سذاجة وترهات المبطلين في ميزان حضارة البخاري ومسلم!
ذ. عبد الرحمان سعيدي
هوية بريس - الإثنين 09 يونيو 2014
في هذه الأيام كثر التأذي بذباب الأحداث، حيث تفاقم ما تنقله من القاذورات والأمراض حتى بلغ أذاها حدا تتعذر السلامة منه، فقد وصل إلى درجة الوباء الذي يستوجب أن تتظافر جهود المسؤولين كل حسب مسؤوليته للقيام بحملة وقائية لدرء هذا الخطر الذي يهدد كيان الأمة ويضر بسلامة جسدها، نتيجة انتشار هذا الداء الخطير، الذي سببه أذى الأحداث.
وإن أول من يجب أن يتصدر هذه الحملة الوقائية هم الفقهاء الذين عليهم أن يذكروا الناس بما يجب عليهم أن يعلموه من العلم الشرعي الضروري، والذي من أهمه أحكام الطهارة من الأحداث، فمن واجب العلماء في هذه الفترة العصيبة أن يقوموا بالواجب لتوعية الناس بهذا الخطر قصد التطهر من أذى الأحداث المنتن الذي ينتج عنه أذى أشد يؤذي الأمة قاطبة.
إن أذى الأحداث، بهذا التعبير المجازي، هو أذى حقيقي قد لحق الأمة الإسلامية جمعاء، والمغاربة خصوصا لكون هذا الأذى صادر من بين أظهرهم، وذلك أن ما تقوم به الأحداث ضرب في صميم العقيدة الإسلامية واستهزاء بثوابتها ومقدساتها ورموزها، تلك العقيدة التي يعتنقها المغاربة طواعية منذ ما ينيف عن أربعة عشر قرنا والتي عليها أسسوا حضارة فريدة صمدت طيلة القرون السالفة بل قد شع نورها في العالم وأفادت الإنسانية جمعاء بما أحدثته من ثورة علمية وفكرية وثقافية في جميع المجالات ساهمت كلها في بناء حضارة إنسانية عظيمة لم يعرف لها مثيل من قبل والتي لولاها لما قامت النهضة في أوروبا بل ولأخذ العالم مسارا آخر غير مسار العلم والتطور، بشهادة المنصفين من الغربيين أنفسهم، كما أن المغاربة قد نصوا في دستورهم الجديد على أن هذه العقيدة تعتبر من الثوابت الجامعة للأمة، والتي لا يجب المساس بها أو الطعن فيها بأي حال من الأحوال.
إن عمل الأحداث في محاولتها النيل من هذه العقيدة بهذه الأساليب القذرة إنما ينم عن جهلها بحقيقة هذه العقيدة وبحقيقة الحضارة التي أفرزتها وبحقيقة الدور الحضاري الإنساني الذي لعبه المسلمون وعلى رأسهم المغاربة، في وضع أسس الحضارة الإنسانية.
فمن أتم الغباوة والجهل أن يطعن شخص في العقيدة الإسلامية في بلاد المسلمين، وهو ينسب إليهم، بمثل هذه الطعون الواهية التي تصور العقيدة الإسلامية بأنها جمدت عقول المسلمين وبأن ذلك هو السبب الذي أدى إلى تخلفهم وانحطاطهم، وذلك منذ ظهور الإسلام، في الوقت الذي تقدم فيه غيرهم.
وإن من الإنتحالات الباطلة لهؤلاء المبطلين ما وصفوا به إمامي أهل السنة والجماعة وهما البخاري والإمام مسلم رحمهما الله من أن إتباع المسلمين لكتابيهما كان السبب في هذا التخلف الذي لحقهم، نتيجة تجميد فكرهم وعدم تحريره من قيود الكتابين الجامدة، على حد زعمهم.
وفي ردنا على هذا الزعم الباطل، سوف لن نكلف أنفسنا عناء كثيرا في الاستدلال بالنصوص الشرعية وأحكامها ومقاصدها، بل حتى بتاريخ الإسلام وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم وفتوحات المسلمين وما نتج عن كل ذلك، ولا عن دور الصحيحين ومكانتهما في الإسلام ولا عن طبيعتهما وفضلهما، لأن هؤلاء المبطلين صم بكم عمي عن كل تلك الحقائق، فهم لا يؤمنون بها مهما سردنا لهم منها.
وإنما السبيل الأنجع في ردنا قبل كل ذلك أن نشد الرحال إلى بلاد الاستشراق وبالذات إلى بلاد الجرمان لنسمعهم شهادة من بعض المنصفين من المستشرقين الذين اعترفوا بفضل الإسلام وعقيدته على العالمين، فإن ذلك أفحم للخصم وأبلغ في الرد، فإن تمادى هذا الخصم بعد ذلك في الجدال فهو معاند مخبول وجحود عنود لئيم.
وإن من أنصف المستشرقين الذين بينوا حقيقة الإسلام والدور الفكري والعلمي والحضاري الذي قام به المسلمون هي المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه (Sigrid Hunke)، في كتابها شمس العرب تسطع على الغرب الذي يبين أثر الحضارة العربية في أوروبة ("Allahs Sonne über dem Abendland" or "Allah's sun over the Occident") .
فهي عكس ما يدعيه هؤلاء الجهال من المبطلين تصف الإسلام وما جاء به بأنه هو الذي أنتج الحضارة الإنسانية التي تنعم البشرية بثمارها العلمية والفكرية في مختلف المجالات، والذي لولاه لتأخرت أوروبا والعالم قرونا عديدة.
فلنجلس في حلقة من حلقات دروسها التي ألقتها وهي تقصد إفادة مثل هؤلاء الجهال وتوضح لهم الصورة الحقيقية للإسلام وتجلي لهم كذلك أثر حضارته الزاهية، لعلهم يرجعون عن غيهم ويستحيوا مما يرمون به الإسلام والمسلمين من الادعاءات الباطلة والأقوال الخرقاء.
فلنستمع لها في الفصل الرابع من كتابها المذكور تحت عنوان طلب العلم عبادة، قالت زيغريد هونكه:
{لقد أوصى محمد (صلى الله عليه وسلم) كل مؤمن رجلا أو امرأة بطلب العلم، وجعل من ذلك واجبا دينيا، فهو الذي يقول: «اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد»، ويرشد أتباعه دائما إلى هذا فيخبرهم بأن ثواب التعلم كثواب الصيام وان ثواب تعليمه كثواب الصلاة.
وكان محمد (صلى الله عليه وسلم) يرى في تعمق أتباعه في دراسة المخلوقات وعجائبها وسيلة التعرف على قدرة الخالق، وكان يرى أن المعرفة تنير طريق الإنسان مرددا عليهم: «أطلبوا العلم ولو في الصين».
والرسول (صلى الله عليه وسلم) يلفت أنظارهم إلى علوم كل الشعوب، فالعلم يخدم الدين، والمعرفة من الله وترجع إليه، لذلك فمن واجبهم أن يصلوا إليها وينالوها أيا كان مصدرها ولو نطق بالعلم كافر.
وعلى النقيض تماما يتساءل بولس الرسول (Paulus) وقرأ: «ألم يصف الربّ المعرفة الدنيوية بالغباوة؟».
مفهومان مختلفان بل عالمان منفصلان تماما، حددا بهذا طريقين متناقضين للعلم والفكر في الشرق والعرب. وبهذا اتسعت الهوة بين الحضارة العربية الشامخة والمعرفة السطحية المعاصرة في أوروبا حيث لا قيمة لمعرفة الدنيا كلها.
ويعرف القديس أغسطينوس محور المعرفة قائلا: «أما الرب والروح فإني أبغي معرفتهما، فالبحث عن عن الحقيقة هو البحث عن الله وهذا لا يستدعي معونة من الخارج»، والمصدر الوحيد لتلك المعرفة هو الكتاب المقدس، وقصة الخليقة تعطي كل ما يحتاجه المرء من معلمات عن السماء والأرض والجنس البشري،...
ملعون من يقتنع أو يقبل الآن تفسيرا لحوادث الطبيعة، خارج عن طاعة الرب من يشرح أسبابا طبيعية لبزوغ كوكب أو فيضان نهر، بل لمن يعلل علميا شفاء قدم مكسورة أو اجهاض امرأة، فتلك كلها عقوبات من الله أو من الشيطان أو هي معجزات أكبر من ان ندرك كنهها!!
وإذا كانت القوى الدينية قد كرست جهدها للهدف الديني وأنشأت مدارس ضخمة للفلسفة التي تخدم مبادئ الدين، مدارس تضارع في ضخامتها قباب تلك الكنائس، إلا أنها قد هبطت بالمعرفة الدنيوية، فابتعدت تماما عن الثقافة والفكر الإغريقي وانغمست في الخرافات والترهات التي لن نستطيع اليوم أن نتصور مدى انتشارها وسيطرتها على العقول الساذجة. ولم تشمل هذه الحركة الرجعية العامة الناس فحسب، بل ان المتعلمين ايضا لم يكن لهم من زاد عقلي سوى بعض الأساطير المليئة بالخرافات والمقتبسة اسوأ اقتباس عن اللاتينية البربرية أو عن قصص الإغريق وأساطير الشرق القديمة.
وما وصلت إليه الكنيسة وكهنتها في المجال الديني لم يكن عامل إنقاذ للحضارة بل كان عائقا لها. لقد كانت أمامهم الفرصة، تماما كالعرب، بل إن فرصتهم كانت أكبر في أن يأخذوا التراث العظيم ويتطوروا به درجات في سلم الرقي. فقد كان في متناولهم عدد ضخم من نصوص القدماء، أكبر من أن يقارن بما استطاع العرب أن يتوصلوا إليه. وحتى القرن السادس الميلادي وجد في الغرب كثيرون ممن يجيدون اليونانية. ولم يكن المتعلمون في القرون الأولى بأقل قدرة على ترجمة تراث القدماء وإعادة العمل فيه من مترجمي العرب في بغداد.
ولكن الفكر الإغريقي ظل بالنسبة إليهم غريبا على الدوام. فحوالي عام 300 ميلادية علل أسقف قيصرية، اوزيبوس Eusebius، ذلك المسلك لعلماء الطبيعة من الإسكندرية وبرجامون قائلا: «إن موقفنا هذا ليس جهلا بالأشياء التي تعطونها أنتم كل هذه القيمة، وإنما لاحتقارنا لهذه الأعمال التي لا فائدة منها. لهذا فإننا نشغل أنفسنا بالتفكير فيما هو أجدى وأنفع».
ويظل هذا التفكير العقيم سائدا لا يتغير فيتحدث بمثل هذا في القرن الثالث عشر، القديس توما الأكويني Thomas Von Aquin فيقول: «إن المعرفة القليلة لأمور سامية أجل قدرا من معرفة كبيرة موضوعها أمور حقيرة.».
ولقد كان الفكر الإغريقي، يمثل للمسيحيين شبحا ملعونا فلم يقتربوا منه بل حطموا جزءا كبيرا من تراثه وحرموا منه البشرية. حتى أن الغرب اضطر بعد صحوته أن يبدأ من جديد برغم أن الحضارات القديمة الهلينية على الخصوص كانت قد وصلت في سالف أيامها إلى درجة كبيرة من الرقي.
وأما ما تبقى في الأديرة من أعمال أدبية فقد كان أدبا تافها منقولا بلا فن ولا قدرة يهدف إلى تحقيق آمال متواضعة ولا أثر فيه للفكر الناضج الذي ذهب ضحية لنيران المتعصبين. وعلى الرغم من هذا فقد بدت للسادة المهيمنين على الأمور ضرورة تحريم الكتب التي تهتم «بالأمور الحقيرة» الدنيوية على المتعلمين ورجال الدين. ففي عام 1206م نبه مجمع رؤساء الكنائس المنعقد في باريس رجال الدين بشدة إلى عدم قراءة كتب الطبيعة واعتبر ذلك خطيئة لا تغتفر.
وقضى هذا التفكير الضيق على كل موهبة وعاق كل بحث علمي وأجبر كل المفكرين الذين لا تتفق أعمالهم ومعتقدات الكنيسة هذه على إنكار ما قالوه من النظريات العلمية وإلا كان مصيرهم الحرق العلني بالنار لكفرهم وخروجهم على المعتقدات الإلهية.
ومن هنا يتضح لنا تماما لماذا احتاجت الحضارة في الغرب ألفا من السنين قبل أن تبدأ بالازدهار تدريجيا، مع أنها كانت لديها فرصة مناسبة لتبدأ قبل الحضارة العربية بقرنين أو ثلاثة. وما قاله هيجل Hegel عن بوم منيرفا، الذي لا يبدأ طيرانه إلا عند الغسق، ينطبق على التراث اليوناني السائر إلى الوراء حينذاك، بل ينطبق أكثر على العلوم في الغرب التي ظلت في دور الحضانة ألفا من السنين، وهو لا ينطبق على التطور العربي، ذلك أن العلوم عندهم «لم تكن قط ثمرة متأخرة لشجرة الحضارة».
وما إن انقضى قرن واحد من الزمان على الفتوحات الإسلامية حتى ازدهرت حضارة العرب وآتت أكلها مكتملة ناضجة.
ولم تلبت الديانة الفتية السائرة في طريقها بعزم وثبات أن اصطدمت بالديانات الأخرى في كل مكان. فهنا يقف رجال المذاهب المسيحية وجها لوجه أمام رجال المذاهب الإسلامية على أتم استعداد للمجادلة. وهناك، تقسم هذه المجادلات واختلاف وجهات النظر، المسلمين أنفسهم إلى مدارس ومذاهب. وكان من الممكن أن يؤدي هذا إلى نهاية النهضة العربية الإسلامية وهي في مهدها، ولكن ما حدث على خلاف ذلك تماما، فإن إكراه الإسلام للفتى على أن يجرب قواه الفكرية مع ديانات وفلسفات أخرى في محاجات فكرية فلسفية قد أفاده أكبر إفادة وأكسبه خبرة ومرانا. وكان لحسن حظه أو لسوء حظه أحيانا أنه وجد في ظروف تختلف تماما عما كانت فيه المسيحية المعاصرة له.
فالإسلام لا يعرف وسيطا بين العبد وربه، لم يكن لديه على الأقل في تلك الظروف الحاسمة طبقة من الكهنة ولا تنظيمات وسلطات عليا مشرفة. وعلى العموم فإن مجال حرية الرأي كان أوسع.
وحيثما كانت المسيحية تطغى نتيجة تسامح المسلمين كان ذلك دائما يؤدي إلى كساد العلوم وإهمالها، ولعل إفناء الطبقة العلمية على يد الإسبان والمغول هو خير دليل على ما نقول.
كانت الاحتكاكات بين الآراء المختلفة قد منحت الحركة الفكرية حيوية دائمة وحمت الإسلام من الجمود وأجبرته على أن يسلح نفسه علميا وان يتطور بالقوى العقلية وينهض بها من سباتها. وساعده على ذلك المطالب العديدة المنبثقة من شعائر الدين أو من الحياة اليومية للشعوب. واجبات عديدة ومسؤوليات جسيمة:
فمعالجة المرض ضرورية، وحماية الملايين من سكان المدن الكبيرة من الأوبئة وإمدادهم بالدواء الناجع يتطلب أبحاثا علمية دقيقة. وأدخلتهم حاجات تلك الملايين في عالم الحيوان والنبات ليدرسوه وينهضوا به، فنظم ري الأرض ومسحها، ورصدت الكواكب وحركاتها، ونظمت الرحلات، وأخذ كل شيء مكانه وزمنه اللازم له . . .
ففي كل حقل من حقول الحياة صار الشعار للجميع: «تعلم وزد معارفك قدر إمكانك وأينما استطعت». وبأقدام ثابتة ونفوس هادئة مطمئنة، تعرف حقها وتؤدي واجبها، أقبل العرب على ما وجدوه من معارف فاغترفوا منها قدر جهدهم، وما رأوا فيه نفعا لهم.
وهم في احتكاكهم بحضارات الهند وفارس والصين يصادفون بين الحين والآخر قطعا متناثرة من حضارات الإغريق أو الإسكندرية. ولكن كل ما كانوا يجدونه من آثار تلك الحضارات العظيمة كان لا يشفي غليلهم. لقد ذاقوا حلاوة العلم فازداد شوقهم إلى البحث عنه، ولم يعودوا يرضون بغير العلم والبحث بديلا.
وبدأ فريد في التاريخ من طرق الكشف عن كنوز المعرفة خصصت له البعثات الضخمة والأموال الطالة بل واستخدمت لأجله الوسائل الدبلوماسية، وخدمته سياسة الدولة الخارجية} انتهى كلامها.
ومن أهم ما يستفاد من هذه الشهادة المنصفة أن المسلمين كشفوا كنوز المعرفة الإنسانية في جميع فروعها وفنونها وزادوا عليها بإبداعهم وفهمهم، في الوقت الذي حاربت فيه الكنيسة المعرفة الإنسانية وحطمت مصادرها ومنعت تعلمها، ونبهت هذه الباحثة إلى أن النهضة الفكرية عند المسلمين أفرزت حركة فكرية تميزت بحيوية دائمة حمت الإسلام من الجمود وأجبرته على أن يسلح نفسه بالعلم، مما أدى إلى تطور القوى العقلية ونهوضها من سباتها.
وبعد هذا الدرس البليغ الذي لا يحتاج إلى مزيد من التعقيب ولا إلى مزيد من الإيضاح والبيان فلنرجع إلى ديار الإسلام وقد اكتسبنا علما من خلال ما في بطون كتب المنصفين من غير المسلمين حول حقيقة حضارة الإسلام، وازددنا يقينا بأن هذه الحضارة هي التي حررت فكر الإنسان من قيود الخرافة والتقليد وأرشدته إلى التدبر والاستكشاف والاستنباط ، خلافا لترهات المبطلين.
وفي طريق عودتنا نعرج على بلاد الأندلس فتتراءى لنا طليطلة وليشبونة وإشبيلية وقرطبة وغرناطة وعشرات من المدن الأخرى وكأنها لآلئ منثورة تشهد على هذه الحضارة العظيمة والتي خلدتها كذلك آثار لا تزال تنطق كلها بأن لا غالب إلا الله.
وما أن نقترب من تخوم المغرب الأقصى حتى تتناهى إلى أسماعنا أصداء التكبير والتهليل التي تملأ الأرجاء من وقت إلى آخر، منبعثة من الصوامع الألفية المتناثرة طولا وعرضا، شاهدة على رسوخ التوحيد في قلوب الأهالي منذ زمن بعيد والذي كان الحافز على بناء هذه الحضارة والحامي لها عبر الزمن، فهذه حسان والكتبية وتلك الخيرالدا في إشبيلية شواهد على الصلة الحضارية بين المغرب والأندلس، وهذه جامعة القرويين الضاربة في القدم تشهد على صلة الغرب بالشرق منذ القرن الأول لظهور الإسلام، وتلك كلها دلائل على تفاعل الشرق والغرب الذي أفرز ثورة فكرية وحضارية تبلورت في شتى أنواع المعارف والعلوم.
ولا شك أن مصدر هذه الثورة الفكرية والحضارية هما القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة.
فأما القرآن الكريم فإنه كتاب هداية وإرشاد مليء بالآيات التي تحث على التفكير في الأنفس والنظر في ملكوت السماوات والأرض قصد حمل الناس على الاهتداء إلى معرفة الخالق والوقوف على حكمته وحسن تدبيره والإيمان بالبعث والنشور.
قال الله تعالى: «قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ» (يونس:110).
وقال عز وجل: «قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ۚ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (العنكبوت:20).
وقال عز شأنه: «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ» (آل عمران:120).
ورفع من شأن العلماء الذين يتفكرون في المخلوقات المتنوعة الأشكال والأنواع:
قال تعالى: «وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَٰلِكَ ۗ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ» (فاطر:27).
وقال أيضا: «يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» (المجادلة:11).
ونفى الحق سبحانه المماثلة بين العلماء وبين غيرهم من الجهال:
«قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ» (الزمر الآية:9).
وذم الله تعالى الذين يعطلون حواسهم ولا يستخدمونها في التفكر والتدبر:
قال تعالى: «وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ» (الأعراف:179).
وأما السنة فهي المصدر الثاني للتشريع في الإسلام بعد القرآن الكريم، ودورها لا يقل أهمية عن دور القرآن الكريم لأنها مبينة له تفصل مجمله وتخصص عامه وتقيد مطلقه، وهي مع ذلك مترجمة لمعانيه ومجسدة لها في الواقع العملي، وقد أمر المسلمون بالأخذ والعمل بها بنص القرآن الكريم ، قال تعالى: «وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» (الحشر:7)، وغيرها من الآيات الكثيرة.
كما نص الرسول صلى الله على أن اتباع السنة هو اتباع للقرآن، قال عليه السلام: «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه» (سنن أبي داود).
فهو عليه السلام القدوة في التعلم والتعليم وقد أمر بالقراءة والتعلم في أول آية أنزلت عليه، وصحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه حث على طلب العلم فقال: «من سلك طريقاً يطلب فيه علماً، سلك الله له به طريقاً إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضاء لطالب العلم، وإن العالم يستغفر له من في السماوات ومن في الأرض، حتى الحيتان في البحر، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورّثوا ديناراً ولا درهماً، إنما ورّثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر»..
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه، أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «طلب العلم فريضة على كل مسلم».
فلهذه الأسباب شمر الصحابة رضي الله عنهم عن ساعد وساق في سبيل طلب العلم، فكانوا يحرصون على حضور مجالس الرسول صلى الله عليه وسلم للتعلم، بل كانوا يتناوبون النزول على مجالسه عليه السلام، فقد روى البخاري في كتاب العلم عن عمر رضي الله عنه أنه قال: «كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد وهي من عوالي المدينة وكنا نتناوب النزول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل يوما وأنزل يوما فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره وإذا نزل فعل مثل ذلك...الحديث»، فيبلغ الشاهد الغائب.
كما كان صلى الله عليه سلم يخصص للنساء مجلسا يعلمهن فيه مما علمه الله.
عن أبي سعيد الخدري قال :«جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله ذهب الرجال بحديثك فاجعل لنا من نفسك يوما نأتيك فيه، تعلمنا مما علمك الله، فقال: اجتمعن في يوم كذا وكذا في مكان كذا وكذا، فاجتمعن فأتاهن فعلمهن مما علمه الله...الحديث» رواه البخاري في كتاب الاعتصام باب تعليم النبي صلى الله عليه وسلم أمته من الرجال والنساء مما علمه الله ليس برأي ولا تمثيل.
وبعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم احتاط الصحابة في رواية الحديث، فكانوا يقللون من الرواية ويتحرجون منها مخافة الدخول في الوعيد سهوا أو نسيانا في قوله عليه السلام: «لا تكذبوا علي فإنه من كذب علي فليلج النار» رواه البخاري عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، في كتاب: العلم، باب: إثم من كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم"، فكانوا يتثبتون في الرواية مخافة التقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقله، فاشترط أبو بكر رضي الله عنه لقبول الحديث شاهدا مع الراوي، وكان عمر رضي الله عنه يهدد الراوي الذي لم تكن لديه بينة على ما يقول، وكان علي رض الله عنه يستحلف الراوي.
وعلى هذا النهج صار التابعون، فلما كانت الفتنة الكبرى تشددوا في طلب الإسناد من الرواة فظهر علم الجرح والتعديل، قال ابن سيرين من التابعين رحمه الله: «لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم» رواه مسلم في مقدمة الجامع الصحيح، وقال عبد الله بن المبارك: «الإسناد من الدين ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء» المرجع السابق.
وظل الحال في عهد التابعين على نقل الرواية مشافهة لكن ذلك محاط بهذا النهج في نقد المرويات والرجال، إلى أن جاء عهد عمر بن عبد العزيز الخليفة الأموي الراشد على رأس المائة الأولى للهجرة حيث خاف من ضياع الحديث بموت الحفاظ فأمر عماله على الأمصار والعلماء بجمع الحديث، فكان أول من جمع الحديث مدونا في كتاب خاص هو إمام المدينة ابن شهاب الزهري، لكن جمعه كان مجرد جمع للأحاديث من غير تبويب.
فلما كان النصف الأول من القرن الثاني انتشر التدوين في طبقة تلامذة ابن شهاب الزهري، وعلى رأس المدونين الإمام مالك بن أنس أثبت الناس في حديث الزهري، وكذلك ابن اسحاق بالمدينة، وغيرهما في مختلف الأمصار، ولم يعرف بالتحديد أيهم الأسبق.
وكانت ميزة المصنفات الأولى أنها كانت تجمع الحديث النبوي مع أقوال الصحابة والتابعين، فلما كان النصف الثاني من القرن الثاني ارتأى بعض العلماء تجريد الحديث النبوي بالتأليف فظهرت المسانيد، إلا أن همّ أصحابها كان جمع الحديث مسندا إلى راويه من الصحابة بغض النظر عن التبويب على المواضيع، كما جمعت بذلك بين الصحيح والسقيم.
فضل الإمام البخاري محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري شيخ الإسلام وإمام الحفظ وأمير المؤمنين في الحديث، ولد سنة 194 وتوفي 256 هجرية:
كان رحمه الله أول من صنف في الحديث الصحيح المجرد، وكتابه أصح الكتب المؤلفة في الحديث والمتلقى بالقبول من العلماء في كل زمان، فهو كما قال الإمام الذهبي أجل كتب الإسلام وأفضلها بعد كتاب الله تعالى، ومن أهم ما حمله على ذلك أنه نظر في تصانيف من قبله، فوجدها تشتمل على الصحيح والحسن والكثير من الضعيف، فحرك ذلك همته لإفراد الحديث الصحيح بالتأليف.
وروي عنه أنه قال بأنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم وكأنه واقف بين يديه وبيده مروحة يذب بها عنه، فقال له بعض المعبرين: أنت تذب عنه الكذب، قال: فهو الذي حملني على إخراج الجامع الصحيح.
وروي عنه أيضا: أن شيخه إسحاق بن راهويه قال لهم: لو جمعتم كتابا مختصرا لصحيح سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو الذي حملني على إخراج الجامع الصحيح.
وقد سماه: «الجامع، المسند، الصحيح، المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسننه، وأيامه».
وفي عنوانه الكامل إشارة إلى مضمونه، فهو جامع مختصر يشتمل على الأحكام والقضايا والأخبار والآداب والأمثال والرقاق والزهد وغيرها من الفنون، ثم بالإضافة إلى ذلك يتضمن فقه الحديث وما استنبطه من المعاني وما أشار إليه من الفوائد ونكت التي أوردها في تراجم الأبواب.
ومن أهم مواضيعه كتاب العلم الذي أورد فيه عددا كثيرا من الأحاديث في فضل العلم والحث على طلبه وما يترتب على ذلك من الثواب.
بدأ رحمه الله "كتاب العلم" من الجامع بقوله:
باب فضل العلم وقول الله تعالى: «يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ»، وقوله عز وجل: «رب زدني علما».
ومن أبوابه:
- باب الْعِلْمُ قَبْلَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ فَبَدَأَ بِالْعِلْمِ، وَأَنَّ الْعُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَة..
- باب الاِغْتِبَاطِ فِي الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ، وَقَالَ عُمَرُ: "تَفَقَّهُوا قَبْلَ أَنْ تُسَوَّدُوا".
- باب الْخُرُوجِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ وَرَحَلَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ فِي حَدِيثٍ وَاحِد.
- باب فضل من علم وعلم.
- باب رَفْعِ الْعِلْمِ وَظُهُورِ الْجَهْلِ وَقَالَ رَبِيعَةُ لاَ يَنْبَغِي لأَحَدٍ عِنْدَهُ شَىْءٌ مِنَ الْعِلْمِ أَنْ يُضَيِّعَ نَفْسَهُ.
- باب كيف يقبض العلم، وكتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن حزم: انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبه فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء، ولا تقبل إلا حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ولتفشوا العلم ولتجلسوا حتى يعلم من لا يعلم فإن العلم لا يهلك حتى يكون سرا.. إلى قوله" ذهاب العلماء.
خاتمة:
وبعد هذه الحقائق أفلا نرد على هؤلاء المبطلين بالتساؤل التالي:
من ذا الذي يستحق يا ترى أن يوصف بالجمود الفكري؟
بل من الذي يتصف فوق ذلك بالتعصب المقيت وبالتقليد الأعمى؟
من الذي تصدق عليه صفات الجهل والغباوة والرعونة والسخافة والدناءة والسفه؟
ألم ينغمس هؤلاء المبطلون في الخرافات والترهات التي لا يمكن أن نتصور مدى سيطرتها على عقولهم الساذجة، تماما كما وصفت به "زيغريد هونكه" أصحاب العقول الساذجة في أوروبا؟
ومن ناحية أخرى، أو ليس الإسلام هو الذي حرر الفكر من الجمود وانطلق به في رحاب المعرفة الواسعة؟
أو ليس المسلمون هم من علم الغرب وبذر حب الحضارة في أوروبا، بل والعالم بأسره؟
أو ليس البخاري هو أجل من صان أهم مصادر الفكر الإنساني؟
أو لم ينقل إلينا بكل أمانة وإخلاص نصائح رسول الإنسانية عليه السلام بضرورة تعلم العلم وحفظه وتعليمه، وقواعد الحضارة في العلوم والقيم الإنسانية؟
أو لا يستحق البخاري أن يكون معلم الإنسانية وحافظها بعد أن كان شيخ الإسلام بلا منازع؟
أفلا يتنبه العلماء وولاة الأمور إلى خطر هذه الفتنة التي تشكك في العقيدة الإسلامية، وتسعى إلى هدم الحضارة التي حافظ عليها المغاربة منذ قرون؟
وأخيرا: أفلا يبحث هؤلاء الأغبياء في أسباب انحطاط المسلمين الحقيقية، والتي هي الإعراض عن الكتاب والسنة، بدل أن يحاولوا حجب أشعة الشمس بالغربال؟
والله ولي التوفيق وهو المستعان على كل حال.
ذ. عبد الرحمان سعيدي
هوية بريس - الإثنين 09 يونيو 2014
في هذه الأيام كثر التأذي بذباب الأحداث، حيث تفاقم ما تنقله من القاذورات والأمراض حتى بلغ أذاها حدا تتعذر السلامة منه، فقد وصل إلى درجة الوباء الذي يستوجب أن تتظافر جهود المسؤولين كل حسب مسؤوليته للقيام بحملة وقائية لدرء هذا الخطر الذي يهدد كيان الأمة ويضر بسلامة جسدها، نتيجة انتشار هذا الداء الخطير، الذي سببه أذى الأحداث.
وإن أول من يجب أن يتصدر هذه الحملة الوقائية هم الفقهاء الذين عليهم أن يذكروا الناس بما يجب عليهم أن يعلموه من العلم الشرعي الضروري، والذي من أهمه أحكام الطهارة من الأحداث، فمن واجب العلماء في هذه الفترة العصيبة أن يقوموا بالواجب لتوعية الناس بهذا الخطر قصد التطهر من أذى الأحداث المنتن الذي ينتج عنه أذى أشد يؤذي الأمة قاطبة.
إن أذى الأحداث، بهذا التعبير المجازي، هو أذى حقيقي قد لحق الأمة الإسلامية جمعاء، والمغاربة خصوصا لكون هذا الأذى صادر من بين أظهرهم، وذلك أن ما تقوم به الأحداث ضرب في صميم العقيدة الإسلامية واستهزاء بثوابتها ومقدساتها ورموزها، تلك العقيدة التي يعتنقها المغاربة طواعية منذ ما ينيف عن أربعة عشر قرنا والتي عليها أسسوا حضارة فريدة صمدت طيلة القرون السالفة بل قد شع نورها في العالم وأفادت الإنسانية جمعاء بما أحدثته من ثورة علمية وفكرية وثقافية في جميع المجالات ساهمت كلها في بناء حضارة إنسانية عظيمة لم يعرف لها مثيل من قبل والتي لولاها لما قامت النهضة في أوروبا بل ولأخذ العالم مسارا آخر غير مسار العلم والتطور، بشهادة المنصفين من الغربيين أنفسهم، كما أن المغاربة قد نصوا في دستورهم الجديد على أن هذه العقيدة تعتبر من الثوابت الجامعة للأمة، والتي لا يجب المساس بها أو الطعن فيها بأي حال من الأحوال.
إن عمل الأحداث في محاولتها النيل من هذه العقيدة بهذه الأساليب القذرة إنما ينم عن جهلها بحقيقة هذه العقيدة وبحقيقة الحضارة التي أفرزتها وبحقيقة الدور الحضاري الإنساني الذي لعبه المسلمون وعلى رأسهم المغاربة، في وضع أسس الحضارة الإنسانية.
فمن أتم الغباوة والجهل أن يطعن شخص في العقيدة الإسلامية في بلاد المسلمين، وهو ينسب إليهم، بمثل هذه الطعون الواهية التي تصور العقيدة الإسلامية بأنها جمدت عقول المسلمين وبأن ذلك هو السبب الذي أدى إلى تخلفهم وانحطاطهم، وذلك منذ ظهور الإسلام، في الوقت الذي تقدم فيه غيرهم.
وإن من الإنتحالات الباطلة لهؤلاء المبطلين ما وصفوا به إمامي أهل السنة والجماعة وهما البخاري والإمام مسلم رحمهما الله من أن إتباع المسلمين لكتابيهما كان السبب في هذا التخلف الذي لحقهم، نتيجة تجميد فكرهم وعدم تحريره من قيود الكتابين الجامدة، على حد زعمهم.
وفي ردنا على هذا الزعم الباطل، سوف لن نكلف أنفسنا عناء كثيرا في الاستدلال بالنصوص الشرعية وأحكامها ومقاصدها، بل حتى بتاريخ الإسلام وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم وفتوحات المسلمين وما نتج عن كل ذلك، ولا عن دور الصحيحين ومكانتهما في الإسلام ولا عن طبيعتهما وفضلهما، لأن هؤلاء المبطلين صم بكم عمي عن كل تلك الحقائق، فهم لا يؤمنون بها مهما سردنا لهم منها.
وإنما السبيل الأنجع في ردنا قبل كل ذلك أن نشد الرحال إلى بلاد الاستشراق وبالذات إلى بلاد الجرمان لنسمعهم شهادة من بعض المنصفين من المستشرقين الذين اعترفوا بفضل الإسلام وعقيدته على العالمين، فإن ذلك أفحم للخصم وأبلغ في الرد، فإن تمادى هذا الخصم بعد ذلك في الجدال فهو معاند مخبول وجحود عنود لئيم.
وإن من أنصف المستشرقين الذين بينوا حقيقة الإسلام والدور الفكري والعلمي والحضاري الذي قام به المسلمون هي المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه (Sigrid Hunke)، في كتابها شمس العرب تسطع على الغرب الذي يبين أثر الحضارة العربية في أوروبة ("Allahs Sonne über dem Abendland" or "Allah's sun over the Occident") .
فهي عكس ما يدعيه هؤلاء الجهال من المبطلين تصف الإسلام وما جاء به بأنه هو الذي أنتج الحضارة الإنسانية التي تنعم البشرية بثمارها العلمية والفكرية في مختلف المجالات، والذي لولاه لتأخرت أوروبا والعالم قرونا عديدة.
فلنجلس في حلقة من حلقات دروسها التي ألقتها وهي تقصد إفادة مثل هؤلاء الجهال وتوضح لهم الصورة الحقيقية للإسلام وتجلي لهم كذلك أثر حضارته الزاهية، لعلهم يرجعون عن غيهم ويستحيوا مما يرمون به الإسلام والمسلمين من الادعاءات الباطلة والأقوال الخرقاء.
فلنستمع لها في الفصل الرابع من كتابها المذكور تحت عنوان طلب العلم عبادة، قالت زيغريد هونكه:
{لقد أوصى محمد (صلى الله عليه وسلم) كل مؤمن رجلا أو امرأة بطلب العلم، وجعل من ذلك واجبا دينيا، فهو الذي يقول: «اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد»، ويرشد أتباعه دائما إلى هذا فيخبرهم بأن ثواب التعلم كثواب الصيام وان ثواب تعليمه كثواب الصلاة.
وكان محمد (صلى الله عليه وسلم) يرى في تعمق أتباعه في دراسة المخلوقات وعجائبها وسيلة التعرف على قدرة الخالق، وكان يرى أن المعرفة تنير طريق الإنسان مرددا عليهم: «أطلبوا العلم ولو في الصين».
والرسول (صلى الله عليه وسلم) يلفت أنظارهم إلى علوم كل الشعوب، فالعلم يخدم الدين، والمعرفة من الله وترجع إليه، لذلك فمن واجبهم أن يصلوا إليها وينالوها أيا كان مصدرها ولو نطق بالعلم كافر.
وعلى النقيض تماما يتساءل بولس الرسول (Paulus) وقرأ: «ألم يصف الربّ المعرفة الدنيوية بالغباوة؟».
مفهومان مختلفان بل عالمان منفصلان تماما، حددا بهذا طريقين متناقضين للعلم والفكر في الشرق والعرب. وبهذا اتسعت الهوة بين الحضارة العربية الشامخة والمعرفة السطحية المعاصرة في أوروبا حيث لا قيمة لمعرفة الدنيا كلها.
ويعرف القديس أغسطينوس محور المعرفة قائلا: «أما الرب والروح فإني أبغي معرفتهما، فالبحث عن عن الحقيقة هو البحث عن الله وهذا لا يستدعي معونة من الخارج»، والمصدر الوحيد لتلك المعرفة هو الكتاب المقدس، وقصة الخليقة تعطي كل ما يحتاجه المرء من معلمات عن السماء والأرض والجنس البشري،...
ملعون من يقتنع أو يقبل الآن تفسيرا لحوادث الطبيعة، خارج عن طاعة الرب من يشرح أسبابا طبيعية لبزوغ كوكب أو فيضان نهر، بل لمن يعلل علميا شفاء قدم مكسورة أو اجهاض امرأة، فتلك كلها عقوبات من الله أو من الشيطان أو هي معجزات أكبر من ان ندرك كنهها!!
وإذا كانت القوى الدينية قد كرست جهدها للهدف الديني وأنشأت مدارس ضخمة للفلسفة التي تخدم مبادئ الدين، مدارس تضارع في ضخامتها قباب تلك الكنائس، إلا أنها قد هبطت بالمعرفة الدنيوية، فابتعدت تماما عن الثقافة والفكر الإغريقي وانغمست في الخرافات والترهات التي لن نستطيع اليوم أن نتصور مدى انتشارها وسيطرتها على العقول الساذجة. ولم تشمل هذه الحركة الرجعية العامة الناس فحسب، بل ان المتعلمين ايضا لم يكن لهم من زاد عقلي سوى بعض الأساطير المليئة بالخرافات والمقتبسة اسوأ اقتباس عن اللاتينية البربرية أو عن قصص الإغريق وأساطير الشرق القديمة.
وما وصلت إليه الكنيسة وكهنتها في المجال الديني لم يكن عامل إنقاذ للحضارة بل كان عائقا لها. لقد كانت أمامهم الفرصة، تماما كالعرب، بل إن فرصتهم كانت أكبر في أن يأخذوا التراث العظيم ويتطوروا به درجات في سلم الرقي. فقد كان في متناولهم عدد ضخم من نصوص القدماء، أكبر من أن يقارن بما استطاع العرب أن يتوصلوا إليه. وحتى القرن السادس الميلادي وجد في الغرب كثيرون ممن يجيدون اليونانية. ولم يكن المتعلمون في القرون الأولى بأقل قدرة على ترجمة تراث القدماء وإعادة العمل فيه من مترجمي العرب في بغداد.
ولكن الفكر الإغريقي ظل بالنسبة إليهم غريبا على الدوام. فحوالي عام 300 ميلادية علل أسقف قيصرية، اوزيبوس Eusebius، ذلك المسلك لعلماء الطبيعة من الإسكندرية وبرجامون قائلا: «إن موقفنا هذا ليس جهلا بالأشياء التي تعطونها أنتم كل هذه القيمة، وإنما لاحتقارنا لهذه الأعمال التي لا فائدة منها. لهذا فإننا نشغل أنفسنا بالتفكير فيما هو أجدى وأنفع».
ويظل هذا التفكير العقيم سائدا لا يتغير فيتحدث بمثل هذا في القرن الثالث عشر، القديس توما الأكويني Thomas Von Aquin فيقول: «إن المعرفة القليلة لأمور سامية أجل قدرا من معرفة كبيرة موضوعها أمور حقيرة.».
ولقد كان الفكر الإغريقي، يمثل للمسيحيين شبحا ملعونا فلم يقتربوا منه بل حطموا جزءا كبيرا من تراثه وحرموا منه البشرية. حتى أن الغرب اضطر بعد صحوته أن يبدأ من جديد برغم أن الحضارات القديمة الهلينية على الخصوص كانت قد وصلت في سالف أيامها إلى درجة كبيرة من الرقي.
وأما ما تبقى في الأديرة من أعمال أدبية فقد كان أدبا تافها منقولا بلا فن ولا قدرة يهدف إلى تحقيق آمال متواضعة ولا أثر فيه للفكر الناضج الذي ذهب ضحية لنيران المتعصبين. وعلى الرغم من هذا فقد بدت للسادة المهيمنين على الأمور ضرورة تحريم الكتب التي تهتم «بالأمور الحقيرة» الدنيوية على المتعلمين ورجال الدين. ففي عام 1206م نبه مجمع رؤساء الكنائس المنعقد في باريس رجال الدين بشدة إلى عدم قراءة كتب الطبيعة واعتبر ذلك خطيئة لا تغتفر.
وقضى هذا التفكير الضيق على كل موهبة وعاق كل بحث علمي وأجبر كل المفكرين الذين لا تتفق أعمالهم ومعتقدات الكنيسة هذه على إنكار ما قالوه من النظريات العلمية وإلا كان مصيرهم الحرق العلني بالنار لكفرهم وخروجهم على المعتقدات الإلهية.
ومن هنا يتضح لنا تماما لماذا احتاجت الحضارة في الغرب ألفا من السنين قبل أن تبدأ بالازدهار تدريجيا، مع أنها كانت لديها فرصة مناسبة لتبدأ قبل الحضارة العربية بقرنين أو ثلاثة. وما قاله هيجل Hegel عن بوم منيرفا، الذي لا يبدأ طيرانه إلا عند الغسق، ينطبق على التراث اليوناني السائر إلى الوراء حينذاك، بل ينطبق أكثر على العلوم في الغرب التي ظلت في دور الحضانة ألفا من السنين، وهو لا ينطبق على التطور العربي، ذلك أن العلوم عندهم «لم تكن قط ثمرة متأخرة لشجرة الحضارة».
وما إن انقضى قرن واحد من الزمان على الفتوحات الإسلامية حتى ازدهرت حضارة العرب وآتت أكلها مكتملة ناضجة.
ولم تلبت الديانة الفتية السائرة في طريقها بعزم وثبات أن اصطدمت بالديانات الأخرى في كل مكان. فهنا يقف رجال المذاهب المسيحية وجها لوجه أمام رجال المذاهب الإسلامية على أتم استعداد للمجادلة. وهناك، تقسم هذه المجادلات واختلاف وجهات النظر، المسلمين أنفسهم إلى مدارس ومذاهب. وكان من الممكن أن يؤدي هذا إلى نهاية النهضة العربية الإسلامية وهي في مهدها، ولكن ما حدث على خلاف ذلك تماما، فإن إكراه الإسلام للفتى على أن يجرب قواه الفكرية مع ديانات وفلسفات أخرى في محاجات فكرية فلسفية قد أفاده أكبر إفادة وأكسبه خبرة ومرانا. وكان لحسن حظه أو لسوء حظه أحيانا أنه وجد في ظروف تختلف تماما عما كانت فيه المسيحية المعاصرة له.
فالإسلام لا يعرف وسيطا بين العبد وربه، لم يكن لديه على الأقل في تلك الظروف الحاسمة طبقة من الكهنة ولا تنظيمات وسلطات عليا مشرفة. وعلى العموم فإن مجال حرية الرأي كان أوسع.
وحيثما كانت المسيحية تطغى نتيجة تسامح المسلمين كان ذلك دائما يؤدي إلى كساد العلوم وإهمالها، ولعل إفناء الطبقة العلمية على يد الإسبان والمغول هو خير دليل على ما نقول.
كانت الاحتكاكات بين الآراء المختلفة قد منحت الحركة الفكرية حيوية دائمة وحمت الإسلام من الجمود وأجبرته على أن يسلح نفسه علميا وان يتطور بالقوى العقلية وينهض بها من سباتها. وساعده على ذلك المطالب العديدة المنبثقة من شعائر الدين أو من الحياة اليومية للشعوب. واجبات عديدة ومسؤوليات جسيمة:
فمعالجة المرض ضرورية، وحماية الملايين من سكان المدن الكبيرة من الأوبئة وإمدادهم بالدواء الناجع يتطلب أبحاثا علمية دقيقة. وأدخلتهم حاجات تلك الملايين في عالم الحيوان والنبات ليدرسوه وينهضوا به، فنظم ري الأرض ومسحها، ورصدت الكواكب وحركاتها، ونظمت الرحلات، وأخذ كل شيء مكانه وزمنه اللازم له . . .
ففي كل حقل من حقول الحياة صار الشعار للجميع: «تعلم وزد معارفك قدر إمكانك وأينما استطعت». وبأقدام ثابتة ونفوس هادئة مطمئنة، تعرف حقها وتؤدي واجبها، أقبل العرب على ما وجدوه من معارف فاغترفوا منها قدر جهدهم، وما رأوا فيه نفعا لهم.
وهم في احتكاكهم بحضارات الهند وفارس والصين يصادفون بين الحين والآخر قطعا متناثرة من حضارات الإغريق أو الإسكندرية. ولكن كل ما كانوا يجدونه من آثار تلك الحضارات العظيمة كان لا يشفي غليلهم. لقد ذاقوا حلاوة العلم فازداد شوقهم إلى البحث عنه، ولم يعودوا يرضون بغير العلم والبحث بديلا.
وبدأ فريد في التاريخ من طرق الكشف عن كنوز المعرفة خصصت له البعثات الضخمة والأموال الطالة بل واستخدمت لأجله الوسائل الدبلوماسية، وخدمته سياسة الدولة الخارجية} انتهى كلامها.
ومن أهم ما يستفاد من هذه الشهادة المنصفة أن المسلمين كشفوا كنوز المعرفة الإنسانية في جميع فروعها وفنونها وزادوا عليها بإبداعهم وفهمهم، في الوقت الذي حاربت فيه الكنيسة المعرفة الإنسانية وحطمت مصادرها ومنعت تعلمها، ونبهت هذه الباحثة إلى أن النهضة الفكرية عند المسلمين أفرزت حركة فكرية تميزت بحيوية دائمة حمت الإسلام من الجمود وأجبرته على أن يسلح نفسه بالعلم، مما أدى إلى تطور القوى العقلية ونهوضها من سباتها.
وبعد هذا الدرس البليغ الذي لا يحتاج إلى مزيد من التعقيب ولا إلى مزيد من الإيضاح والبيان فلنرجع إلى ديار الإسلام وقد اكتسبنا علما من خلال ما في بطون كتب المنصفين من غير المسلمين حول حقيقة حضارة الإسلام، وازددنا يقينا بأن هذه الحضارة هي التي حررت فكر الإنسان من قيود الخرافة والتقليد وأرشدته إلى التدبر والاستكشاف والاستنباط ، خلافا لترهات المبطلين.
وفي طريق عودتنا نعرج على بلاد الأندلس فتتراءى لنا طليطلة وليشبونة وإشبيلية وقرطبة وغرناطة وعشرات من المدن الأخرى وكأنها لآلئ منثورة تشهد على هذه الحضارة العظيمة والتي خلدتها كذلك آثار لا تزال تنطق كلها بأن لا غالب إلا الله.
وما أن نقترب من تخوم المغرب الأقصى حتى تتناهى إلى أسماعنا أصداء التكبير والتهليل التي تملأ الأرجاء من وقت إلى آخر، منبعثة من الصوامع الألفية المتناثرة طولا وعرضا، شاهدة على رسوخ التوحيد في قلوب الأهالي منذ زمن بعيد والذي كان الحافز على بناء هذه الحضارة والحامي لها عبر الزمن، فهذه حسان والكتبية وتلك الخيرالدا في إشبيلية شواهد على الصلة الحضارية بين المغرب والأندلس، وهذه جامعة القرويين الضاربة في القدم تشهد على صلة الغرب بالشرق منذ القرن الأول لظهور الإسلام، وتلك كلها دلائل على تفاعل الشرق والغرب الذي أفرز ثورة فكرية وحضارية تبلورت في شتى أنواع المعارف والعلوم.
ولا شك أن مصدر هذه الثورة الفكرية والحضارية هما القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة.
فأما القرآن الكريم فإنه كتاب هداية وإرشاد مليء بالآيات التي تحث على التفكير في الأنفس والنظر في ملكوت السماوات والأرض قصد حمل الناس على الاهتداء إلى معرفة الخالق والوقوف على حكمته وحسن تدبيره والإيمان بالبعث والنشور.
قال الله تعالى: «قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ» (يونس:110).
وقال عز وجل: «قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ۚ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (العنكبوت:20).
وقال عز شأنه: «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ» (آل عمران:120).
ورفع من شأن العلماء الذين يتفكرون في المخلوقات المتنوعة الأشكال والأنواع:
قال تعالى: «وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَٰلِكَ ۗ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ» (فاطر:27).
وقال أيضا: «يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» (المجادلة:11).
ونفى الحق سبحانه المماثلة بين العلماء وبين غيرهم من الجهال:
«قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ» (الزمر الآية:9).
وذم الله تعالى الذين يعطلون حواسهم ولا يستخدمونها في التفكر والتدبر:
قال تعالى: «وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ» (الأعراف:179).
وأما السنة فهي المصدر الثاني للتشريع في الإسلام بعد القرآن الكريم، ودورها لا يقل أهمية عن دور القرآن الكريم لأنها مبينة له تفصل مجمله وتخصص عامه وتقيد مطلقه، وهي مع ذلك مترجمة لمعانيه ومجسدة لها في الواقع العملي، وقد أمر المسلمون بالأخذ والعمل بها بنص القرآن الكريم ، قال تعالى: «وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» (الحشر:7)، وغيرها من الآيات الكثيرة.
كما نص الرسول صلى الله على أن اتباع السنة هو اتباع للقرآن، قال عليه السلام: «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه» (سنن أبي داود).
فهو عليه السلام القدوة في التعلم والتعليم وقد أمر بالقراءة والتعلم في أول آية أنزلت عليه، وصحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه حث على طلب العلم فقال: «من سلك طريقاً يطلب فيه علماً، سلك الله له به طريقاً إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضاء لطالب العلم، وإن العالم يستغفر له من في السماوات ومن في الأرض، حتى الحيتان في البحر، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورّثوا ديناراً ولا درهماً، إنما ورّثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر»..
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه، أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «طلب العلم فريضة على كل مسلم».
فلهذه الأسباب شمر الصحابة رضي الله عنهم عن ساعد وساق في سبيل طلب العلم، فكانوا يحرصون على حضور مجالس الرسول صلى الله عليه وسلم للتعلم، بل كانوا يتناوبون النزول على مجالسه عليه السلام، فقد روى البخاري في كتاب العلم عن عمر رضي الله عنه أنه قال: «كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد وهي من عوالي المدينة وكنا نتناوب النزول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل يوما وأنزل يوما فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره وإذا نزل فعل مثل ذلك...الحديث»، فيبلغ الشاهد الغائب.
كما كان صلى الله عليه سلم يخصص للنساء مجلسا يعلمهن فيه مما علمه الله.
عن أبي سعيد الخدري قال :«جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله ذهب الرجال بحديثك فاجعل لنا من نفسك يوما نأتيك فيه، تعلمنا مما علمك الله، فقال: اجتمعن في يوم كذا وكذا في مكان كذا وكذا، فاجتمعن فأتاهن فعلمهن مما علمه الله...الحديث» رواه البخاري في كتاب الاعتصام باب تعليم النبي صلى الله عليه وسلم أمته من الرجال والنساء مما علمه الله ليس برأي ولا تمثيل.
وبعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم احتاط الصحابة في رواية الحديث، فكانوا يقللون من الرواية ويتحرجون منها مخافة الدخول في الوعيد سهوا أو نسيانا في قوله عليه السلام: «لا تكذبوا علي فإنه من كذب علي فليلج النار» رواه البخاري عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، في كتاب: العلم، باب: إثم من كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم"، فكانوا يتثبتون في الرواية مخافة التقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقله، فاشترط أبو بكر رضي الله عنه لقبول الحديث شاهدا مع الراوي، وكان عمر رضي الله عنه يهدد الراوي الذي لم تكن لديه بينة على ما يقول، وكان علي رض الله عنه يستحلف الراوي.
وعلى هذا النهج صار التابعون، فلما كانت الفتنة الكبرى تشددوا في طلب الإسناد من الرواة فظهر علم الجرح والتعديل، قال ابن سيرين من التابعين رحمه الله: «لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم» رواه مسلم في مقدمة الجامع الصحيح، وقال عبد الله بن المبارك: «الإسناد من الدين ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء» المرجع السابق.
وظل الحال في عهد التابعين على نقل الرواية مشافهة لكن ذلك محاط بهذا النهج في نقد المرويات والرجال، إلى أن جاء عهد عمر بن عبد العزيز الخليفة الأموي الراشد على رأس المائة الأولى للهجرة حيث خاف من ضياع الحديث بموت الحفاظ فأمر عماله على الأمصار والعلماء بجمع الحديث، فكان أول من جمع الحديث مدونا في كتاب خاص هو إمام المدينة ابن شهاب الزهري، لكن جمعه كان مجرد جمع للأحاديث من غير تبويب.
فلما كان النصف الأول من القرن الثاني انتشر التدوين في طبقة تلامذة ابن شهاب الزهري، وعلى رأس المدونين الإمام مالك بن أنس أثبت الناس في حديث الزهري، وكذلك ابن اسحاق بالمدينة، وغيرهما في مختلف الأمصار، ولم يعرف بالتحديد أيهم الأسبق.
وكانت ميزة المصنفات الأولى أنها كانت تجمع الحديث النبوي مع أقوال الصحابة والتابعين، فلما كان النصف الثاني من القرن الثاني ارتأى بعض العلماء تجريد الحديث النبوي بالتأليف فظهرت المسانيد، إلا أن همّ أصحابها كان جمع الحديث مسندا إلى راويه من الصحابة بغض النظر عن التبويب على المواضيع، كما جمعت بذلك بين الصحيح والسقيم.
فضل الإمام البخاري محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري شيخ الإسلام وإمام الحفظ وأمير المؤمنين في الحديث، ولد سنة 194 وتوفي 256 هجرية:
كان رحمه الله أول من صنف في الحديث الصحيح المجرد، وكتابه أصح الكتب المؤلفة في الحديث والمتلقى بالقبول من العلماء في كل زمان، فهو كما قال الإمام الذهبي أجل كتب الإسلام وأفضلها بعد كتاب الله تعالى، ومن أهم ما حمله على ذلك أنه نظر في تصانيف من قبله، فوجدها تشتمل على الصحيح والحسن والكثير من الضعيف، فحرك ذلك همته لإفراد الحديث الصحيح بالتأليف.
وروي عنه أنه قال بأنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم وكأنه واقف بين يديه وبيده مروحة يذب بها عنه، فقال له بعض المعبرين: أنت تذب عنه الكذب، قال: فهو الذي حملني على إخراج الجامع الصحيح.
وروي عنه أيضا: أن شيخه إسحاق بن راهويه قال لهم: لو جمعتم كتابا مختصرا لصحيح سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو الذي حملني على إخراج الجامع الصحيح.
وقد سماه: «الجامع، المسند، الصحيح، المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسننه، وأيامه».
وفي عنوانه الكامل إشارة إلى مضمونه، فهو جامع مختصر يشتمل على الأحكام والقضايا والأخبار والآداب والأمثال والرقاق والزهد وغيرها من الفنون، ثم بالإضافة إلى ذلك يتضمن فقه الحديث وما استنبطه من المعاني وما أشار إليه من الفوائد ونكت التي أوردها في تراجم الأبواب.
ومن أهم مواضيعه كتاب العلم الذي أورد فيه عددا كثيرا من الأحاديث في فضل العلم والحث على طلبه وما يترتب على ذلك من الثواب.
بدأ رحمه الله "كتاب العلم" من الجامع بقوله:
باب فضل العلم وقول الله تعالى: «يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ»، وقوله عز وجل: «رب زدني علما».
ومن أبوابه:
- باب الْعِلْمُ قَبْلَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ فَبَدَأَ بِالْعِلْمِ، وَأَنَّ الْعُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَة..
- باب الاِغْتِبَاطِ فِي الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ، وَقَالَ عُمَرُ: "تَفَقَّهُوا قَبْلَ أَنْ تُسَوَّدُوا".
- باب الْخُرُوجِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ وَرَحَلَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ فِي حَدِيثٍ وَاحِد.
- باب فضل من علم وعلم.
- باب رَفْعِ الْعِلْمِ وَظُهُورِ الْجَهْلِ وَقَالَ رَبِيعَةُ لاَ يَنْبَغِي لأَحَدٍ عِنْدَهُ شَىْءٌ مِنَ الْعِلْمِ أَنْ يُضَيِّعَ نَفْسَهُ.
- باب كيف يقبض العلم، وكتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن حزم: انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبه فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء، ولا تقبل إلا حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ولتفشوا العلم ولتجلسوا حتى يعلم من لا يعلم فإن العلم لا يهلك حتى يكون سرا.. إلى قوله" ذهاب العلماء.
خاتمة:
وبعد هذه الحقائق أفلا نرد على هؤلاء المبطلين بالتساؤل التالي:
من ذا الذي يستحق يا ترى أن يوصف بالجمود الفكري؟
بل من الذي يتصف فوق ذلك بالتعصب المقيت وبالتقليد الأعمى؟
من الذي تصدق عليه صفات الجهل والغباوة والرعونة والسخافة والدناءة والسفه؟
ألم ينغمس هؤلاء المبطلون في الخرافات والترهات التي لا يمكن أن نتصور مدى سيطرتها على عقولهم الساذجة، تماما كما وصفت به "زيغريد هونكه" أصحاب العقول الساذجة في أوروبا؟
ومن ناحية أخرى، أو ليس الإسلام هو الذي حرر الفكر من الجمود وانطلق به في رحاب المعرفة الواسعة؟
أو ليس المسلمون هم من علم الغرب وبذر حب الحضارة في أوروبا، بل والعالم بأسره؟
أو ليس البخاري هو أجل من صان أهم مصادر الفكر الإنساني؟
أو لم ينقل إلينا بكل أمانة وإخلاص نصائح رسول الإنسانية عليه السلام بضرورة تعلم العلم وحفظه وتعليمه، وقواعد الحضارة في العلوم والقيم الإنسانية؟
أو لا يستحق البخاري أن يكون معلم الإنسانية وحافظها بعد أن كان شيخ الإسلام بلا منازع؟
أفلا يتنبه العلماء وولاة الأمور إلى خطر هذه الفتنة التي تشكك في العقيدة الإسلامية، وتسعى إلى هدم الحضارة التي حافظ عليها المغاربة منذ قرون؟
وأخيرا: أفلا يبحث هؤلاء الأغبياء في أسباب انحطاط المسلمين الحقيقية، والتي هي الإعراض عن الكتاب والسنة، بدل أن يحاولوا حجب أشعة الشمس بالغربال؟
والله ولي التوفيق وهو المستعان على كل حال.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق