى الآن.
وتُولي طهران اهتمامًا خاصًا للصومال، حيث من جهة تدعم بشكل غير مباشر حركة الشباب (فرع تنظيم القاعدة هناك)، وهو ما يبدو غريبًا لوهلة لكنه حاجز جيد لمواجهة النفوذ الأمريكي هناك، فضلًا عن أنها لم تنس الحكومة فتعهدت ببناء مرفق طبي إيراني يماثل تطور العيادة الإيرانية الشاملة في أكرا (غانا)، وهو أيضًا يعتبر تحديًا للنفوذ التركي المتنامي في مقديشو.
جــ – قــوة بحريــة وأســلحــة
عندما تريد إيران أن تنقل أسلحة فإنها تفعلها ببساطة تناسب حرية الدولة البحرية، تغادر السفن جنوب الجمهورية الإسلامية نزولًا في بحر العرب وصولًا إلى المحيط الهندي، من هناك يمكنها أن تصل إلى أي شاطئ بطول سواحل أفريقيا الشرقية، يمكنها أن تبحر في البحر الأحمر وصولًا للسودان، ومع النقل البري تصل إلى البحر المتوسط لإكمال الرحلة، عن طريق المهربين بالطبع.
إحدى أقوى مميزات طهران هي حدودها البحرية، فمن الشمال يحدها بحر قزوين أهم منطقة نفطية مستقبلية على سطح الأرض لما يحتويه تحت قاعه من احتياطات نفطية وغاز طبيعي هائلة، ومن الجنوب الغربي نجد الخليج الفارسي ووصول سريع ومضمون لسواحل دول الخليج العربي بالكامل، من الجنوب الشرقي الخليج العماني ثم بحر العرب مما يعطي وصولًا لـ (عمان/ اليمن/ الصومال) وخليج عدن لنصل إلى البحر الأحمر، أو المحيط الهندي بطول ساحل أفريقيا الشرقي أو جزء من الجنوب الغربي الآسيوي!
إيران التي تتمتع بـ 12% من مساحة بحر قزوين تطالب بمد حدودها إلى 20% منه وتدافع عن حقها في ذلك. وفي 2012، أطلقت طهران المدمرة (جامران 2) فضلًا عن إعادة زرع ألغام في مساحة لم تعرف على وجه الدقة من البحر، بينما تشارك روسيا علاقات بحرية وثيقة ضمن علاقتهما التعاونية المعلومة ضد إطار تقوده الولايات المتحدة، فنجدها مثلًا أعطت الحق لسفن البحرية الروسية بالدخول والرسو في قاعدة بندر عباس المهمة استراتيجيًا للتحكم في مضيق هرمز في جنوب إيران، والأهم أن هذا يعطي حرية حركة واسعة النطاق للبحرية الروسية للانتشار السريع الآمن في المحيط الهندي أحد مفاتيح الطرق البحرية العالمية، بينما على الجانب الآخر يتصاعد التعاون بين الصين وطهران، فالصين تستهلك النفط الإيراني باستمرار مقابل تعاون وثيق في مجالات التكنولوجيا العسكرية، حيث تعطي شنغهاي البحرية الإيرانية (IRIN) المعدات العسكرية اللازمة لتقوية ترسانتها على عكس ما يشاع من انحسار دور الأيرين.
تتمدد البحرية الإيرانية في أفريقيا بانتظام، منذ أن بدأت IRIN تشارك في بعثات مكافحة القراصنة في خليج عدن وترسو على سواحل الصومال، فضلًا عن العلاقات الحميمة مع إريتريا التي تدعم تنظيم القاعدة في الصومال (حركة الشباب)، وهي بذلك تحاول التضييق على النفوذ الإسرائيلي المتنامي هناك.
في 2011، عبرت سفينتان حربيتان إيرانيتان قناة السويس وهو الحدث الذي أثار الداخل المصري بعد الثورة، حيث يعتقد أن السفينتين كانتا تحملان أسلحة موردة لنظام بشار الأسد ضمن دعم طهران له ضد الثورة، فضلًا عن علاقتها الحميمة بالسودان، ويذكر في هذا الصدد انفجار أكتوبر 2012 حيث انفجرت منشأة أسلحة كاملة في الخرطوم ليوجه النظام السوداني أصابع الاتهام مباشرة إلى إسرائيل، وبعدها بأيام قليلة جدًا وصلت سفن حربية إيرانية للخرطوم كتداعٍ للحادثة!
منذ أسبوعين قام معهد الدراسات التنموية والدولية العالي بجنيف السويسرية عن طريق المشروع الاستقصائي (مسح الأسلحة الصغيرة) SAS بتتبع أصول ومصادر توريد الأسلحة في أحد أكثر المناطق الملتهبة في العالم وهي حدود دولتي (السودان، وجنوب السودان) في عصر ما بعد التقسيم، حيث تنتشر الميليشيات هناك والاقتتال الأهلي برغبة في السيطرة على منطقة غنية بالنفط كتلك؛ مما تسبب في تهجير نصف مليون سوداني تقريبًا، ووجدت أن جزءًا لا يستهان به من هذه الأسلحة إيرانية الصنع!
تجني إيران ثمرة علاقتها الاستراتيجية المتينة بالخرطوم، من جهة فهي المسئولة – حسب مصادر في الأمم المتحدة أعطت المعلومات لـ SAS- بمفردها عن 13% من واردات الأسلحة للسودان بالكامل من 2001 وحتى 2012، في علاقة نادرة مع حكومة تصنف على أنها سُنية، على الجانب الآخر كما ذكر بالأعلى تسمح الخرطوم للبحرية الإيرانية باستخدام بعض موانيها البحرية، ويمكن كذلك في السياق ذكر دعم طهران للخرطوم بعدد من طائرات الأبابيل الإيرانية بدون طيار للمراقبة، وتم العثور على حطام بعضها على الحدود المشتركة في الدولة المقسمة.
وبعد، على المدى القريب لا يبدو أن إيران تكتفي بدور المشاهد، وإنما تحاول بقدر الإمكان مواجهة النفوذ الإسرائيلي الأمريكي المتنامي في القارة، وأن تفك الحصار، وتحاصر حصارها وتجد لنفسها موطئ قدم في القارة الأغنى طبيعيًّا في العالم.
المصادر
برقيات التجسس.. تقارير تستعرض وثائق سرية حصلت عليها الجزيرة
برقيات التجسس: أنشطة إيران السرية في أفريقيا
برقيات التجسس: أنشطة إيران السرية في أفريقيا
الاختراق الإيراني الناعم لأفريقيا
Mahmoud Ahmadinejad’s African Safari
Iran's Bid for Africa's Uranium
Uranium being smuggled via EA to Iran WikiLeaks
IRANIAN NAVAL AND MARITIME STRATEGY
This map shows how Iranian weaponry is making Sudan one of Africa's most violent hotspots
Gettyimages
=================
إيران في إفريقيا.. القوّة الناعمة والأرض الرّخوة
ذراع طويلة
في صيف 2006، والملف النووي الإيراني يسوده الترقب، فاجأ الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد العالم كله، وأرسل رسالة موعظة مطوّلة، للرئيس الأميركي جورج بوش، أصرّ فيها أن يبدو بثياب المدافع عن العالم والمستضعفين، وقدّم نفسه على أنه معلم يتلقى أسئلة أخلاقيّة من طلابه، وفي فقرة لافتة قال نجاد لبوش: "ألا يحق لسكان أميركا اللاتينية أن يتساءلوا لماذا تتم معارضة حكوماتهم المنتخبة، ويتم دعم الحكومات التي تتسلم الحكم عبر انقلابات عسكرية؟
الرئيس السوداني عمر البشير يتوسط مرشد الثورة الإيرانية علي خامنئي والرئيس أحمدي نجاد
الشعوب الأفريقية المثابرة تستطيع أن تلعب دورا مهما في تلبية حاجات الشعوب الأخرى. والفقر المدقع حال دون تحقيق هذا الهدف السامي، ألا يحق لهؤلاء الشعوب أن تتساءل لماذا يتم نهب مواردها الطبيعية الهائلة التي هي في أمس الحاجة إليها؟”.
لم يكن حديثه عن أفريقيا اعتباطيًا، بل يعكس إدراكه لخارطة التحالفات المفترضة، ورغبته في التمدد والتحدث باسمها.
إفريقيا.. شعب فقير وأرض خصبة
لكل شيء مفارقة معتادة، ومسلّمة مكرورة تقول إنّ القارة السّمراء التي يُنظَر إليها أن تكون سلةً لغذاء العالم، والمورد المحتمل للمواد الخام، لا تجد قوت يومها، ولا تحضر في المحافل الدولية إلّا من باب مناقشة الحدْ من تأثير حروبها الأهلية وإغاثة جائعيها ومساعدة دولها لتجاوز الخلافات الوهميّة التي تعرقل مسيرة العالم، وتخفيف حدة العنف السّياسي، ويُدبِر عنها العالم ولا يحتسبها في عداد أروقة الملفات الرئيسة إلا لمامًا، من دون انتباه لما يمكن أن يتسبب به هذا الجفاء. فتهيّأت إفريقيا لتكون أرضًا خصبة لكل صاحب فكرة متمردة، أو مذهب جديد، أو حتى ديانة وليدة، فالبؤس والفقر يجعل كل قادم (أفضل) بكل تأكيد من مرارة الحاضر بالنّسبة لإفريقيا.
ولكن هذه القارة لم تكن بهذه المأساوية، لدى النظام الإيراني، الذي رأى فيها أرضًا خصبة لنشر النفوذ والايديولوجيا، في ظل انشغال العالم عنها، وانشغال القانون الدولي عنها أيضًا، فصارت أرضًا للعبور، ومكانًا صالحًا لتحقيق أحلام “تصدير الثورة”، ونُصرة المستضعفين، وحائطًا لتعزيز أمن إيران الإقليمي، وتربية مصالح إقليمية، فحضّرت فيها ملعبًا احتياطيًا لصراعاتها، مع الغرب وإسرائيل، ومنافسيها من دول الخليج.
طموحات قديمة.. تتجدد
منذ أن بدأت إيران عهدها الجديد في بداية الثمانينات بعد الثورة الخمينية، أرادت أن تكون ضمن القوى الفاعلة في الخارطة السياسية العالمية، من دون أن تتخلى عن ثورتها التي بدأت أول ما بدأت ثورة للانتصار للعرق الآري، وتربّت على كره “التسمم بالغرب” كما شاع حينها، إلى أن جاء الخميني وأخذ قطافها وألبسها عباءة دينية رسالية، وحاول بعد نجاح تحوير ثورته، تحويل الحالة الإيرانية إلى امتداد لثورات المظلومين، وانتفاضة أيديولوجية عالميّة، فمدت إيران عنقها الطويل لتطل على كل المناطق الميتة، أو المحايدة، لتتجمّع بها وتتقوى، فمن أين تبدأ، غير الأرض الخصبة المهملة!
عدو مشترك.. وغرب فاشل
في حوض النيل ودول البحيرات والقرن الأفريقي استغلت إيران الفشل الأميركي، فأثبتت أمشاجها على نغمة نصرة الاستضعاف، والاهتمام بالحلفاء الجدد اللذين يعاقبهم العالم سواء في السودان أو اريتريا أو موزمبيق، فانبجست بسياسات اقتصادية جاذبة، وحققت الكثير من الفتوحات، واضطرت الدول الأفريقية أحيانًا إلى التنازل في ملفات استراتيجية، حتى أصبح الحديث عن قواعد عسكرية لإيران على البحر الأحمر، حديثًا، يروج بلا خجل، ولا يجد من النفي إلا النفي المذيل بعبارة “وماذا لو كان لها قواعد، أليس من حقها ومن حقنا”، أما إيران فإنها تتاجر بمشاعر العداء لأميركا الذي يميّز المنطقة بعمومها، كما تحاول تطبيق نظرية اقتصادية جديدة، ولا ينافسها أحد.
السودان.. نقطة الانطلاق والانتهاء!
ارتبط الانفتاح الإيراني على أفريقيا بعهد الرئيس رفسنجاني، الذي حطت طائرته في عام 1991 في السّودان، الذي كان يعيش عامه الثاني في ظل نظام إسلامي عسكري إيديولوجي معزول ومحاصر من قبل المجتمع الدول، شكّلت زيارة رفسنجاني حدثًا محوريًا للسودان الإسلامي الجديد، وقد كانت الزيارة حصادًا لأعوام من التواصل مع الإسلاميين السودانيين حتى قبل استيلائهم على الحكم، وتتويجًا لدعم الإيرانيين للحكومة الجديدة في السودان. مثّلت الزيارة نقطة الانطلاق لتوسيع دائرة الاهتمام بالقارة السمراء.
وجد رفسنجاني حفاوة شعبية كبيرة، لشعبٍ يحب الضيوف، ولم يعش حساسية طائفية بين السّنة والشيعة أبدًا لأنه سني بالكامل، وفي خلفيته السطحية ولدى الحاكمين الجدد، لم تكن إيران أكثر من “دولة إسلامية”، وليس لها تصنيف أبعد من ذلك، على عكس ما تجده إيران في الدول التي تشهد انقسامات طائفية، فإن التخوفات تكون كثيرة، لوجود نظرية ولاية الفقيه السّياسيّة الدّينية، التي تهدد الأمن القومي بتعدد ولاء معتنقيها. منذ تلك الزيارة وإيران تستغل “براءة” العقل الإفريقي المسلم السّني، فهو خصب يتلقي الأفكار الجديدة، دون ممانعة.
سارعت إيران بتنشيط أذرعها المباشرة والخفية، مستغلة انتشار الكثير من الموالين لإيران في غرب إفريقيا عبر بعض المنتمين لحزب الله اللبناني والمتوالين معه، فتكررت زيارة رفسنجاني للسودان في عام 1996، ولكنها تمددت حينها إلى جنوب إفريقيا (وكانت صلاتها مع الشيعة فيها قديمة بدليل وجود حركات شيعية) وكينيا وأوغندا وتنزانيا، وزيمبابوي، وكانت تتحرك يومها وفقًا لفلسفة “سياسة البناء” التي بدأها رفسنجاني، وبعده عزز محمد خاتمي في زيارته لإفريقيا، كجنوب أفريقيا والسنغال ونيجيريا والنيجر، أسلوب التواصل الحضاري، بيد أنه كان يطمح بجانب التعزيز الاقتصادي والحوار الحضاري، إلى تأمين دعم دولي لبرنامج التسلح النووي الإيراني، باستغلال الوزن التصويتي للدول الإفريقية (لم ينجح ذلك). في عهد نجاد عادت النزعات الثورية إلى المنطق الإيراني، فبعد إنشاء منظمة تطوير التجارة مع الدول الأفريقية، وتعدد زياراته للقارة في 2010 و2009، لزيمبابوي وكينيا ونيجيريا والنيجر، وموروتانيا، جامعًا الايديولوجيا والاقتصاد معًا، وعمل على تنويع أدوات حضوره معتمدًا بالإضافة إلى “القوة الناعمة” على وسائل جديدة، كما استطاعت توظيف شبكة من التفاعلات غير الرسمية لخدمة مصالحها، حيث أصبح العديد من مواطنيها ومن حلفائها، خاصة “حزب الله” اللبناني، يعملون في مختلف أنحاء القارة الأفريقية. (السياسة الخارجية الإيرانية في أفريقيا، شريف شعبان مبروك، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، 2012).
دعم الحوثيين عبر اريتريا.. وقواعد في البحر الأحمر
الحديث عن العلاقات الإيرانية الإريترية تصاعد بعد التقارير التي تحدثت عن وصول سفينة محملة بالأسلحة الإيرانية إلى المتمردين الحوثيين في شمال اليمن عبر إريتريا، ورددت وسائل إعلام إسرائيلية عن وجود قاعدة عسكرية إيرانية بحرية بالقرب من ميناء عصب الإريتري (نقولا ناصر، المركز الإرتري للإعلام 2009). جدير بالذِكر أنّ إيران تعتبر وجود إسرائيل في أيّة مكان مبررًا لمد نفوذها إليه.
سودانيون يودعون بارجة إيرانية بعد زيارة للسودان في نطاق التعاون الإيراني السوداني
وكان تقرير صادر عن “ستراتفور” نصّ على أنّ “إيران تنقل أسلحة عبر طريق يبدأ من ميناء عصب الإريتري، ويمر شرقًا حول الطرف الجنوبي من بحر العرب في خليج عدن إلى مدينة شقراء التي تقع على ساحل جنوب اليمن، ومن هناك تتحرك الأسلحة برًا إلى شمال مدينة مأرب شرقي اليمن، وبعدها إلى محافظة صعدة على الحدود السعودية – اليمنية”. (إيران القوات المنتشرة في ارتريا، ستراتفور، ديسمبر(كانون الأول) 2008)، وفي أكتوبر (تشرين الأول) 2009، قال تقرير آخر “إيران تنقل مؤنًا للحوثيين”، وصدر تقرير في 29 أكتوبر 2012، بعنوان “شرق أفريقيا ميدان للصراع بين إيران وإسرائيل” حول عواقب الصراع الإسرائيلي الإيراني في اريتريا، وتحدّث عن اختيار إريتريا توثيق صلاتها بإيران، لأن إسرائيل مرتبطة بشكل أوثق بأثيوييا والحلف الأميركي، الذي لا يريد النظام الاريتري الحالي.
الإريتريون وعبر مراكز مراكز البحوث ـ أيضًا – قالوا إنّ العلاقات مع إيران عادية، على الرغم من القروض التي طلبها الرئيس الأريتري أسياس أفورقي (كانت اريتريا حصلت على قرض 25 مليون يورو من إيران في 2008)، فإنّها لا تتفوق على العلاقات الإيرانية الأثيوبية والسّودانية، بل تقل عنهما بكثير، ويرفض الإريتريون ما قالته التقارير الأميركية، عن وجود دائم لإيران في ميناء عصب، مقابل تأهيل مصفاة النفط الإريترية.(مركز إريتريا للدراسات الإستراتيجية، “ECSS”).
يقول الباحث المصري حسام سويلم: “المحللون في أجهزة الاستخبارات الغربية، توصلوا إلى خلاصة مفادها أن الوجود العسكري الإيراني الكثيف في أريتريا، يشير إلى مخطط إيراني لا يستهدف فقط اختراق اريتريا والقرن الأفريقي، بل أيضاً نقل الحرب من مضيق هرمز والخليج العربي إلى خليج عدن وباب المندب، وهو الممر الاستراتيجي المهم والحيوي لناقلات النفط إلى الدول المستوردة للطاقة في أوروبا والولايات المتحدة، وبذلك وسعّت إيران تهديداتها إلى خارج منطقة الخليج”. ويواصل “ويرتبط ذلك بما أعلنه قائد الحرس الثوري – الجنرال على جعفري – عن إقامة قواعد بحرية إضافية في بحر عمان، وهي تدخل أيضاً في إطار استمرار الاستعدادات الإيرانية لمواجهة عسكرية متوقعة، في ضوء تطورات صراعها مع المجتمع الدولى بسبب الملف النووي الإيراني، كما أن التسلل الإيراني إلى القرن الأفريقي، يعني في ذات الوقت أن طهران تهدف إلى توسيع دائرة الحرب، والتسلل مجدداً إلى هذه المنطقة التى تشهد حشوداً عسكرية مثيرة للشبهات تحت ذريعة محاربة القرصنة، واحتمالات متوقعة لحدوث انفجار جديد وكبير للأوضاع في الصومال ينعكس على سائر دول القرن الأفريقي”. (حسام سويلم، الأهرام الإستراتيجي ـ يناير 2010).
الإستراتيجية الإيرانية في شرق إفريقيا
مركز المعلومات حول الاستخبارات والإرهاب الأميركي، خلص في تقرير أصدره في 2010 إلى أن استراتيجية إيران في شرق أفريقيا والدول القريبة من البحر الأحمر تهدف إلى “ترسيخ نفوذها السياسي كجزء من المحور المعادي للغرب، الذي تسعى إلى إنشائه في دول العالم الثالث، وتعويض مصالحها الاقتصادية التي تفقدها في أوروبا وأميركا وآسيا، تنشيط المراكز الثقافية التي تنشر الفكر الشيعي، وتعزيز نفوذها، تأسيس وجود إيراني مادي على الأرض وفي البحر، قريبة من الميادين التنافسية ذات طابع المواجهة لإيران في الشرق الأوسط، والتي قد تستخدم لتهريب الأسلحة والعمليات الإرهابية).
ممانعة خجولة.. تنتظر العرب
كثيرون بدأوا في التنبه إلى الخطر الإيديولوجي للوجود الإيراني في الدول الإفريقية، فالنيجيريون يرفضون تدخل إيران ودعمها للإسلاميين والتشيع في الميدان السياسي النيجيري، وفي السودان بدأت حملات كبرى للتحذير من التشيع السياسي، ودعوات واضحة من الأحزاب السّياسية التقليدية، وأحزاب جديدة دخلت في حكومة البشير تدعو لفك الارتباط بالمحور الإيراني، والسّعي لتأمين العمق العربي، خاصة بعد أن انتقلت المعركة بين إيران وإسرائيل إلى العاصمة السودانية، إذ قامت الأخيرة بقصف مصنع للأسلحة الإيرانية في السودان، وضرب قافلات تهريب الأسلحة المارة عبر السودان وسيناء إلى غزة.
قبل الختام.. ضمور الثروة
يقول الباحثون إن طموح إيران، مفهوم، وتمددها له أهدافه، ولكن الغريب، هو ضمور العرب، وإهمال الملف الإفريقي، بعد رحيل القذافي، وتشتت مصر المنكفئة على جراحها وهي توشك على العطش بفعل السدود التي تقام على مجرى النيل، فهل تنجح إيران في الاستيلاء على البحر الأحمر، وتطوّق بذلك النفط العربي؟ وتواصل مدّها لسلطانها في غرب افريقيا، لتستحدث قنوات إنقاذ مالية، مستغلة ضعف مكافحة غسيل الأموال في تلك المواطن؟ أم يتنبه العرب، ويدخلون في المعادلة، الإيرانية الإسرائيلية الأميركية؟
كما أن ولاية الفقيه، كانت نظرية دينية سخّرت لبسط سلطة على الدنيا والسياسة، فإن نصرة المستضعفين كانت نظرية أخلاقية سخّرت لبسط النفوذ، فبدلاً من التسمم بالغرب يقترح الثوريون التسمم بالفرس، كل هذا يضخ الايديولوجية الدينية باسم ولاية الفقيه لتمنح إيران نفوذًا سياسيًا، ولكن بعد عقود من الثورة، يبدو مستقبل هذه النظرية في أفول، على الأقل على المستوى الديني، فيقول محسن كديور”أعتقد أننا نقترب من نهاية مرحلة ولاية الفقيه في إيران، وإن كان هناك أي مستقبل لولي فقيه، فسيكون من طهران وليس من قم، لأن إدارة المجتمع تحتاج إلى المعرفة السياسية أكثر من المعرفة الفقهية”” (الشرق الأوسط، 16 مارس/آذار 2007).
الضخّ الديني الذي كان يمنح إيران هالة ثورية، في ضمور، خاصة بعد الحرب السورية، وبعد القمع الداخلي، فهل سيتحرّك العرب الآن وفقًا لسياسة المصالح للدخول في الميدان؟
===============
حمدي عبد الرحمن
خبير في الشؤون الأفريقية
القوى الناعمة الإيرانية
البحث عن اليورانيوم
البحث عن قواعد وحلفاء
التبشير بالنموذج الإيراني
يلاحظ المتابع لأدبيات الفكر الإستراتيجي الإيراني منذ بداية العقد الماضي وجود رؤية واضحة حول أولوية أفريقيا في أجندة السياسة الخارجية الإيرانية. فقد اتسع نطاق العلاقات الإيرانية الأفريقية بشكل كبير منذ بداية الألفية الجديدة. وعلى سبيل المثال تمتلك إيران سفارات في أكثر من 30 دولة أفريقية. وفي منتصف 2010 عقدت القمة الأفريقية الإيرانية في طهران بمشاركة ممثلين عن 40 دولة أفريقية بينهم رؤساء ووزراء ودبلوماسيون ورجال أعمال.
أضف إلى ذلك أن إيران باتت تتمتع بصفة العضو المراقب في الاتحاد الأفريقي. وما فتئت القيادة الإيرانية على مستوى الرئاسة وكبار المسؤولين تزور العواصم الأفريقية بشكل دوري. ولعل الزيارة الأخيرة التي قام بها الرئيس أحمدي نجاد في منتصف أبريل/نيسان 2013 إلى كل من غانا وبنين والنيجر تعكس هذه الهجمة الإيرانية الناعمة على أفريقيا.
ومن اللافت للانتباه أن قراءة الملف الإيراني الأفريقي تعكس تبانيا واضحا في الرؤى والتوجهات. فثمة نفر من الكتاب يقف بشكل تبسيطي، وإن كان فيه قدر من الصحة عند حدود التبشير ونشر المذهب الشيعي.
وهناك من يقف عند حدود الأمني والعسكري، ويتحدث عن مخاطر الوجود الإيراني بالنسبة لتنامي النزعات الراديكالية المناوئة للغرب في أفريقيا. ولا شك أن هناك أبعادا ودلالات أخرى كثيرة تفسر لنا حقيقة التدافع الإيراني الكبير نحو أفريقيا، وهو ما نحاول أن نبينه في هذا المقال.
القوى الناعمة الإيرانية
لعل أحد الأهداف الإستراتيجية الكبرى لإيران في أفريقيا يتمثل في محاولة كسر حاجز العزلة الغربية المفروضة على إيران بسبب برنامجها النووي، إذ ترى إيران في القارة الأفريقية ساحة سهلة المنال من أجل كسب التأثير والنفوذ. ولا يخفى في هذا المجال القوة التصويتية لأفريقيا في المحافل والمنظمات الدولية، مثل الأمم المتحدة ومجلس محافظي الهيئة الدولية للطاقة النووية ومجموعة دول عدم الانحياز ومنظمة التعاون الإسلامي.
"تعمد إيران إلى كسب عقول وقلوب الأفارقة من خلال المساعدة في بناء مشروعات البنية التحتية للطاقة ومصافي النفط ومحطات توليد الكهرباء وحتى تقديم خبرتها التكنولوجية قي مجال الاستخدام السلمي للطاقة النووية"
فالصوت الأفريقي إن لم يكن مساندا لإيران فهو على الأقل في كثير من الأحيان ليس معاديا لها، حيث تميل بعض الدول الأفريقية إلى الامتناع عن التصويت عند مناقشة الملف الإيراني.
إن التهديد بفرض مزيد من العقوبات النفطية على إيران قد دفعها لتنويع صادراتها النفطية لتشمل الاقتصاديات النامية في أفريقيا. وتعمد إيران، كما هو الحال في أميركا اللاتينية، إلى كسب عقول وقلوب الأفارقة من خلال المساعدة في بناء مشروعات البنية التحتية للطاقة وتجديد مصافي النفط وبناء محطات توليد الكهرباء وحتى تقديم خبرتها التكنولوجية قي مجال الاستخدام السلمي للطاقة النووية.
وعلى صعيد التبادل التجاري أبدت إيران استعدادا لشراء الكاكاو من غانا، كما قامت بإنشاء مصنع لإنتاج سيارات الأجرة في السنغال. ومن الملاحظ أن صادرات السيارات الإيرانية لكل من السودان والسنغال قد أسهمت بشكل كبير في إحداث رواج لسوق السيارات في الداخل الإيراني.
وفي المجال الثقافي تحاول إيران طرح نفسها بديلا للعقلية الاستعمارية الجديدة وللنوايا الإمبريالية الغربية في أفريقيا. لقد أشارت افتتاحية إحدى الصحف اليومية الأكثر شعبية في هراري عاصمة زيمبابوي إلى هذا المعنى بقولها "إن إيران هي الأقرب لنا وهي تقترب منا كل يوم بدرجة أكبر".
"ونحن لا نتحدث هنا عن مستوى العلاقات الثنائية، على أهميتها، ولكننا نشير إلى المصير الحتمي الذي يربط إيران ببقية دول العالم ونحن منهم. إن إيران دولة معادية للإمبريالية ونحن كذلك".
البحث عن اليورانيوم
على أن من الأهداف الكبرى للتحرك الإيراني الدؤوب في أفريقيا الذي جسدته زيارات أحمدي نجاد الخمس لأفريقيا منذ وصوله للسلطة عام 2005 يتمثل في الحصول على اليورانيوم. ولعل ذلك يفسر لنا سر السعي الإيراني نحو تدعيم علاقاتها مع الدول المنتجة لهذا المعدن، مثل زيمبابوي والنيجر وناميبيا.
ومن المعلوم أن إيران تخطط لبناء 16 مفاعلا نوويا لإنتاج الطاقة واستخدامها لأغراض مدنية. وإذا تمكنت الحكومة الإيرانية بالفعل من استكمال هذا البرنامج النووي فإن هذا يعني نضوب إنتاجها المحلي من اليورانيوم في غضون عشرة أعوام. ولعل ذلك المتغير هو الذي يجعل علاقة إيران بالدول الأفريقية المنتجة لليورانيوم ذات طبيعة إستراتيجية كبرى.
ولا يخفي أن احتياطات اليورانيوم توجد في كثير من الدول الأفريقية الأخرى، مثل توغو وغينيا وأفريقيا الوسطى والكونغو الديمقراطية وأوغندة وزيمبابوي. وتسعى إيران لدعم علاقاتها مع كثير من هذه البلدان.
ويعطي تطور العلاقات الإيرانية مع غينيا في غرب أفريقيا مؤشرا واضحا حول أهمية متغير اليورانيوم في السياسة الخارجية الإيرانية. فمنذ اكتشاف اليورانيوم في غينيا عام 2007 توطدت علاقات طهران بها، حتى إن التبادل التجاري بين البلدين في العام 2010 قد زاد بنسبة 140%.
البحث عن قواعد وحلفاء
لقد حاولت إيران، ولا سيما في ظل قيادة أحمدي نجاد، تحقيق اختراق كبير لدول أميركا اللاتينية وأفريقيا بهدف خلق قواعد وتحالفات إقليمية معادية للولايات المتحدة والغرب عموما. وقد ساعدت دول مثل فنزويلا في ظل قيادة الراحل هوغو شافيز على تحقيق هذا الهدف الإيراني.
"من الأهداف الكبرى للتحرك الإيراني الدؤوب في أفريقيا الحصول على اليورانيوم, وهو ما يفسر المنحى الإستراتيجي في الاختراق الإيراني لأفريقيا"
ففي العام 2007 قام الرئيس أحمدي نجاد بجولة في بلدان أميركا اللاتينية، كما أنه عقد في طهران في نفس العام مؤتمر دولي حول أميركا اللاتينية. ومن الواضح أن السودان يطرح البديل الأفريقي لفنزويلا بالنسبة لإيران، حيث إن الخرطوم تمثل نقطة انطلاق مهمة للسياسة الإيرانية في أفريقيا.
وتشكل منطقة شرق أفريقيا إحدى المحطات الإستراتيجية المهمة لإيران في مواجهتها للقوى الغربية، ففي أعقاب زيارة الرئيس الإريتري أسياسي أفورقي لطهران في ديسمبر/كانون الأول 2008 تردد أن إيران حصلت على تسهيلات في ميناء عصب على البحر الأحمر، وهو ما يعطيها نقطة ارتكاز تمكنها من القيام بمهام جهادية وقتالية ضد القوى الغربية إذ ما قررت الأخيرة تدمير قدرات إيران النووية. ولعل سعي إيران لتطوير علاقاتها مع دول شرق أفريقيا الأخرى مثل كينيا وتنزانيا وجزر القمر يؤكد هذا المنحى الإستراتيجي في الاختراق الإيراني لأفريقيا.
ومن المثير أن إيران لا تتردد في استخدام قوتها غير الناعمة وما تملك من قدرات عسكرية من أجل بناء التحالفات والقواعد في أفريقيا، فقد أشار تقرير مهم صدر نهاية العام 2012 عن منظمة "بحث تسليح الصراع البريطانية إلى توزيع الأسلحة الإيرانية في أفريقيا. وتشمل هذه الأسلحة راجمات الصواريخ وقذائف الهاون والألغام الأرضية، وهي أسلحة أنتجت منذ العام 2002. ولعل السودان يمثل أبرز الأمثلة الأفريقية على عمق التعاون العسكري بينها وبين إيران حيث يشمل هذا التعاون تصدير أنواع من الأسلحة والذخائر والمعدات الإيرانية للسودان.
التبشير بالنموذج الإيراني
لقد استلهمت بعض الحركات والجماعات الإسلامية في أفريقيا في خطابها الإسلامي تجربة الثورة الإيرانية، وذلك في مسعاها لتغيير واقع الجمود والتخلف الذي أصاب المجتمعات المسلمة الأفريقية في مرحلة ما بعد رحيل الاستعمار. ولا يخفى أن حركية النموذج الإيراني وليس ما ينطوي عليه من اجتهادات وقناعات فقهية كانت هي الأكثر تأثيرا على الواقع الأفريقي في بعض رؤاه الإصلاحية.
بيد أن الإستراتيجية الإيرانية الجديدة في أفريقيا قد وظفت هذا التأثير السياسي من أجل تطويره ليأخذ طابعا دينيا مذهبيا، وهو ما يدخل في إطار نشر المذهب الشيعي بين الجماعات المسلمة في أفريقيا.
ولعل أبرز مثال في هذا السياق هو تجربة الحركة الإسلامية في نيجيريا أو "إخوان نيجيريا" بزعامة الشيخ إبراهيم الزكزاكي الذي قام بزيارة مدينة قم الإيرانية وتلقى تمويلا إيرانيا ليحول جماعته بعد ذلك إلى جماعة جهادية تحارب الحكومة العلمانية وتسعى إلى تطبيق الشريعة الإسلامية وفقا للنموذج الإيراني.
وتنتشر جماعة الزكزاكي في ولايات الشمال ولا سيما في كانو وكادونا وزاريا. وتعتمد هذه الجماعة في تجنيد أعضائها على خريجي بعض جامعات الشمال النيجيري المسلم مثل جامعة أحمدو بللو وعثمان دان فوديو. وأحسب أن الرؤية الإيرانية ترمي إلى خلق قواعد محلية موالية لإيران باعتبار مرجعية حوزتها الدينية من أجل الضغط على الحكومات الوطنية والعمل في مواجهة المصالح الغربية في أفريقيا.
"الاختراق الإيراني لأفريقيا الذي يرمي إلى الخروج من إسار العزلة الغربية المفروضة على إيران بسبب برنامجها النووي يستبطن تحقيق أهداف أخرى "
على أن تجربة المد الشيعي لم تعتمد فقط على نيجيريا وإنما شملت دولا أخرى مثل السنغال التي شهدت بناء حوزة علمية بجوار جامعة دكار، وهي تمنح الطالب شهادة تعادل الثانوية، كما أن هناك المركز الثقافي الإيراني في مالي. ومن الملاحظ أن الجاليات الشيعية اللبنانية تسهم بدور كبير في نشر التشيع بين الأفارقة، كما هو الحال بالنسبة لساحل العاج.
وعليه يمكن القول إن الاختراق الإيراني لأفريقيا الذي يعتمد على دوافع سياسية واقتصادية معلنة ترمي إلى الخروج من إسار العزلة الغربية المفروضة على إيران بسبب برنامجها النووي يستبطن تحقيق أهداف أخرى قد تبدو غير واضحة.
فالإستراتيجية الإيرانية لها أياد غير ناعمة كذلك، حيث إنها تتورط في تصدير الأسلحة لمناطق الصراعات الأفريقية بغية تحقيق مصالح سياسية وإستراتيجية. ولا تقتصر الحركة الإيرانية على ما هو سياسي واقتصادي وعسكري فقط في أفريقيا، ولكنها تقوم على رافعة مذهبية وثقافية كي تستطيع من خلالها تثبيت الأقدام بعد كسب نفوس وقلوب الأفارقة.
وهذا هو بيت القصيد في الاختراق الإيراني الجديد لأفريقيا الذي يرتدي عباءة المصالح المتبادلة والوقوف في مواجهة قوى الإمبريالية والاستكبار العالمي.
===================
عن التوغل الإيراني في أفريقيا!
أضف هذا المقال إلى المفضلة
إحذف هذا المقال من المفضلة
شارك بتعليق على هذا المقال
هيثم قطب
7
هيثم قطب
7
1,222منذ سنة واحدة، 27 فبراير,2015
في ساحة المعركة ليس لزامًا على الطرفين المتصارعين القتال وجهًا لوجه، وليس لزامًا أن تكون الساحة واحدة، بل يمكن إدارة الصراع بوسائل عنكبوتية التعقيد في ساحات بعيدة كل البعد عن الساحة الأصلية للقتال.
يوم الإثنين الماضي أعلنت وحدة الصحافة الاستقصائية في شبكة الجزيرة الفضائية عن امتلاكها لمئات الوثائق الاستخباراتية عالية السرية من العديد من أجهزة المخابرات وشبكات التجسس في العالم، الوثائق – التي تسربت للجزيرة وتنشرها بالتعاون مع الجارديان البريطانية- هي عبارة عن تحليلات تفصيلية وتقارير معلوماتية كتبها عملاء تابعين لجهاز أمن الدولة (SSI) في جنوب أفريقيا، التحليلات والبرقيات عبارة عن مراسلات سرية ثنائية وواسعة النطاق بين جنوب أفريقيا وبين المخابرات المركزية الأمريكية CIA والمخابرات البريطانية MI6 ومخابرات رئاسة الوزراء الإسرائيلية (الموساد) والمخابرات الروسية FSI والإيرانية وأجهزة أخرى على امتداد العالم وصولًا إلى كوريا الشمالية وملفات رصد كاملة لبعض أنشطة عدد كبير من دول العالم فيما يخص ثلاثية (الهيمنة الاقتصادية/ المعلوماتية/ صناعة السلاح).
إحدى أول التسريبات التي أعلنتها الجزيرة – في فيديو قصير لم يتعد الأربع دقائق- كانت عن مراقبة عملاء الـ SSI الجنوب أفريقيين للسفارة الإيرانية والعاملين فيها، وإعدادهم لملف سري عن إيران وقدراتها الاستخباراتية من مائة وثمانٍ وعشرين صفحة كاملة، الملف ركز بشكل كامل على رصد أنشطة إيران الأفريقية، وكيفية استخدامها لأنشطة اقتصادية وتجارية كغطاء فعال لنشاطها المخابراتي في جنوب أفريقيا تحديدًا!
كان هذا مثيرًا للاهتمام؛ مما دفعنا لتقصي الطريق للوصول لتصور فعال عن دور إيران في أفريقيا، واستراتيجيتها، وما الذي تحاول فعله بالضبط في القارة التي يتصارع على مواردها العالم بأكمله.
حاصر حصارك
لنرجع مرة أخرى إلى عقيدة الأطراف لتوضيح أصل اتجاه إيران لأفريقيا، فطهران التي تعزلها الولايات المتحدة منذ عام 2005 بسبب برنامجها النووي غير السلمي “على حد المزاعم الأمريكية” لا يمكنها أن تقف لتشاهد أعداءها الإقليمين والتاريخيين والعقديين يتمددون في ساحات الصراع بدون أن تحاول التمدد بدورها لتحافظ على سلطتها، لذلك، وفي عزلتها يبدو الخيار الأمثل هنا هو “عقيدة الأطراف”، الخيار الاستراتيجي الأفضل لأقطاب العالم حاليًا.
المصطلح، الذي صاغه وأطلقه ديفيد بن جوريون مهندس الدولة الصهيونية، يقدم لك السبيل الأمثل كـ(دولة) للخروج من فخ حصار قوة مهيمنة أو قوى لك، باستعمال العقيدة فإن الدولة المحاصَرة تستطيع تجاوز الحصار بأن تمد أذرعتها إلى مساحات محيطة بالدولة المحاصِرة أو بعيدة عن سيطرتها الكلية، باختصار (حاصر حصارك).
الجمهورية الإسلامية، إحدى أكبر دول العالم مساحة وصاحبة الموقع الجيوسياسي الفريد، وإحدى مراكز القوى الخمسة العالمية في النفط والغاز الطبيعي، هذه الجمهورية عندما قررت أن تفك حصارها لم يكن هناك أنسب لها من أفريقيا، ساحة الصراع الثانية عالميًّا والمورد الطبيعي الأكبر للكوكب، ويبدو هذا جليًا في ما مضي من سنوات، حيث تمتلك طهران الآن سفارات في أكثر من ثلاثين دولة أفريقية سيكون آخرها المغرب التي ستعيد علاقتها الدبلوماسية قريبًا مع طهران في تطور مفاجئ، وتفتح سفارتها في الرباط بعد القطيعة الشهيرة بينهما في 2009، فضلًا عن أنها عضو مراقب في الاتحاد الأفريقي أكبر منظومة إقليمية؛ حيث يضم 54 دولة.
يوضح الأمر أكثر الرئيس الأوغندي يوفه كاكوته في تصريحه أوائل الشهر الحالي عندما قال: (الجمهورية الإسلامية الإيرانية اعتمدت دومًا سياسة قائمة على حسن النية تجاه أفريقيا، وأنها من أهم أصدقائنا وشركائنا التجاريين).
الأهم، أن إيران تجبر المنافسين على التشتت، وتوسيع دائرة نشاطهم وإنفاق موارد أكبر بكثير لمواجهة طهران في ساحات معركة غير الساحة الأصلية، مما يعني ذلك بالنسبة للدول المعادية أو المنافسة من حياد عن الهدف وتخفيف مدهش لحدة الضغط على طهران.
السؤال الأهم الآن هو: ما الذي تريده إيران تحديدًا في أفريقيا؟ وما الذي تعطيه في المقابل؟
أ – اليورانيوم
مشكلة إيران الكبرى التي تتعارض مع طموحها لتكون دولة عظمى أنها دولة فقيرة باليورانيوم، ومخزونها – القديم- منه بمعدل تسارعها النووي الحالي على وشك النفاذ في الأعوام القادمة (مخزونها حصلت عليه من كيب تاون في 1970)، والولايات المتحدة تضيق الخناق على مصدري اليورانيوم الأساسيين لطهران (أوزباكستان/ كازخستان/ البرازيل)، ومع برنامج طموح يستهدف بناء ستة عشر مفاعلًا نوويًّا في السنوات التالية، ولذلك، تمثل أفريقيا لها كنزًا حقيقيًّا كقارة ترقد على جزء ضخم من الاحتياطي العالمي له، المعدن الأساسي في هذا المجال سواء باستخدامات سلمية أو بتخصيبه لصناعة القنابل النووية، حيث احتياطاته عالية جدًا في جنوب أفريقيا والنيجر ومالاوي وناميبيا وزيمبابوي وأوغندا، وهي الدول التي تتجه إليها إيران وتضعها على أولوية سياساتها الخارجية.
في 2006، كشفت إحدى وثائق (ويكي ليكس) المسربة أن الولايات المتحدة تلقت تقريرًا استخباراتيًّا من سفارتها في دار السلام (عاصمة تنزانيا السابقة) أن يورانيوم الكونغو ربما يمر من تنزانيا عن طريق شركتين سويسريتين للشحن ثم يصل إلى إيران، يفسر هذا بعدها الاهتمام الأمريكي الشديد بتوقيع اتفاقية مع الكونغو الديموقراطية تهدف لمنع الاتجار في المواد النووية بهدف قطع الطريق على طهران، وحينها كان تحاول مجموعة (Areva) عملاق الطاقة الفرنسي أخذ نصيب من الكعكة النووية أيضًا بحسب تسريبات ويكي!
في 2007، تم اكتشاف اليورانيوم في غينيا علي يد الشركة الأسترالية (مورتشيسن يونايتد) وبطبقات سمكها من سبعة أمتار إلى أربعة عشر مترًا وهو سمكٌ ضخم، مما أدى إلى تحولها من دولة هامشية لمحط أنظار الدول النووية، حينها بدأت إيران مباشرة في برنامج للتعاون الاقتصادي مع غينيا ليرتفع هذا التعاون في عام 2010 بنسبة 140%!
بعدها مباشرة، وفي نفس عام وصول برنامج التعاون الاقتصادي مع غينيا لهذا الحد زار أحمدي نجاد هراري (عاصمة زمبابوي) ليعقد اتفاقًا مع روبرت موجابي بموجبه توفر زمبابوي بطاقة خضراء لطهران لتصل إلى يورانيوم خام تقدر كميته بـ 455 ألف طن على مدار خمس سنوات، في صفقة كانت في حينها تحديًا سافرًا وضربة لجهود الأمم المتحدة في عرقلة البرنامج النووي الإيراني.
تستمر تحذيرات بعض الساسة الأمريكيين من أيدي إيران التي تنبسط بثقة وبتمدد ملحوظ على موارد اليورانيوم في بلاد وسط أفريقيا، وهم يرون أن إنفاق الوقت والمال والمجهود على منع الدول الأفريقية من إمداد طهران بالمعدن أفضل بكثير من محاربة البرنامج النووي بفيروسات كمبيوتر لم تدمر إلا 10% أو أكثر بقليل من أجهزة الطرد المركزي الأحد عشر ألفًا التي تزعم وكالات المخابرات الغربية أن إيران تمتلكها.
بـ -اقتصاد موازٍ وقوة ناعمة
علاقات تجارية متبادلة وصلت لأكثر من مليار دولار، الرقم الذي قد لا يبدو ضخمًا هو بشكل ما باب مهم من أبواب الدخول الإيراني لتحقيق أهداف أخرى قد لا تتحقق إلا عن طريق الاستثمار والشراكة التجارية.
يمكن فهم الشبكة من خلال تتبع الدبلوماسية الإيرانية في السنوات الأخيرة، حيث اتجهت لتعاون مفتوح يضمن ترابطًا اقتصاديًّا في القارة بأكثر مما تفعل الولايات المتحدة أو إسرائيل التي تحاول جاهدة إحباط مخططات التوسع تلك، مثلًا منذ 2005 وحتى نهاية مدة أحمدي نجاد منذ أكثر من عام، فإن الرئيس الإيراني الأسبق قام بخمس جولات أفريقية موسعة آخرها كان في 2013؛ حيث قام بزيارة غانا وبنين والنيجر قبل أن تنتهي ولايته.
يبدو الاهتمام الإيراني بأوغندا أوضح، مثلًا، وبعد تاريخ لا بأس به من الدعم الدبلوماسي الأوغندي لبرنامج إيران النووي أمام مجلس الأمن في 2010، ومشاريع اقتصادية ممولة وفي أواخر العام الماضي زار العميد (إسماعيل أحمدي مقدم) قائد الشرطة الإيرانية أوغندا ليوقع بروتوكول تعاون بمقتضاه تقوم إيران بتدريب شامل للشرطة الأوغندية ورفع كفاءة مع بناء مركز طبي للضباط بتكلفة تصل إلى مليون ونصف دولار، بينما في مستهل هذا الشهر غادر (محمد جواد ظريف) وزير الخارجية الإيراني طهران لجولة أفريقية رباعية تشمل بروندي وتنزانيا وأوغندا بالطبع، وبدأها بنيروبي العاصمة الكينية.
أما جنوب أفريقيا فيكفي ذكر التعاون الوثيق بين إيران وبين عملاق الاتصالات هناك (MTN) حيث تسيطر المجموعة الجنوب أفريقية الآن على 45% من سوق الاتصالات في الجمهورية الإسلامية بعد أن أعطتها طهران ترخيص العمل، وهو التعاون الذي روجت Turkcell (عملاق الاتصالات التركي) أنه فقط لتسهيل وصول طهران لبعض من تكنولوجيا الأسلحة الجنوب أفريقية وقاضت (MTN) قبل أن تخسر المجموعة التركية القضية!
وبما أن نجاد هو أول رئيس إيراني يتجه لأفريقيا بهذا الشكل قبل أن يترك منصبه، فإن أحد أهم ما ساعده على توثيق العلاقات وتطويرها واستقباله بحفاوة في كل دولة زارها هو رئاسة إيران لحركة عدم الانحياز، الحركة التي تأسست فعليًّا في عام 1955، وتضم الآن 118 دولة وثماني عشرة دولة كمراقب و10 منظمات، والتي كانت تضم جميع دول أفريقيا قبل انفصال جنوب السودان الذي لم ينضم للحركة حتى الآن.
وتُولي طهران اهتمامًا خاصًا للصومال، حيث من جهة تدعم بشكل غير مباشر حركة الشباب (فرع تنظيم القاعدة هناك)، وهو ما يبدو غريبًا لوهلة لكنه حاجز جيد لمواجهة النفوذ الأمريكي هناك، فضلًا عن أنها لم تنس الحكومة فتعهدت ببناء مرفق طبي إيراني يماثل تطور العيادة الإيرانية الشاملة في أكرا (غانا)، وهو أيضًا يعتبر تحديًا للنفوذ التركي المتنامي في مقديشو.
جــ – قــوة بحريــة وأســلحــة
عندما تريد إيران أن تنقل أسلحة فإنها تفعلها ببساطة تناسب حرية الدولة البحرية، تغادر السفن جنوب الجمهورية الإسلامية نزولًا في بحر العرب وصولًا إلى المحيط الهندي، من هناك يمكنها أن تصل إلى أي شاطئ بطول سواحل أفريقيا الشرقية، يمكنها أن تبحر في البحر الأحمر وصولًا للسودان، ومع النقل البري تصل إلى البحر المتوسط لإكمال الرحلة، عن طريق المهربين بالطبع.
إحدى أقوى مميزات طهران هي حدودها البحرية، فمن الشمال يحدها بحر قزوين أهم منطقة نفطية مستقبلية على سطح الأرض لما يحتويه تحت قاعه من احتياطات نفطية وغاز طبيعي هائلة، ومن الجنوب الغربي نجد الخليج الفارسي ووصول سريع ومضمون لسواحل دول الخليج العربي بالكامل، من الجنوب الشرقي الخليج العماني ثم بحر العرب مما يعطي وصولًا لـ (عمان/ اليمن/ الصومال) وخليج عدن لنصل إلى البحر الأحمر، أو المحيط الهندي بطول ساحل أفريقيا الشرقي أو جزء من الجنوب الغربي الآسيوي!
إيران التي تتمتع بـ 12% من مساحة بحر قزوين تطالب بمد حدودها إلى 20% منه وتدافع عن حقها في ذلك. وفي 2012، أطلقت طهران المدمرة (جامران 2) فضلًا عن إعادة زرع ألغام في مساحة لم تعرف على وجه الدقة من البحر، بينما تشارك روسيا علاقات بحرية وثيقة ضمن علاقتهما التعاونية المعلومة ضد إطار تقوده الولايات المتحدة، فنجدها مثلًا أعطت الحق لسفن البحرية الروسية بالدخول والرسو في قاعدة بندر عباس المهمة استراتيجيًا للتحكم في مضيق هرمز في جنوب إيران، والأهم أن هذا يعطي حرية حركة واسعة النطاق للبحرية الروسية للانتشار السريع الآمن في المحيط الهندي أحد مفاتيح الطرق البحرية العالمية، بينما على الجانب الآخر يتصاعد التعاون بين الصين وطهران، فالصين تستهلك النفط الإيراني باستمرار مقابل تعاون وثيق في مجالات التكنولوجيا العسكرية، حيث تعطي شنغهاي البحرية الإيرانية (IRIN) المعدات العسكرية اللازمة لتقوية ترسانتها على عكس ما يشاع من انحسار دور الأيرين.
تتمدد البحرية الإيرانية في أفريقيا بانتظام، منذ أن بدأت IRIN تشارك في بعثات مكافحة القراصنة في خليج عدن وترسو على سواحل الصومال، فضلًا عن العلاقات الحميمة مع إريتريا التي تدعم تنظيم القاعدة في الصومال (حركة الشباب)، وهي بذلك تحاول التضييق على النفوذ الإسرائيلي المتنامي هناك.
في 2011، عبرت سفينتان حربيتان إيرانيتان قناة السويس وهو الحدث الذي أثار الداخل المصري بعد الثورة، حيث يعتقد أن السفينتين كانتا تحملان أسلحة موردة لنظام بشار الأسد ضمن دعم طهران له ضد الثورة، فضلًا عن علاقتها الحميمة بالسودان، ويذكر في هذا الصدد انفجار أكتوبر 2012 حيث انفجرت منشأة أسلحة كاملة في الخرطوم ليوجه النظام السوداني أصابع الاتهام مباشرة إلى إسرائيل، وبعدها بأيام قليلة جدًا وصلت سفن حربية إيرانية للخرطوم كتداعٍ للحادثة!
منذ أسبوعين قام معهد الدراسات التنموية والدولية العالي بجنيف السويسرية عن طريق المشروع الاستقصائي (مسح الأسلحة الصغيرة) SAS بتتبع أصول ومصادر توريد الأسلحة في أحد أكثر المناطق الملتهبة في العالم وهي حدود دولتي (السودان، وجنوب السودان) في عصر ما بعد التقسيم، حيث تنتشر الميليشيات هناك والاقتتال الأهلي برغبة في السيطرة على منطقة غنية بالنفط كتلك؛ مما تسبب في تهجير نصف مليون سوداني تقريبًا، ووجدت أن جزءًا لا يستهان به من هذه الأسلحة إيرانية الصنع!
تجني إيران ثمرة علاقتها الاستراتيجية المتينة بالخرطوم، من جهة فهي المسئولة – حسب مصادر في الأمم المتحدة أعطت المعلومات لـ SAS- بمفردها عن 13% من واردات الأسلحة للسودان بالكامل من 2001 وحتى 2012، في علاقة نادرة مع حكومة تصنف على أنها سُنية، على الجانب الآخر كما ذكر بالأعلى تسمح الخرطوم للبحرية الإيرانية باستخدام بعض موانيها البحرية، ويمكن كذلك في السياق ذكر دعم طهران للخرطوم بعدد من طائرات الأبابيل الإيرانية بدون طيار للمراقبة، وتم العثور على حطام بعضها على الحدود المشتركة في الدولة المقسمة.
وبعد، على المدى القريب لا يبدو أن إيران تكتفي بدور المشاهد، وإنما تحاول بقدر الإمكان مواجهة النفوذ الإسرائيلي الأمريكي المتنامي في القارة، وأن تفك الحصار، وتحاصر حصارها وتجد لنفسها موطئ قدم في القارة الأغنى طبيعيًّا في العالم.
المصادر
برقيات التجسس.. تقارير تستعرض وثائق سرية حصلت عليها الجزيرة
برقيات التجسس: أنشطة إيران السرية في أفريقيا
برقيات التجسس: أنشطة إيران السرية في أفريقيا
الاختراق الإيراني الناعم لأفريقيا
Mahmoud Ahmadinejad’s African Safari
Iran's Bid for Africa's Uranium
Uranium being smuggled via EA to Iran WikiLeaks
IRANIAN NAVAL AND MARITIME STRATEGY
This map shows how Iranian weaponry is making Sudan one of Africa's most violent hotspots
Gettyimages
=================
إيران في إفريقيا.. القوّة الناعمة والأرض الرّخوة
ذراع طويلة
في صيف 2006، والملف النووي الإيراني يسوده الترقب، فاجأ الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد العالم كله، وأرسل رسالة موعظة مطوّلة، للرئيس الأميركي جورج بوش، أصرّ فيها أن يبدو بثياب المدافع عن العالم والمستضعفين، وقدّم نفسه على أنه معلم يتلقى أسئلة أخلاقيّة من طلابه، وفي فقرة لافتة قال نجاد لبوش: "ألا يحق لسكان أميركا اللاتينية أن يتساءلوا لماذا تتم معارضة حكوماتهم المنتخبة، ويتم دعم الحكومات التي تتسلم الحكم عبر انقلابات عسكرية؟
الرئيس السوداني عمر البشير يتوسط مرشد الثورة الإيرانية علي خامنئي والرئيس أحمدي نجاد
الشعوب الأفريقية المثابرة تستطيع أن تلعب دورا مهما في تلبية حاجات الشعوب الأخرى. والفقر المدقع حال دون تحقيق هذا الهدف السامي، ألا يحق لهؤلاء الشعوب أن تتساءل لماذا يتم نهب مواردها الطبيعية الهائلة التي هي في أمس الحاجة إليها؟”.
لم يكن حديثه عن أفريقيا اعتباطيًا، بل يعكس إدراكه لخارطة التحالفات المفترضة، ورغبته في التمدد والتحدث باسمها.
إفريقيا.. شعب فقير وأرض خصبة
لكل شيء مفارقة معتادة، ومسلّمة مكرورة تقول إنّ القارة السّمراء التي يُنظَر إليها أن تكون سلةً لغذاء العالم، والمورد المحتمل للمواد الخام، لا تجد قوت يومها، ولا تحضر في المحافل الدولية إلّا من باب مناقشة الحدْ من تأثير حروبها الأهلية وإغاثة جائعيها ومساعدة دولها لتجاوز الخلافات الوهميّة التي تعرقل مسيرة العالم، وتخفيف حدة العنف السّياسي، ويُدبِر عنها العالم ولا يحتسبها في عداد أروقة الملفات الرئيسة إلا لمامًا، من دون انتباه لما يمكن أن يتسبب به هذا الجفاء. فتهيّأت إفريقيا لتكون أرضًا خصبة لكل صاحب فكرة متمردة، أو مذهب جديد، أو حتى ديانة وليدة، فالبؤس والفقر يجعل كل قادم (أفضل) بكل تأكيد من مرارة الحاضر بالنّسبة لإفريقيا.
ولكن هذه القارة لم تكن بهذه المأساوية، لدى النظام الإيراني، الذي رأى فيها أرضًا خصبة لنشر النفوذ والايديولوجيا، في ظل انشغال العالم عنها، وانشغال القانون الدولي عنها أيضًا، فصارت أرضًا للعبور، ومكانًا صالحًا لتحقيق أحلام “تصدير الثورة”، ونُصرة المستضعفين، وحائطًا لتعزيز أمن إيران الإقليمي، وتربية مصالح إقليمية، فحضّرت فيها ملعبًا احتياطيًا لصراعاتها، مع الغرب وإسرائيل، ومنافسيها من دول الخليج.
طموحات قديمة.. تتجدد
منذ أن بدأت إيران عهدها الجديد في بداية الثمانينات بعد الثورة الخمينية، أرادت أن تكون ضمن القوى الفاعلة في الخارطة السياسية العالمية، من دون أن تتخلى عن ثورتها التي بدأت أول ما بدأت ثورة للانتصار للعرق الآري، وتربّت على كره “التسمم بالغرب” كما شاع حينها، إلى أن جاء الخميني وأخذ قطافها وألبسها عباءة دينية رسالية، وحاول بعد نجاح تحوير ثورته، تحويل الحالة الإيرانية إلى امتداد لثورات المظلومين، وانتفاضة أيديولوجية عالميّة، فمدت إيران عنقها الطويل لتطل على كل المناطق الميتة، أو المحايدة، لتتجمّع بها وتتقوى، فمن أين تبدأ، غير الأرض الخصبة المهملة!
عدو مشترك.. وغرب فاشل
في حوض النيل ودول البحيرات والقرن الأفريقي استغلت إيران الفشل الأميركي، فأثبتت أمشاجها على نغمة نصرة الاستضعاف، والاهتمام بالحلفاء الجدد اللذين يعاقبهم العالم سواء في السودان أو اريتريا أو موزمبيق، فانبجست بسياسات اقتصادية جاذبة، وحققت الكثير من الفتوحات، واضطرت الدول الأفريقية أحيانًا إلى التنازل في ملفات استراتيجية، حتى أصبح الحديث عن قواعد عسكرية لإيران على البحر الأحمر، حديثًا، يروج بلا خجل، ولا يجد من النفي إلا النفي المذيل بعبارة “وماذا لو كان لها قواعد، أليس من حقها ومن حقنا”، أما إيران فإنها تتاجر بمشاعر العداء لأميركا الذي يميّز المنطقة بعمومها، كما تحاول تطبيق نظرية اقتصادية جديدة، ولا ينافسها أحد.
السودان.. نقطة الانطلاق والانتهاء!
ارتبط الانفتاح الإيراني على أفريقيا بعهد الرئيس رفسنجاني، الذي حطت طائرته في عام 1991 في السّودان، الذي كان يعيش عامه الثاني في ظل نظام إسلامي عسكري إيديولوجي معزول ومحاصر من قبل المجتمع الدول، شكّلت زيارة رفسنجاني حدثًا محوريًا للسودان الإسلامي الجديد، وقد كانت الزيارة حصادًا لأعوام من التواصل مع الإسلاميين السودانيين حتى قبل استيلائهم على الحكم، وتتويجًا لدعم الإيرانيين للحكومة الجديدة في السودان. مثّلت الزيارة نقطة الانطلاق لتوسيع دائرة الاهتمام بالقارة السمراء.
وجد رفسنجاني حفاوة شعبية كبيرة، لشعبٍ يحب الضيوف، ولم يعش حساسية طائفية بين السّنة والشيعة أبدًا لأنه سني بالكامل، وفي خلفيته السطحية ولدى الحاكمين الجدد، لم تكن إيران أكثر من “دولة إسلامية”، وليس لها تصنيف أبعد من ذلك، على عكس ما تجده إيران في الدول التي تشهد انقسامات طائفية، فإن التخوفات تكون كثيرة، لوجود نظرية ولاية الفقيه السّياسيّة الدّينية، التي تهدد الأمن القومي بتعدد ولاء معتنقيها. منذ تلك الزيارة وإيران تستغل “براءة” العقل الإفريقي المسلم السّني، فهو خصب يتلقي الأفكار الجديدة، دون ممانعة.
سارعت إيران بتنشيط أذرعها المباشرة والخفية، مستغلة انتشار الكثير من الموالين لإيران في غرب إفريقيا عبر بعض المنتمين لحزب الله اللبناني والمتوالين معه، فتكررت زيارة رفسنجاني للسودان في عام 1996، ولكنها تمددت حينها إلى جنوب إفريقيا (وكانت صلاتها مع الشيعة فيها قديمة بدليل وجود حركات شيعية) وكينيا وأوغندا وتنزانيا، وزيمبابوي، وكانت تتحرك يومها وفقًا لفلسفة “سياسة البناء” التي بدأها رفسنجاني، وبعده عزز محمد خاتمي في زيارته لإفريقيا، كجنوب أفريقيا والسنغال ونيجيريا والنيجر، أسلوب التواصل الحضاري، بيد أنه كان يطمح بجانب التعزيز الاقتصادي والحوار الحضاري، إلى تأمين دعم دولي لبرنامج التسلح النووي الإيراني، باستغلال الوزن التصويتي للدول الإفريقية (لم ينجح ذلك). في عهد نجاد عادت النزعات الثورية إلى المنطق الإيراني، فبعد إنشاء منظمة تطوير التجارة مع الدول الأفريقية، وتعدد زياراته للقارة في 2010 و2009، لزيمبابوي وكينيا ونيجيريا والنيجر، وموروتانيا، جامعًا الايديولوجيا والاقتصاد معًا، وعمل على تنويع أدوات حضوره معتمدًا بالإضافة إلى “القوة الناعمة” على وسائل جديدة، كما استطاعت توظيف شبكة من التفاعلات غير الرسمية لخدمة مصالحها، حيث أصبح العديد من مواطنيها ومن حلفائها، خاصة “حزب الله” اللبناني، يعملون في مختلف أنحاء القارة الأفريقية. (السياسة الخارجية الإيرانية في أفريقيا، شريف شعبان مبروك، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، 2012).
دعم الحوثيين عبر اريتريا.. وقواعد في البحر الأحمر
الحديث عن العلاقات الإيرانية الإريترية تصاعد بعد التقارير التي تحدثت عن وصول سفينة محملة بالأسلحة الإيرانية إلى المتمردين الحوثيين في شمال اليمن عبر إريتريا، ورددت وسائل إعلام إسرائيلية عن وجود قاعدة عسكرية إيرانية بحرية بالقرب من ميناء عصب الإريتري (نقولا ناصر، المركز الإرتري للإعلام 2009). جدير بالذِكر أنّ إيران تعتبر وجود إسرائيل في أيّة مكان مبررًا لمد نفوذها إليه.
سودانيون يودعون بارجة إيرانية بعد زيارة للسودان في نطاق التعاون الإيراني السوداني
وكان تقرير صادر عن “ستراتفور” نصّ على أنّ “إيران تنقل أسلحة عبر طريق يبدأ من ميناء عصب الإريتري، ويمر شرقًا حول الطرف الجنوبي من بحر العرب في خليج عدن إلى مدينة شقراء التي تقع على ساحل جنوب اليمن، ومن هناك تتحرك الأسلحة برًا إلى شمال مدينة مأرب شرقي اليمن، وبعدها إلى محافظة صعدة على الحدود السعودية – اليمنية”. (إيران القوات المنتشرة في ارتريا، ستراتفور، ديسمبر(كانون الأول) 2008)، وفي أكتوبر (تشرين الأول) 2009، قال تقرير آخر “إيران تنقل مؤنًا للحوثيين”، وصدر تقرير في 29 أكتوبر 2012، بعنوان “شرق أفريقيا ميدان للصراع بين إيران وإسرائيل” حول عواقب الصراع الإسرائيلي الإيراني في اريتريا، وتحدّث عن اختيار إريتريا توثيق صلاتها بإيران، لأن إسرائيل مرتبطة بشكل أوثق بأثيوييا والحلف الأميركي، الذي لا يريد النظام الاريتري الحالي.
الإريتريون وعبر مراكز مراكز البحوث ـ أيضًا – قالوا إنّ العلاقات مع إيران عادية، على الرغم من القروض التي طلبها الرئيس الأريتري أسياس أفورقي (كانت اريتريا حصلت على قرض 25 مليون يورو من إيران في 2008)، فإنّها لا تتفوق على العلاقات الإيرانية الأثيوبية والسّودانية، بل تقل عنهما بكثير، ويرفض الإريتريون ما قالته التقارير الأميركية، عن وجود دائم لإيران في ميناء عصب، مقابل تأهيل مصفاة النفط الإريترية.(مركز إريتريا للدراسات الإستراتيجية، “ECSS”).
يقول الباحث المصري حسام سويلم: “المحللون في أجهزة الاستخبارات الغربية، توصلوا إلى خلاصة مفادها أن الوجود العسكري الإيراني الكثيف في أريتريا، يشير إلى مخطط إيراني لا يستهدف فقط اختراق اريتريا والقرن الأفريقي، بل أيضاً نقل الحرب من مضيق هرمز والخليج العربي إلى خليج عدن وباب المندب، وهو الممر الاستراتيجي المهم والحيوي لناقلات النفط إلى الدول المستوردة للطاقة في أوروبا والولايات المتحدة، وبذلك وسعّت إيران تهديداتها إلى خارج منطقة الخليج”. ويواصل “ويرتبط ذلك بما أعلنه قائد الحرس الثوري – الجنرال على جعفري – عن إقامة قواعد بحرية إضافية في بحر عمان، وهي تدخل أيضاً في إطار استمرار الاستعدادات الإيرانية لمواجهة عسكرية متوقعة، في ضوء تطورات صراعها مع المجتمع الدولى بسبب الملف النووي الإيراني، كما أن التسلل الإيراني إلى القرن الأفريقي، يعني في ذات الوقت أن طهران تهدف إلى توسيع دائرة الحرب، والتسلل مجدداً إلى هذه المنطقة التى تشهد حشوداً عسكرية مثيرة للشبهات تحت ذريعة محاربة القرصنة، واحتمالات متوقعة لحدوث انفجار جديد وكبير للأوضاع في الصومال ينعكس على سائر دول القرن الأفريقي”. (حسام سويلم، الأهرام الإستراتيجي ـ يناير 2010).
الإستراتيجية الإيرانية في شرق إفريقيا
مركز المعلومات حول الاستخبارات والإرهاب الأميركي، خلص في تقرير أصدره في 2010 إلى أن استراتيجية إيران في شرق أفريقيا والدول القريبة من البحر الأحمر تهدف إلى “ترسيخ نفوذها السياسي كجزء من المحور المعادي للغرب، الذي تسعى إلى إنشائه في دول العالم الثالث، وتعويض مصالحها الاقتصادية التي تفقدها في أوروبا وأميركا وآسيا، تنشيط المراكز الثقافية التي تنشر الفكر الشيعي، وتعزيز نفوذها، تأسيس وجود إيراني مادي على الأرض وفي البحر، قريبة من الميادين التنافسية ذات طابع المواجهة لإيران في الشرق الأوسط، والتي قد تستخدم لتهريب الأسلحة والعمليات الإرهابية).
ممانعة خجولة.. تنتظر العرب
كثيرون بدأوا في التنبه إلى الخطر الإيديولوجي للوجود الإيراني في الدول الإفريقية، فالنيجيريون يرفضون تدخل إيران ودعمها للإسلاميين والتشيع في الميدان السياسي النيجيري، وفي السودان بدأت حملات كبرى للتحذير من التشيع السياسي، ودعوات واضحة من الأحزاب السّياسية التقليدية، وأحزاب جديدة دخلت في حكومة البشير تدعو لفك الارتباط بالمحور الإيراني، والسّعي لتأمين العمق العربي، خاصة بعد أن انتقلت المعركة بين إيران وإسرائيل إلى العاصمة السودانية، إذ قامت الأخيرة بقصف مصنع للأسلحة الإيرانية في السودان، وضرب قافلات تهريب الأسلحة المارة عبر السودان وسيناء إلى غزة.
قبل الختام.. ضمور الثروة
يقول الباحثون إن طموح إيران، مفهوم، وتمددها له أهدافه، ولكن الغريب، هو ضمور العرب، وإهمال الملف الإفريقي، بعد رحيل القذافي، وتشتت مصر المنكفئة على جراحها وهي توشك على العطش بفعل السدود التي تقام على مجرى النيل، فهل تنجح إيران في الاستيلاء على البحر الأحمر، وتطوّق بذلك النفط العربي؟ وتواصل مدّها لسلطانها في غرب افريقيا، لتستحدث قنوات إنقاذ مالية، مستغلة ضعف مكافحة غسيل الأموال في تلك المواطن؟ أم يتنبه العرب، ويدخلون في المعادلة، الإيرانية الإسرائيلية الأميركية؟
كما أن ولاية الفقيه، كانت نظرية دينية سخّرت لبسط سلطة على الدنيا والسياسة، فإن نصرة المستضعفين كانت نظرية أخلاقية سخّرت لبسط النفوذ، فبدلاً من التسمم بالغرب يقترح الثوريون التسمم بالفرس، كل هذا يضخ الايديولوجية الدينية باسم ولاية الفقيه لتمنح إيران نفوذًا سياسيًا، ولكن بعد عقود من الثورة، يبدو مستقبل هذه النظرية في أفول، على الأقل على المستوى الديني، فيقول محسن كديور”أعتقد أننا نقترب من نهاية مرحلة ولاية الفقيه في إيران، وإن كان هناك أي مستقبل لولي فقيه، فسيكون من طهران وليس من قم، لأن إدارة المجتمع تحتاج إلى المعرفة السياسية أكثر من المعرفة الفقهية”” (الشرق الأوسط، 16 مارس/آذار 2007).
الضخّ الديني الذي كان يمنح إيران هالة ثورية، في ضمور، خاصة بعد الحرب السورية، وبعد القمع الداخلي، فهل سيتحرّك العرب الآن وفقًا لسياسة المصالح للدخول في الميدان؟
===============
عمر البشير الترابي
باحث وكاتب سوداني
=============
إيران وأفريقيا .. المراوحة بين المد الشيعي والبراجماتي
24/02/2016
حظيت القارة الإفريقية بأولوية واضحة بين دوائر حركة السياسة الخارجية الإيرانية منذ ستينيات القرن الماضي، لكن انهماك إيران في حربها مع العراق، وتخوف الأفارقة من المد الشيعي، وسياسة تصدير الثورة؛ شكّل قيدًا قويًّا على الطموح الإيراني في النفاذ إلى القارة السمراء، حتى جاءت الفرصة في عهد الرئيس الإيراني هاشمي رفسنجاني، وهو الأمر الذي استمر في عهد الرئيس خاتمي، الذي انفتح على القارة بعقلية براجماتية متحررة إلى حدٍّ ما من القيود الأيديولوجية، وكذا عهد الرئيس نجاد الذي أعاد الخطاب الأيديولوجي إلى الواجهة.
عوامل التوجه الإيراني صوب إفريقيا:
هناك العديد من العوامل التي تقف وراء التوجه الإيراني صوب القارة السمراء، التي تمثل فضاء واسعًا يضم أربعة وخمسين دولة، تجسد في مجموعها ثقلا تصويتيًّا لا يُستهان به في المحافل الدولية، وعلى رأسها الجمعية العامة للأمم المتحدة، التي تحل فيها إفريقيا في المرتبة الثانية بعد الكتلة الآسيوية، بالإضافة إلى حركة عدم الانحياز، ومجموعة السبع والسبعين، ومنظمة التعاون الإسلامي، ومجموعة الدول النامية الثمانية "-D"، والوكالة الدولية للطاقة الذرية.
1- العوامل السياسية والأمنية:
تسعى إيران إلى خلق بيئة مواتية في القارة، داعمة لأيديولوجيتها، ومتقبلة لمبادئ سياستها الخارجية، بما يمنحها الفرصة لإيجاد موطئ قدم بين القوى الدولية والإقليمية المتنافسة في القارة، خاصة الولايات المتحدة وإسرائيل. وهنا تعتقد إيران أن تاريخها ومقدراتها القومية تسوغان لها الحصول على مكانة مرموقة في إفريقيا. وهو أمر بات ضروريًّا بعد أن ضاقت الدوائر عليها، باحتدام الصراع في سوريا، والمشكلات التي ألمّت بحزب الله وحركة حماس، بما يؤشر إلى تراجع نفوذهما الإقليمي.
وتحرص طهران على حشد التأييد الإفريقي لبرنامجها النووي، وهو ما يُفسر إعلان استعدادها لتقديم خبراتها التقنية في هذا المجال إلى بعض الدول الإفريقية، خاصةً جنوب إفريقيا ونيجيريا، وربما مصر في حال تحسنت العلاقات معها.
كما تتمسك إيران بخلق بيئة أمنية مواتية تضمن سلامتها الإقليمية ومصالحها الاقتصادية، خاصةً أنها تملك مشروعًا إقليميًّا تُواجهه مشروعات أخرى منافسة، وهو ما يفسر تمركز القطع البحرية الإيرانية في خليج عدن، في سياق محاربة ظاهرة اختطاف السفن، ومحاولاتها الدؤوبة النفاذ إلى دائرة البحر الأحمر، بجانبية الآسيوي (اليمن)، والإفريقي (إريتريا وجيبوتي).
2- العوامل الاقتصادية:
تبدو أهميةُ هذه العوامل بالقياس إلى الفرص الواعدة المتاحة للاستثمار الإيراني في القارة، والحجم الكبير للسوق الإفريقية، التي تتجاوز المليار نسمة، بمساحتها التي تربو على 30 مليون كم مربع، وهو ما يمثل فرصة سانحة أمام المنتجات الإيرانية، خاصة النفط، الذي ارتفعت قيمة صادراته لإفريقيا من 1.3 مليار دولار عام 2003 إلى 3.6 مليارات دولار عام 2012. كما تعد القارة مصدرًا وفيرًا للثروات المعدنية والطبيعية؛ حيث إنها تزخر بـ3% من احتياطي الثروات المعدنية في العالم. وهنا تبدو الأهمية الفائقة لخام اليورانيوم الذي تنتج القارة نحو 20% من إنتاجه العالمي.
3- العامل الديني:
يُعد العامل الديني على درجة كبيرة من الأهمية بالنسبة لإيران التي تنصب نفسها حاميةً للشيعة في العالم، لذا فهي تحرص على مد النفوذ الشيعي في القارة الإفريقية، استغلالا لظروف الفقر، واستثمارًا لوجود جيوب شيعية في بعض دولها، خاصة في كينيا، وتنزانيا، وجزر القمر، ونيجيريا، والسنغال، وساحل العاج.
وعلى ذلك، سعت إيران إلى النفاذ إلى القارة الإفريقية، بأقاليمها الجغرافية الخمسة، وإن كانت قد منحت الأولوية للشرق الإفريقي والبحر الأحمر، نظرًا لقربه من الخليج العربي الذي يقع في صلب استراتيجيتها الإقليمية، ويمنحها فرصًا للضغط على دول الخليج، خاصة السعودية، بالإضافة إلى عبور الصادرات الإيرانية البحرين الأحمر والمتوسط، مرورًا بقناة السويس.
أدوات السياسة الخارجية الإيرانية:
لم تتردد طهران في توظيف كافة أدوات سياستها الخارجية بغية صيانة وتعظيم مصالحها في القارة، وتتمثل تلك الأدوات في:
1- الأدوات السياسية:
تسعى إيران إلى إقامة واستعادة التمثيل الدبلوماسي والزيارات المتبادلة مع الدول الإفريقية، والمشاركة في الأطر التنظيمية الإقليمية والدولية القائمة، وصياغة أطر مؤسسية خاصة لتنظيم علاقاتها مع الدول الإفريقية؛ إذ ترتبط طهران بعلاقات دبلوماسية مع نحو ثلاثين دولة إفريقية، كما يتراوح مستوى التمثيل بين درجة السفارة إلى مكاتب رعاية المصالح، وذلك بحسب مقتضيات الحال، ومراعاة للاعتبارات الخاصة ببعض الدول الإفريقية التي تتمسك بموازنة علاقاتها مع إيران بعلاقاتها الدولية الأخرى.
كما يحرص الرؤساء الإيرانيون على زيارة الدول الإفريقية بشكل دوري، خلال جولات مطولة، تشمل العديد من الدول جملة واحدة، وبوفود كبيرة، تضم مختلف التخصصات والخبرات والخلفيات المهنية. وهنا تجدر الإشارة إلى جولة الرئيس خاتمي في يناير 2005، التي شملت سبع دول إفريقية، والتي تلتها جولات عديدة مهمة ومتقاربة زمنيًّا للرئيس نجاد. وفي المقابل استقبلت العاصمة الإيرانية الكثير من الرؤساء والمسئولين الأفارقة، سواء للمشاركة في المؤتمرات الدولية، وآخرها قمة دول عدم الانحياز، أو في إطار زيارات ثنائية.
كما تهتم إيران بالمشاركة الفاعلة في الأطر التنظيمية الدولية والإقليمية القائمة، والتي تضم في عضويتها دولا إفريقية. وهنا تحظى منظمة التعاون الإسلامي بأهمية واضحة، ذلك لاعتبارين، أولهما: أنها تمنح إيران منبرًا تبدو فيه في هيئة المدافع العالمي عن الإسلام. أما الآخر فهو أن القارة الإفريقية هي أكبر قارة من حيث نسبة المسلمين إلى إجمالي عدد السكان (52%). كما تحرص إيران أيضًا على المشاركة في القمم الدورية للاتحاد الإفريقي، وقد ازداد هذا التوجه بحصول إيران على وضعية العضو المراقب في الاتحاد الإفريقي.
من جهةٍ أخرى، تسعى إيران إلى تطوير أطر مؤسسية خاصة تُنظِّم علاقاتها بالقارة السمراء. وقد مهّدت لذلك بذكاء عبر باب الثقافة، بتنظيم مؤتمر العلاقات الثقافية الحضارية الإيرانية الإفريقية في أبريل 2001، في محاولة لخلق أرضية مشتركة للتفاهم مع الأفارقة، ثم استضافة منتدى التعاون الإيراني الإفريقي في مارس 2003، بغية الترويج لإنشاء تكتل وسوق تجارية بين الدول الإفريقية والآسيوية تكون إيران طرفًا فيه، وصولا إلى استضافة القمة الإفريقية الإيرانية في طهران في أبريل 2010، بهدف التنسيق السياسي الشامل مع الأفارقة.
2- الأدوات الاقتصادية:
ومن أهمها توقيع اتفاقات التجارة، وإقامة المعارض التجارية، وضخ الاستثمارات في الدول الإفريقية، واللجان المشتركة المعنية بتنسيق السياسات الاقتصادية، والمساعدات التنموية. وهنا تجدر الإشارة إلى تركيز إيران في تجارتها على بعض الدول، مثل جنوب إفريقيا، التي أمدتها بمخزونها من اليورانيوم في عقد السبعينيات من القرن الماضي، والتي تُعد حاليًّا الشريك التجاري الأول لإيران في القارة. بالإضافة إلى النيجر، التي تملك وحدها سادس أكبر احتياطات العالم من اليورانيوم، وتستأثر بـ46.5% من إنتاجه إفريقيًّا، وكينيا التي تُعتبر من أهم مستوردي النفط الإيراني، والتي وقَّعت في يوليو 2012 صفقة لشراء أربعة ملايين طن من النفط الخام الإيراني سنويًّا، وكذا السودان والسنغال وجامبيا وموريتانيا.
وبالنسبة للاستثمارات الإيرانية، فهي تركز على أمرين، أولهما: فتح آفاق جديدة أمام الصناعة والتكنولوجيا الإيرانية، خاصة في مجالات البتروكيماويات "مشروع زيادة إنتاج النفط من ميناء مومباسا الكيني"، وإنتاج السيارات والآلات والأجهزة الكهربائية. وهنا تبرز شركة "خودرو" لتصنيع السيارات. وثانيهما: التركيز على قطاع البنية الأساسية، ومنها شبكة الطرق في السودان، ومشروع جسر جاو على نهر النيجر.
وفيما يتعلق بلجان تنسيق السياسات الاقتصادية، فأهمها اللجنة العليا المشتركة بين إيران وجنوب إفريقيا، ولجنة التنسيق بين إيران ونيجيريا فيما يتعلق بإنتاج وتصدير وتسعير النفط، والتي وصفها الرئيس محمد خاتمي بأنها تمثل "نموذجًا يجب أن يحتذيه الآخرون".
أما المساعدات التنموية، فأهمها دعم عمليات إعادة الإعمار، مثلما هو الحال في سيراليون والصومال، وتقديم المساعدات في مجالات التعليم إلى السنغال ومالي، وتطوير الخدمات الصحية، ومنها استكمال بناء مستشفى في العاصمة الموريتانية نواكشوط كانت تُبنى بتمويل من الحكومة الإسرائيلية، وهو أمر بالغ الدلالة على الجانب الموريتاني رسميًّا وشعبيًّا.
3- الأدوات العسكرية:
يأتي في مقدمتها صادرات السلاح والذخيرة وقطع الغيار، وتقديم خدمات التدريب العسكري. وبالطبع يغلب الطابع السري على استخدام هذه الأدوات، نظرًا لما يثيره ذلك من حساسيات، خاصة بالنسبة لدول الخليج العربي. وتعتبر السودان من أهم الدول التي استفادت في مرحلة معينة من هذا الجانب.
4- الأدوات الثقافية:
وهي تتضمن إقامة المراكز الثقافية، والمكتبات العامة، والمشاركة في معارض الكتب، وتقديم المنح الدراسية للطلاب الأفارقة في إيران، خاصة في جامعة الإمام الخميني، وإصدار المطبوعات باللغة العربية "جريدة الوفاق" وباللغات المحلية الإفريقية أيضًا، بهدف خلق التعاطف مع الدولة الإيرانية، ونشر المذهب الشيعي بشكل غير مباشر. وهنا تستفيد إيران من وجود الجاليات الشيعية في إفريقيا، خاصةً الجالية اللبنانية، التي تتمتع بروابط اقتصادية قوية في العديد من دول القارة، ومنها ساحل العاج.
الخطاب السياسي الإيراني في إفريقيا:
طرحت إيران خطابًا سياسيًّا له جاذبيته لدى الأفارقة الذين عانوا طويلا من ويلات الاستعمار والعنصرية يقوم على ثلاثة محاور هي:
1- التعاون المشترك القائم على تعزيز المصالح المتبادلة والندية، مع التركيز على القضايا وثيقة الصلة بالحياة اليومية للأفارقة وبمستقبلهم، مثل قضايا التنمية ومحاربة الفقر.
2- المواجهة مع الغرب، وتقديم نفسها كنموذج مناهض للقوى الغربية. وهنا دأبت إيران على تأكيد تضامنها مع القارة الإفريقية، ومساندتها لحقها في النهضة والتقدم، بما يتسق مع مواردها الهائلة، ومثال ذلك إبراز الدور الأوروبي في تجارة الرقيق في إفريقيا، وتأكيد موقف طهران الرافض لسياسة الاحتلال واستغلال الشعوب، وإعلان مساندتها لسياسة حكومة زيمبابوي في انتزاع ملكية الأراضي التي يُهيمن عليها البيض، والتضامن مع السودان في مواجهة العقوبات الأمريكية، والمحكمة الجنائية الدولية.
3- تقديم إيران للأفارقة باعتبارها نموذجًا تنمويًّا يقوم على رؤية إسلامية مستنيرة للتحديث، ويسعى بشكل دؤوب لتحقيق التنمية بالاعتماد على المقدرات القومية الذاتية، والشباب الأكفاء، مؤكدةً ضرورة احتذاء الدول الإفريقية للنموذج التنموي الإيراني.
ويلاحظ أن هذا الخطاب يتسق مع مبادئ الدستور الإيراني التي تنص على حماية المستضعفين في الأرض. كما يتوافق مع رغبة إيران في خلق ما يُسمى "العولمة البديلة" في مواجهة القوى المهيمنة على النظام العالمي الجديد "قوى الاستكبار العالمي". وفي هذا السياق، أكد الرئيس نجاد عام 2009 أن دولا مثل إيران والبرازيل وفنزويلا وبوليفيا وجامبيا والسنغال لديها القدرة على إنشاء نظام عالمي جديد.
المكاسب الإيرانية:
ساهم التأثير التعاضدي للخطاب السياسي الإيراني والتوظيف المتكامل لأدوات السياسة الخارجية، في تحقيق العديد من المكاسب، أبرزها مساعدة إيران على الخروج من فكاك العزلة الدولية والإقليمية، وضمان تصويت الأفارقة لصالحها في العديد من الملفات، أو على الأقل امتناعهم عن التصويت، خاصةً بالنسبة لمسائل حقوق الإنسان والملف النووي، بالإضافة إلى زيادة حجم التجارة والاستثمارات الإيرانية في القارة.
وعلى سبيل المثال، تحفظت جميع دول غرب إفريقيا -عدا ليبيريا وتوجو- على قرار الأمم المتحدة بشأن انتهاك السلطات الإيرانية لحقوق الإنسان خلال الانتخابات الرئاسية لعام 2009. كما صدرت تصريحات عديدة تؤكد تأييد الأفارقة لامتلاك إيران تكنولوجيا نووية للأغراض السلمية. كما رفض معظم ممثلي القارة في الوكالة الدولية للطاقة الذرية نقل الملف إلى مجلس الأمن، ورفض إقرار العقوبات الدولية ضد إيران.
التحديات التي تُواجه الدور الإيراني في إفريقيا:
بينما يتوقع الكثيرون أن يُسهم الاتفاق النووي الإيراني الذي أبرمه الرئيس حسن روحاني مع الدول الغربية، ورفع العقوبات الأمريكية عن طهران؛ في إطلاق العنان للسياسة الإيرانية في إفريقيا، خاصة مع توافر المبرر أمام الدول الإفريقية لتنمية علاقاتها مع إيران - لكن في تصوري فإنه توجد الكثير من التحديات الراهنة التي تعترض المسار المتصاعد للدور الإيراني في إفريقيا، وأهمها ما يلي:
1- عدم التزام إيران بالكثير من تعهداتها الاقتصادية، وهو ما بدا جليًّا في حالة السودان التي لم تستفد كثيرًا من علاقتها الخاصة بإيران، خاصة على الجانب الاقتصادي، في الوقت الذي لا تزال فيه السعودية هي المستثمر العربي الأول في السودان.
2- استمرار ضغوط القوى الدولية والإقليمية التي تستهدف تحجيم الدور الإيراني في القارة إلى الحد الأدنى، وقد أسفرت هذه الضغوط من قبل عن تحجيم التعاون الإيراني النيجيري في مجال التكنولوجيا النووية عام 2008، ووقف جنوب إفريقيا لوارداتها النفطية من إيران عام 2012، بعدما كانت تستورد 68 ألف برميل من النفط الخام الإيراني يوميًّا، وإغلاق المراكز الثقافية الإيرانية بالسودان في سبتمبر 2014، ومشاركة السودان في عملية "عاصفة الحزم" ضد الحوثيين في اليمن، وتأييد السنغال وموريتانيا لها، وإعلان إمكانية المشاركة فيها، وصولا إلى قرار السودان وجزر القمر قطع العلاقات الدبلوماسية مع إيران في يناير 2016.
3- التخوف من المد الشيعي الإيراني، وهو ما أدى إلى توتر العلاقات بين إيران وبعض الدول الإفريقية، مثل نيجيريا حاضنة الإسلام الصوفي في غرب إفريقيا، مع اتجاه الشيخ إبراهيم الزكزكي مؤسس جماعة الإخوان المسلمين في نيجيريا إلى التشيع. وقد تكرر الأمر في المغرب عندما قطعت علاقاتها الدبلوماسية مع إيران، نتيجة نشاطها في نشر التشيع بالمملكة، وكذلك السودان التي بلغ عدد المتشيعين فيها عام 2014 نحو 12 ألف مواطن.
4- التخوف من الدعم الإيراني لحركات المعارضة السياسية والمسلحة في بعض الدول الإفريقية، والذي يأتي في إطار سياسة "تصدير الثورة"، حيث كان دعم إيران لحركة كازامنس الانفصالية في السنغال عبر جامبيا دافعًا إلى قطع الدولتين للعلاقات الدبلوماسية مع إيران عام 2011.
5- عدم المشاركة الإيرانية في تسوية الصراعات الإفريقية، وهو ما أدى إلى تنامي الاعتقاد بأن العائد المتحقق من العلاقات الإيرانية الإفريقية يصب في الجانب الإيراني فحسب. ومثال ذلك رفض إيران دعم السودان في مواجهة الصراع في دارفور، ولو بمجرد الوساطة، بدعوى أنه يُعد شأنًا سودانيًّا داخليًّا.
وختامًا، فإنه بالرغم من الإخفاقات التي تعرض لها الدور الإيراني في إفريقيا في الوقت الراهن؛ إلا أنه من المهم الاستمرار في رصد ومتابعة الدور الإيراني في القارة، خاصة أن الممارسات أوضحت أن حجم التهديد الذي تمثله السياسات الإيرانية بالنسبة للمصالح العربية يفوق تهديدها للمصالح الأمريكية والإسرائيلية في إفريقيا. وقد اتضح ذلك خاصةً مع الدعم الإيراني للحوثيين في اليمن، ومحاولات نشر المذهب الشيعي في القارة السمراء. وهنا يمكن استثمار الأزمة السعودية الإيرانية في كشف الأهداف الحقيقية لإيران في القارة، كما تقع مسئولية أساسية على الأزهر الشريف في التصدي لمخططات نشر المذهب الشيعي في إفريقيا، في ظل ما يتمتع به من رصيد في القارة الإفريقية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق