06-02-1437
موقع المثقف الجديد- عبدالواحد الأنصاري:
قبل يومين أو أكثر، كنت في رحلة إلى أهلي في الصحراء الكبرى، شمال مالي. وهناك، في المدن، لا تحتاج الأخبار لكي تصل إلى الناس، إلى أكثر من مذياع أو تلفاز. ففي تمبكتو أو غاوا أو كيدال، مثلاً، يستطيع مَن يجلس أمام التلفاز أن يدرك ما جرى في باريس من أحداث فور بثّها. لكن في بعض أحياء هذه المدن البدائية، ثمة أناس لا يدركون أخبار الليل إلا صباحاً، عندما يستيقظون ويديرون أزرار المذياع. وفي قرى أخرى قريبة، لا تعدم أجهزة الجالكسي من الجيل الأول والثاني استقبال رسائل تعرّفها ما يجري في العالم على قدم وساق، وإنْ بعد بضع ساعات أو بضع عشرة ساعة من حدوثها.
أما هنالك، في الرمال، أو في القرى الضاربة بعيداً من تلك الصحراء المترامية، حيث لا إرسال إلا على أعالي الكثبان، أو لا شبكة اتصالات البتة إلا على مبعدة بضعة عشر ميلاً، حيث يستيقظ زارع الأرزّ ليحمي محصوله من هجمات الطيور، أو ليتيقّن رعاة البقر الشاخصون على رؤوس التلال من اكتمال اتجاه قطعانهم إلى الآبار، أو حين يرش الطفل وجهه بزخّة ماء، ويصلي الفجر، ويحلب أبقاره، ثم يلحق بشياهه التي يخشى أن تمضي قدماً مع اتجاه الريح دون عودة... هنالك، قد يستغرق الخبر وقتاً حتى يصل... ومع هذه الفروق اليسيرة التي لا يكاد يلتفت إليها الفرنسي، الذي كان غارقاً في لهوه حين فاجأته هجمات "داعش" الإرهابية ,وأمطرته بالرصاص والأحزمة الناسفة... مع ذلك، فإن جميع أولئك البدو والمزارعين وسكّان القرى الحائلة ألوان وجوههم وأبشارهم من تأثير الهواء والشمس، كل أولئك البعيدين في الأقاصي، استقبلوا، في مختلف الأوقات، هذه الأخبار المفجعة للفرنسيين بالأفراح والأهازيج، وكأنها أنغام مفرحة.
لا أريد أن يفهم القارئ هنا أنني أروّج لتأييد الإرهاب، ولا أنني أحاول اتهام شعب الصحراء الأبيّ بالتشدد والانحراف ولا باعتناق الأفكار التدميرية، حاشا وكلاّ! وأنّى ذلك؟! ولكنني أريد أن أذكّر الفرنسيين أنفسهم، الذين لا بد من أنهم يعرفون من مندوبيهم وممثليهم وعساكرهم وأزلامهم في الصحراء الكبرى، وأن ألفت المتعاطفين معهم، إلى أن شعب هذه الصحراء فرح لمصابهم، لا لأنه يؤيد قتل الغربيين ضربة لازب، ولكن لأنه يتمنى، ويفرح للفرنسيين بأن يذوقوا الكأس التي سقوه منها على مدى أعوام وعقود عديدة مديدة.
لكن، ماذا جنَتْ فرنسا في شمال مالي لتستحق كل هذا الكره؟ لقد مكّنت للجيش الماليّ بطائراتها التي تضرب أهدافاً متمثلة في "خيمة، بئر، جمل تائه"، وربما "سيارة تويوتا بدفع رباعي تحمل مقاتلين صحراويين"، لكي يتسكع هذا الجيش العنصري في القرى، وفي محيط الآبار الصحراوية، ويشنّ عمليات انتقامية مزعومة من "القاعدة" في بلاد المغرب، يذهب ضحيتها رعاة الصحراء ووجهاؤها، من دون أن تكون لهم أي يد في أعمال "القاعدة" أو أي معرفة لأي من أفرادها.
وبعيداً عن الاستعمار وذكرياته، والتنصير وحكاياته: ماذا جنتْ فرنسا في شمال مالي لتستحق في هذه الآونة كل هذا الكره؟ لقد مكّنتْ للجيش المالي وللقوات الأفريقية (منيسما)، لكي تعتقل شيخاً يدرّس الفقه، ويؤم المصلّين في المسجد، مع مجموعة من ذوي قرابته، وتسومهم سوء العذاب، وتتهمهم بالإرهاب، أو تختار ثلة من رجال الصحراء المعروفين، لتحبسهم، وتبتز ذوي قراباتهم لدفع الملايين، من أجل إطلاق سراحهم، لتلافي أن يذبحهم الجيش الماليّ بالسكاكين ذبحاً.
وماذا جنتْ فرنسا في شمال مالي؟ لقد مكّنت للجيش والشرطة المالية على طول مسافة مئات الكيلو مترات من مدينة غاو، إلى غوسي، مروراً بهومبري، وبدوانزا، وسيفاري، لكي يستطيع عناصره المرتشون المبتزون إيقاف أي سيارة تمرّ، والإقدام على سلب راكبيها حرّ أموالهم، وعزيز أمتعتهم، بدعوى تطبيق القانون. حتى إن عبارة "ميل فرانك" أي: ادفع ألف فرنك، أصبحت أشهر على ألسنتهم من شهرة أسمائهم ورتبهم العسكرية!
ماذا جنتْ فرنسا في شمال مالي؟ لقد مكّنت هي والقوات الأفريقية، بحمايتها المباشرة للحكومة المالية، لكي تستطيع امتهان أي عابر سبيل، عربياً كان، أم أفريقيا، أم مواطناً مالياً، أبيض، أم أسود، وتستخلص منه من الأموال قدر ما تشاء، أو تحبسه حتى يأتي من يستنقذه بدفع ملايين الفرنكات، من دون حجة، سوى أنها دولة تحميها فرنسا والأمم الأفريقية! ومن حقها إذن أن تدوس بأقدامها على جميع الأوراق الرسمية، وعلى كرامة جميع المسافرين، من مشارق الأرض ومغاربها، ما لم يكن أحد هؤلاء المسافرين من ذوي الرؤوس الشقراء والأعين الزرقاء.
وبعد هذا، هل استطاعت فرنسا أن تصنع شيئاً مفيداً لها أو لغيرها في شمال مالي؟ إذ لا تزال مالي في قائمة الدول الست الأشد فشلاً في ذيل الدول النامية!
وبعد هذا، هل استطاعت فرنسا أن تقدم للجند الماليّ شيئاً؟ إن فرنسا تعلم أن الجندي الماليّ إنما يعيش على قطع الطريق والسرقة واستلاب العابرين غير المسلّحين، أما عندما يكون خصومه من خارج دائرة عابري السبيل المسالمين، فعندما تنطلق على مقربة منه رصاصة ضلّت سبيلها، فإنه يولّي الأدبار، وهو يفضّل عندها أن يرتكب انقلاباً عسكرياً في عاصمته باماكو على أن يواجه محاربيه في الصحراء، لكنه، كذلك، مستعد لأن يعود تحت غطاء الطائرات الفرنسية والقوات الأفريقية ليقدم على الانتقام من النساء والشيوخ في الخيام، بدلاً من مطاردة المسلحين الذين قاتلوه وفرّ منهم يوم أمس.
وبعد هذا، هل استطاعت فرنسا أن تُخضع العرب والطوارق في شمال مالي أو أن تكتسب محبتهم؟ كل من في الصحراء يدرك أن دولة مالي، بهذه الطريقة الفجة التي ترعاها فرنسا وتباركها، لا تستطيع أن تؤمن نفسها. وهي تستغيث بالفرنسيين لدفع الضر عنها، ناهيك عن أن تؤمن لهم سلامتهم، وهي تدرك أنه لا أحد يستطيع أن يتحرك في الصحراء آمناً إلا إذا كان على علاقة طيبة بشعبها وأناسها. وما دام شغلها الشاغل أن تكون على أشد العداء الصحراويين، فلن تجني من ذلك، لها، ولا لحكومة مالي، ولا لشعب الصحراء، نقيراً ولا قطميراً.
إن العرب والطوارق في الصحراء لم يعودوا شعب عام 1903، ولا شعب عام 1963، ولا شعب عام 1993، ولا حتى شعب عام 2011، وكل هؤلاء أصبحوا يستوعبون أنه ربما يكون عليهم ذات يوم أن يهبوا هبّة واحدة في وجه الفرنسيين لطردهم ونفيهم من شمال مالي بأي ثمن، وقد يأتي ذلك اليوم الذي يقررون فيه أنه لا سبيل إلى رفع الذل والمهانة التي يرزحون تحت نيرها إلا بالمواجهة المباشرة مع فرنسا، وليس مع القوات الأفريقية، ولا مع الجيش المالي؛ وذلك لأن أطفال وشبّان ورجال هذا الشعب، الذين يدرسون غرباً وشرقاً، ويسافرون في الأقطار، ويشاهدون ما يجري في العالم مشاهدة المتفهم المعتبر، ثم يعودون إلى صحراء آبائهم وأجدادهم ليروا شعبهم وهو يدار بهذه الطريقة الخبيثة التي تنفذها وترعاها فرنسا باستمرار وإصرار... إن أولئك الرجال لن يكون من السهل خداعهم، ولن يكون من الصعب عليهم أن يخمنوا الفرق بين رأس الأفعى وذنَبها، وإن الشعب الصحراوي الأبيّ حين يبتهج –على رغم أنه لا يؤيد الإرهاب ولا التفجير- بما يجري للفرنسيين في عاصمتهم باريس، لخليق بأن تتعامل معه فرنسا بطريقة أفضل من هذه التي قد تحوّل كل طفل من الأطفال العشرة الذين تنجبهم الأم الصحراوية الواحدة، ذات يوم، إلى حامل رصاص، أو متمنطق بحزام ناسف، يبحث عن أي فرنسي يلتقيه في طريقه، لكي يزيحه من ذلك الطريق، أو من على وجه الوجود بكامله.
باختصار: تفجيرات باريس مرفوضة ولا نقرها ولكن , إما أن تتغير الحال في الصحراء الكبرى، أو فإنه قد يأتي اليوم الذي يخشى فيه الفرنسي في تمبكتو على نفسه، أشد من خشيته عليها في كيدال.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق