أمير سعيد |
يبدو أفراد الشرطة الفرنسية كما لو كانوا قد أدوا قسماً بألا يبقوا "إرهابياً" على قيد الحياة؛ فلا تراهم يحيى لهم "إرهابي" إثر أي عملية يمكنهم من خلاله استكناه بواطن ودوافع تلك العمليات.
يثير الانتباه كثيراً طريقة تعاطي الشرطة الفرنسية مع أي مجموعة خاطفة أو مُحاصَرة؛ فقبل ثلاثة أعوام قتلت قوات النخبة الفرنسية التي كانت تحاصر الفرنسي من أصل جزائري محمد مراح المتهم بقتل 7 يهود في تولوز الفرنسية، في منزله بعد حصار استمر 32 ساعة، لم تعطِ السلطات حينها تفسيراً مقنعاً لـ"اضطرار" قوات النخبة فائقة القدرة التدريبية إلى قتله دون اللجوء إلى تخديره أو إطلاق الغاز المسيل للدموع على منزله الذي كان يُفترض ألا يكون مختبئاً به لو كان المسؤول عن عملية القتل.
هذه الشهية لقتل المحاصرين لم يكبحها حالة أكثر نموذجية لإلقاء القبض على محاصَرين على قيد الحياة؛ فرغم أن الأخوين كواشي، شريف وسعيد، الفرنسيين المنحدرين من أصل جزائري أيضاً قد لجآ إلى مطبعة صغيرة في بلدة دامارتين أون غويل شمال شرقي باريس، بمنطقة نائية وتعد نموذجية جداً لتوقيف المتهمين عن أحداث شارلي إبدو مستهل هذا العام دون إراقة دماء، إلا أن قوات النخبة اختارت أن تلبي ما زعمت أنه رغبة الأخوين بتفضيل "الاستشهاد" على تسليم نفسيهما؛ ففعلت دون أن تجد لديها حماسة لمعرفة خيوط قد تتكشف لو حققت مع الأخوين كواشي.
وفي مقتلة باريس الأخيرة لم يكن يتوقع أن تتمكن قوات النخبة الفرنسية التابعة للشرطة أو قوات الجيش من جرح أحد المهاجمين على كثرتهم، لأنها تختار دوماً أن تقطع كل خيوط التحقيق إلا من جوازات السفر أو "تضطرها الظروف لفعل هذا"! في أحداث اتسمت بالغموض، وشحت فيها المقاطع المصورة، ولم يتمكن المهتمون من الاطلاع على أي مشهد لقتيل في كل هذه المجازر، على الأقل حتى الآن، في واحدة من أهم العواصم في العالم وأكثرها تشبعاً بالتقنية وأدواتها، تكاثرت الألغاز وتنامت مع غياب مبررات مقنعة لتنفيذ تلك المقتلة المكلفة في آثارها وتداعياتها.
مرت سويعات، ولم يعرف أحد في قلب باريس ماذا كانت مطالب الخاطفين، ولماذا لم تمنح السلطات الوقت الكافي لاستدراج خاطفي رواد مسرح باتاكلان الباريسي باستخدام التفاوض الماراثوني، واكتفت فقط بتسريب ما ورد على لسان مقدم البرامج على الاذاعة والتلفزيون بيار جانازاك بقوله: "سمعتهم يحاولون التفاوض مع الشرطة من النافذة. سمعتهم بوضوح يقولون للرهائن، إنها مسؤولية هولاند، لا يجدر به التدخل في سوريا والعراق!". ما الذي جعل السلطات في عجلة من أمرها إذا ما كان الخاطفون يرغبون بالتفاوض، حتى يفضي تدخلها إلى حصول هذه المجزرة التي أسفرت عن مقتل العشرات من المختطفين؟ وأي عقل يقبل أن الخاطفين قد اختطفوا رهائنهم لكي يقوموا بتصفيتهم فقط من دون أن يكون ثمة رغبة في تفاوض على مطالب محددة؟ إن ثمة فارقاً لا يجهله أحد بين الإقدام على ارتكاب مجزرة أو اختطاف رهائن للتفاوض بهم، وإذا أفضت الثانية لحصول الأولى؛ فلأن الخاطفين يكونون قد يئسوا من استجابة السلطات، ولا أرهقهم قلة النوم والإجهاد مثلما يحصل في عمليات الخطف طويلة المدة؛ فما الذي يجعلهم آيسين من هذه الاستجابة بعد مرور ساعتين فقط؟!
هذه أمور ملغزة في الحقيقة، تظهر غابة من علامات الاستفهام، ومثلها حول ما هدد به نظام بشار مراراً على لسانه ولسان مفتيه وأبواق نظامه من وصول الإرهاب إلى أبواب أوروبا، وتصريح مفتيه حسون علانية وبوضوح بأن فدائيين سينفذون ذلك انتصاراً لـ"سوريا"، ومع ما تبدى من هشاشة واضحة لاستحكامات الأمن الفرنسي لاسيما وهو متأهب بالأساس بعد سلسلة إجراءات تبدو غامضة بعض الشيء في روسيا وأوروبا الغربية في أعقاب سقوط الطائرة الروسية في سيناء؛ فإن مزيداً من علامات الاستفهام تطرح مع تعامل غريب لسلطات باريس مع اتفاقية شنغن التي تتيح التنقل بين دول الاتحاد الأوروبي، حيث قصرت مؤقتاً السماح بالتنقل بها على الأوروبيين مع أن المهاجمين – على ما نشر حتى الآن – لم يكونوا من غير الفرنسيين، ومثلهم من آلاف من الأوروبيين قيل إنهم انضموا إلى تنظيم الدولة يمكنهم تكرار هذا.
بالمستطاع لدى البعض تجاهل كل هذا، ما دام قد ثبت لديهم أن تنظيم الدولة قد تبنى، والسلطات الفرنسية قد أكدت مسؤوليته، فلا مجال مع هذا للتشكيك. لكن ليس المهم هو ادعاء المسؤولية أو القيام فعلياً بهذا ما دام اللغز ما زال قائماً، ولا تفك طلاسمه ادعاءات عن أن السبب هو من قبيل حرب فرنسا على الإسلام أو الانتقام من شارلي إيبدو مرة أخرى (بعد الانتقام الأول)؛ فمع أن أحداً لا يمكنه إنكار حرب فرنسا على الإسلام وتاريخها الدموي المرعب مع "المستعمرات" والتي لم تنته جرائمها حتى الآن، إلا أن أي عمل مسلح تقوم به مجموعة أو جماعة ما لابد أن يحقق هدفاً سياسياً، فكيف لو كانت الجماعة تسمي نفسها "دولة" وتتصرف من هذا المنطلق، وهي قد باشرت قدراً من المراجعة الفكرية على منهج تنظيم القاعدة وارتأت أن من واجبها إقامة الدولة، وأن منهج القاعدة لم يفض لنتائج تخدم قضيتها، فما بالها عادت الآن لتلجأ إلى عمليات لم تجلب على القاعدة إلا تراجعاً وانكماشاً دوليين؟! هل جنت القاعدة فيما نُسب إليها (ادعاءً) من مسؤولية عن أحداث سبتمبر الأمريكية إلا مزيداً من التراجع والتشرذم، بل هل دفعت تلك الحوادث واشنطن إلى الانكفاء والتراجع عن مشاريعها؟ بالعكس، جلبت تلك الحوادث احتلالاً لأفغانستان والعراق. وإذا كان لـ"منظري" تنظيم الدولة مسكة من حكمة لأدركوا أن فرنسا لن تنكفئ بل ستواصل قصفاً في سوريا والعراق وتندفع أكثر لإلحاق هزيمة بالتنظيم (إن كانت لا تعتبره يخدم مشروعها ومشروع حلفائها الغربيين) تماماً مثلما فعلت أمريكا في 11 سبتمبر، وروسيا في هجمات شامل باسييف بالقوقاز، وبريطانيا في قطار لندن قبل عشرة أعوام. وهذا في وقت لا يمكن اعتباره ملائماً لمغامرة كهذه. لا عائد سيجنيه التنظيم من وراء هذا، وليس منطقياً أن يستجلب مزيداً من الغضب الغربي في وقت يفقد فيه مناطق بالعراق تحديداً.
سياسة فرنسا إجرامية بلا شك، ولا يمكن التعاطف أبداً معها، بل ليس من اللائق من بعض فصائل الثورة السورية أن تشيد بمواقف فرنسا تجاه الشعب السوري، ولو كانت في موضع "عزاء"، ولو كانت تدين مثل هذه التفجيرات التي تستهدف مدنيين بالأساس، وتجد صعوبة شديدة في تبريرها شرعياً وقيمياً، لكن مع كل هذا؛ فإن الموضوعية السياسية تفضي إلى الاعتقاد بأن هذه المقتلة علاوة على مخالفتها للقيم؛ تشرعن لمزيد من الإجراءات الظالمة بحق مسلمي أوروبا، سواء المقيمين والمتجنسين منهم، أو اللاجئين القادمين لمجابهة حزمة من القوانين الجديدة التي تغذيها مثل هذه الهجمات بروافد من المبررات لتجريد المسلمين من حقوقهم كمقيمين ولاجئين.. وهذا خطير جداً في ظل أوضاع مأساوية تشهدها بلداناً كسوريا والعراق.
يضاف إلى هذا، وهو الأخطر، أن مثل هذه الهجمات الدموية العبثية تسمح للأوروبيين بتنفيذ سياسة إجرامية في سوريا تستبقي الأسد أو حتى نظامه مع انطلاق جولة فيينا الجديدة، وتسرع من حركة الحل السياسي الظالم في سوريا تحت قصف كثيف من "الترهيب العالمي من الإرهاب"! فالمفارقة أن الوفد الفرنسي برئاسة عضو الجمعية الوطنية النائب تييري ماريانيان الذي استقبله بشار الأسد دون معارضة شعبية أو سياسية أوروبية واستمع إلى "مواعظه حول الإرهاب"، وقوله: إن "السياسات الخاطئة التى انتهجتها الدول الغربية ولا سيما الفرنسية ازاء ما يحصل فى منطقتنا وتجاهلها لدعم بعض حلفائها للارهابيين هي التى ساهمت في تمدد الارهاب"، وترديد الوفد خلفه النغمة ذاتها: "الاعتداءات الإرهابية التي استهدفت فرنسا أمس تثبت أنه ليس هناك من دولة يمكن أن تكون في منأى عن الإرهاب" مذكرين بأهمية توحيد جهود جميع الجهات الإقليمية والدولية لمكافحته! لم يكن ليفعل بكل هذا الحماس ما لم تكن مقتلة باريس تشرعن لمثل هذا اللقاء وأمثاله (هل كان وجود الوفد في مثل ظرف يمتنع فيه رئيس فرنسا عن حضور قمة العشرين بسبب المقتلة مجرد مصادفة؟).
لقد كانت أولى ثمرات الزقوم لهذه المقتلة ذاك التراخي الواضح في مواقف الدول الغربية وحلفائها حيال مطالب الروس والإيرانيين في فيينا، و"المرونة" غير المسبوقة في تقبل نظام الأسد وربما شخصه، وطول مدة "الفترة الانتقالية"، وإبداء الاستعداد الأولي لتسمية فصائل سورية تحررية لم تُعرف أبداً بـ"الإرهاب" في سوريا ولا خارجها، كـ"منظمات إرهابية" ومطالباتها بتقديم تنازلات هائلة بدأ هطولها مع بيانات الإدانة غير المتوازنة التي سارعت إليها لعمليات باريس، والتي إن كانت منطقية ومبررة من حيث رفض قتل المدنيين، والمجازر الدموية، إلا أنها بالغت في الإشادة بسياسة فرنسا ذاتها بما لا تستحقه، بما يؤشر بجلاء إلى المأزق التي شعرت تلك الفصائل برمتها أنها قد وقعت فيه لاسيما وهي تعلم أن معظم عمليات القصف والاستهداف الروسية وغير الروسية تستهدفها بالأساس من دون تنظيم الدولة الذي تبنى بنفسه عمليات قتل السياح بطائرة شرم الشيخ ومجازر باريس!
بتواضع يحترم مجمل المعطيات المجهولة، يمكن الاستنتاج مبدئياً وبين مزدوجين كبيرين، أن فرنسا لم تستهدف لكونها الأكثر إجراماً في الوقت الحالي بحق السوريين من بين دول العالم، ولا حتى بحق تنظيم الدولة، ولا لكونها الأكثر تأثيراً في مباحثات فيينا، وإن كان حجمها يسمح بتأثير هائل على مسار مباحثات فيينا، وإنما لأنها الدولة التي تضم أكبر جالية مسلمة في أوروبا، وبها قاطرة السياسة الأوروبية تجاه مسلميها، وهي الأكثر تضييقاً وتهميشاً لمسلميها بين الدول الغربية، وإليها تنتهي التجربة معهم، ولأنها معمل تكوين الأحزاب والقوى المناهضة للإسلام، والتي تستعد لانتخابات برلمانية بعد شهور، وثم رئاسية بالعام المقبل (مثلما كان تحديداً إبان قتل مراح وأحداث تولوز)، وهي الأجدر على اتخاذ سياسة متشددة حيال اللاجئين المسلمين القادمين بما يفوق المليون ومائتي ألف. وهي المنوط بها وأد أي مشروع جامع لمسلمي أوروبا، وتصدير تجربتها.
إن أوروبا تتجه بسرعة كبيرة نحو معاملة انتقائية أكثر وضوحاً مع المسلمين، ومثل هذه المجازر تزيد من سرعة استجابتها لها، وهي ماضية في طريق ربما يقودها في النهاية إلى الردة إلى ما كانت عليه من استبداد وإقصاء وتعصب، فسياستها المتدرجة المهمشة للمسلمين آخذة في التصاعد، وستأخذ معها حقوقاً لغير المسلمين أيضاً، وربما تفقد مع اضطرابها في حل مشاكلها أهم مكتسباتها الآنية.. وحدتها. .. المسلم |
|
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق