تقديم:
عرفت الساحة الثقافية في المغرب أواخر سنة 2013م سجالًا حادًّا حول مسألة لغوية تربوية ذهب البعض إلى أنها السبب الرئيس في أزمة التعليم المغربي، إنها مسألة «لغة التدريس في المدرسة المغربية»، لاسيما في المرحلة الابتدائية. ورأوا أن التعليم في المرحلة الابتدائية وما قبلها بالفصحى ليس تربويًّا، حيث إن المتعلم حين يلج أول مرة المدرسة أو الروضة أو الكُتَّاب يُصدم بلغة جديدة لا علاقة لها باللغة العامية الأم التي يتكلم بها مع أمه وأبيه وأخيه وذويه وعشيرته في البيت والحي، والشارع والقطار... لذا رأوا أن الحل في جعل المتعلم يندمج سريعًا في المدرسة مع ما تقدمه من معارف ومهارات في مختلف المواد الدراسية هو تعليمه بلغته الأم، أي العامية المغربية. وذهب من دعا هذه الدعوة إلى أن تعليم المتعلم المغربي بغير لغته الأم سبب مباشر في ضعف مستوى المتعلم وعجزه عن الاندماج في جو المدرسة المغربية.
لكن: هل حقًّا التدريس باللهجة العامية في المغرب وفي غير المغرب هو الحل السحري لأزمة التعليم بالوطن العربي؟
لنفرض أننا درّجنا التعليم (إحلال اللهجات الدارجة مكان الفصحى) من الروضة إلى الجامعة تدريجًا رسميًّا، هل هذا سيكون حلًا سحريًّا للهبوط المستمر لمستوى المتعلم في مراحل التعليم كلها وفي المواد العلمية والأدبية كليهما؟ ألا يمكن القول إن التدريج الرسمي للتعليم هو الرصاصة التي ستقتل التعليم قتلًا رحيمًا؟
وقبل هذا كله: هل الدعوة إلى تدريج التعليم باعتباره الوسيلة الوحيدة للرقي بالإنسان فكرًا وأخلاقًا دعوة جديدة لم تظهر إلا في نهاية 2013م؟ أليس في التاريخ الحديث دعوات كثيرة لإحلال العامية في المدرسة وجعلها لغة الأدب والعلوم؟ وإن كانت الدعوة إلى العامية قديمة فلماذا لم تنجح؟
1 – اصل الدعوة إلى العامية:
العامية لهجة شعبية يتواصل بها عامة الناس، وهي لا تخضع لقواعد، فهي منفلتة لا تقبل الضبط، وميزتها أنها لغة الحديث لا الكتابة. وقد حاول الرواد الأوائل للدعوة إلى العامية إقناع الناس بأن الاختلاف بين لغة الحديث (العامية) ولغة الكتابة (الفصحى) هو سبب ضعف المستوى التعليمي عند المتعلمين في البلاد العربية، وقالوا إن اللغة العربية الفصحى لغة النخبة المثقفة والإبداع ليس مقصورًا على هذه النخبة، لذلك دعوا إلى تعليم العامية في المدارس كي يسهل على الناس، عامتهم وخاصتهم، التواصل بالعامية في الحديث والكتابة، وهذا سيتيح لعموم الناس الإبداع بالعامية، باعتبار اللغة العربية الفصحى لغة صعبة، لا تسعف على الإبداع والاختراع.
قال «ولهلم سبيتا» في كتاب «قواعد العربية العامية في مصر»: «في مثل هذه الظروف (أي وجود الاختلاف الواسع بين لغة الحديث ولغة الكتابة) لا يمكن مطلقًا التفكير في ثقافة شعبية، إذ كيف يمكن في فترة التعليم الابتدائي القصير أن يحصل المرء حتى على نصف معرفة بلغة صعبة جدًّا كاللغة العربية الفصحى، بينما يعاني الشباب في المدارس الثانوية عذاب دراستها خلال سنوات عدة دون أن يصلوا إلى شيء اللهم إلا نتائج لا ترضي بتاتًا؟
... فكم يكون الأمر سهلًا لو أتيح للطالب أن يكتب بلغة إن لم تكن هي لغة الحديث الشائعة فهي على كل حال ليست اللغة الكلاسيكية القديمة، بدل أن يجبر على الكتابة بلغة هي من الغرابة بالنسبة إلى الجيل الحالي من المصريين مثل غرابة اللغة اللاتينية بالنسبة إلى الإيطاليين»[1].
ولم يكتفِ باتهام اللغة العربية بالصعوبة، من حيث معجمها ونحوها وصرفها، بل اعتبر خط كتابتها أيضًا عائقًا لتعلمها، حيث قال: «طريقة الكتابة العقيمة، أي بحروف الهجاء المعقدة، يقع عليها بالطبع قسط من اللوم في كل هذا»[2].
وانطلقت حركة الدعوة إلى العامية بتأليف كتب كثيرة اختصت بدراسة لهجات معظم الدول العربية، وكُتِبت مقالات في هذا الشأن، كما دعوا إلى جعل العامية لغة الجرائد والمجلات والإذاعة. وقد تتبعت الدكتورة نفوسة زكريا سعيد بدايات هذه الحركة في كتابها القيم «تاريخ الدعوة إلى العامية وأثرها في مصر»، فمن الكتب[3] المؤلفة في العامية:
1 - قواعد العربية العامية في مصر، ولهم سبيتا، 1880م.
2 - العربية المحكية في مصر، سلدن ولمور، 1901م.
3 - لهجة بغداد العامية، لويس ماسنيون، مؤلف بالفرنسية، طبع بمصر، 1912م.
4 - لغة بيروت العامية، أمانويل ماتسون، مؤلف بالفرنسية 1911م.
5 - لغة مراكش العامية وقواعدها، تأليف Ben Smail مؤلف بالفرنسية وفيه نبذ عربية، 1918م.
6 - قواعد العامية الشرقية والمغربية، كوسان دورسبرسفال، مؤلف بالفرنسية وفيه نبذ عربية، 1918م.
7 - عربية مراكش، Louis Mercier، مؤلف بالفرنسية، طبع بباريس، 1925م.
2 - أغراض الدعوة إلى العامية:
إن الغرض الظاهر الذي كان يقدمه دعاة العامية هو تنبيه الأمة العربية إلى سبب التخلف عن ركب الحضارة الحديثة، وهو أن الاختلاف بين لغة الحديث ولغة الكتابة يعرقل التفوق الدراسي، ويعيق الاختراع والابتكار كما قال «ولمور» في محاضرته منبهًا المصريين إلى السبب الوحيد الذي يمنعهم من الاختراع. هم يرون إذن أن تقدم الوطن العربي لا يتحقق إلا إذا استغنى أهله عن اللغة العربية وكتبوا بالعامية.
ومن يتأمل تواريخ صدور الكتب الأولى لدراسة العاميات في الوطن العربي وأصحابها يتضح له أن الدعوة إلى العامية اقترنت بالغزو الاستعماري للشرق العربي، وهذه الملاحظة كافية ليقف المرء وقفة توجس؛ فهل من المعقول أن يدعو المستعمِر إلى ما يخرج المستعمَر من دائرة التخلف؟
لو توقف أمر العامية لدى المستشرقين ومن لفّ لفهم، عند دراستها دراسة تهدف إلى التواصل مع الشعوب العربية لكان الأمر عاديًّا مقبولًا، لكن جهودهم اتجهت إلى إحلال العامية مكان الفصحى، فقد حاولوا تقعيد العامية، ودعوا إلى اعتمادها لغة الكتابة في الجرائد والمجلات والإذاعة والتلفزة، ودعوا إلى جعلها لغة الأدب المكتوب، وبذلوا جهودًا[4] مضنية في جمع الأدب العامي كي يوهموا الناس أن العامية لها أدب مثل الفصحى، وكي يشجعوا الناس على التطبع مع العامية.
إن الهدف الخفي من الدعوة إلى العامية هو قطع صلة الإنسان المسلم العربي بلغة القرآن الكريم، وما يتصل بهذا الكتاب السماوي من علوم، وما يتصل باللغة العربية من حضارة وآداب وعلوم بصفة عامة، إذ لو تحقق أمل المستشرقين منذ ما يزيد عن قرن لأصبحت اللغة العربية كاللاتينية، لغة غريبة لا يعرفها أحد، ومن ثم ستنقطع الصلة بين اللغة العربية وتراثها الحضاري الضخم. وقد تبنى هذه الفكرة كثير من المفكرين العرب فيما بعد، وحاولوا أن يوهموا الناس أن العربية الفصحى تعيق التقدم وتكرس التخلف، ومازالت الدعوة إلى العامية تظهر وتختفي، ومازال أصحابها يتذرعون بالأفكار نفسها التي صاغها المستشرقون رواد الدعوة إلى العامية.
3 – لماذا لا تصلح العامية للتعليم
أ - تعدد اللغات الأم في الوطن الواحد:
«لغة الأدب أو الفصحى هي اللغة التي تستخدم في تدوين الشعر والنثر والإنتاج الفكري عامة، أما لغة الحديث أو العامية فهي اللغة التي تستخدم في الشؤون العادية ويجري بها الحديث اليومي. والأولى تخضع لقوانين تضبطها وتحكم عبارتها، والثانية لا تخضع لمثل هذه القوانين لأنها تلقائية متغيرة تتغير تبعًا لتغير الأجيال وتغير الظروف المحيطة بهم»[5]، فما يميز العامية أنها لغة لا تعترف بالقواعد، ومن ثم فهي غير ثابتة في معجمها وأصواتها وتراكيبها، فالمتكلم حر في أن يخترع ما يشاء من الكلمات وأن يحرف ما يشاء من الأصوات، وأن يعبر في أي تركيب يشاء، فإن كانت الدارجة في العالم العربي متفرعة عن اللغة العربية، فهذا لا يعني أن المتكلم بالعامية العربية ينبغي أن يحترم معجم اللغة العربية الفصحى وصرفها وأصواتها. هكذا فإن العامية تتبدل بسرعة من ناحية المعجم خاصة؛ فيصير لكل جيل لغة، ولكل جهة لغة، فعامية الجهة الشرقية بالمغرب مثلًا، تختلف عن عامية الشمال اختلافًا يعيق التواصل في بعض الأحيان، هذا فيما يخص العامية العربية، وقل هذا عن الأمازيغية، فإن كان المعروف أن الأمازيغية بالمغرب ثلاث لهجات: تمازيغت، تشلحيت، تريفيت، فإن هذه اللهجات الأمازيغية تعيق التواصل بين الأمازيغ أنفسهم في الريف وسوس والأطلس.
فإذا كان دعاة العامية يقولون إن على التعليم أن يعلِّم باللغة الأم فالعامية العربية ليست اللغة الأم للمغاربة جميعهم مثلًا، والعامية العربية نفسها ليست عامية واحدة، والأمازيغية ليست أمازيغية واحدة، فنحن إذنْ أمام عاميات وأمازيغيات شتى، فبأي لغة أمّ سنعلِّم؟!
إذا أردنا أن نطبق هذه الدعوة بعدالة ينبغي أن نعلّم كل متعلم بما يفهم من عامية عربية أو لهجة أمازيغية أو غيرها، وعندئذ ينبغي أن يكون لكل متعلم مدرس يفهم لغته الأم، وينبغي أن نخترع له كتابًا مكتوبًا بلغته الأم، وينبغي أن نترجم له الرياضيات والفيزياء وعلوم الحياة والأرض بلغته الأم.. وهلم جرًّا.
إذن ما الأحسن أن نعلّم المتعلمين في الوطن العربي جميعًا بلغة واحدة، لها معجمها وقواعدها النحوية والصرفية، ولها تراث ضخم لا يضاهيه تراث في العالم، أو أن نعلّم كل متعلم بلغته الأم، التي قد لا تتجاوز قبيلته أو جهته؟!
سيقول قائل: سنقعد العامية، ونجعلها لغة معيارية ذات نحو وصرف ومعجم، وسنكتب لها كتبًا في الأدب والعلوم، كي تصير لها مكتبة كباقي اللغات، وأقول أنسيتم أن العامية لا تقبل القواعد؟ فلو قعدتم الآن العامية، فمن سيفهم عاميتكم المقعدة بعد عشر سنوات أو عشرين أو ثلاثين؟ فقد أشارت الدكتورة نفوسة إلى التطور الذي مس العامية المصرية، مقارنة مع العامية التي كتبت بها في حكاية «الحداد وما جرى له مع هارون الرشيد» التي دونها المستشرق الكونت كارلودي لنديبرج Le Conte Carlo Landberg، إذ أصبحت تلك التعابير العامية غريبة بالنسبة لجيل نفوسة زكريا، هذا فضلًا عما تحتوي من ألفاظ بذيئة، قالت: «القصة مليئة ببذيء الألفاظ وغريب التشبيهات والعبارات التي بدأت تتلاشى من ألسنة العامة الآن، مثل: (وعملت لي سيد من قيقي شمر... راحت العبارة على ماراحت طزفش يا عاشور)؛ فالقصة تعطينا صورة عن تطور العامية في وقتنا الحاضر وخلوصها من كثير من الشوائب، وجنوحها فيما يطرأ عليها من التهذيب والكمال نحو العربية الفصحى»[6].
ب - الخسارة الثقافية والاقتصادية:
ما الأفضل إذن اقتصاديًّا وثقافيًّا: أن نعلِّم بلغة مقعدة غنية معجمًا وصرفًا وتركيبًا، أو أن نصرف أموالًا طائلة، ووقتًا كثيرًا في تنمية لغة منفلتة متغيرة لا أدب لها ولا علوم؟
ولو افترضنا أن العامية المغربية مثلًا قُعِّدت وأوتي لها بمكتبة من المؤلفات العامية في العلوم والفنون، فهل مفيد لهذه اللغة العامية، ولأهلها اقتصادًا وثقافة وهُوية أن تتقوقع على نفسها؟ فمن سيقرأ كتابك بالعامية المغربية أو العامية المصرية؟ هل من الأحسن اقتصادًا وثقافة وحضارة أن يقرأ كتابك العراقي والمصري واللبناني والسوداني والتونسي والليبي والأردني والأعجمي الذي تعلم الفصحى.. أو أن يقرأه المغربي فقط أو المصري فقط؟ إن الدعوة إلى العامية هي دعوة إلى التقوقع والانغلاق على الذات، وهي دعوة إلى تمزيق أوصال الوحدة الثقافية في العالم العربي «ولنسأل أنفسنا آخر الأمر: أيهما خير؟ أن تكون للعالم العربي كله لغة واحدة هي اللغة الفصحى، يفهمها أهل مراكش كما يفهما أهل العراق، أم أن تكون لهذا العالم لغات بعدد الأقطار التي يتألف منها، وأن يترجم بعضنا عن بعض؟ أما أنا فأوثر وحدة اللغة هذه، فهي خليقة بأن يجاهد في سبيلها المؤمنون بها وبأن يضحوا في سبيلها بكل ما يملكون.
فلنحذر أن نشجع الكتابة باللهجات العامية، فيمعن كل قطر في لهجته، وتمعن هذه اللهجات في التباعد والتدابر، ويأتي يوم يحتاج فيه المصري إلى أن يترجم إلى لهجته كتب السوريين واللبنانيين والعراقيين، ويحتاج أهل سورية ولبنان والعراق إلى مثل ما يحتاج إليه المصريون من ترجمة الكتب المصرية إلى لهجاتهم كما يترجم الفرنسيون عن الإيطاليين والإسبانيين، وكما يترجم هؤلاء عن الفرنسيين»[7].
د- فقر العامية:
من الأهداف الكبرى للتعليم، تكوين إنسان ذي قيم وأخلاق حميدة، فالتعليم في أي بلد يسعى إلى الرقي بالإنسان في نواحٍ مختلفة، واللغة العربية ليست وسيلة للتواصل فحسب بل هي حاملة لثقافة وقيم، فهل يمكن للعامية أن تقارن بالفصحى من هذه الناحية؟ أي قيم وأية ثقافة سيتعلمها المتعلم من خلال العامية!
هل العامية قادرة على حمل مصطلحات المعارف الأدبية والعلمية التي ينبغي أن يدركها المتعلم، هل معجمها وصرفها وتراكيبها قادرة على استيعاب المعاني والأفكار الجديدة؟ هل العامية قادرة على جعل المتعلم يعبر بحرية ودقة عما يختلجه من أفكار ومشاعر كما تتيح له ذلك اللغة العربية الفصحى؟!
خلاصة:
يبدو أن لأزمة التعليم أسبابًا حقيقة، من أهمها غياب حافز التعلم والتعليم، والاكتظاظ وكثرة المواد المقررة، وكثرة ساعات التعلم والتدريس، وانتشار ظاهرة الغش، والنجاح المجاني، وغياب العقاب والاختلاط بين الجنسين... وأظن أنه مهما توالت الإصلاحات التي لا تعير لهذه الأمور اهتمامًا فإن مآلها الفشل؛ فمعالجة هذه المشكلات التي تبدو في عين البعيدين عن ميدان التعليم بسيطة ساذجة هي أس بناء تعليم وطني قوي، فتوجيه الإصلاح إلى غيرها هو اهتمام بالقشور. أما مسألة لغة التدريس فقد اتضح أن التفريط في اللغة العربية الفصحى هو استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير، فالفصحى ليست لغة تواصل فحسب بل هي لغة دين وأدب وعلم وحضارة لا بد من العض عليها بالنواجذ.
[1] تاريخ الدعوة إلى العامية وأثرها في مصر، نفوسة زكريا سعيد، ط1، 1964م، دار نشر الثقافة بالإسكندرية، ص21-22.
[2] تاريخ الدعوة إلى العامية وأثرها في مصر، نفوسة زكريا سعيد، ط1، 1964م، دار نشر الثقافة بالإسكندرية، ص21.
[3] تاريخ الدعوة إلى العامية وأثرها في مصر، نفوسة زكريا سعيد، ط1، 1964م، دار نشر الثقافة بالإسكندرية، ص11.
[4] تاريخ الدعوة إلى العامية وأثرها في مصر، نفوسة زكريا سعيد، ط1، 1964م، دار نشر الثقافة بالإسكندرية، ص43-54.
[5] المصدر نفسه، ص3.
[6] تاريخ الدعوة إلى العامية وأثرها في مصر، لنفوسة زكريا سعيد، ط1، 1964م، دار نشر الثقافة بالإسكندرية، ص52.
[7] دراسات في فقه اللغة، صبحي الصالح، دار العلم للملايين، ط3 ، 2009م، ص360. (هذا قول طه حسين في الدعوة إلى العامية).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق