الجمعة، 26 يناير 2018

ارشيف مقالات الرد على كتاب في الشعر الجاهلي طه حسين

    (مصادر الشعر الجاهلي) لناصر الدين الأسد والرد على طه حسين د.إبراهيم الكوفحي
Culture Magazine Monday 28/01/2008 G Issue 231

الملف

الأثنين 20 ,محرم 1429 العدد 231

ثلاثة كتب تبحث في قضية الشعر الجاهلي، ظهرت خلال القرن (العشرين) الماضي، أحسب أنها أهم ما صنف في هذا الموضوع الشائك الصعب، وهي بلا شك ستظل على مر الأيام منارات بارزة لدارس الشعر الجاهلي، بحيث يكون من الصعوبة أن يتلمس هذا الدارس طريقه، وهو في منأى عن ضوئها، وما تكشف عنه.

فأما الأول، فهو كتاب الدكتور طه حسين (في الشعر الجاهلي) 1926، الذي هو في الأصل محاضراته التي كان يلقيها على طلبته بالجامعة المصرية منذ أواخر سنة 1925، ثم رأى غبَّ ذلك جمعها وإذاعتها على الناس في كتاب.

وأما الثاني، فهو كتاب أستاذنا الدكتور ناصر الدين الأسد (مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية) 1956، الذي هو في أرومته الأولى بحث نال به العلامة الأسد درجة الدكتوراه في الأدب من جامعة القاهرة، بتقدير ممتاز سنة 1955م.

وأما الأخير، فهو كتاب الأستاذ محمود محمد شاكر (نمط صعب ونمط مخيف) 1996، وكان قبل أن يجمع بين دفتي كتاب قد نشر منجماً في سبعة مقالات في مجلة (المجلة) خلال سنتي (1969-1970).


وعندي أن أهمية الكتاب الأول (في الشعر الجاهلي) ليست من الناحية العلمية، فلا جرم أنه من هذه الناحية ليس بذي غناء، أو كما يقول الدكتور الأسد: (إنه أقل الكتب حظاً من العلم، وأبعدها عن منهجه وتحقيقاته)، وحسبي أن أومئ، ها هنا، لأجل التدليل على صواب هذا الحكم الذي أضحى من البداءة الجلية في ميدان الدراسة الأدبية، إلى الكتب التي ألفت في الرد عليه، وتفنيد ما تضمنه من آراء وأحكام، أو التي تطرقت، فيما تطرقت، إلى نقده ونقضه، ومن ذلك على سبيل المثال:


- نقد كتاب الشعر الجاهلي، لمحمد فريد وجدي.


- نقض كتاب في الشعر الجاهلي لمحمد الخضر حسين.


- النقد التحليلي لكتاب في الشعر الجاهلي، لمحمد أحمد الغمراوي.


- الشهاب الراصد، لمحمد لطفي جمعة.


- تحت راية القرآن، لمصطفى صادق الرافعي.


- مقالات في الشعر الجاهلي، ليوسف اليوسف.


- قضايا الشعر الجاهلي، لعلي العتوم... إلخ.


ولكن أهميته الحقيقية، في نظري، إنما تكمن في أنه كان السبب الرئيس في هذه العناية الخاصة التي نالها الشعر الجاهلي منذ منتصف العشرينات من القرن السالف حتى يومنا هذا، والتي تتمثل في عشرات الكتب والدراسات والمقالات التي تتحدث عن الشعر الجاهلي، وتبحث فيه، وتتناول جوانبه المختلفة، ولعل أهميته إنما تبرز، على وجه الخصوص، في أنه كان الدافع الأول لتأليف أهم كتابين، من الناحية العلمية والمنهجية، تناولا الشعر الجاهلي في العصر الحديث، وأقصد بذلك: (مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية) و(نمط صعب ونمط مخيف)، إذ كانا ردين متكاملين على أطروحة الدكتور طه حسين، وما انتهى إليه من أن الكثرة المطلقة مما نسميه شعراً جاهلياً ليست من الجاهلية في شيء، وإنما هي منتحلة (كذا) مختلقة بعد ظهور الإسلام، وإن كان مؤلفاهما لم يفصحا، بطبيعة الحال، عن هذه النية في الرد على أستاذهما طه حسين، لاعتبارات كثيرة.


ويبدو لي أن ثمة وجهين لهذه العلاقة التي تربط بين كتاب الدكتور الأسد وكتاب أستاذه طه حسين: وجه ظاهر مستبين، ووجه خفي دفين.


فأما الأول، فهو ما تدل عليه السطور الأولى من مقدمة كتاب الدكتور الأسد، وذلك قوله: (... ثم قرأت قبل دخولي الجامعة، كتاب الأستاذ الدكتور طه حسين في الشعر الجاهلي ففتح أمامي آفاقاً فسيحة من التفكير، ودفعني إلى أن أنظر في هذا الشعر نظر المتسائل عن قيمته وصحته، وحملني على أن أستقصي الموضوع من جذوره، وأتتبعه من جميع أطرافه).


وحري بالذكر أن هذه الحالة التي لازمت الدكتور الأسد منذ قراءته الأولى لكتاب (في الشعر الجاهلي) هي الحالة عينها التي لازمت الأستاذ محمود محمد شاكر، وهو يومئذ طالب في قسم اللغة العربية بالجامعة المصرية، يسمع محاضرات أستاذه طه حسين (في الشعر الجاهلي)، حتى كانت هذه المحاضرات سبباً مباشراً في الخلاف المشهور بينه وبين أستاذه، الذي أدى بآخره إلى أن يفارق (التلميذ) الجامعة، وهو لا يزال في السنة الثانية، قبل أن يتم دراسته فيها.


وقد أشار الأستاذ محمود شاكر إلى هذه الحالة التي رافقته منذ دخوله الجامعة، والتي تحور إلى آراء الدكتور طه حسين حول الشعر الجاهلي، في أكثر من مكان، يقول على سبيل التمثيل: (... مضت أعوام طوال، وأنا أدور في مسارب مختلفة من الآداب والعلوم، ولكن الذي بقي يشغلني، في أغمض قرارة من نفسي، بل في حياتي كلها، إنما انشق عن (محنة الشعر الجاهلي)، وأنا بعد فتى صغير أخضر، غر بين الغرارة كسائر زملائي في الدراسة، مضيت في غلواء الشباب ألتمس العلم والمعرفة والشعر، وأخوض الغمرات التي يخوضها الجيل الذي أنا منه، فمن حيث لا أدري ولا أتعمد، صارت كل معرفة أكتسبها، وكل علم أقتسبه، وكل تجربة أخوضها، وكل إحساس أنتفض له، كأنه رتق لهذا الفتق).


وأما الوجه الآخر الخفي، فهو ما يرمي إليه الدكتور الأسد من مصادر الشعر الجاهلي، وهو الرد على ما ذهب إليه الدكتور طه حسين من الشك في صحة الشعر الجاهلي، وأنه شعر منحول وضعه الرواة في الإسلام، ولعل الناظر، أول وهلة، ربما يرى خلاف هذا الرأي، إذ كانت الثلاثون سنة التي تفصل بين الكتابين (1926-1956م) وهي مسافة زمنية رحيبة، إلى حد ما، زعيمة بأن تنفي عنه كونه كتاباً في الرد، ولا سيما أنه يختلف اختلافاً ظاهراً عن الكتب التي تلقت كتاب الدكتور طه حسين، فور صدوره، بالتفنيد والنقض، فضلاً عن أن مؤلفه لم يفصح هو نفسه عن هذه الطوية أو هذا الهدف.


وفي الحق أن فهم الدكتور الأسد لقضية الشك في صحة الشعر الجاهلي التي أثارها الدكتور طه حسين في كتابه، ومن قبله طائفة من المستشرقين، على رأسهم مرجليوث في مقالته المعروفة (نشأة الشعر الجاهلي) التي نشرها في مجلة الجمعية الملكية الآسيوية، كان من الشمول والعمق، إذ كانت القضية عنده مرتبطة ارتباطاً متيناً بمعضلة (المنهج)، منهج دراسة الشعر الجاهلي، ولم تكن مرتبطة، بالدرجة الأولى، بمجمل الآراء والأنظار التي يقررها طه حسين، والتي تفهق بالأوهام والأخطاء، ومن هنا باين منهجه مناهج الألى سبقوه في الرد على طه حسين، والتي تنتحي على النظرة الجزئية إلى المسألة، والتعليق الوشيك، واستخدام العنف اللفظي أحياناً، كما يتجلى ذلك في أسلوب الرفاعي خاصة، في مقالاته التي يرد فيها على طه حسين، وانضم عليها كتابه (تحت راية القرآن).


ولذلك آثر الدكتور الأسد أن يبدأ الطريق من أوله، (... وقضيت أربع سنوات أخرى، خرجت فيها بهذا البحث لدرجة (الدكتوراه)، وأنا مقتنع بأن هذا الموضوع الذي أبحثه هو الخطوة الأولى الصحيحة التي تسبق كل خطوة غيرها، في سبيل دراسة الشعر الجاهلي، وأن بحث هذا الشعر بحثاً مجدياً لا يتم إلا عن طريق دراسة خارجية أولاً، تعنى بمصادره جملة في مجموعها، وتبحث رواية هذه المصادر وتسلسلها، ورواتها ومدى الثقة بهم، ثم تتبع المصادر الأولى التي استقى منها أولئك الرواة، خطوة خطوة، حتى تصل بين هؤلاء الرواة والشاعر الجاهلي نفسه، وكل دراسة قبل هذه إنما هي تجاوز عن الأصل الأول الذي لا بد من البدء به).


وهذه الخطوة الجريئة والجديدة في ميدان دراسة الشعر الجاهلي، التي آثر الدكتور الأسد أن يخطوها، على ما تتطلبه من جهد وصبر، إنما جاءت بعد استعراض واسع ودقيق لمجمل ما كتب عن الشعر الجاهلي من قبل، ولا سيما ما كتب في إطار الرد على طه حسين، فلم يجد الدكتور الأسد مقنعاً في كبر ذلك، وظلت فكرة المعالجة الجذرية للمسألة هي التي تحركه، وتوجه قراءاته لهذا الشعر، وغيره من متعلقاته الجمة من عناصر تراثنا العربي والإسلامي.


ولهذا كان حريصاً أشد الحرص على أن يخفي كل ما من شأنه أن يجعل عمله يفهم على أنه رد مباشر على كتاب الدكتور طه حسين، لإثبات صحة هذا الشعر المنسوب إلى الجاهلية، خشية أن ينسحب على كتابه ما يقال عن تلك الكتب التي سبقته في الرد عليه، مما يكشف عن إدراك عميق لطبيعة المزالق التي وقعت فيها هذه الردود، وعن محاولة واعية لتجنب هذه المزالق، سواء على صعيد المنهج أو الأسلوب. ولا ريب أن هذا ما يفسر لنا مثل قوله: (وقد بذلت أقصى الجهد في أن أنهج نهجاً علمياً خالصاً، لا أميل مع هوى، ولا أتعصب لرأي، ولا أعتسف الطريق من أمامي اعتسافاً، بل لعل من الصواب أن أذكر أني حين دخلت في الموضوع، لم يكن نصيب عيني غاية بذاتها أتوخاها وأرمي إلى إقامة الدليل عليها، غير الغاية المجردة التي سينتهي إليها البحث الموضوعي وحده).


وأحسب أن اختيار الدكتور الأسد لهذه الخطوة الضرورية في دراسة الشعر الجاهلي، والتي سلفت الإشارة إليها، هي التي جعلت الأستاذ شاكراً يخطو خطوة أخرى في دراسة هذا الشعر، انطلاقاً من النقطة التي انتهى إليها الدكتور الأسد، كما يتجلى ذلك في دراسته (نمط صعب ونمط مخيف) التي آثر فيها طريق الدراسة الداخلية للشعر الجاهلي من خلال تحليله العميق لقصيدة (إن بالشعب الذي دون سلع) وإثبات جاهليتها من هذه السبيل خاصة، إذ أدرك أن الدكتور الأسد قد أوفى على الغاية في دراسة موضوعه، وليس ثمة زيادة لمستزيد، وهو أخبر الناس، بلا مثنوية، بالشعر الجاهلي خاصة، وبتراث العربية عامة، فكان خليقاً به أن يتجاوز ذلك إلى ما يكون مكملاً لجهود الدكتور الأسد، في إثبات صحة الشعر الجاهلي من جهة، وحل كثير من المعضلات التي تتصل بدراسة هذا الشعر من جهة أخرى، وها هو في سياق حديثه عن خلف الأحمر، يقول الأستاذ شاكر: (... وهذا باب واسع، والقول في صدق خلف، أجاد في تخليصه أحد أصحابنا، وهو الدكتور ناصر الدين، في كتابه (مصادر الشعر الجاهلي).


إن (مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية)، للدكتور ناصر الدين الأسد، في رأيي، من أهم الكتب التي ألفت في الرد على كتاب الدكتور طه حسين (في الشعر الجاهلي)، ولكنه رد غير مباشر، أي من خلال تقديم دراسة للشعر الجاهلي تنهض على منهج علمي بديل ينتهي إلى النقيض مما انتهى إليه الدكتور طه حسين في كتابه، وها هنا تتجلى قيمة هذا الكتاب وأهميته، سواء في مقارنته مع كتاب (في الشعر الجاهلي) نفسه، أو مقارنته مع الكتب التي تصدت للرد على هذا الكتاب كفاحاً، إذ هي لا تكاد تذكر بالقياس إلى كتاب الدكتور الأسد، الذي لا يكاد يخلو كتاب لا حق يعرض للشعر الجاهلي من إشارة إليه، أو إفادة منه، أو حوار معه.
============

بعض ردود الرافعي في كتابه "تحت راية القرآن"على كتاب طه حسين "في الشعر الجاهلي

13:42 Rachid aaradi 6
أولا ـ أسباب ضياع الشعر:

1 ـ هجاء أمية بن أبي الصلت للمسلمين:

قال طه حسين عن أمية بن أبي الصلت: « إنه وقف من النبي - صلى الله عليه وسلم - موقف الخصومة هجا أصحابه وأيد مخالفيه. ورثى قتلى بدر من المشركين، وكان هذا وحده يكفي للنهي عن رواية شعره، وليضيع هذا الشعر كما ضاعت الكثرة المطلقة من الشعر الوثني الذي هُجي فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه حين كانت الخصومة شديدة بينه وبين مخالفيه من العرب الوثنيين واليهود»(1).

وقال كذلك: « ليس إذن شعر أمية بن أبي الصلت بدعاً في شعر المتحنفين من العرب أو المتنصرين والمتهودين منهم. وليس يمكن أن يكون المسلمون قد تعمدوا محوه إلا ما كان منه هجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ونعياً على الإسلام؛ فقد سلك المسلمون فيه مسلكهم في غيره من الشعر الذي أهمل حتى ضاع»(2).

وضح الرافعي أن طه حسين انخدع في هذا الحكم بقول كليمان هوار المستشرق الفرنسي فيما زعم من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن رواية شعر أمية، فتابعه طه وظن ذلك صحيحاً(3).

ثم قدم الرافعي أدلة تثبت فساد ما ذهب إليه طه حسين:

الدليل الأول: ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم استنشد من شعر أمية وما زال يقول للمنشد " إيه إيه " حتى استوفى مائة بيت!

الدليل الثاني: كل ما عُرف من أمر ذلك النهى أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن رواية القصيدة التي رثى بها أمية قتلى المشركين في بدر، وهي مع ذلك لا تزال مروية في كتب السيرة إلى اليوم؛ فإن وقوع النهي لا يقتضي محو المنهي عنه ولا تركه عند من أراده.

الدليل الثالث: قد نهى الله عن أشياء كثيرة ما زالت تؤتى، وستبقى ما بقيت الفطرة الإنسانية، فما أهمِل شعر أمية ولا نهي عن روايته، ولكنه الكذب والغفلة من طه حسين ومن المستشرق كليمان(4).

الدليل الرابع: « لما أسر سهيل بن عمرو من مشركي قريش، وكان أعلم - أي مشقوق الشفة السفلى - وأرادت قريش فداءه، قال عمر بن الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -: "انتزع ثنيتي سهيل بن عمرو السفليين يدلع لسانهُ فلا يقوم عليك خطيباً في موطن أبدا! فأبى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأطلق الرجل، فلو أنه كان يمحو شيئاً أو يأمر بشيء في توفي الكلام وإبطاله لمحا أكبر وسائل الخطابة في هذا الخطيب المشرك، ولتركه ما يُبين حرفاً من حرف ولا يقيم الكلام على أصواته فلا يفلحْ بعدها في الخطابة أبداً»(5).

الدليل الخامس: ما زال المسلمون يَروون إلى اليوم قول ابن الزبَغرَى في الرد على النبي صلى الله عليه وسلم:

حياة ثم موت ثم نشر. . . حديثُ خرافةٍ يا أم عمرو!(6).

الدليل السادس: لا زال المسلمون يروون قول ذلك اليهودي حين ضلت ناقة النبي صلى الله عليه وسلم:

يزعم محمد أنه يأتيه خبر السماء وهو لا يدري أين ناقته!(7).

ويخلص الرافعي إلى «أن هؤلاء المستشرقين أجرأ الناس على الكذب ووضع النصوص المبالغة في العبارة متى تعلق الأمر بالإسلام أو بسبب يتصل به»(8).

2 – محو شعر اليهود والنصارى خوفا على الإسلام:

ذهب طه حسين إلى أن المسلمين محوا شعر النصارى واليهود ومنعوا روايته خوفاً على الإسلام، فمن أجل ذلك لم ينته إلينا من شعرهم شيء؟(9).

وقد رد عليه الرافعي بأدلة(10):

الدليل الأول: إن محو شعر النصارى أو اليهود أو المشركين ومنع روايته فشيء لم يقع لا في زمن الصحابة ولا في أيام بني أمية ولا أيام بني العباس.

الدليل الثاني: ألف النصارى في تعظيم دينهم في زمان بني العباس كتباً كثيرةَ وتواريخ أيدوا بها مذهبهم، وما اعترضهم أحد ولا منعت الدولة كتبهم.

الدليل الثالث: وقد كتب الجاحظ فيما روى قال: « أدركت رواة المسجديين والمربذيين ومن لم يرو أشعار المجانين ولصوص الأعراب ونسيبَ الأعراب والأرجازَ الأعرابية القصار وأشعارَ اليهود فإنهم كانوا لا يعدونه من الرواة»(11).

يقول الرافعي: « فهذا نص على أن رواية شعر اليهود كانت في الإسلام باباً خاصاً من أبواب الرواية ونوعاً متميزاً من طرائف الشعر»(12).

الدليل الرابع: لم يقل مؤرخ غربي ولا شرقي إن الإسلام أكره أحداً في الدين أو منع كتب الملل الأخرى.

ثانيا ـ شك طه حسين في الشعر الجاهلي:

1 ـ شك طه حسين في الشعر الجاهلي برمته؛ قال: «لا يوجد شعر جاهلي بل هو مصنوع بعد الإسلام، وأن هذا الجاهلي لا يستشهد به على القرآن بل القرآن هو الذي يحتج به للشعر؟»(13). ثم إن صورة العصر الجاهلي ـ في نظره ـ لا يمثلها الشعر المنسوب إلى العصر الجاهلي الذي ضاع شعره، وإنما صورة العصر الجاهلي قد حُفظت لأن القرآن الكريم يمثل العصر الجاهلي ويصوره.

2 ـ اختلاف اللهجات العربية دليل على الوضع: قال الرافعي: « وقد وجدنا أن أقوى ما يستند إليه المؤلف في كذب ما روي من الشعر الجاهلي دليل واحد اجتهد فيه وكرره وسماه عقدة لغوية وأيقن أن أنصار القديم لا يستطيعون فيه شيئاً، وذلك ظنه أن اختلاف لهجات العرب يجب أن يكون في أشعارها»(14).

ولما كان شعر الجاهلية ليس فيه شيء منها فهو موضوع بعد الإسلام وبعد أن صارت اللغة قرشية، قال: « فهذا النوع من اختلاف اللهجات له أثره الطبيعي اللازم في الشعر، في أوزانه وتقاطيعه وبحوره وقوافيه بوجه عام، وإذا لم يكن نظم القرآن وهو ليس شعراً ولا مقيداً بما يتقيد به الشعر قد استطاع أن يستقيم في الأداء لهذه القبائل "يريد اختلاف القراءات" فكيف استطاع الشعر،وكيف لم تحدث هذه اللهجات المتباينة آثارها في وزن الشعر وتقطيعه الموسيقي؟»(15).

وجه إليه الرافعي نقدا واتهمه بأنه جاهل، واستدل على تهافت قوله بهذه الأدلة:

الدليل الأول: جهل طه حسين بمعرفة اللهجة، إن اللهجة لا تغير شيئاً من أوزان الشعر. « فهي في معظمها بين إبدال حرف بحرف أو حركة بحركة أو مد بمد، وكل ذلك لا يؤثر في إقامة الوزن كثيراً ولا قليلاً، والاختلاف في الحقيقة هيئات في النطق والصوت أكثر مما هو هيئات في الوضع واللغة، ومع ذلك فقد نصوا على أن العربي الفصيح غير مقيد بلغة قبيلته إذا نافرت طبع الفصاحة فيه، فمنهم من يوافق اللهجة ومنهم من يخالفها لسبب عند هذا وعند هذا راجع إلى الفطرة وقوتها، ومن القبائل من تأخذ لهجة غيرها كما فعلت قريش، فقد كانت لا تهمز، فلما نزل القرآن بالهمز اتخذت هذه اللهجة»(16).

الدليل الثاني: ورد نص عن ابن الكلبي أن العرب لم ترو من شعر الجاهلية إلا ما كان إلى مائة سنة قبل الإسلام، أي عمر رجلين يروي أحدهما عن الآخر، وذلك هو الزمن الذي نهضت فيه اللغة وأخذ العَرب بعضهم عن بعض.

الدليل الثالث: ورد نص يثبت أن العرب يأخذون باختلاف اللهجات « في إنشاد الشعر إذا وجد في لغة من ترتضى عربيته، ومنه ما لا يؤخذ به إذا وُجد في لغة من لا تُرضى عربيته، فذلك دليل قاطع على أن العلماء حذفوا أشياء لم يَرضوها وغيروا في إنشاد الشعر لا في نظمه، قال شاعر من بني تميم:

ولا أكول لكدْر الكوم قد نضجت. . . ولا أكول لباب الدار مكفول

يريد: لا أقول لقدر القوم قد نضجــت ولا أقول لباب الدار مقفول

وهي القاف المعقودة التي ينطقونها بين القاف والكاف، وكانت شائعة في العرب»(17). وقد روي شعر كله يإبدال كافه قافا لتوافق اللغة الفصحى في الإنشاد.

الدليل الرابع: لغة حمير: وفي الحديث من لغة حِمير «ليس من امِبر امصِيامُ في امسفَرِ». إذ كان من لغتهم إبدال لام التعريف ميماً، وهذه العبارة لو أشبعت فيها حركة السين في "ليس" خرج منها شطر موزون من الرجز، فإذا أنشدته بالفصحى وقلت:ليسا من البر الصيامُ في السفر فأين تأثير اللهجات في الوزن والتقطيع الموسيقي...والبحر والقافية؟(18)

يقول الرافعي مستنتجا: فالدليل الذي حسب طه حسين « أنه ليس أقوى ولا أعضل منه في بابه هو كما تراه أوهَنُ أدلته وأسرعها اضمحلالاً، فكيف بغيره مما تمحل فيه وتكلف له التلفيق؟»(19).

3 ـ شك طه حسين في شعر امرئ القيس:

أ ـ شك في شعره لأنه يمني ولغته حجازية: قال طه حسين: « وقد يكون لنا أن نلاحظ قبل كل شيء ملاحظة لا أدري كيف يتخلص منها أنصار القديم، وهي أن امرأ القيس - إن صحت أحاديث الرواة (يعني إن صح أنه وُجِد) يمني وشعره قرشي اللغة... ولغة اليمن مخالفة كل المخالفة للغة الحجاز فكيف نظم الشاعر اليمني شعره في لغة أهل الحجاز»(20).

إلى أن يقول: « وأعجب من هذا أنك لا تجد مطلقاً في شعر امرئ القيس لفظاً أو أسلوباً أو نحواً من أنحاء القول يدل على أنه يمني، فمهما يكن امرؤ القيس قد تأثر بلغة عدنان فكيف نستطيع أن نتصور أن لغته قد مُحيت من نفسه محواً تاماً ولم يظهر لها أثر في شعره؛ نظن أن أنصار القديم سيجدون كثيراً من المشقة والعناء ليحلوا هذه المشكلة»(21).

قال الرافعي: « انظر يا سيدنا ومولانا طه حسين في كتاب العمدة في صفحة 59 من الجزء الأول. تجدهم حلُّوا مشكلتك منذ ألف سنة بقولهم إن امرأ القيس يماني النسب نزاري الدار والمنشأ - يعني المولد والمربى. ولا تؤاخذنا، في التفسير لك - فقل أنت الآن يا سيدنا ومولانا، هل تريد أن تولد لغة اليمن في دمه فيكون دمه معجماً لغوياً لا يجري كريات حمراء بل كلمات واشتقاقات وأساليب؛ وهل العربية أية لهجة كانت إلا على الدار والمنشأ بالسماع والمحاكاة؛ كان سبيلك يا سيدنا ومولانا أن تثبت لنا بدياً أن امرأ القيس وُلد ونشأ في اليمن ثم تنقل بعد ذلك في قبائل العرب، ثم يكون لك أن تقول: فكيف نسي لغته؟ وماذا نرى في قول بعض الرواة إن الشعر يماني واحتجاجهم لذلك في الجاهلية بامرئ القيس، وفي الإسلام بحسان بن ثابت، وفي المولدين بأبي نواس وأصحابه مسلم بن الوليد وأبي الشيص ودعبل - وكلهم من اليمن - وفي الطبقة التي تليهم بالطائيين أَبي تمام والبحتري. أكل هؤلاء وهم ينسبون إلى اليمن قد كانوا إلا على لغة الدار والمنشأ؟»(22).

وقد استند طه حسين في الشك في شعر شعراء اليمن إلى قول ابن سلام: « مَا لِسَان حمير وأقاصى الْيمن الْيَوْم بلساننا وَلَا عربيتهم بعربيتنا»(23). ونلاحظ أن طه حسين حرف هذا النص، وحذف كلمة «أقاصي»، وقال: «لغتهم بلغتنا» بدل «عربيتهم بعربيتنا». ونحن نعرف الفرق بين عربيتهم وبين لغتهم، فلغتهم تفيد أنهم يتكلمون لسانا غير العربية، في حين إن النص الذي أورده ابن سلام يفيد أنهم يتكلمون لهجة عربية تختلف عن لهجة قريش. وعلى هذا التصحيف أسس حكمه بأن لغة اليمن لا علاقة لها بلغة قريش، ومن ثمة فالشعر الذي قاله الشعراء اليمنيون شعر موضوع وضعه الإسلاميون على لسان شعراء لم يكونوا موجودين.

ب ـ شك في شعر الغزل المروي له: قال طه حسين:«إن الغزل المروي لامرئ القيس هو لعمر بن أبي ربيعة»(24).

يقول طه: « أما وصفُ امرئ القيس لخليلته وزيارته إياها وتجشمه ما تجشم للوصول إليها وتخوفها الفضيحة حين رأته وخروجها معه وتعفيتها آثارهما بذيل مرطها وما كان بينهما من لهو، فهو أشبه بشعر عمر بن أبي ربيعة منه بأي شيء آخر؛ فهذا النحو من القصص الغرامي في الشعر فن ابن أبي ربيعة قد احتكره احتكاراً لم ينازعه فيه أحد»(25).

4 ـ شك طه حسين في معلقة عمرو بن كلثوم لقوله:

ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا

قال طه حسين: « قلت إن هذاً البيت يمثل إباء البدوي للضيم، ولكني أسرع فأقول إنه لا يمثل سلاسة الطبع البدوي وإعراضه عن تكرار الحروف إلى هذا الحد الممل فتمد كثرت هذه الجيمات والهاءات واللامات واشتد هذا الجهل حتى مُل»(26).

ويستدل الرافعي على أن التكرار ليس عيبا في الشعر بدليلين:

الدليل الأول: يقوم أسلوب طه حسين على التكرار: « قلنا ليته لم يسرع ولم يفرح بهذا الخاطر فقد عثر من إسراعه فامتلأ فمه تراباً، ومتى كان الأستاذ طه حسين يفطن إلى عيب تكرار الحروف وهو الذي كانت تضرب به الأمثال في التكرار قبل أن نلقنه ذلك الدرس في جريدة "السياسة"، وهو لم يبرأ بعدُ من هذه العلة، فقد رأينا له مقالاً في "مقتطف" شهر مارس من هذه السنة 1926 جاءت فيه هذه الشأشأة. . . " يمضي حيث يشاء ويصور الأشياء كما يشاء لا كما تشاء الأشياء» (27).

الدليل الثاني: إن التكرار في بيت عمرو بن كلثوم هو سر البلاغة فيه: وهو اللون الذي نفضه الشاعر من ألوان روحه على المعنى ليخلقه خلقاً حياً بحيث لو لم يكن هذا التكرار لضعف المعنى وسقطت رتبة الشعر؛ فإن هذا الشاعر يمثل في البيت غضب قومه وحفاظهم وقدرتهم على المجازاة والنقمة والأخذ الشديد لمن عز وهان، فلم يقل: إذا جهل أحد علينا فعلنا وفعلنا، وكان يستطيعه إذا جعل البيت:

متى ما يجهلن أحد علينا جهلنا. . . الخ،

بل نبه أولاً بقوله: « "ألا" ثم نهى بعد ذلك أن يجهل أحد عليهم، ليشعِر أن لقومه الأمر والنهي؛ فهذه واحدة، ثم كرر بعد ذلك لفظ الجهل بالفعل والمصدر واسم الفاعل، ومضى به إلى منقطع الشعر جهلاً بعد جهل، ليشعر النفوس أن انتقامهم بلاء لا آخر له، يتتابع فيه الجهل الذي لا عقل معه فلا رحمة فيه. وكأنه يقول: إن الصاع بثلاثة، وإن من أساء إلينا واحدة رددناها عليه ثلاثاً؛ وكل ذلك إنما أفاده التكرار، وهذا هو غضب الطبع البدوي وحفيظته، فلا تنتظر من هذا الطبع الحر سلاسة ولا رقة في موقف الغضب والتحذير وإنذاره أعداءه البطشة الكبرى، بل ترقب الهول الهائل الذي تمثله لك الجيمات والهاءات واللامات إذا ملأ بها شدقيه عربي جهير الصوت فخم الإنشاد ثائر العاطفة غضوب الدم يهدر بالكلام هديراً»(28).

5 ـ سهولة ألفاظ الشعر الجاهلي دليل على وضعه:

قال الرافعي: « ويجعل من أسباب وضع الشعر سهولةَ ألفاظه، ويطلق ذلك في كل الشعراء الجاهليين قياساً واحداً؟»(29).

وقد رد عليه ذلك بأدلة:

الدليل الأول: نص الرواة العلماء «على أن الأعشى يحيل في لفظه كثيراً ويسفسف دائماً ويرق ويضعف، وقد جعلوه بإزاء النابغة، قالوا: وألفاظ النابغة في الغاية من البراعة والحسن. فإذا كان هذا الشعر وضعاً وصنعة فما الذي شدَّ النابغة وأرخى الأعشى؛ وقد أدرك الأعشى الإسلام وكان جاهلياً، وكان أهل الكوفة يقدمونه على الشعراء، فلا شبهة في وجوده؛ وكان من شعراء ربيعة كطرفة بن العبد، وإنهما لمتباينان في ألفاظ الشعر؛ فكيف اشتد واحد ولان الآخر». ؟»(30).

الدليل الثاني: كان الأصمعي يزعم أن العرب لا تروي شعر أبي دؤاد وعدي بن زيد، وعلل هذا بأن ألفاظهما ليست نجدية، أي ليست قوية متينة السبك في الغاية من القوة والجزالة، ولقد كان الأصمعي أحق من طه حسين بما ذهب إليه لو أن رقة الألفاظ تنفي نسبة الشعر إلى جاهلي أو مخضرم أو تُثبته لمولَّد أو محدَث تكون سبباً من أسباب الشك.

الدليل الثالث: كان معاوية يفضل شعر عدي مع رقته على شعر باقي الشعراء.

الدليل الرابع: كان الحطيئة يفضل شعر أبي دؤاد مع رقته وهو أعلم بالشعر من طه ومن أجداده.

الدليل الخامس: « إن الرقة والجزالة واللين والجفاء لا ترجع في الشعر إلى لغة الشاعر ولا عصره ولكن لعواطفه ومعانيه وذوقه، وللطريقة التي نشأ عليها، وللشاعر الذي يحتذيه؛ فإن الشاعرية لا تنبت شاعريته كما تنبت الشجرة، بل هو يروي شعر غيره فيعمل عليه، ثم تعرض له أمور من نفسه ودهره وعيشه فتؤثر فيه قوة وضعفاً، وقد كانوا لا يعدون الشاعر إلا مَن روى لغيره، لأنه متى روى استفحل»(31).

ثالثا ـ منهج طه حسين في الاستدلال بالنصوص:

أ ـ ترجمة النص من العربية إلى العربية:

نص رقم: 1.

قال طه حسين: «ولابن سلام مذهب في الاستدلال لإثبات أن أكثر الشعر قد ضاع، لا بأس أن نلم به، فهو يرى أن طرفة بن العبد وعبيد بن الأبرص من أشهر الشعراء الجاهليين وأشدهم تقدماً، وهو يرى أن الرواة المصححين لم يحفظوا لهذين الشاعرين إلا قصائد بقدر عشر، فهو يقول: إن لم يكن هذان الشاعران قد قالا إلا ما يحفظ لهما فهما لا يستحقان هذه الشهرة وهذا التقدم. وإذن فقد قالا شعراً كثيراً ولكنه ضاع ولم يبق منه إلا هذا القليل، وشق على الرواة أو على غير الرواة ألا يروى لهذين الشاعرين إلا قصائد بقدر عشر فأضافوا إليهما ما لم يقولا»(32). انتهت الترجمة.

قال الرافعي: أما الأصل في اللغة العربية فهو: « ومما يدل على ذهاب العلم وسقوطه قلة ما بقي بأيدي الرواة والمصححين لطرفة وعبيد. والذي صح لهما قصائد بقدر عشر، وإن لم يكن لهما غيرهن فليس موضعهما حيث وُضعا من الشهرة والتقدمة، وإن كان يروى من الغثاء لهما فليسا يستحقان مكانهما من أفواه الرواة، ونرى أن غيرهما قد سقط من كلامه كلام كثير. غير أن الذي نالهما من ذلك أكثر، وكانا أقدم الفحول؛ فلعل ذلك لذلك، فلما قل كلامهما حُمل عليهما حمل كثير»(33).

ثم قال الرافعي: « وعارِض أنت بلاغة ببلاغة ولغة بلغة، وقابِل بين ما ذهب إليه طه وما أراد ابن سلام؛ فمهما أخطأ فلن يخطئك أن تعرف الفرقَ بين الثرثرة والقصد، وبين هزيل الكلام وسمينه؛ وبين صحة الفكر وفساده وبين الأخذ من الدليل بقيده والاتساع في الدليل على إطلاقه»(34).

وما يرى ابن سلام إلا أن:

أ ـ «أسباب ضياع ما ضاع من الشعر إن كثيراً أو قليلاً» وأن كثرة ما ضاع من شعر طرفة وعبيد إنما كان لأنهما أقدم الفحول، فبعد العهد به ومات بموت من علموه من عرب الجاهلية.

ب ـ إثبات أن لنا "رواة مصححين"، وأنهم صححوا لطرفة وعبيد قصائد بقدر عشر، وأثبتوا أن ما عداها غثاء حُمل عليها حملاً.

ثم قال الرافعي: « ويلزم من هذا أنهم درسوا الشعر وجمعوه وحققوا روايته وأثبتوا الصحيح ونصوا عليه وميزوا المنحول وردوه وفصلوا الشعراء وقالوا في كل منهم وعارضوا بين الأقوال ورجحوا واستدلوا واحتجوا وناظروا، فوجب من ثم أن نصير إلى قول أولئك المصححين ونأخذ بعلمهم ونقف عند ما نصوا عليه، لأنهم كانوا أهل هذا العلم ولا أهل له من بعدهم إلا بِصلة تنتهي إليهم؛ وهو ظاهر أن هؤلاء الرواة لم يُثبتوا في كتبهم إلا ما صح عندهم، وأنه ليس على الأرض اليوم من يستطيع بعض ما فعلوه، لأننا بالإضافة إليهم أمة من الأعاجم؛ وبديهي أن ما يكون من وسائل العلم والرواية والنقد بعد مائة سنة من تاريخ الجاهلية لا يكون مثله ولا بعضه ولا بعض من بعضه بعد أربعمائة وألف سنة، وخاصة مع انقطاع الأسانيد وضياع الكتب؛ فأين هذا كله مما يذهب طه إليه وما خرف به في كتابه؟»(35).

نص رقم: 2.

يقول طه حسين بعد أن بين أن العصبية كانت من أهم الأسباب التي حملت العرب على وضع الشعر ونسبته إلى الجاهلية، قال: « وقد رأيت أن القدماء قد سبقونا إلى هذه النتيجة؛ وأريد أن ترى أنهم قد شقوا بها شقاء كثيراً، فابن سلام يحدثنا بأن أهل العلم قادرون على أن يميزوا الشعر الذي ينتحله الرواة (كذا وهو يريد الوضع لا الانتحال) في سهولة، ولكنهم يجدون مشقة وعسراً في تمييز الشعر الذي ينتحله العرب أنفسَهم! »(36). انتهت الترجمة.

أما الأصل المعرَّب العربي فهو: « ثم كانت الرواة بعدُ فزادوا في الأشعار، وليس يشكل على أهل العلم زيادة ذلك ولا ما وضع المولَّدون وإنما عَضَل بهم أن يقول الرجل من أهل بادية من وَلَدِ الشعراء أو الرجلُ ليس من ولَدِهم، فيشكل ذلك بعض الإشكال»(37).

قال الرافعي: « فانظر إلى الفرق البعيد بين قول ابن سلام: "الرجل من أهل بادية" وبين قول طه "الذي ينتحله العرب أنفسهم " وتأمل معنى (يشكل بعض الإشكال) ومعنى "يجدون مشقة وعسراً" وكلام ابن سلام صريح قاطع في أن الشعر الذي نسب إلى الجاهلية وأشكل أمره على الرواة قليل جداً، ثم هو لا يشكل إلا "بعض الإشكال" ثم لا يكون كذلك إلا حين يجيء من عربي قح له عرق في الشعر فتعَينه الوراثة أو عربي في حكم ذلك بالقريحة والقوة والطبع، أما الذي زاده الرواة والذي صنعه المولدون فكل ذلك متميز معروف لا إشكال فيه، وهو بعض ما يقوم عليه الرواة، لأنه من مادة علمهم ولا فائدة للرواية إن لم تتحقق به، فقل لي بعيشك أين هذا مما ذهب إليه طه في الحكم بتزوير (الكثرة المطلقة) من الشعر؟ »(38).

نص رقم: 3.

وقال طه حسين: قال ابن سلام - كان الله لك يا ابن سلام. . . - وقد نظرت قريش فإذا حظها من الشعر قليل في الجاهلية، فاستكثرت منه في الإسلام. قال: وليس من شك عندي في أنها استكثرت بنوع خاص من هذا الشعر الذي يُهجى فيه الأنصار(39).

وترجم هذا النص ترجمة أخرى فقال عن ابن سلام: (وهو يحدثنا بأ كثر من هذا: يحدثنا أن قريشاً كانت أقل العرب شعراً في الجاهلية. فاضطرها ذلك - تأمل - إلى أن تكون أكثر العرب انتحالاً للشعر في الإسلام). أما ترى؟ أما تعي؟ أما تعجب؟ هل كان في النص الأول أن قريشاً كانت (أقل العرب) شعراً في الجاهلية فاضطرها ذلك اضطراراً لأن تكون (أكثر العرب) انتحالاً؟(40).

على أن كتاب ابن سلام مطبوع، ولم نعثر فيه على أصل النص، وإنما الذي رأيناه من كلامه في الكتاب كله أنه علل قلة شعر قريش في الجاهلية بأنهم لم يحاربوا ولم تكن بينهم نائرة، وإنما تكثر الأشعار في الحروب والوقائع.

وقال في موضع آخر: وقريش تزيد في أشعارها تريد بذلك الأنصار والرد على حسان.

ففي كلام طه حسين كذب وسرقة: فأما الكذب فنسبته إلى ابن سلام أنه قال إن قريشاً "أكثر العرب انتحالاً للشعر في الإسلام". وأما السرقة فقوله: "وليس من شك عندي" في أنها استكثرت بنوع خاص. . . من هذا الشعر الذي يهجى فيه الأنصار فذلك من عند ابن سلام لا من عند طه حسين، ويبقى أن تعرف أن - ابن سلام الزيادة كلها من هذا النوع أما أستاذ - الجامعة فجعلها من أنواع كثيرة وهذا النوع هو "الخاص" منها؛ فكيف ترى الصنيع وكيف تسميه؟.

والغريب أن هذا الأستاذ الذي يحاول ما لم تحاوله أمة كاملة من العلماء والرواة وأهل الأدب، لا مرجع له في اللغة العربية في علمه ونُقوله إلا كتابان: أحدهما الأغاني والآخر طبقات ابن سلام أفبكتابين يصبح في رأي الجامعة شيخ المتقدمين والمتأخرين ويمحو ويثبت - كلما شاء كما يشاء لا كما تشاء الأشياء حينما تشاء الأشياء. . . -؟»(41).

الهوامش

(1): في الشعر الجاهلي، ص: 84.

(2): المصدر نفسه، ص: 5.

(3): تحت راية القرآن، ص: 108.

(4): المصدر نفسه، ص: 109.

(5): نفسه، ص: 109.

(6): تحت راية القرآن، ص: 109.

(7): المصدر نفسه، ص: 109.

(8): نفسه، ص: 108.

(9): نفسه، ص: 94.

(10): نفسه، ص: 79.

(11): البيان والتبيين، 3/259.

(12): تحت راية القرآن، ص: 110.

(13): المصدر نفسه، ص: 94.

(14): نفسه، ص: 115.

(15): نفسه، ص: 115.

(16): نفسه، ص: 115.

(17): نفسه، ص: 115-116.

(18): نفسه، ص: 116.

(19): نفسه، ص: 116.

(20): في الشعر الجاهلي، ص: 141.

(21): المصدر نفسه، ص: 141.

(22): تحت راية القرآن، ص: 207.

(23): طبقات فحول الشعراء، 1/ 11.

(24): تحت راية القرآن، ص: 94.

(25): المصدر نفسه، ص: 227.

(26): نفسه، ص: 113.

(27): نفسه، ص: 113.

(28): نفسه، ص: 113.

(29): نفسه، ص: 208.

(30): نفسه، ص: 208.

(31): نفسه، ص: 208.

(32): في الشعر الجاهلي، ص: 66.

(33): طبقات فحول الشعراء، 1/ 142.

(34): تحت راية القرآن، ص: 142 - 143.

(35): المصدر نفسه، ص: 143.

(36): في الشعر الجاهلي، ص: 67.

(37): طبقات فحول الشعراء، 1/46- 47.

(38): تحت راية القرآن، ص: 143 – 144.

(39): في الشعر الجاهلي، ص: 54.

(40): المصدر نفسه، ص: 66.

(41): تحت راية القرآن، ص: 144 ـ 145.

مدونة الباحث رشيد اعرضي
http://balagharachid.blogspot.com/2014/05/normal-0-21-false-false-false-fr-x-none.html
===============

اشهر الردود على كتاب "في الشعر الجاهلي" لطه حسين دراسة نقدية تحليليةالمؤلف الرئيسي: مؤلفين آخرين: التاريخ الميلادي: موقع: التاريخ الهجري: الصفحات: رقم MD: نوع المحتوى: الدرجة العلمية الجامعة الكلية الدولة قواعد المعلومات: مواضيع: رابط المحتوى:
بناني، نجوى عبدالعزيز عبدالسلام
إبراهيم، مصطفى عبدالواحد (مشرف)
================================

رد السوسيولوجي علي الوردي على طه حسين يصلنا متأخراً!

آخر تحديث: محمود حدّاد

قام الدكتور صباح جمال الدين أخيراً بعمل مشكور، إذ جمع مقالات قد تكون معروفة للبعض ولكن غير منتشرة، لرائد علم الاجتماع العربي المعاصر، علي الوردي، وأصدره في عنوان: «علي الوردي: نقد كتاب في الشعر الجاهلي لطه حسين» (بيروت: دار الوراق، 2014). وقد تحدث الكتاب في أهم مطالعاته عن قيام طه حسين عام 1925، بإطلاق صيحته المدوية في نقد الشعر الجاهلي، وعدّه منحولاً أو مكذوباً. فقامت قيامة الأدباء عليه. ويقول الوردي أنه حين درس نظرية طه حسين هذه وجدها لا تستحق مثل هذه الضجة، بل رآها نظرية واهية، ولكن الضجة هي التي أسبغت عليها تلك الأهمية .

خلاصة نظرية طه حسين أن الشعر الجاهلي الموجود بين أيدينا ليس جاهلياً، إنما هو منحول اختلقه الرواة في عصر متأخر. واستند المؤلف في ذلك إلى مقارنة الشعر الجاهلي بما جاء في القرآن الكريم من وصف لحياة الجاهلية أو انتقاد لها. يقول طه حسين: «إننا حين ندرس القرآن نجده يمثل أهل زمانه تمثيلاً مبايناً لتمثيل الشعر لهم، ونحن مخّيرون إذن بين أن نكذّب القرآن أو نكّذب الشعر الجاهلي. ولما كان القرآن صادقاً، فلا بد أن يكون الشعر هو الكاذب أو المكذوب». ويقارن طه حسين بين الحياة التي يمثلها القرآن الكريم وتلك التي يمثلها الشعر الجاهلي فيجد بينهما الفروق الآتية:

1- يمثل القرآن لنا حياة دينية قوية تدعو أهلها إلى أن يجادلوا عنها ما وسعهم الجدال ويعلنوا في سبيلها الحرب التي لا تبقي ولا تذر. أما الشعر الجاهلي فيمثل لنا حياة غامضة جافة من الشعور الديني والعاطفة الدينية المسيطرة على النفس وعلى الحياة العملية.

2- والقرآن يمثل حياة عقلية قوية، وقدرة على الجدال والخصام ومحاورة في مسائل فلسفية كالبعث والخلق والمعجزة وما أشبه. أما الشعر الجاهلي فهو يمثل الجهل والغباوة والغلظة والخشونة.

3- والقرآن يحدثنا بأن العرب كانوا على اتصال بمن حولهم من الأمم، وكانوا متأثرين بما في تلك الأمم من حضارة. أما الشعر الجاهلي فيمثل العرب كأنهم أمة تعيش منعزلة في صحرائها، لا تعرف العالم الخارجي ولا يعرفها العالم الخارجي.

4- والقرآن يحدثنا عن انقسام المجتمع العربي إلى طبقات، منها طبقة الأغنياء المستأثرين بالثروة المسرفين في الربا، ومنها طبقة الفقراء المعدمين الذين ليس لهم من الثروة ما يمكنهم أن يقاوموا أولئك المرابين أو يستغنوا عنهم. والقرآن يذكر كذلك ما كان في العرب من بخل وطمع وظلم وبغي، وأكل أموال اليتامى ونكث العهود. أما الشعر الجاهلي فلا يذكر من ذلك كله شيئاً. إنما هو يمثل العرب أجواداً كراماً مهينين للأموال مسرفين بازدرائها.

5- والقرآن يذكر البحر والسفن واللؤلؤ والمرجان وغير ذلك من شؤون الحياة خارج الصحراء. أما الشعر الجاهلي فلا يعرف غير حياة البادية. وإذا عرض لحياة المدن فهو يمسها مساً رقيقاً ولا يتغلغل في أعماقها.

ينتقد الوردي، نظرية طه حسين وكذا نظريات نقاده الذين أتوا بالأمثلة من الشعر الجاهلي للتدليل بها على أن هذا الشعر بحث في جميع الأمور التي أشار إليها القرآن، وهو إذن يمثل الحياة الجاهلية أصدق تمثيل. بالنسبة للوردي، نسي هؤلاء، كما نسي الدكتور حسين، شيئاً واحداً كان الجدير بهم أن لا ينسوه. وبهذا ضاعت جهودهم وجهود دكتورهم هباءً. لقد نسوا أن القرآن يمثل الحياة الجاهلية من زاوية تختلف عن زاوية الشعر الجاهلي، وأن كليهما كان صحيحاً في تمثيله على رغم تفاوتهما في التصوير. فالقرآن الكريم يمثل ثورة اجتماعية ودينية ضد المترفين الذين كانوا يسيطرون على المجتمع المكيّ. إنه كان، بعبارة أخرى، يحارب قريشاً وينتقد وثنيتها ورياءها واستعلاءها وبغيها ونكثها بالعهود. أما الشعر الجاهلي فكان غير مكترث بمكة وبما يجري فيها. إنه لا يرى مكة إلّا في موسم الحج، وهو يراها آنذاك حاشدة بالناس وقد امتلأت بالثريد الذي كانت قريش تقدمه لهم وفيراً.

كان الشعر الجاهلي في معظمه يمثل الحياة البدوية التي تسود القبائل خارج مكة. وليس عجيباً بعد هذا أن نجده مختلفاً عن القرآن في تصوير الحياة إنه بوادٍ والقرآن بوادٍ آخر. وشتان ما بين الواديين. والمعروف عن قريش أنها كانت أقل حظاً في نظم الشعر من القبائل العربية الأخرى. ولعلها كانت تتخذ من رعاية الشعر ما يعوضها عن نظمه، كما هو شأن الأغنياء المترفين في كل زمان ومكان. فكان الشعراء يقصدون قريشاً لينشدوا بين يديها قصائدهم ويستلموا منها الجوائز، ولم يكن يهمهم عندذاك من أين تأتي قريش بالمال في سبيل ذلك. ولو أنهم كانوا من أهل مكة ويشهدون ما يجري فيها من ظلم وربا وبغي، لكان شعرهم من نمط آخر في أرجح الظن.

لقد كان المجتمع المكّي في أيام الجاهلية يختلف عن المجتمع القبلي الموجود في الصحراء. ويصحّ القول إنه كان يجمع مساوئ البداوة ومساوئ الحضارة معاً. فلقد كان يحتفظ بالعصبية القبلية بأبشع صورها، ولكنه من الجهة الأخرى كان يحتوي على مساوئ غير موجودة في مجتمع البداوة. فكان به التمايز الطبقي والفخار بالمال والبخل والاستغلال. وهذا وصل التفسّخ الاجتماعي فيه إلى أبعد الحدود.

وحين نقرأ القرآن الكريم، ثم نقرأ الشعر الجاهلي نحسّ بالفرق الكبير بين مجتمع مكة ومجتمع البداوة. إلا أن مؤرخي الأدب العربي لم يلتفتوا إلى هذه الناحية في دراستهم للشعر الجاهلي. إنهم بالأحرى لم يفرّقوا بين قريش والقبائل الأخرى من الناحية الاجتماعية.

والمظنون أن لقريش ضلعاً في إشاعة هذا الرأي المغلوط بين المؤرخين. فعندما سيطرت قريش صار دأبها أن تلقي في أذهان الناس بأنها قبيلة النبي وذوي قرباه، وأن الإسلام جاء لتسييد قريش على العرب، ولتسييد العرب من بعد ذلك على سائر الأقوام. ومعنى هذا أن قريشاً لم تكن بأشد جاهلية من بقية القبائل، أو لعلها كانت أفضل من غيرها في الشرف والفضل والسؤدد. والملاحظ أن المسلمين الأوائل، من المهاجرين والأنصار، كانوا ينظرون إلى قريش بغير هذه النظرة. من هنا، جاء قول علي بن أبي طالب بأن قريشاً من نبط كوثى.

يضيف الوردي ملاحظة أنه ظهرت في مكة في العصر الجاهلي عوامل حضرية عدة جعلت الشيخ القرشي يختلف عن الشيخ البدوي اختلافاً بيّناً. وقد وصف زهير بن أبي سلمى الشيخ البدوي قائلاً:

ومن يك ذا فضل فيبخل بفضله

على قومه يستغن عنه ويذمم

ومعنى هذا أن الشيخ البدوي لا يستطيع أن يبخل بماله على أبناء قبيلته أو يتعالى عليهم أو يستغل جهودهم. إنه بينهم متبوع لا مسيطر. وإذا ظهرت عليه صفات مكروهة تركه قومه والتفوا حول شيخ آخر منافس له.

ولا ننكر هنا أثر الوراثة في تكوين المشيخة البدوية. ولكن الوراثة وحدها لا تكفي في جعل الرجل شيخاً إذا لم تدعمها الصفات المحمودة فيه. ولا بد من أن يكون إزاء كل شيخ، منافس أو منافسون من إخوته أو عمومته أو أبناء عمّه، وهم واقفون له بالمرصاد. وكثيراً ما يحلّ أحدهم محله إذا استطاع أن يقنع القبيلة بأنه أكرم أو أشجع أو أحلم من شيخهم القديم. وهذا هو الذي جعل الشيخ البدوي ديموقراطياً في رئاسة قبيلته، إذ هو لا يحكم إلا بأمرهم، ولا يسترضي سواهم. إن السمعة الحسنة تنفع في البادية أكثر ما ينفع المال. فالمال يأتي ويذهب، أما السمعة فتبقى يتحدث عنها الناس، وينال بها صاحبها المكان الرفيع. أما في مكة، فالزعامة تقوم على أساس آخر. فقد ظهر في مكة من العوامل الحضرية ما يجعل الرجل قادراً على أن يكون وجيهاً على رغم صفاته المذمومة. وتلك العوامل هي:

1- العامل الديني: وقد رأينا في ما سبق كيف كانت مكة موئل الأوثان ومركز العبادة الوثنية في بلاد العرب، فكان فيها السدنة ورجال الدين ومن إليهم من حراس الأوثان والقوّامين عليها. هذا النوع من الدين يسبغ على المختصّين به مكانة مقدّسة ويجعل من الصعب على الناس الاستهانة بهم أو الاعتراض عليهم مهما فعلوا.

2- العامل الاقتصادي: وهنا نجد الزعيم القرشي غنياً مترفاً يملك العبيد والجواري. فكان يرسل العبيد في مهماته التجارية، ويخصص الجواري للبغاء. ويجني من وراء ذلك المال الوفير.

3- العامل النقدي: لقد عرفت مكة استعمال النقود من الذهب والفضة. واشتهر الوجيه المكي بأنه يكنز الذهب والفضة ولا ينفقها على المعوزين كما يفعل الشيخ البدوي. كان المال في البادية يطلب لكي ينفق في سبيل السمعة. أما في مكة فكان المال المكنوز من مقاييس السمعة والمنزلة الاجتماعية.

4- عامل اللباس والمظهر الخارجي: وهذا عامل لا يعرفه البدو على منوال ما يعرفه أهل مكة. وليس من النادر أن نرى الشيخ البدوي يشبه غيره من أبناء قبيلته في اللباس والمظهر. أما في مكة فكان للثياب والمطايا والمواكب أثر كبير في إعلاء مكانة الرجل. وكان أغنياء مكّة يتصلون بالأمم المتمدّنة من طريق التجارة فيقتبسون منها أسباب الترف والتمايز المظهري.

5- عامل الدار والجوار: كان أهل مكّة يسكنون الدور المشيّدة بالحجر. ولعلهم كانوا يتنافسون في عمران دورهم وزخرفتها، كما يفعل أهل هذا الزمان، قليلاً أو كثيراً. والمعروف عن وجهاء مكّة أنهم كانوا يتمايزون في ما بينهم في درجة قرب دورهم من بيت الله الحرام. وكلّما كان دار أحدهم أقرب إلى الكعبة كان أعلى مكانة وأعظم شرفاً.

والملاحظ في هذا الصدد أن الجبال تحيط بمكّة من كل جانب. وليس فيها من الأرض المنبسطة إلا بقعة صغيرة هي البقعة المحيطة بالكعبة. وكانت تسمى في الجاهلية «البطحاء». وكان أشراف قريش يتنافسون في بناء دورهم فيها. ومن هنا انقسمت قريش الى طبقتين: قريش البطحاء وقريش الظواهر. وكانوا إذا أرادوا مدح شريف منهم قالوا عنه إنه «سيد البطحاء».

الخلاصة أن المجتمع المكّي كان يختلف عن المجتمع البدوي من نواحٍ شتى. وهذا هو سبب ما نرى من فرق كبير بين القرآن والشعر في تصوير الحياة الجاهلية. فلقد نزل القرآن ثائراً على ذلك التفسخ والتمايز الطبقي الذي كان سائداً في مكّة. بينما كان الشعر مشغولاً بمفاخراته ومنابذاته القبلية، غير شاعر بما كانت عليه الحال في مكّة.

ويعرب الوردي، في النهاية، عن تعجبه لعدم التفات الأدباء، أو عميدهم الدكتور طه حسين، إلى هذه النواحي المهمة عند دراستهم الأدب الجاهلي، إذ انهمكوا بعلوم البيان والمعاني والبديع فانشغلوا بها عن الإصغاء إلى ما يقوله علم الاجتماع في هذا الشأن.

===========================

طه حسين وإنكار النثر الجاهلي
د. إبراهيم عوض



تاريخ الإضافة: 1/7/2013 ميلادي - 22/8/1434 هجري
زيارة: 11416


طه حسين وإنكار النثر الجاهلي
تعريف الشعر بين القدماء والمحدثين (17)

بيد أن للدكتور طه حسين رأيًا مختلفًا تمامًا عما سمِعناه منهم؛ إذ يؤكد في كتابه: "في الأدب الجاهلي" أن العرب لم يتركوا لنا أية آثار أدبية نثرية البتَّة، لا خُطبًا ولا غير خطبٍ، فالنثر من جهة يحتاج إلى بيئة ثقافية متقدمة، لم تكن متوفرةً في جزيرة العرب قبل الإسلام، ومن جهة أخرى لم يصل إلينا عنهم شيء من ذلك مكتوب، فكيف نطمئنُّ إذًا إلى ما يقال: إن العرب قد خلَّفوه لنا من خطب وحكم، ووصايا وأسجاع كهنوتية؟

لكننا نراه - بعد أن أكَّد هذا في أسلوب حاسم قاطع - يرجع على عَقِبيه القهقرى مستثنيًا من شكِّه هذا بعضًا من النثر، وهو الأمثال، التي يعود فيقول: إنها أقرب إلى الأدب الشعبي منها إلى النثر الفني الذي يقصده، أما الخطابة، فإنها تستلزم حياةً خَصبة جيَّاشة، وحياة العرب قبل الإسلام لم تكن فيها سياسة قوية، ولا نشاط ديني عملي، بل كانت قائمةً على التجارة، وهذه لا تحتاج إلى خطابة، ولا تُعين عليها، أو على الحروب والغزوات، وهذه إنما تحتاج إلى الحوار والجدل لا إلى الخطب، ولعله لهذا السبب نبحث عبثًا، في كتاب "التوجيه الأدبي" الذي ألَّفه طه حسين مع أحمد أمين، وعبدالوهاب عزام، ومحمد عوض محمد - عن أي حديث يتعرَّض للخطابة في العصر الجاهلي، إذ كلما ورد ذكر الخطابة عند العرب، وجَدنا كاتب الفصل - وأغلب الظن أنه طه حسين نفسه - يقفز مباشرةً إلى الحديث عنها، بَدءًا من العصر الإسلامي، فهابطًا إلى العصر الحديث، متجاهلاً تمام التجاهل أيَّ كلام عنها فيما قبل الإسلام، رغم تأكيد الكاتب أيضًا أن "تاريخ الخطابة يكاد يكون مقارنًا للتاريخ الإنساني: نشأ بنشأته، وارتقى برُقيِّه"، وأنه "لهذا رُوِيت لنا الخُطب منذ عرف التاريخ"، وأنه متى توفَّر عامِلا الحرية وشعور الأمة بسوء حالتها وتطلُّعها إلى حالة أفضل - انتعش هذا الفن انتعاشًا كبيرًا، وهو ما تحقَّق للعرب في ذلك العصر حسبما هو معلوم؛ إذ لم يكن لهم دولة تُمارس سلطانها عليهم، وينزلون لها عن حظٍّ من حريتهم واستقلالهم، كما أن السَّخط على الأوضاع كان منتشرًا بين كثير منهم آنذاك، هذا السخط الذي كان إحدى عُدَد الإسلام في مواجهة الجاهلية وأوضاعها الباطلة، التي جاء ليُغيِّرها إلى ما هو أفضل، ثم إنه من غير المنطقي أن يخترع العرب في عصور التدوين كل تلك الخطب، وكل أولئك الخُطباء من العدم، ودون أن يقوم من بينهم مَن يَفضح هذا التزييف، وكأن الأمة قد صارت كلها أُمة من الكذَّابين، أو من الكذَّابين والسُّذَّج المُغفلين، الذين يجوز عليهم مثل هذا الخداع دون أن يثير فيهم إنكارًا، أو حتى دهشةً واستغرابًا!



على كل حال، فطه حسين إنما يسير في إنكاره للنثر الجاهلي على ذات الدَّرب المُتخبِّط الأهوج الذي سار عليه في نفْيه للشعر الجاهلي كله تقريبًا، مشايعًا المحترق مرجليوث في خَرَقه وضلاله، وعَمى منطقه وبصيرته!



وفوق ذلك، فمن الصعب على العرب - كما يلاحظ بحق عبدالله عبدالجبار، ود. محمد عبدالمنعم خفاجي - أن يرتقوا فجأةً في ميدان الخطابة هذا الارتقاء الذي يُقِر هو به بعد الإسلام، لو كانوا لا يعرفون الخطابة في الجاهلية، أو كانت خطابتهم على الأقل من التفاهة وعدم الغناء بالموضع الذي يَزعم طه حسين، وانظر في ذلك كتابهما: "قصة الأدب في الحجاز في العصر الجاهلي"، كذلك "قَفَشه" د. محمد عبدالعزيز الموافي في كتابه: "قراءة في الأدب الجاهلي" قفشةً بارعةً بحقٍّ، حين لفت الانتباه إلى أن طه حسين عندما أنكر وجود الخطابة الجاهلية، إنما كان اعتماده في ذلك الإنكار على خُلو العصر الجاهلي من الحضارة والحياة المدنية الراقية، مع أنه سبَق أن أقام إنكاره لصحة الشعر الجاهلي على القول بأن ذلك الشعر لا يمثِّل الحياة العقلية الراقية لدى الجاهليين، ونُضيف نحن أنه - رغم نفْيه هنا وجود أي نشاط ديني عملي للجاهلين - كان قد أقام إنكاره للشعر الجاهلي على عدة أُسس، من بينها أن هذا الشعر لا يعكس حياتهم الدينية، فأي حياة دينية يعكسها إذا لم تكن لهم حياة دينية عملية أصلاً كما يقول هو بعظمة لسانه؟



أي: إنه يقول بالشيء ونقيضه؛ لتقرير ما يريد تقريره، دون مُبالاة باعتبارات المنطق أو حقائق التاريخ، مع الاستعانة بالسَّفسطة التي لا تُحِق حقًّا، ولا تُبطل باطلاً!



ولقد فات د. طه أن هناك نصوصًا شعرية جاهلية، تَذكر الخطابة والخطباء في ذلك العصر، وهو دليل آخر على وجود الخطابة والخطباء أوانئذ، ومن هذه الأشعار قول ربيعة بن مقروم الضبي:

ومتى تَقُم عند اجتماع عشيرةٍ
خُطَباؤنا بين العَشيرة يُفْصَلِ



وقول أبي زبيد الطائي:

وخطيبٌ إذا تَمعَّرت الأَوْ
جُه يومًا في مَأْقِطٍ مَشهودِ



وقول بلعاء بن قيس الكناني:

ألاَ أبْلِغْ سُراقةَ يا ابْنَ مالٍ
فبِئْس مَقالةُ الرجل الخطيبِ



وقول أوس بن حجر:

أم مَن يكون خطيبَ القوم إذ حفَلوا
لدى الملوك ذَوِي أيدٍ وإفْضالِ؟




وقول عامر المحاربي:

يَقوم فلا يَعيا الكلام خطيبُنا
إذا الكَرْبُ أنسى الجِبْسَ أن يتكلَّما




وقول زبَّان بن سيار الفزاري:

كلُّ خطيبٍ منهم مَؤْوفُ

ومعروف أن كلَّ وفد من الوفود القبلية التي قدِمت على النبي - صلى الله عليه وسلم - في المدينة في العام التاسع للهجرة، كان يضم بين أفراده خطباءَ يتكلمون باسم الوفد، ويتبادلون الخطابة مع الرسول - عليه السلام - ومن حوله من الصحابة، وهذا أيضًا من الأدلة التي لا يمكن نقْضها مهما سَفْسَط الدكتور طه، وقد تعرَّض لذلك د. جواد علي في المجلد الرابع من كتابه: "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام"، (في الفصل الخاص بـ"النثر"، تحت عنوان "الخطابة")، إذ قال: "والخطابة عند الجاهليين حقيقة لا يستطيع أحد أن يجادل في وجودها؛ ودليل ذلك خطب الوفود التي وفَدت على الرسول، وهي لا تختلف في أسلوب صياغتها وطريقة إلقائها عن أسلوب الجاهليين في الصياغة، وفي طرق الإلقاء، ثم إن خُطب الرسول في الوفود وفي الناس وأجوبته للخطباء، هي دليل أيضًا على وجود الخطابة بهذا الأسلوب وبهذه الطريقة عند الجاهليين"، وإن كان من رأيه أن هناك خُطبًا جاهليةً منحولة، وأن نصوص الخطب الصحيحة، لم تصل إلينا كما قيلت، بل دخَلها التغيير بفعْل الزمن وضَعْف الذاكرة البشرية، وبخاصة أن الخُطب ليست كالشعر؛ أي: ليس فيها وزن وقافية يُساعدان على حفظها.

وعلى عكس ما يَهرِف به طه حسين هنا على النحو الذي كان معروفًا عنه عند عودته من أوربا، مُتصورًا أنه قد حاز العلم كله، وأن القول ما قال المستشرقون، الذين كان يردِّد كلام من يشككون منهم في تاريخ العرب وأمجادهم بعُجره وبُجره، دون أن يتريَّث لحظةً واحدةً؛ للتثبت مما يقوله هذا الصِّنف الموتور منهم، على عكس ذلك يؤكد أحمد حسن الزيات في كتابه: "تاريخ الأدب العربي" أن العرب - بنفوسهم الحسَّاسة، ونزوعهم إلى الحرية والاستقلال، ومَيلهم إلى الفخار، وما كانوا يتَّسِمون به من غَيرة ومسارعة للنجدة، وبلاغة في القول، وذَلاقة في اللسان، وما عرَفوه من الوفود والسفارات - كانوا مُهَيَّئِين للتفوق في ميدان الخطابة، مبينًا أن خُطبهم كانت تتَّسم بالقِصَر والسجع؛ حتى تَعلَق بالذهن عُلوقًا سهلاً، وبالمثل يقرِّر د. علي الجندي في كتابه: "في تاريخ الأدب الجاهلي" أنه قد "ثبت أن (العرب) كانوا يخطبون في مناسبات شتَّى، فبالخطابة كانوا يُحرِّضون على القتال؛ استثارةً للهِمم، وشَحذًا للعزائم، وبها كانوا يحثون على شنِّ الغارات؛ حبًّا للغنيمة، أو بثًّا للحميَّة؛ رَغبةً في الأخْذ بالثأر، وبالخطابة كانوا يدعون للسِّلم؛ حَقنًا للدماء، ومحافظةً على أواصر القربى أو المودة والصِّلة، ويحببون في الخير والتصافي والتآخي، ويبغضون في الشر والتباغض والتنابُذ، وبالخطابة كانوا يقومون بواجب الصلح بين المتنافرين أو المتنازعين، ويؤدون مهام السفارات؛ جَلبًا لمنفعة، أو درءًا لبلاء، أو تهنئةً بنعمة، أو تَعزية أو مُواساةً في مصيبة، فوق ما كانت الخطابة تؤديه في المصاهرات، فتُلقى الخُطب؛ رَبطًا لأواصر الصلة بين العشائر، وتَحبيب المتصاهرين بعضهم في بعض"، وعلى هذا الرأي أيضًا نجد د. أحمد الحوفي، الذي يسارع في كتابه: "فن الخطابة" إلى الاستدراك بأن العرب - بخلاف ما كان الحال عليه لدى الرومان واليونان - لم يكونوا يعدون خُطبهم قبل إلقائها، بل كانوا يعتمدون على الارتجال والبديهة، ومن هنا جاءت خُطبهم لُمَعًا بارقةً، دون تفصيل أو تخطيطٍ، أما السباعي بيومي في كتابه عن الأدب العربي في العصر الجاهلي، فيرى أن خطباء العرب كانوا يَحفلون بخُطبهم أيَّما حفولٍ، "فيتخيَّرون لها من المعاني أشرفها، ومن الألفاظ أفصحها؛ لتكون أشد وَقْعًا على النفوس، وأبعد تأثيرًا في القلوب، وأيقَظ للهِمم، وأحَثَّ على العمل"، ومن قبلُ سرَد ابن وهب في كتابه: "البرهان في وجوه البيان"، الموضوعات التي كانت تدور عليها الخطب آنذاك قائلاً: إن "الخطب تستعمل في إصلاح ذات البين، وإطفاء نائرة الحرب - أي: نارها وشرها - وحَمَالة الدماء، والتسديد للملك، والتأكيد للعهد، وفي عقد الإملاك - أي: الزواج - وفي الدعاء إلى الله - عز وجل - وفي الإشادة بالمناقب (الأعمال الجليلة)، ولكل ما أريد ذِكره ونشْره، وشهرته بين الناس".

أما د. شوقي ضيف، فيَسلك سبيلاً مخالفةً للفريقين جميعًا؛ إذ بينما نراه يؤكد وجود الخطابة والخطباء في الجاهلية، وتوفُّر العوامل السياسية والدينية والاجتماعية التي تكفل لها الازدهار؛ إذ به يشك في كل ما وصلنا تقريبًا عن ذلك العصر من خُطَبٍ، والسبب في هذا الشك هو بُعْد الشقة الزمنية بين العصر الجاهلي وعصر التدوين أيام العباسيين، ومع ذلك نجده يقول: إن من زيَّفوا نصوص الخُطَب الجاهلية، كانوا بلا شكٍّ يعتمدون على نصوص جاهلية صحيحة وضَعوها أمامهم واحتَذوها.

وعلى هذا، فإذا وجَدنا أن كثيرًا من الخطب والمفاخرات والمنافرات التي تُنسب إليهم، مُجودةً مسجوعةً مثلاً، فمعنى هذا أنهم في الجاهلية كانوا يُجوِّدون ويسجعون في خُطبهم ومفاخراتهم ومنافراتهم فعلاً، ويمكن القارئ مراجعة رأي الدكتور في كتابه: "العصر الجاهلي".

إلا أننا - مع احترامنا للأستاذ الدكتور وتقديرنا للفصلين اللذين خصَّصهما لهذا الموضوع في كتابيه المشار إليهما وما فيهما من علم وتحليل - لا نستطيع أن نُسلم بما يقول على علاته؛ إذ لا معنى لكلامه هذا إلا أنه قد وصلت فعلاً إلى مخترعي الخطب الجاهلية نصوصٌ صحيحة منها قاسوا عليها ما صنعوه ونسَبوه إلى الجاهليين، فلماذا رمَوها خلف ظهورهم، واكتفوا بما اخترعوه رغم تَيْح الأصل لهم؟!

وإذا كانوا لأمر ما غير مفهومٍ، قد أقدموا على هذا الصنيع الأخْرَق، فكيف لم يُتح لهذه النصوص الصحيحة مَن يعرف لها قدْرها ويَحفظها من الضياع؟

وقبل ذلك مَن قال: إن بُعد الزمن ما بين الجاهلية وعهد التدوين، كفيل بإنساء العربي تراث آبائه وأجداده؟ لقد عرَف العربي بذاكرته القوية، وحرصه على تاريخه وأدبه، واعتزازه بالكلمة الفنية التي ينتجها نثرًا كانت أو شعرًا، وقيام حياته الثقافية على الحفظ والرواية، والتمثُّل المستمر بنتاج قرائح الشعراء والمتكلمين، بحيث كان من الصعب أشد الصعوبة انتساخ تُراثه القولي، فإذا أضَفنا أن كثيرًا من خُطبهم في الجاهلية كان مُسجعًا مجنسًا، مراعًى فيه الموازنة وقِصَر الجمل، فضلاً عن قِصَر الخُطب نفسها - تَبيَّن لنا أن حفظ مثل هذا النتاج الأدبي، لم يكن بالمهمة الشديدة الصعوبة، بَلْه المستحيلة كما يتخيَّل البعض منا قياسًا على ما يخبرونه من الذاكرة العربية الحاليَّة، وهي ذاكرة لا تتمتع بما كانت تتمتع به سليفتها الجاهلية من حِدة ودِقة، مثلما لا يتمتع أصحابها بما كان يتمتَّع به نظراؤهم أوانذاك من اهتمام فائقٍ بالكلمة المشعورة والمنثورة، رغم تصوُّرنا العكس؛ اعتمادًا على ظواهر الحال المُضللة، ولا نَنس أيضًا أن العقل الجاهلي لم يكن ينوء بما ننوء به الآن من مشاغل ومتاعب، تَصرفنا صرفًا عن الحفظ والاهتمام براوية الأشعار والخطب على النحو الذي كان عليه الوضع في ذلك العصر، وفوق هذا فإن الأُمية التي كانت تَسم مجتمعهم بوجه عام، قد دفَعتهم دفعًا إلى الاستعمال المكثَّف والمستمر للذاكرة، بما يجعلها ناشطةً نشاطًا لا نعرفه الآن، وعلى كل حال، فقد قال الأستاذ الدكتور أيضًا - كما رأينا -: إن الذين اخترعوا الخطب ونسَبوها للجاهليين، قد قاسوها على ما وصَلهم من خُطب جاهلية حقيقية؛ أي: إن بُعد الزمن لم يكن له ذلك التأثير الذي عزاه إليه، وعلَّل به شكَّه في صحة خطب الجاهلية التي بلَغتنا، والواقع أن آخر كلامه ينقض أوله بكل أسف!

بيد أن قولنا بقدرة الذاكرة العربية على تأْدية المحفوظ من نصوص الخطابة الجاهلية شيء، والزعم بأنها قد أدَّته على وجهه لم تخرم منه شيئًا، فلم تُضف إليه ما ليس منه، ولم تنقص منه ما كان فيه، ولم تبدِّل بعض ألفاظه وعباراته، أو معانيه ومضامينه - هو شيء آخر مختلف، فالذاكرة البشرية - ككل شيء في عالم البشر - عُرضة للسهو والكلال والالتباس، ودعنا من النصوص التي زُيِّفت تزييفًا، واختُرِعت اختراعًا.

والعجيب أن د. طه حسين بعد ذلك كله، قد عاد في خطبة له بالجمعية الجغرافية بالقاهرة بتاريخ 20 ديسمبر 1930م عنوانها: "النثر في القرنين الثاني والثالث للهجرة" منشورة في كتابه: "من حديث الشعر والنثر"، فأقرَّ بوجود الخطابة في الجاهلية، وبمُواتاة الظروف عند العرب أوانذاك لازدهار هذا الفن، وهو ما كان قد أنكره بشدة في كتابين له حسبما رأينا آنفًا، وهذه هي عبارته التراجعية، التي لا تخلو رغم هذا من شيء من البهلوانية: "وإذًا فالعصر الجاهلي لم يكن له نثر بالمعنى الذي حدَّدته، ومع ذلك فقد كان له نثرٌ خاص لم يصل إلينا؛ لخُلوِّه من الوزن وضَعف الذاكرة، هذا النثر هو الخطابة، وليس من شك - إذا فهِمنا حياة العرب في الجاهلية - أن ما كان يقع بينها من خصومات، كان يحتاج إلى كلام غير منظوم، فقد كان الخطباء والمحامون ينطقون بلسان القبائل، ويحرصون على أن يُعجبوا السامعين، لا ليُقنعوهم فحسب، بل ليُثيروا فيهم لذةً فنيةً.

ومتى وُجِدت هذه الفكرة، فقد وُجِد الجمال الفني، والخُطباء كانوا يُقنعون ويُحاجُّون، معتمدين في ذلك على خلْب السامعين"، صحيح أنه استدرك بعد ذلك قائلاً: "لكن هذه الخطابة لم يرد إلينا منها شيء نثِق به، وربما كان من السهل أن نتصوَّر هذه الخطابة تصوُّرًا مقاربًا ليس دقيقًا، عندما نقرأ كُتب السِّير وما فيها من خطابة وأحاديث"، إلا أن ما يهمنا هنا هو تراجعه الواضح المُبين عن إنكار وجود أية خطبٍ جاهلية أصلاً، وتأكيده عدم مواتاة الظروف حينئذ لوجود هذا الفن، وتراجُعه الضمني عن دعواه الخاصة بأسبقية الشعر عند العرب على النثر كغيرهم من الأُمم، وهكذا يجري طه حسين هنا على دَيدنه في الإنكار والتمرُّد الأهوج الخالي من العقل والمنطق، ليستدير بعد هذا، فيُقر بما كان أنكره بشراسة، لاعقًا بذلك ما قال، وكأن شيئًا لم يكن، وبراءة الأطفال في عينيه!
========

========

أثار كتاب (في الشعر الجاهلي) ضجة واسعة في مصر وغيرها من الأقطار، ولم تكن الضجة ناتجة عن جدة في الموضوع، أو عن كشف في عالم الحقائق، وإنما كانت منبثقة عن قصور في دراسة الظواهر، وتعميم في إطلاق الأحكام، وتعام عن البينات الناصعة، وافتئات على مقدسات الأمة.
وقد استنبع الكتاب ردوداً عدة منها (المعركة تحت راية القرآن) لمصطفى صادق الرافعي، (الشهاب الراصد) لمحمد لطفي جمعة، (نقض كتاب في الشعر الجاهلي) للشيخ محمد الخضر حسين، (نقد كتاب في الشعر الجاهلي) لمحمد فريد وجدي، (محاضرات في بيان الأخطاء العلمية والتاريخية التي يشتمل عليها كتاب في الشعر الجاهلي) للشيخ محمد الخضري، (النقد التحليلي لكتاب في الأوهاب الجاهلي) لمحمد أحمد الفراوي.
نحب أن نشير -قبل أن نستعرض آراء طه حسين في كتاب في الشعر الجاهلي- إلى أنه لم يبتدع نظرية إنكار وجود الشعر الجاهلي، وليس أول من توصّل إليها، ولكن سبقه المستشرق مرجليوت إلى ذلك في بحث نشره في مجلة الجمعية الآسيوية عام 1924م، أي قبل حوالي عام من طرح طه حسين لفكرته على طلاب الجامعة، وقبل عامين من إصداره الكتاب.
ونحب أن نشير إلى أننا سوف لا نردّ على أقواله وآرائه عند استعراضها، لأنه يمكن الرجوع إلى الردود على الكتاب بأجمعه في مظانها التي ذكرناها قبل حين. 
يمكن -الآن- أن نستعرض من خلال هذا الكتاب نظرة طه حسين إلى الدين الإسلامي، وموقفه منه. ويمكن أن نعدّد -بهذا الخصوص- النقاط التالية:
1- ينكر طه حسين وجود ابراهيم واسماعيل التاريخيين فيقول: "للتوراة أن يحدّثنا عن ابراهيم واسماعيل، وللقرآن أن يحدّثنا عنهما أيضاً، ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن، لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي، فضلاً عن إثبات هذه القصة التي تحدّثنا بهجرة اسماعيل بن ابراهيم إلى مكة"( ) .
2- اعتبر طه حسين هجرة ابراهيم واسماعيل إلى الجزيرة العربية حيلة اختلقتها قريش لأسباب سياسية واقتصادية، وصدّقها القرآن ليحتال على اليهود، ويتألف قلوبهم. ولينسب العرب إلى أصل ماجد، وليثبت صلته بالتوراة. ويذكر أسطورة مشابهة قبلتها روما في ظروف مماثلة. فيقول في الصفحة السابقة نفسها: "ونحن مضطرون إلى أن نرى في هذه القصة -يريد قصة الهجرة- نوعاً من الحيلة لإثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة، وبين الإسلام واليهودية، والقرآن والتوراة من جهة أخرى"( ) ثم يقول: "وقد كانت قريش مستعدة كل الاستعداد لقبول مثل هذه الأسطورة -الهجرة المذكورة في القرن السابع للميلاد-"( ) . ويقول أيضاً: "إذاً فليس ما يمنع قريشاً من أن تقبل هذه الأسطورة التي تفيد أن الكعبة من تأسيس اسماعيل وابراهيم، كما قبلت روما ولأسباب مشابهة أسطورة أخرى صنعتها لنا اليونان تثبت أن روما متصلة بأنبياس بن بريام صاحب طروادة، أمر هذه القصّة إذاً واضح، فهي حديثة العهد قُبيل الإسلام، واستغلّها الإسلام لسبب ديني، وقبلتها مكة لسبب ديني وسياسي أيضاً، وإذا فسيستطيع التاريخ اللغوي والأدبي ألا يحفل بها عندما يريد أن يتعرف أصل اللغة العربية الفصحى"( ) .
3- يعتقد طه حسين أن القرآن يمثّل العصر الجاهلي جنباً إلى جنب مع التاريخ والأساطير فيقول: "إن القرآن يمثّل العصر الجاهلي ويشخّصه، وإنه أصدق مرآة للحياة الجاهلية"( ) . ويقول أيضاً: "وإن العصر الجاهلي القريب من الإسلام لم يضع وإنا نستطيع أن نتصوّره واضحاً قوياً، بشرط ألا نعتمد على الشعر، بل على القرآن من ناحية والتاريخ والأساطير من ناحية أخرى"( ) .
4- يصرّح طه حسين بأن القراءات السبعة ناتجة عن اختلاف لهجات القبائل، مع أنه من الثابت ومن المتفق عليه في أصول الإسلام أن القراءات السبعة منقولة بالتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وطريقها الوحي. يقول طه: "وهناك شيء بعيد الأثر لو أن لدينا أو لدى غيرنا من الوقت ما يمكننا من استقصائه أو تفصيل القوى فيه، وهو أن القرآن الذي تُلِيَ بلغة واحدة ولهجة واحدة هي لهجة لغة قريش ولم يكد يتناوله القرّاء من القبائل المختلفة حتى كثرت قراءاته وتعدّدت اللهجات فيه، وتباينت تبايناً كثيراً"( ) . ثم يقول: "إنما نشير إلى اختلاف آخر في القراءات يقبله العقل، ويسيغه النقل وتقتضيه ضرورة اختلاف اللهجات بين قبائل العرب التي لم تستطع أن تغيّر حناجرها وألسنتها وشفاهها لتقرأ القرآن كما يتلوه النبي وعشيرته من قريش، فقرأته كما كانت تتكلّم".
يؤمن طه حسين بأن المسلمين ربطوا بين الإسلام من جهة، ودين ابراهيم من جهة ثانية كي يُثبتوا أوّلية الإسلام في الحجاز، وكي يوجدوا جذوراً له في المنطقة. يقول: "أما المسلمون فقد أرادوا أن يثبتوا للإسلام أوّلية في بلاد العرب كانت قبل أن يبعث النبي، وأن خلاصة الدين وصفوته هي خلاصة الدين الحق الذي أوحاه الله إلى الأنبياء من قبل"( ) .
6- يزعم طه حسين بأن الرسول صلى الله عليه وسلم حرّض على الهجاء، وأثاب شعراء المسلمين عليه فقال: "إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحرّض على الهجاء ويثب عليه أصحابه، ويتحدّث أن جبريل كان يؤيّد حسّاناً"( ) . هذا مع أن الرسول كان دافعاً لهجاء، راداً لألسن، ويتّضح ذلك من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: "يا حسان أجب عن رسول الله، اللهم أيده بروح القدس"( ) ، وفي قول عائشة للذي أخذ يسبّ حسان عندها: "لا تسبه فإنه كان ينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم"( ) . فالتأييد -كما هو واضح من نص الحديث- مرهون بالكفاح والدفاع، أي بردّ الاعتداء اللساني. 
7- يطعن طه حسين في إيمان عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، إمام العدل، وضبط النفس، يطعن فيه فيصفه بالتعصّب لقريش، وبالغضب لانهزامها في بدر، تلك العصبية التي برّأه الإسلام منها، وطهّره من رجسها. يقول: "وقد ذكر الرواة أن عمر مَرّ ذات يوم فإذا حسّان في نفر من المسلمين ينشدهم شعراً في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ بأُذُنه وقال: أرغاء كرغاء البعير؟ قال حسّان: إليك عني يا عمر! فوالله لقد كنت أنشد في هذا المكان من هو خير منك. فيرضى عمر عنه ويمضي.
وفقه هذه الرواية يسير لمن يلاحظ ما قدّمنا من أن الأنصار كانوا موتورين وأن عصبيّتهم كانت لا تطمئن إلى انصراف الأمر عنهم، فكانوا يتعززون بنصرهم للنبي صلى الله عليه وسلم وانتصاره فهم من قريش، وكان عمر قرشياً يكره عصبيته أن تزدري قريش، وينكر ما أصابها من هزيمة يعني في غزوة بدر"( ) .
8- يتساءل طه حسين: لم لا يكون أمية بن أبي الصلت قد أخذ النبي طالما أن مصادر أمية ومحمد واحدة هي قصص اليهود والنصارى؟؟!! يطرح طه حسين هذا السؤال في حوار له مع المستشرق (هوار) الذي يزعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد أخذ من أمية بن أبي الصلت فيقول: "من الذي يستطيع أن ينكر أن كثيراً من القصص القرآني كان معروفاً بعضه عند اليهود وبعضه عند النصارى وبعضه عند العرب أنفسهم، وكان من اليسير أن يعرفه النبي صلى الله عليه وسلم، كما كان من اليسير أن يعرفه غير النبي، ثم كان النبي وأمية متعاصرين، فلا يكون النبي هو الذي أخذ من أمية، ولا يكون أمية هو الذي أخذ من النبي؟"( ) .
9- ليست مودّة النصارى للمسلمين -في رأي طه حسين- قائمة على أن منهم قسّيسين ورهباناً كما جاء في الآية الكريمة، بل تنبع هذه المودّة -في زعم طه- من قلّة احتكاك المسلمين بالنصارى لانعدام وجودهم حول المدينة المنوّرة مركز الدولة الإسلامية الأولى وكثرة الاحتكاك باليهود الموجودين في المدينة نفسها، يقول طه موضّحاً هذا الرأي: "وأما يهودية اليهود فقد ألّبت عليه وجاهدته جهاداً عقلياً وجدلياً، ثم انتهت إلى الحرب والقتال، وأما نصرانية النصارى فلم يكن معارضتها الإسلام إبّان حياة النبي قوية قوة المعارضة الوثنية واليهودية ... لماذا؟ لأن البيئة التي ظهر فيها النبي لم تكن بيئة نصرانية، إنما كانت وثنية في مكة، ويهودية في المدينة، ولو ظهر النبي في الحيرة أو نجران للقي من نصارى هاتين المدينتين ما لقي من مشركي مكّة ويهود المدينة"( ) .

==========
============

منهج طه حسين في كتاب

في الشعر الجاهلي

 الثلاثاء ٦ شباط (فبراير) ٢٠٠٧،  بقلم فرهاد ديو سالار / ايران

 ٢
الموجز

يبحث الدكتور طه حسين عن الأدب العربي و الفكر الإسلامي و تقوم روحه على المادية الغربية وعلى استعلاء الفكرالغربي الاستعماري على العرب و المسلمين و أعلى من شأن الأدب اليوناني القديم و الفرنسي الحديث و ينتهز من كل الفرص للإشادة بهما ليرضي أساتذته الغربيين ،و أبدي الوفاء لهم شغفا بأسلوب الشك في كل شيء يتعلق بالدين الإسلامي فالأدب العربي بصورة عامة و الشعر الجاهلي خاصة بدون دليل يعتمد على سند علمي و عقلي سليم و صحيح داعيا إلى فصل اللغة العربية عن دين الإسلام الذي رمى إليه الغرب ردحا من الزمن لإسقاط مكانة اللغة العربية باعتبارها لغة القرآن و قطع الصلات بين الدراسات العربية و الدراسات الإسلامية.

كان في أسلوبه الذي اعتمد فيه على منهج ديكارت كثير من المغالطة و ليس من منهجه في شيء وإنه يخالف ما يقوله ديكارت و إن تطبيق منهجه هذا قائم على التسليم بصورة كاملة دون أن يداخله أي شك برواياته وهو يصل إلى الإنكار مباشرة و ينهج أسهل طريق للوصول إلى النتيجة و لم يشعر بأي جهد في الوصول إلى الحقيقة؛ لأنه في البداية يصل إلى نتيجة حاسمة و هي إنكار الشعر الجاهلي بصورة كاملة و في أسلوبه هذا مغالطة وعناد . و في هذا المقال نشير إلى الخلل المنهجي الذي وقع الأستاذ طه حسين في أسلوبه العلمي.
الكلمات الرئيسية: طه حسين، ديكارت، في الشعر الجاهلي، اللغة العربية، لغة القرآن.
المقدمة

تورط طه حسين في كتابه" في الشعر الجاهلي" في أكبر خطأ حيث أنه ينطلق في البحث من
فروض و تخيل قائم على الحدس و الظن؛ غير أنه يسير في بحثه، و كأن هذه الفروض التي ليس لها أي أساس علمي أو تاريخي ثبتت صحتها و سلم بها حقيقة، ثم يقفز إلى استنتاجات يعدها نتائج علمية ولكنها محض افتراضات و احتمالات بعيدة إلى نظريات ثابتة و نتائج علمية مؤكدة و لا يجد الباحث أي سند علمي سليم دال على ثبوتها.
و يمكن القول إنه امتثل أساتذته الغربيين خاصة مرغليوث و شكه أقرب من آرائهم و استنساخها.
عقيدة الأستاذ طه حسين في دراسة الأدب العربي هي:
من ذا الذي يستطيع أن يكلفني أن أدرس الأدب لأكون مبشرا بالإسلام أو هادما للإلحاد ... سأجتهد في درس الأدب غير حافل بتمجيد العرب و لا مكترث بالنعي عن الإسلام.....تسألني عن الفرق بين الأدب العربي و الأدب الفرنسي ، فإني في ذلك لا أختلف عن المستشرقين الذين بحثوا هذا الموضوع، وهو في الواقع فرق ما بين العقل السامي و العقل الآري، فالأدب العربي سطحي و يقتنع بالظاهر و الأدب الفرنسي عميق دائم التغلغل و في الأدب الفرنسي وضوح و تحديد لا وجود لهما في الأدب العربي .و إذا كان هذا هو رأيه فكيف يمكن أن يحلل و يدرس كباحث و أن يكون أسلوبه علميا؟!!
كان طه حسين يمثل المنهج الفني-العلمي أو الأدبي-العلمي؛ لأن الأدب آنذاك كان محسوبا من مظاهر التجديد و معدودا في العلوم الحديثة و أحرى به أن يسلك سبيلا يرضي نزعتيه معا، نزعته الفنية أوالأدبية و نزعته إلى التمرد و حب الجديد. وهذا كان موضوعا للصراع بين القديم والجديد. وبعد عودته من فرانسا ثار على المنهج الجديد لجفائه و جفافه، ذلك لأن تاريخ الأدب لايستطيع أن يعتمد على مناهج البحث العلمي الخالص وحدها و إنما هو مضطر معها إلى الذوق(طه حسين، في الأدب الجاهلي، دار المعارف بمصر1926م،ص19) و كان الأسلوب الذي اصطنعه في هذا الكتاب المنهج الفلسفي الذي استحدثه "ديكارت" للبحث عن حقائق الأشياء. و يعتقد أن هذا الأسلوب من البحث عن تاريخ الشعر العربي جديد لم يألفه الناس من قبل و أنه سلك مسلك المحدثين من أصحاب العلم و الفلسفة فيما يتناولون من العلم و الفلسفة. و اجتهد في هذا النوع من الحياة العلمية لئلا يفسد العلم كما أفسده القدماء و أن يصل ببحثه العلمي إلى نتائج لم يصل إلى مثلها القدماء.ويعتقد أنه قد نسي كل شئ يتصل به في بحثه هذا، نسي قوميته و كل مشخصاتها و نسي دينه و كل ما يتصل به، و نسي ما يضاد هذه القومية و ما يضاد هذا الدين و لم يتقيد بشيء و لا أذعن لشيء إلا مناهج البحث العلمي الصحيح لأنه في غيرهذه الحالة لا بد أن يضطر إلي المحاباة وإرضاء العواطف و سيقع في مشكلة وقع فيه القدماء فلم يعرضوا لبحث علمي و لا لفصل لفصول الأدب أو لون من ألوان الفن إلا من حيث أنه يؤيد الإسلام و يعزه و يعلي كلمته؛ لأنهم كانوا مخلصين في حب الإسلام فأخضعوا كل شيء لهذا الإسلام و حبهم إياه (طه حسين، في الشعر الجاهلي دار الكتب المصرية بقاهرة1926م،ص12).

كان بحثه في هذا الكتاب تاريخ الأدب و لكنه أجاب الأدب بالعلم وهذا – كما يعتقد في مقدمة كتابه في الأدب الجاهلي- ليس صحيحا كان عليه أن يجيب الأدب بالأدب، خاصة أنه كان يدرّس التاريخ و ذهب إلى فرانسا لدراسة التاريخ الأوروبي القديم و اللاتيني .
وقع الأستاذ طه في أكبر خلل منهجي؛ لأنه ينطلق في بحثه من فروض هي مجرد تخيل قائم على الحدس و الظن، غير أنه يسير في بحثه و كأن هذه الفروض التي ليس لها أي أسا س علمي أو تاريخي، يبدأ صياغتها- غالبا- علي نحو:

أليس يمكن أن .....
أليس من الممكن أن ....
أكاد اعتقد .....
فليس ببعيد ....
فنحن نعتقد وإلخ.إذن هذه الفروض يحولها طه حسين من محض افتراضات و احتمالات بعيدة إلى نظريات ثابتة و نتائج علمية مؤكدة حيث ينتهي إلى القول:

و لكننا محتاجون بعد أن ثبتت هذه النظرية (؟!!) أن نتبين الأسباب المختلفة التي حملت الناس على وضع الشعر و انتحاله بعد الإسلام، أو أمرهذه القصة إذن واضح. فهي حديثة العهد ظهرت قبيل الإسلام(طه حسين، في الشعر الجاهلي،ص29).و أمر ذلك يسيرهو أن هذا الشعر الذي يضاف إلىالقحطانية قبل الإسلام ليس من القحطانية في شيء (طه حسين،في الشعر الجاهلي،ص30).أو فواضح جدا أن هذه النظرية متكلفة مصنوعة في عصور متأخرة (طه حسين، في الشعر الجاهلي،ص26).و لا يجد الباحث أي سند علمي يفيد ثبوتها.
في الأسلوب العلمي يحتاج الباحث إلى مقدمات جزئية و منطقية. و يصل من المقدمات و النتائج الجزئية إلى نتيجة نهائية قاطعة. و لكن الدكتور طه في البداية يحكم على انتحال الشعر الجاهلي، ثم يأتي بدلائل ليثبت أن الشعر الجاهلي غير موجود و الشعراء الجاهليين شخصيات أسطورية غير حقيقية. و يلحّ على النتيجة التي اتخذها من قبل. في الحقيقة وقع الأستاذ في بعض الأخطاء؛ منها:
وضع النتيجة قبل المقدمات المنطقية، نفي الأدب الجاهلي و الإتيان بنتائج كلية قبل أن يأتي بنتائج جزئية، بعد رفض الشعر الجاهلي يريد أن يثبت أنه ليس جاهليا، و الإصرار على النتيجة التي وصل إليها من قبل. و كتابه هذا استنساخ لآراء مرجليوث حول الشعر الجاهلي و حاشية كتبها علي نص هذه المقالة. (.لاحظ مقالة مرغليوث تحت عنوان: The Origins of Arabic Poetry في مجلة Journal of Asiatic Royal Societyيوليو 1925 م).
و ليست هذه القضايا علميا بصحيح و لا محل لها من الإعراب في الأسلوب العلمي، إن المنهج العلمي قد يكون محل اتفاق و ذلك في العلوم التجريبية كالطبيعة و الكيمياء و الرياضيات و الهندسة و الفيزياء حتى يكون له أصول ثابتة لا تتغير؛ أما العلوم الإنسانيةالتي تبحث في أسرار النفس البشرية و العلاقات الاجتماعية و القيم الخلقية فلا يتصور فيها وجود منهج موحد بل إن علماء الغرب أنفسهم لم يتفقوا على منهج واحد لدراسة الإنسان و ما يتعلق به من جوانب نفسية و فكرية و خلقية. و هذا الأمر أدّى إلى أن يخطأ الأستاذ طه حسين في نظرياته و كان مخطئا في النتيجة أيضا؛لأن المقدمات إذا كانت منطقية و على أسلوب علمي صحيح، النتيجة طبعا صحيحة و قاطعة. هذا هو الأصل في الأسلوب العلمي.
يطعن طه حسين قبل كل شيء على أصالة الأدب العربي ثم يريد أن يثبت أنه غير موجود، عناية بنظريات مرغليوث.
من المسائل التي أوقعته في الخطأ و تورط فيه حتى تخيل حقا ما ليس بحق أو ما لا يزال بحاجة إلى إثبات أنه حق تعميم الشك و إصراره عليه، هذا الشك الديكارتي الذي يفتخر به و لكنه لم يحسن استخدامه و يقول: أول شيء أفجؤك به في هذا الحديث هو أني شككت في قيمة الشعر الجاهلي و ألححت في الشك، أو قل ألح علي الشك(طه حسين، في الشعر الجاهلي،ص7) .
في الأسلوب العلمي و الدراسة العلمية يشك الإنسان و من الشك يصل إلى اليقين، و أحيانا مع إرائة الدلائل العلمية و المنطقية يرفض شيئا. و لكن طه حسين يشك و يسعى أن يثبت أن موضوع بحثه غير موجود و دائما يصل إلى الإنكار و يجعل للشك ميدانا واسعا تجاوز فيه الحدود فأخطأ.على سبيل المثال: وصل من الشك إلى اليقين في إنكار أيام العرب و الأقوام البائدة و الأمثال و غيرها (طه حسين، في الشعر الجاهلي،صص104و105)؛ مع أنه يعتقد أن مؤرخ الآداب العربية خليق أن يقف موقف الشك إن لم يكن موقف الإنكار الصريح(طه حسين، في الشعر الجاهلي،ص 104)، أو بعد بحث إن لم يتهيأ إلى اليقين فقد ينتهيان إلى الرجحان(طه حسين، في الشعر الجاهلي،20).و لكنه يرفض و ينكر بسهولة كل شيء.
و هناك سؤال: يعتقد أن القرآن ظهر في أمة راقية و لاجاهلية و إنما كانوا أصحاب علم و ذكاء و أصحاب عواطف رقيقة و عيش فيه لين و نعمة(طه حسين، في الشعر الجاهلي،ص 20) . و تحدي القرآن أيضا يدل على هذا الموضوع و كيف يمكن أن نقبل أنّ لهؤلاء القوم لم يكن شيء من أدب و شعر و أيام و أسواق و إلخ. و هؤلاء كانوا مشغولين بأي شيء؟ و ماذا يفعلون؟ و يهتمون بأي شيء؟ لماذا هو ينكر هذه المسائل كلها بهذه البساطة؟ و لا بد أن يجيب عن هذه الأسئلة و لكنه لم يذكر شيئا حولها. كأن اطلاعه قليل و ثقافته قليلة و يدعي أنه يتبع المنطق و لكنه بالفعل "لا" و بحثه ليس بحثاعلميا في شيء بل عنده نقد و إنكار فقط و له قدرة على البحث و مشكلته أنه يريد أن يجيب الأدب بالعلم و لهذا وقع في هذه الأخطاء.
كتاب في الشعر الجاهلي شك في التاريخ و ليس في تاريخ الأدب . يحتاج البحث في تاريخ الأدب إلى مسائل شتّى حول الأدب بنوعيه: الشعر و النثر، التي لابد للأستاذ أن يبحث عنهما؛ يعني في البحث عن الأدب و تاريخ الأدب لابد له أن يدرس بعض الأشياء حول الأدب مثلا: ما هو الأدب؟ ما هوالشعر؟ ما القصد من النثر و ما هو أنواعه؟ كيف كانت مبدأئية الشعر و النثر في الأدب الجاهلي؟ ما هي الأغراض الشعرية في العصر الجاهلي؟ أيّ هذه الأغراض رئيسية و أيها فرعية؟ ما هو الوصف و الغزل و الخمريات و المدح و الحماسة و غيرها؟ ما هي ميزات الشعر الجاهلي؟ كيف ضعفت أو قوية هذه الأغراض؟ أي هذه الأغراض كانت مهملة و أي غرض أبدع؟ كيف كان التشبيه و المجاز و الاستعارة في هذه الأشعار؟ هل تمثل هذه الأشعار بيئة الشاعر أولا؟ و إلخ.
و لكن طه حسين يحكم في البداية على انتحال الشعر الجاهلي و يلح على أن الشعر الجاهلي غير موجود و ينفي كل ما يتعلق بالأدب الجاهلي، الشعر الجاهلي، أيام العرب و أسواق العرب و يعتبرها أسطورة(طه حسين، في الشعر الجاهلي،صص 104و105). و يعتبر الشخصيات الموجودة فيه أساطير مثل امرئ القيس، عنترة، طرفة و غيرهم، الذين اعتبرهم قبل بضعة أشهر من نشر كتابه في الشعر الجاهلي من قادة الفكر و كان يعتقد و يؤكد أنهم أساس الحضارة الإسلامية و يستطرد للمقارنة بين بداوة اليونان و أشعارها و بين بداوة عرب الجاهلية و أشعارهم. و هذا نصّ عبارته: "علام تقوم الحياة العربية في بداوة العرب و أول عهدهم بالإسلام؟ على الشعر ...هل كانت توجد الحضارة الإسلامية التي ظهر فيها مَنْ ظهر من الخلفاء و العلماء و أفذاذ الرجال لو لم تجد البداوة العربية التي سيطر عليها امرؤ القيس و النابغة و الأعشى وغير هم من الشعراء الذين الذين نبخسهم أقدارهم ولا نعرف لهم حقهم؟ "(طه حسين، قادة الفكر، دار المعارف بمصر، ابريل 1925 م صص 10و11).
و جدير بالذكر أن الأستاذ ذهب إلى فرنسا لدراسة التاريخ، و دراساته هناك لا تتضمن أيّ شيء يتعلق بالأدب العربي و لا بالشعر الجاهلي على وجه الخصوص، و عندما عاد إلى مصر و اشتغل بالتدريس في الجامعة كان يدرّس التاريخ الأوروبي القديم حتي العام الدراسي 1925 -1926 م حيث تحول إلى تدريس الأدب العربي و بالذات الشعر الجاهلي. و الكتب التي ظهرت للدكتور منذ عودته من فرنسا حتى ظهور كتابه في الشعر الجاهلي كانت تتعلق على نحو أو على آخر بالتاريخ الأوروبي القديم. و فيها يدافع عن الشعر الجاهلي و يشير إلى امرئ القيس و معلقته و أشعاره إشارة باطمئنان تام و حتى بعدها في عدة مقالات حول الشعر العباسي و الأموي يأتي بكلام عن الشعر الجاهلي و شعرائه و يؤمن به إيمانا كاملا و لا يتخيل للحظة يمكن أن يكون في موضع الشك.
و لكنه ينفى الأدب الجاهلي و خاصة امرأ القيس كأوّل شاعر يعتبره أسطورة لا حقيقة له، و تغيير هذه الزاوية بمقياس 180 درجة في زمن قصير شيء عجيب! زد على ذلك أن اختلاف الرواة فيما يتعلق برجل مشهور لا يمكن أن يدل على عدم وجود الرجل ، بل بالأحرى يدل على وجوده.
كثيرا ما استشهد و تمثل بالأخبار و الروايات من العرب القدماء، لإثبات آرائه و نظرياته و في نفس الوقت يرفضها أو يجرّحها. مثلا يقبل آراء ابن سلام في الأحيان الكثيرة؛ يأتي برواية منه عن قول أبي عمرو بن العلاء: ما لسان حمير بلساننا و لا لغتهم بلغتنا(طه حسين، في الشعر الجاهلي، ص 25). و قُبيل ذلك يأتي ابن سلام برواية عن يونس بن حبيب: العرب كلها ولد إسماعيل إلا حمير و بقايا جرهم (ابن سلام، طبقات فحول الشعراء،شرح محمود محمد شاكر،دار المدني بجدة، ص9). و لكنه يرفضه و لا يقبله؛ لأنه يريد أن ينفي قصة إبراهيم و إسماعيل و هجرتهما إلى مكة و بناء الكعبة. أو يقبل من ابن سلام رواياته عن خصوص ابن هشام و ابن إسحاق عندما يرفضهما و في نفس الوقت يتكلم عن انخداع ابن سلام في قبوله بعض الروايات عن أيام العرب و أمثالهم و اشعارهم .... (طه حسين، في الشعر الجاهلي،ص99). و لا يقبل رواية تدل على أن امرأ القيس استودع السلاح عند سمؤال بن عادياء في قسم شعراء اليهود (ابن سلام، طبقات فحول الشعراء، ص279). و لا يشير إلى رواية عنه أن العرب ورثت الأشهر الحرم من إسماعيل، كانت العرب تحرم أربعة أشهر من السنة كما كان بأيديهم من إرث إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام (ابن سلام، طبقات فحول الشعراء، ص73). أو يستند إلى الجاحظ حول إعجاب الفرس بآثار الأمم الاجنبية و تقديمها على آثار العرب (ابن سلام، طبقات فحول الشعراء، ص 115) و في نفس الوقت يرفضه بخصوص عصبيته و كل ما قال حول الموالي و الشعوبية (طه حسين،في الشعر الجاهلي، ص 116).
يقبل آراء الآخرين و يستند إليها و يعممها. منهجه في الكتابة المنهج الفلسفي لديكارت أو الشك الدكارتي و لكنه لم يحسن استخدامه، و يشك في الروايات التي لا تعجبه و لا تؤدي إلى ما يريد تقريره منذ البداية و يعمم الشك حتى على القرآن؛ مع أنه يعتقد كثيرا ما أن القرآن نصه ثابت و لا سبيل إلي الشك فيه (طه حسين، في الشعر الجاهلي،ص 16). أو فيما يتعلق بالأقوام البائدة يقول: أي دليل على ذلك أوضح من هذه النصوص القرآنية (طه حسين، في الشعر الجاهلي،ص 66). و أوثق مصدر للغة العربية هو القرآن (طه حسين، في الشعر الجاهلي،ص 77). و لست أفهم كيف يشك عالم في القرآن (طه حسين، في الشعر الجاهلي،ص 77). أو عندما يتكلم حول اضطهاد النصارى بواسطة يهود يستشهد بالقرآن في سورة بروج (طه حسين، في الشعر الجاهلي،ص 86). و يستند إلى القرآن حول الحياة العقلية للعرب الجاهلي (طه حسين، في الشعر الجاهلي،ص 21).
و هذا نفس موقعه من التوراة و الإنجيل و سيرة النبي و نسبه و في نفس الوقت يعتبركل هذه المسائل أسطورة و يشك فيها. و في قسم اللغة تعرض للقرآن الكريم بحماقة متهما إياه بأنه استعان بالأساطير الكاذبة بغرض التقرب من اليهود. و في الدين و انتحال الشعر يغمز من الرسول و من الإجلال الذي يشعر المسلمون به تجاهه و يحاول دون أي أساس أن يقلل من شأنه و حُذف هذان النصان في كتابه في الأدب الجاهلي. و في هجرة إبراهيم و إسماعيل يقول : للتوراة يحدثنا عن إبراهيم و إسماعيل و للقرآن عن يحدثنا عنهما أيضا، و لكن ورود هذين الاسمين في التوراة و القرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي (طه حسين، في الشعر الجاهلي،ص 26) و يعتبرها أسطورة.
يقبل نظرية ابن سلام و ابن قتيبة و الآخرين عندما يشكون في صحة الأشعار الجاهلية أو يعتقدون أنه لا يمكن الاعتماد على بعض الرواة و لكن طه حسين يعممها على الأدب الجاهلي كله و على الرواة كلهم و يعتبرهم من الجاعلين و الكاذبين و لا ينبغي الاعتماد عليهم. و يستدل باختلاف الموجود في إعراب القرآن و قراءاته و يعممها على اللغة العربية بصورة عامة و على اللهجات كلها (طه حسين، في الشعر الجاهلي،ص 34). و يعتقد بما أن في القرآن اختلافات كثيرة في الإعراب؛ لابد أن تكون هذه الاختلافات الفاحشة في اللغات و اللهجات و يستنتج بأنه لا يمكن وجود اللغة الأدبية –اللهجة الفصحى للقريش- على الشعر الجاهلي و لابد أن تكون هذه الاختلافات على الشعر الجاهلي لأنها من لغة الجنوب القحطانيين و لغة الشمال العدنانيين.
سلك الدكتور طه حسين طريقا مظلما استنتج على أساس الشك فكان عليه أن يسير على مهل و تؤدة أو أن يكون محتاطا في سيره حتى لا ينحرف؛ لكنه أقدم غير محتاط فكانت النتيجة غير محمودة و استنتج بدون أي أصول و أي أساس منطقي و كانت النتيجة على أصول الشك و لكنه في النهاية وصل إلى نتيجة حاسمة لا تتغير، أو بعبارة أخرى وصل إلى نتيجة قاطعة على أساس المجهولات خاصة استنتاجه من النقوش المكتشفة أخيرا حول اللهجات و لغة الأقوام البائدة التي كانت قليلة يسيرة، ولم يستطع أن يأتي بتعريف حول اللغة و اللهجة الفصحى، ما هي؟ أو ما هي لغة حمير؟ وما هو الفرق بين لغتي حمير و العدنان؟ إجابة عن السؤال الذي هو نفسه قد طرحه و يقول: و لنجتهد في تعرف اللغة الجاهلية هذه ما هي؟ أو ماذا كانت في العصر الذي يزعم الرواة أن شعرهم الجاهلي هذا قد قيل فيه؟(طه حسين، في الشعر الجاهلي،ص 24) .و رغم ضعفه و عجزه في هذا المجال يتكلم عن نتيجة بحثه بصورة قاطعة و يقول: إن لغتهم تباين لغة العرب الجاهلي تماما و يعتمد على هذه النقوش التي اكتشفها المستشرقون و أثبته البحث الجديد و يعتقد هو نفسه أن هذه النقوش اكتشفت بعض الفرق في القواعدالصرفية و النحوية و بعض الألفاظ و لكن في النهاية يصل إلى النتيجة الحاسمة أن هاتين اللغتين متمايزتان.
و يرى في قصة إبراهيم و إسماعيل و هجرتهما إلى مكة أسطورة و أنها من تلفيق اليهود و حديثة العهد قبيل الإسلام؛ للتوراة يحدثنا عن إبراهيم و إسماعيل و للقرآن عن يحدثنا عنهما أيضا، و لكن ورود هذين الاسمين في التوراة و القرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي (طه حسين، في الشعرالجاهلي، ص 26) و لكن يستدل علي أي شيء؟ أي دليل تاريخي و منطقي؟ غير واضح؟! و يستنتج قاطعا : إن ضعف هذه القصة إذن واضح فهي حديثة العهد ظهرت قبيل الإسلام، و استغلها الإسلام لسبب ديني، و قبلتها مكة لسبب ديني و سياسي أيضا (طه حسين، في الشعر الجاهلي،ص29). ما هو سبب وصوله من الشك إلي اليقين؟ و إذا كان عنده دليل علمي و منطقي و وصل إلى هذه النتيجة بأسلوب علمي قاطع، لماذا يحذفه في كتابه" في الأدب الجاهلي"؟ و الله أعلم بالصواب. ربما يكون دليله هذا:
نحن مضطرون إلى أن نرى في هذه القصة نوعا من الحيلة في إثبات الصلة بين اليهود و العرب من جهة، و بين الإسلام و اليهودية و القرآن و التوراة من جهة أخري (طه حسين، في الشعر الجاهلي،ص 26). أي ارتباط بين هذا الموضوع و ذاك الذي قد ذكره أول البحث لابد أن نعرف ما هي هذه اللغة و إلخ. و أما دلائله فهي:

فليس ببعيد أن ……
فماالذي يمنع قريشا…… .
و نحن نعتقد ………..
إذن نستطيع أن نقول ……...
و إذن فليس ما يمنع قريشا أن تقبل هذه الأسطورة………..
و كأن كلامه حجة قاطعة لرفض موضوع تاريخي مهم كهذا دون أي أساس علمي منطقي. و كيف يمكن أن نعتبره أسلوبا علمي؟!!

أنكر المقدسات الواضحة التاريخية المبرهنة عليها في الكتب الدينية بدون أي دليل منطقي أو استدلال علمي. كسبيل المثال رفض قصة إبراهيم و إسماعيل مع أنها في القرآن و التوراة و الإنجيل موجودة، و ينكرها بدون إرائة السند العلمي و التاريخي الصحيح و اعتبرها أسطورة. و إذا قبلنا رأيه أن هذه الكتب السماوية كلها أسطورة؛ فلماذا يستند إليها في مواضع كثيرة و يستشهد و يتمثل بها على إثبات مدعاه؟ والسؤال هو : هل يمكن لباحث أن يستند على أسطورة لإثبات مدعاه في المسائل التاريخية أوالأدبية و غيرهما؟ طبعا، "لا". و هو بالفعل يخالف رأيه و عقيدته و هذا ليس أسلوبا علميا يليق الاعتماد عليه.
كذلك في مسألة الدين و انتحال الشعر؛ كلامه بشأن النبي إن لم يكن فيه طعن صريح ظاهر إلا أنه أورده بعبارة تهكمية تشف عن الحط من قدره و ينكر التوراة و الإنجيل مما قيل فيهما حول بعثة النبي. و يرى أن الانتحال كان لإثبات صحة النبوة و صدق النبي، لإقناع عامة الناس و اعتبر بعثة النبي و حياته أسطورة وضعها علماء اليهود و النصارى من الأحبار و الرهبان (طه حسين، في الشعر الجاهلي،ص 69). و يعتقد أن نوعا آخر من تأثير الدين في انتحال الشعر و إضافته إلى الجاهليين هو ما يتصل بتعظيم شأن النبي من ناحية أسرته و نسبه في قريش و ... (طه حسين، في الشعر الجاهلي،ص 72) و سؤال أن الموضوع الهامّ و الرئيسي للعرب مسألة الأنساب و يهتمون بها حراصا و كانوا مولعين بها، ألم يكن أبوبكر رضي الله عنه عالما بالأنساب واشتهر فيه و الآخرون؟ أليس في كتب الأدب مثلا "العقد الفريد" بحث تفصيلي حول النسب؟ و جاء في الحديث: تعلم من النسب ما تعرفون به أحسابكم و تصلون به أرحامكم. و هم معتقدون أن من لم يعرف النسب لم يعرف الناس، و من لم يعرف الناس لم يعد من الناس (ابن عبد ربه، العقد الفريد،دار الكتب العلمية،بيروت لبنان1987م، ص265 و ما بعده) كيف ينكر الدكتور طه هذا الموضوع بسهولة تامة، و على أي أساس علمي و منطقي يرفض علم النسب؟ شيء عجاب!!!
بعد أن رفض الشعر الجاهلي و جاء بأدلة أنه منحول و ليس جاهليا، بل صنعه الرواة في العصور المتأخرة الإسلامية ، يعتقد أن ما بقي من الشعر الجاهلي الصحيح قليل و لا يمكن الاعتماد عليه في استخراج الصورة الصحيحة للعصر الجاهلي بقوله هذا: أكاد لاأشك في أن ما بقي من الشعر الحاهلي الصحيح قليل جدا لا يمثل شيئا ولا يدل على شيء ولا ينبغي الاعتماد عليه في استخراج الصورة الأدبية الصحيحة لهذا العصرالجاهلي(طه حسين، في الشعر الجاهلي،ص 7).كان طه حسين يقصد نفي الأدب الجاهلي و إنكاره، و إلا بعدالنقد و البحث و بعد أن غربل الأدب الجاهلي حسب موازينه و معاييره و أهمل كثيرا من هذه الأشعار، إذا كان يقصد الأسلوب العلمي الصحيح في معرفة الشعر الجاهلي لماذا لايستفيد من الأشعار الباقية لصحة الشعر الجاهلي ؟ هذا المقدار القليل الذي هو نفسه لايشك فيه واختاره. إذا كان هذا الجزء القليل صحيحا فلماذا يهمله ولا يعتمد عليه؟ فإذا لم يكن كافيا لإعطاء صورة كاملة للعصر الجاهلي، فليس أقل من أن يعطينا صورة صحيحة جزئية تمثل الناحية ينص عليها!!
و إذا كانت المسألة الاعتماد على مجرد الاعتقادات والآراء، فهناك آراء كثيرة تنظر إلى هذا المقدار القليل الباقي من الشعر الجاهلي نظرة تقدير و احترام. و كثير من المستشرقين يستشهدون و يتمثلون به، على سبيل المثال :
يقول" نولدكه" : إن عادات الجاهلية و أحوالهم معلومة لنا بدقة نقلا عن أشعارهم. و يقول "ثوربيكه" : يمكن تعريف الشعر الجاهلي بأنه وصف مزين بالشواهد لحياة الجاهلية و أفكارها. فقد صور العرب أنفسهم في الشعر صورة منطبقة على الحقيقة بدون تزويق ولا تشويه.و يقول نيكلسون: إن مزايا العصر الجاهلي و خواصه مرسومة صورها بأمانة و وضوح في الأغاني و الأناشيد التي نظمها الشعراء الجاهليون. و يردف قائلا: إن الأدب الجاهلي المنظوم منه و المنثور يمكننا من تصوير أقرب ما يكون من الدقة في مظاهره الكبرى.
و نص على نفس هذه المسألة الرواة الأقدمون نصا صريحا واضحا. جاء في طبقات فحول الشعراء عن يونس بن حبيب عن أبي عمرو بن العلاء: ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقله و لو جاءكم وافرا لجاءكم علم و شعر كثير(ابن سلام، طبقات فحول الشعراء،ص 25) والسبب في ذلك قسم لم يحفظ و قسم آخر زال مع الرواة الكثيرين الذين ماتوا في الحرب.و وجود الشعر في القرآن و اعتماد الرسول على الشعر و الشعراء يدل على وجوده في الجاهلية أيضا .و كان الشعر في الجاهلية عند العرب ديوان علمهم و منتهى حكمهم به يأخذون و إليه يصيرون كما قال عمر بن الخطاب :كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه (ابن سلام ، طبقات فحول الشعراء،ص 24)
.فإذن يمكن الاعتماد على هذا المقدار القليل من الشعر الجاهلي ؛ لأنه مليء بالعلم و الاطلاع حول الحياة العرب الجاهلي. يمكن الوصول إلى حد ما عن هذا المقدار الموجود و غير منحول- كما يعتقد الأستاذ نفسه- إلى نتيجة أن البيئة الجاهلية كيف كانت؟ و كيف كان الأدب الجاهلي ؟ و من هم الذين شخصياته؟
هناك بحث حول اللهجات و انتحال الشعر و يقول فيه: نحن بين اثنين إما أن نؤمن بأنه لم يكن هناك اختلاف بين القبائل العربية من عدنان و قحطان في اللغة ولا في اللهجة ولا في المذهب الكلامي؛ و إما أن نعترف بأن هذا الشعر لم يصدر عن هذه القبائل و إنما حمل عليها حملا بعد الإسلام.و نحن إلى الثانية أميل منا إلى الأولى (طه حسين، في الشعر الجاهلي،ص 33).لماذا لا يضع الأستاذ حدا وسطا لهذين الموضوعين؟ و لا يفكر و لايتأمل ولا يبحث أكثر من هذا-كما هو نفسه يعتقد-أريد أن أبحث و أحلل و أفكر...؟ (طه حسين، في الشعر الجاهلي،ص6).يريدأن يبحث و يحلل عن أي شيء؟
أولا: يقبل نفسه و يعترف أن الإسلام فرض لغة أدبية واحدة على العرب كلهم(طه حسين، في الشعر الجاهلي،ص 35).إذا كان الأمر هكذا لماذا استطاع الإسلام فرضها؟ ما هو الدليل؟ إذا كان عنده دلائل، السؤال هو: أ لم تكن هذه الدلائل موجودة قبل الإسلام ؟ طبعا كانت.التجارة ، السياسة، الكعبة، الأسواق و غيرها عهدت العرب بها قبل الإسلام. و هذه هي العوامل التي سادت لغة أدبية واحدة على أدب العرب الجاهلي و شعرهم . و الشعر الجاهلي الذي بأيدينا يدل على اتحاد القبائل و البلاد العربية و لغة قريش هي المسيطرة و فاقت علي اللهجات و اللغات كلها.واللغة مرآة عقول أصحابها و مستودع آدابهم . فالمتكلمون باللغة الفصحى كما جاءتنا في القرآن والشعر الجاهلي و الأمثال لا يمكن أن يكون أصحابها دخلوا المدنية أو العلم من قرن أو قرنين فقط بل يحتاج إلى توالي الأدهار فكيف باللغة العربية الفصحى أو اللهجة القرشية؟
ثانيا: الاختلاف الموجود بين قبائل عدنان و قحطان اختلاف اللهجات وهذاهوالذي أشار إليه أبو عمرو بن العلاء . و ورد في كتاب المزهر للسيوطي اختلافات كثيره في اللهجات مثل الكسكسة و الكشكشة و الفحفحة و غير ذلك.هذا من جهة و من جهة أخرى إذا كان الاختلاف بين اللغتين كثيرا – ولا بد أن تكون الاختلافات في القواعد و اللغة و الأصول و غيرها –هذا طبيعي.ولا يدل على أنهم لم يتمتعوا بلغة أدبية واحدة . و اتحاد القبائل من أجل السياسة و التجارة و الأسواق و المحافل الأدبية و مناسك الحج و التنقل و هذا واضح ولا يتأتى له للإنكار.
ثالثا: إذا كان هناك اختلافات في القرآن من حيث القراءة و الإعراب-كما استدل-و يعتقد أنه يجب أن يكون اختلاف اللغات بين الشعراء من قبائل مختلفة من العدنانيين و القحطانيين، نقول: إن اختلاف اللهجات لم يكن أصولية بل إمالة وهي لا تؤثر في الشعر و يأتي بها صاحب الشعر و لم يكن الاختلاف جوهريا بل كان ظاهريا و شكل الكلمة يبقى و لا يتغير . و هذا الاختلاف لا يدل على اختلاف اللهجات و اللغات؛ لأن الأعاجم دخلت العربية بعد الإسلام . والخطأ نتيجة توسع الدور الإسلامي و اولئك الذين دخلوا الإسلام يخطئون في الحركة من الايرانيين و غيرهم ولا يخطأ العربي و الخطأ في القراءة ظهر زمن عثمان.
و هذا الدليل أيضا ليس علميا و لامنطقيا بما أن هناك اختلافا في اللهجات واللغات، إذن لابد أن يكون الخلاف في لغة الشعر الجاهلي.
يعتقد أن القرآن ظهر في أمة راقية و متقدمة و كانت هذه الأمة في الصلة القريبة مع سياسة الدول الكبرى مثل إيران و الروم (طه حسين، في الشعر الجاهلي، ص22). و أن هؤلاء لم يكونوا أغبياء و أصحاب الحياة الخشنة الجافة، بل على العكس كانوا علماء أذكياء و أصحاب سعة العيش و الرخاء (طه حسين، في الشعر الجاهلي، ص 20). و طبعا لم يتقدموا في الإسلام أو قبيل الإسلام و كانوا في علاقة مع إيران و الروم ردحا من الزمن و إذا كان الأمرهكذا؛ لماذا يقارنهم ببداوة اليونان و الرومان في أسباب انتحال الشعر. و يعتقد أن انتحال الشعر ليس مقصورا على العرب فقط. و أن الذين كتبوا في تاريخ العرب و آدابهم لم يوفقوا إلى الحق فيه، لأنهم لم يلموا إلماما كافيا بتاريخ هذه الأمم القديمة، أو لم يخطر لهم أن يقارنوا بين الأمة العربية و الأمم التي خلت من قبلها (طه حسين، في الشعر الجاهلي، ص 42).
إذا كان قصده من الأمم التي خلت من قبلها، الأقوام البائدة؛ كما هو يذكر لا نعرف شيئا منها و ليست المقارنة منطقية. أما إذا كان يقصد الأمم القديمة غير الأمة العربية فما الفائدة من المقارنة؟ و كيف يمكن أن تكون المؤثرات فيما بينهما مشابهة؟ و أن الأمة اليونانية و الرومانية كلتاهما تحضرت بعد بداوة و انتهت إلى نوع من التكوين السياسي دفعها إلى أن تتجاوز موطنها الخاص و تغيرعلى البلاد المجاورة (طه حسين، في الشعر الجاهلي، ص 43). و أنّى هذا كله للأمة العربية التي كانت تعيش وسط الصحراء و ما أغارت على البلاد المجاورة! القصص اليوناني كله شعر و يلقيه صاحبه على أنغام الأدوات الموسيقية و وجد من عنايه اليونانيين و هم يقدسون الإلياذة والأودسا و يعنون بجمعهما و ترتيبهما و روايتهما و إذاعتهما بينما القصص الإسلامي لم يكن شعرا و إنما كان نثرا يزينه الشعر من حين إلى حين و لا يعتمد القاصّ على الأدات الموسيقية و لم يجد من عناية المسلمين مثلما وجد القصص اليوناني. إذن ما هو السرّ الموجود في هذه المقارنة؟
و إذا كان هناك أحد يدعي في الأدب اليونان أو الرومان أن أشعارا منحولة حول الإلياذة و الأودسا و غيرها، و لكن لم يوجد أحد حتى يدعي أن هذا الأدب و التاريخ و الأشعار و تاريخ الأدب كله منتحل و كيف هو ادعى حول الأدب العربي الجاهلي؟ و إذا كان النقاد من أصحاب التاريخ و الأدب و اللغة و الفلسفة قد استطاعوا أن يردوا الأشياء إلى أصولها في العصر الحديث بالنسبة إلى أدب اليونان و الرومان فماذا رددت أيها الدكتور فيما يتعلق بالأدب الجاهلي إلى أصله؟! أيمكن هذا الاسترداد بالإنكار؟!! و إنكار أشياء بصورة كاملة هل يستردها إلى أصلها؟!
نفي الشعر الجاهلي و إنكاره بعيد كل البعد من العقل السليم و ليس أسلوبا علميا و ليس له أصول وأسس علمية؛ لأنه يعتقد في شأن الرواة أن ابا عمرو الشيباني كان يأخذ من القبائل نقودا و يجمع شعرهم و جمع أشعار سبعين قبيلة (طه حسين، في الشعر الجاهلي،ص 122). و يأتي بأشياء حول الأصمعي و الخلف و الحماد و المفضل الضبي و الرواة الآخرين أنهم يجمعون شعر القبائل و إن يعتقد بأنهم ينتحلون أشعارهم و هذا الموضوع نفسه يدل على وجود الشعر. و كذلك اعتمد على ابن سلام في مواضع كثيرة و نذكر رواية منه أن عمر بن الخطاب قال: كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصحّ منه (ابن سلام، طبقات فحول الشعراء، ص 24). و أن الشعر كان منتهى حكمهم و ديوان علمهم. و إن للشعر صناعة و ثقافة يعرفها أهل العلم (نفس المرجع، ص 5). و هذه الروايات تدل كلها على وجود الشعر في العصر الجاهلي وأهميته عند الجاهليين. و كذلك في القران آيات حول الشعر و الشعراء و أنه ينفى نسبة الشعر إلى الرسول، و أن الدكتور استند كثيرا بالآيات القرآنية و يعتقد أن نص القرآن ثابت لا سبيل إلى الشك فيه. و أن سيرة النبي تحدثنا أنه يعتمد علي الشعر و الشعراء و كان له شاعر خاص و هو حسان و أحيانا يمنع عليّا أن ينشد شعرا يردّ به على شعراء قريش (طه حسين، في الشعر الجاهلي،ص97).
و هذا كله يدل على وجود الشعر إذن كيف يستدل على إنكار الشعر الجاهلي بدون أي سند علمي أو تاريخي صحيح، هذا شيء عجيب من غرائب الأمور.
هذا بعض نماذج من آراء الأستاذ طه حسين عميد الأدب العربي و التناقضات الموجودة بينها في الأسلوب العلمي الذي ادعاه و سلك فيه منهج الديكارت الفلسفي و هو التشكيك وأن هذا الموضوع نفسه أيضا منحول؛ لأن طريق الشك بهذا الشكل الذي هو يدعيه ليس حديث العهد بل كان عند القدامى من العرب في العصور الإسلامية مثل ابن سلام و أبي عمروبن علاء و أبي عمرو الشيباني و الجاحظ الذي يقول: أناأعرف مواطن الشك لأعرف مواطن اليقين. و هم هكذا يشكون في قيمة الشعر و انتسابه و يصلون من الشك إلى اليقين. و مع الأسف بالنسبة إلى الدكتور طه شتان الفرق بين قوله و فعله.
و طبعا أسلوبه هذا جميل و جيد إذا كان على أسلوب علمي صحيح و أن يكون الشك منطقيا و الغرض منه الوصول إلى الحقيقة و أن يكون الباحث خالي الذهن و يترك كل شيء كما هو يعتقد حين يستقبل الباحث البحث العلمي عن الأدب ينسى قوميته و كل مشخصاتها و ينسى دينه و كل ما يتصل به و أن ينسى ما يضاد هذه القومية و ما يضاد هذا الدين و يجب ألا يتقيد بشيء و لا يذعن لشيء إلا مناهج البحث العلمي الصحيح (طه حسين، في الشعر الجاهلي،ص 12). و في النهاية يصل إلى اليقين
وعلى كل حال، إنه سلك طريقا مظلما بعيدا عن أسلوبه العلمي و أفرط في شكه وعممه، طبعا و قد شك في الروايات التي لا تعجبه و لا تؤدي إلى ما يريد تقريره منذ البداية و كان شكه قريبا من مرغليوث أكثر من الشك الدكارتي. فكان يجب عليه أن يسير بطيئاعلى مهل و أن يكون محتاطا في سيره لئلا يضل و ينحرف عن سبيل العلمي الصحيح و لكنه أقدم دون احتياط فأصبحت النتيجة غير محمودة و غير مرضية. و قد سفسط في آرائه حتى يصل إلى النتائج التي أمليت عليه من قبل و لم يكن بحثه علميا؛ كأنه كان من واجبه أن يأتي بأدلة لإثبات ما ادعاه و هو إنكار الشعر الجاهلي ليخدم سادته الأوروبيين و أساتذته المستشرقين.و هل وفق في الوصول إليه؟!!
==================

معركة كتاب الشعر الجاهلي
محمد عمارة
# الأربعاء، 02 أبريل 2014 04:08 م
1
معركة كتاب الشعر الجاهلي
في عام 1926م أصدر الدكتور طه حسين (1306 – 1393 هـ ، 1889  1973 م) - وكان في قمة انبهاره بالغرب وتمرده على الأزهر والتوجه الإسلامي - أصدر كتابه "في الشعر الجاهلي" - الذي أثار ضجة كبرى - ، وصدرت ضده العديد من الكتب والدراسات.. 

بل ونوقش أمره في مجلس النواب، وحققت النيابة العامة في الشكاوى التي تقدم بها ضده شيخ الأزهر والعديد من علمائه.
وكانت التهم الأبرز لصحاب كتاب "في الشعر الجاهلي" هي:

1- تكذيب القرآن صراحة فيما جاء به عن أبي الأنبياء إبراهيم وولده إسماعيل والرحلة الحجازية، وإقامة قواعد البيت الحرام.
2- وكذلك الطعن على النبي – صلى الله عليه وسلم – طعنا فاحشا في نسبه الشريف.

وفيما يتعلق بالتهمة الأولى - وهي الأخطر - فلقد جاء بها صفحة 26 من الكتاب قول الدكتور طه "للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضا، ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة القرآن لا يكفي لإثبات أن وجودهما التاريخي فضلا عن إثبات هذه القصة التي تحدثنا بهجرة إسماعيل بن إبراهيم إلى مكة، ونشأة العرب المستعربة فيها، ونحن مضطرون إلى أن نرى في هذه القصة نوعا من الحيلة في إثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة وبين الإسلام واليهودية والقرآن والتوارة من جهة أخرى".
وفيما يتعلق بطعن الكتاب على نسب الرسول  صلى الله عليه وسلم - فلقد جاء في ص 72 - : "ونوع آخر من من تأثير الدين في انتحال الشعر وإضافته إلى الجاهليين وهو ما يتصل بتعظيم شأن النبي من ناحية أسرته ونسبه في قريش، فلأمر ما اقتنع الناس بأن النبي يجب أن يكون صفوة بني هاشم، وأن يكون بنو هاشم صفوة عبد مناف، وأن يكون بنو عبد مناف صفوة بني قصي، وأن تكون قصي صفوة قريش، وقريش صفوة مضر، ومضر صفوة عدنان، وعدناة صفوة العرب، والعرب صفوة الإنسانية كلها".
وفيما يتعلق بالمعركة الفكرية التي أثارها هذا الكتاب، يكفي أن نشير إلى أنه قد شارك فيها كوكبة من أعلام الأمة الذين أصدروا الكتاب وسطروا الدراسات والمقالات في تفنيد ما جاء به هذا الكتاب. 
وكان في مقدمة هؤلاء العلماء: العلامة محمد فريد وجدي (1295 – 1373هـ، 1878 – 1954م) الذي نشر كتابه "نقد كتاب الشعر الجاهلي لطه حسين" وهو الكتاب الذي قرأه زعيم الأمة سعد زغلول باشا (1273 – 1346هـ، 1857 – 1927م) وكتب إلى فريد وجدي رسالة جاء فيها" "وصلني كتابك الذي وضعته في نقد كتاب "في الشعر الجاهلي" وتفضلت بإرساله إلى، وقرأته في عزلة تجمع الفكر، وسكون يحرك الذكر، فراقني منه قول شارح للحق ومنطق يقارع بالحجة، في أدب رائع، وتحقيق دقيق، في أسلوب شائق، وإخلاص كامل للدين، في علم واسع، وانتصاف للحقيقة، في احترام فائق، ومجموع من هذه الخصال استميلت منه قلبا فياضا بالإيمان، وعقلا مثقفا بالعرفان، ونفسا محلاة بالأدب، فقررت عينا بوجود مثلك بيننا، ورجوت الله أن يكثر من أمثالك فينا، وأن يجازيكم على ما تصنعون بتوفيق الباحثين والمتناظرين لإحتذاء مثالكم في دقة البحث وأدب المناظرة وإنكار الذات والإنتصار للحق، وبتوفيق الناس لاستماع أقوالكم واتباع أحسنها، والسلام على المهتدين".
وكان سعد زغلول قد خطب في مظاهرة لطلاب الأزهر، ذهبت إلى "بيت الأمة" محتجة على كتاب طه حسين، فقال -ضمن ما قال -: "وماذا علينا إذا لم يفهم البقر؟"!!.
ومن العلماء الذين ردوا على كتاب طه حسين الشيخ محمد الخضر حسين (1293 – 1377 ه ، 1876 – 1958م) – العالم المجاهد – الذي تولى مشيخة الأزهر بعد ثورة يوليو عام 1952م، فنشر كتابه "نقض كتاب في الشعر الجاهلي".
ولقد دفعت هذه المعركة طه حسين إلى حذف صفحات من كتابه، وإلى تغيير عنوانه إلى "في الأدب الجاهلي" مع بعض الإضافات، ولقد اعترف طه حسين باقترافه هذا الذي أخذ عليه، فقال - في مرحلة لاحقة -: "لقد انتهيت إلى رفض قدر كبير من هذا الشعر الجاهلي، وفي إطار ذلك المسعى شككا في بعض المعتقدات التي ذكرت في القرآن أو الأحاديث النبوية، وكانت الصدمة قاسية، والاستنكار واسع النطاق".

حدث هذا في مرحلة الإنبهار بالغرب، وقبل أن ينضج الرجل، فيغير الصدمات القاسية التي أثارت الاستنكار الواسع النطاق!.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق